مقدّمة المحقّق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين، نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد، فمنذ أن فتح العرب بلاد الأندلس عام ٩٢ للهجرة نجد أن تلك الأصقاق قد شهدت نزوح كثير من القبائل العربية إليها حيث ألقت هناك عصا الترحال واستقرّ بها النّوى، ومكّنها ذلك فيما بعد من إحداث نهضة أدبية سرعان ما نمت وتطوّرت وعرفت في عصر الدولة الأموية التي أنشئت هناك على أنقاض الدولة الأموية التي انهارت في المشرق العربى تحت ضربات العباسيين، أوج ازدهارها، وقمّة عطائها، وقد ظهر في تلك الديار النائية التي لم تفقد في يوم من الأيام صلتها بالمشرق الأم، كثير من العلماء والأدباء الذين حاكوا بنتاجهم أكثر من ظهر في المشرق العربي من نتاج، والتزموا بأذواقهم الذوق الأدبي اسائد آنذاك، حتى أنّ الصاحب بن عباد بعد اطلاعه على «العقد الفريد» نراه يقول: «هذه بضاعتنا ردّت إلينا»، ومن هؤلاء الأدباء الكثر، صاحب العقد أبو عمر شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب بن حدير بن سالم القرطبي، الذي كان مولى هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان.
ولد الرجل في مدينة قرطبة في العاشر من شهر رمضان سنة ٢٤٦ هـ- الموافق للتاسع والعشرين من تشريع الثاني سنة ٨٦٠ م. وقرطبة حيث ولد ابن عبد ربّه من أعظم المدن الأندلسيّة، وكانت عظيمة الشبه بمدينة بغداد حاضرة العباسيين، وعنها يقول المقّري صاحب نفح الطيب: «يحكى أنّ العمارة في مباني قرطبة والزاهرة والزهراء اتصلت إلى أنه كان يمشى فيها بضوء لمن قطف بيده ما يمنحونه منه، ونهرها
€
المقدمة / 1
إن صغر عندها عن عظمه عند اشبيلية فإنّ لتقارب برّيه هنا لك، وتقطّع غدره ومروجه معنى آخر، وحلاوة أخرى، وزيادة أنس، وكثرة آمان من الغرق، وفي جوانبه من البساتين والمروج ما زاده نضارة وبهجة.
في هذه البيئة المليئة بالعطر والورود والأفياء نشأ صاحب العقد، وأمضى سحابة شبابه مستمتعا بطبيعة بلاده وأجوائها المساعدة على النظم واللهو والغناء، ولذا فقد أولع الرجل بسماع الغناء والطرب اللذين شاعا في المدن الأندلسيّة أيّما شيوع، حتّى أصبحت بلاطات الأمراء مسارح للمغنّيات والقيان اللواتي كنّ يفدن إلى هناك من مختلف الأقطار العربية في بداية الأمر كالجارية العجفاء، وقد استأثرت قرطبة باستقبال روّاد هذا الفن، ثم انتقل مركز الغناء إلى اشبيلية حتى ظنّ أنّها عاصمة هذا الفنّ. وتفرّدت قرطبة بالعلم والفقه، وأصبحت عاصمة الأدب وحاضنة علوم الدين.
وكان طبيعيّا أن يتأثر أديبنا بطبيعة بلاده، ويساير تلك الموجة العارمة من الطرب واللهو والعبث والمجون، فشرب الخمرة، وطرب لسماع الأصوات العذبة، وهذا ما يمكننا أن نستشفّه من خلال شعره المبثوث في ثنايا عقده. ومن الواضح أنّ الرجل قد تاب عن غيّه وعاد إلى رشده خلال العقد الرابع من عمره، فطرق باب الفقه، وتتلمذ على شيوخ عدة نذكر منهم الخشني، وابن وضاح، وبقي بن مخلد، وفي تلك الحقبة من الزمن كانت دراسة الفقه مدخلا وممهدا لتسلّم المراكز الرفيعة، فامتلأت المدن الأندلسية التي خضعت للحكم العربي وخاصة قرطبة بالعلماء والأدباء والفقهاء..
ويظهر أنّ صاحب العقد كان على صلة مع أمراء عصره، فقد مدح أمير قرطبة محمد بن عبد الرحمن الحكم، كما كان على صلة بابنه المنذر أيضا، وفي هذه الحقبة من تاريخ الأندلس كثرت الفتن، حتى أن أحد قوّاد الفتنة، عمر بن حفصون، قد هدّد السلطة الأمويّة، وقد نعته ابن عبد ربه، بالمارق الفاسق..
واتصل صاحب العقد كذلك بالقائد العربي ابراهيم بن الحجاج الذي جعل أمارته في أشبيلية، وكان كريما سخيّا على الأدباء والشعراء، فوفد إلى بلاطه معظم علماء الأندلس وشعرائها.
€
المقدمة / 2
وأقام الرجل كذلك علاقات طيبة مع عبد الرحمن بن محمد الملقّب بالملك الناصر، الذي بنى مدينة الزهراء، ومدحه بقصائد كثيرة منها قصيدته الرائعة التي أدرجها في المجلد الثالث من العