العقد المنظوم
في الخصوص والعموم
للعلامة الأصولي: شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (٦٢٦ - ٦٨٢ هـ)
أطروحة لنيل الدكتوراه في أصول الفقه
(جامعة أم القرى)
دراسة وتحقيق
الدكتور: أحمد الختم عبد الله
المكتبة المكية - دار الكتبي
1 / 1
الطبعة الأولى
١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
شكر وتقدير
1 / 5
مقدمة
1 / 7
خطة البحث
1 / 9
بسم الله الرحمن الرحيم
وهو حسبي ونعم الوكيل
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
الحمد لله الذي أسبغ نعمه على الخلاق عموما وخصوصا، ونوَّع للدلائل في الشرع ظواهرا ونصوصا وخصص أهل طاعته بكرامته تخصيصا، وقيد الكائنات بمشيئته فلا يجد كائن عنها محيصًا، وأطلق الخيرات لنيل الدرجات فأضحى الشيطان بإطلاقها مغصوصًا.
وصلى الله على سيدنا محمد الذي بعثه عزيزا عليه، وعلى إيمان الثقلين حريصًا، وعلى آله وصحبه الذين صار كل منهم بذروة الشرف خصيصًا، صلاةً لا نخاف معها يوم القيامة كدرًا ولا تنقيصًا.
أما بعد، فإني رأيت كثيرًا من الفقهاء النبلاء الذين يشتغلون بأصول الفقه ويزعمون أنهم حازوا قصب السبق لا يحقق معنى العموم والخصوص في
1 / 129
موارده حيث وجده، ويلتبس عليه العام والمطلق إذا انتقده، ولم أجد في كتب أصول الفقه وغيرها من صيغ العموم إلا نحو عشرين صيغة.
ومقتضى ذلك أن يكون ما عداها صيغة في لسان العرب والعموم، بل أكثر من ذلك يعضدها النقل والاستدلال على ما ستقف عليه، إن شاء
1 / 130
الله تعالى، ووجدت مسمى العموم في اللغة خفيًا جدًا على الفضلاء، حتى أني حاولت تحريره مع من تيسر لي الاجتماع به منهم، فلم أجده يجد لتحرير ذلك سبيلا، بل يدور عنده اللفظ العام بين أن يكون موضوعًا لقدر مشترك بين أفراده، فيكون مطلقًا، لا عامًا، وبين أن يكون قد تعرض الواضع فيه لخصوصيات تلك المحال، فيكون اللفظ مشتركًا، مع أن صيغ العموم ليست مشتركة على الصحيح من المذاهب ومجملة مع أنها غير مجملة عند مثبتيها، وبين أن يكون اللفظ العام موضوعًا لمجموع الأفراد من حيث هو
1 / 131
مجموع، فيتعذر الاستدلال به حالة النفي والنهي على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى، والحق في صيغ العموم وراء ذلك كله.
ووجدتهم يعدون المخصصات المتصلة أربعة في لغة العرب، ووجدتها نحو العشرة، ووجدتهم يسوون في استعمال العام والأعم بين النية المؤكدة، والنية المخصصة، وهو خطأ، ووجدتهم في حمل المطلق على المقيد يسوون بين الكلية والكلي، والأمر والنهي، والنفي والثبوت، وهو لا يصح، إلى غير ذلك من المباحث المتعلقة بالعموم والإطلاق مما يتعين تمييزه وتحريره، فأردت أن أجمع في ذلك كتابًا يقع التنبيه فيه على غوامض هذه المواضع، واستنارة فوائدها، وضبط فرائدها، بحيث يصير للواقف على هذا الكتاب ملكة جيدة في تحرير هذه القواعد، وضبط هذه المعاقد إن شاء الله تعالى.
1 / 132
وسميته العقد المنظوم في الخصوص والعموم، ورتبته على خمسة وعشرين بابًا، مستعينًا بالله تعالى على خلوص النية، وحصول البغية، وحصول النفع به لأهله، فإن كل شيء هالك إلا وجه، ﷾.
نسأله بجلاله أن يجعلنا من أهل طاعته، والفائزين بكرامته، والسالمين من نقمته، بمنه وكرمه، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
1 / 133
الباب الأول: في إطلاقات العلماء العام والأعم
اعلم أن من الناس من يسوي بين الإطلاقين، ولا يفرق بينهما، ومنهم من يفرق فيقول للعموم اللفظي: عام، وللعموم المعنوي: أعم، على وزن أفعل التفضيل، وهو أنسب من وجهين:
أحدهما: أن الأصل اختلاف الأسماء عند اختلاف المسميات، والأصل أيضا عدم الترادف.
وثانيهما: أن المعنى هو الأصل والمقصد، واللفظ إنما هو وسيلة ووصلة إليه، فهو أخفض رتبة من المعنى، فناسب أن يكون الأعلى رتبة مسمى، فسمي بصيغة أفعل التي هي للتفضيل وعلو الرتبة، إعطاء له ما
1 / 135
يستحقه، فيقال له: أعم، وسمي العموم اللفظي بصيغة عام التي هي اسم فاعل من غير إشعار فيها بمزيد الرتبة، فيحصل حينئذ إعطاء كل منهما ما يستحقه، ويحصل التفاهم عند التخاطب على الوجه الأقرب، فمتى قيل: هذا أعم، تبادر الذهن للمعنى، ومتى قيل: عام، تبادر الذهن للفظ، ويكون قبالة لفظ: الأعم لفظ: الأخص، وقبالة لفظ: العام لفظ: الخاص، فمتى قيل: هذا أخص، انتقل الذهن إله الأخص المعنوي كالنوع من الجنس، ومتى قيل: هذا خاص، انتقل الذهن إلى اللفظ الذي هو أقل أفرادًا من من لفظ آخر أو هو عام مخصوص.
1 / 136
فتميزت الحقائق حينئذ، وانتفى الَّلبْسُ عن المخاطبات، فكان ذلك أولى من إهمال هذه المزايا والخصوصيات.
1 / 137
الباب الثاني في بيان أنهم يطلقون العام والأعم على التردُدِ المتقَّدم في الباب الأول على عموم الشمول وهو الأصل، وعلى
عموم الصلاحية وهو المطلق الذي هو قسم للعام.
فيسمون المطلق عامًا، بسبب أن موارده عامة، غير منحصرة، لا أنه في نفسه عام، فقوله تعالى: ﴿فتحرير رقبة﴾ مطلق، والمقصود بها: القدر المشترك بين جميع الرقاب، غير أن المكلف لما كان له أن يعين هذا الاسم المفهوم المطلق المشترك في أي مورد شاء من رقبة سوداء أو بيضاء، أو طويلة أو قصيرة، أو غير ذلك من الهيئات والصفات التي لا تتناهى قيل: إن لفظ الرقبة عام، ويريدون عموم الصلاحية وعموم البدل، بمعنى: أن له أن يعتق أي رقبة شاء بدلا عن الأخرى، وكل رقبة معينة صالحة لذلك، ما لم يمنع الشرع
1 / 139
منه ولكن لا يلزم المكلف أن يجمع بين رقبتين، بل له الاقتصار على رقبة واحدة بخلاف عموم الشمول، يلزمه تتبع الأفراد حيث وجدها بذلك الحكم كقوله تعالى:﴾ فاقتلوا المشركين كافة ﴿إذا قتل مشركا ثم وجد آخر وجب قتله، وهلم جرا، إلى غير النهاية، وكذلك قوله تعالى:﴾ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ﴿إذا وجد نفسَا من النفوس وجب عليه اجتنابها، فإذا وجد أخرى بعدها وجب عليه اجتنابها أيضَا، وكذلك سائر صيغ العموم، بخلاف إعتاق الرقبة، وإخراج شاه من أربعين شاة ودفع دينار في الزكاة من أربعين دينارًا، إذا أخرج فردا من هذه الماليات لا يجب عليه إخراج آخر، بل المحَالُّ التي تعين فيها ذلك العدد غير متناهية لا أن مدلول اللفظ العام متناه، وأما العام في الشمول فغير متناهفكان عموم الشمول بإطلاق لفظ العام أولى من عموم الصلاحية.
غير أن العلماء -رضوان الله عليهم- يطلقون لفظ: العام والأعم على المعنين بطرق الأشتراك ويريدون تارة هذا وتارة ذاك، فاعلم ذلك وتأمله في موارده، ويرشدك إلى مُرَادهم قرينةُ الحال في تلك المادة، هل هي من باب الصلاحية في المحال أو من باب عموم الشمول من جهة مدلول اللفظ؟
1 / 140
الباب الثالث في بيان أن العموم من عوارض الألفاظومن عوارض المعاني
اعلم أنا كما نقول: لفظ عام أي شامل لجميع أفراده فكذلك نقول للمعنى أنه عام أيضًا، فنقول: الحيوان عام في الناطق والبهيم، والعدد عام في الزوج والفرد، واللون عام في السواد والبياض، والسعر قد يكون عامًا في البلاد وقد يكون خاصًا ببعضها، ونقول: مطر عام، وعدل عام في الرعية، وريح عامة، وهذه كلها عموماتٌ معنوية لا لفظية، فإنا نحكم بالعموم في هذه الصور على هذه المعاني عند تصورنا لها وإن جهلنا اللفظ الموضوع بإزائها هل هو عربي أو أعجمي، شامل أو غير شامل؟
1 / 141
وأما عموم اللفظ فلا نقول: هذا اللفظ عام حتى نتصور اللفظ نفسه، ونعلم من أي لغة هو، وهل وضعه أهل تلك اللغة عامًا شاملا أو غير شامل؟ فإن وجدناه في تلك اللغة شاملا سميناه عامًا، وإن وجدناه غير شامل لم نسمه عامًا عموم الشمول، وقد نسميه عامًا عموم الصلاحية.
فقد ظهر حينئذ أن لفظ العموم يصلح للمعنى واللفظ، وهل ذلك بطريق الأشتراك أو بطريق التواطئ، لأجل معنى مشترك بينهما، لا أن اللفظ مشترك بينهما؟ يظهر في باديء الرأي أنه متزاطئ فيهما، لأن المعنى شامل لأنواعه وأفراده المندرجة.
1 / 142
تحته فاللفظ شامل لجميع أفراده، فيكون الشمول هو المعنى المشترك بينهما أو يكون اللفظ مطلقًا عليهما، لأجل هذا المعنى المشترك بينهما فيكون متواطئًا، لا مشتركا، هذا هو الذي يظهر في باديء الرأي.
وعند تحرير النظر واستيفاء الفكر، يظهر أنه مطلق عليهما باعتبار معنيين مختلفين وتقريره: أن المعنى العام هو صورة ذهنية تنطبق على أمور خارجية انطباقًا عقليًا، وهي واحدة، وليس لها ولا فيها ما يتقاضى الجمع بين فردين بل الصلاحية لفردين دون الجمع بينهما، وإذا صدقت على عدد قل أو كثر ولو ثلاثة استحقت أن يقال لها: جنس أو نوع، وأنها عامة.
واما عموم اللفظ فهو إنما يتلقَّى من جهة الأوضاع واللغات لا من جهة العقل، ولابد فيه من الشمول ولا يكتفى فيه بعدد مع إمكان غيره،
1 / 143
ومتى اقتطع فرد عن اللفظ من تلك المادة قيل فيه: بطل عمومه، وصار مخصوصًا وخولفت قاعدته وأصله، ولا كذلك في العموم المعنوي إذا قيل: حصل منه ثلاثة فقط، قيل: صدق العموم المعنوي باعتبار تلك الأفراد.
ومتى كان المراد بعموم اللفظ الشمول على وجه لا يخرج منه فرد، ولايصدق بالاقتصار على بعض أفراده، وكان المراد بعموم المعنى الاكتفاء بأي عدد كان مع قطع النظر عن استيفاء تلك المواد كان اللفظ مشتركًا لا مَحَالَةَ، لوقوع الأختلاف بين المسميين.
ويدلًّك على أن عموم المعنى يقتصر فيه على أي عدد كان قولهم في حده هو: المقول في الكثيرين، ومرادهم بلفظ (كثيرين) لفظ متكثر، فيصير كالمطلق في الجموع نحو: رجال ودراهم، يصدق بأي عدد كان، فمتى صدق عدد من الدنانير صدق الجميع مع أنه مطلق، فيصير لفظ العام موضوعًا لما هو عام شامل لما هو مطلق له عموم الصلاحية فقط، زهما متباينان فيكون اللفظ مشتركًا.
1 / 144
الباب الرابع في الفرق بين الكلي والكلية والجزء والجزئيَّة والجُزئى
اعلم أنَّا نحتاج إلى تحرير هذا الباب قبل مسمى صيغة العموم حتى ندعي أن مسماها هو أحد هذه المفهومات، دون بقيتها.
فنقول: اعلم أن الكلي هو المعنى المشترك بين شيئين فصاعدًا كقولنا: حيوان، وعدد، ولون، وما أشبه ذلك، فإنا نجد كل واحد من هذه المفهومات مشتركًا أشخاصه وأنواعه وأصنافه، ويصدق بأي فرد كان، ويكفي في صدقه فرد واحد، فإذا صدق أن في الدار زيدا، صدق أن فيها حيوان وجسما، وكذلك صدق فرد من السَّواد أو العدد صدق مفهوم السواد ومفهوم العدد، فهذا ونحوه هو المراد بالكلي.
ويقابله الجزئي، أي: الشخص والفرد المعين الذي لا يقبل الشركة
1 / 145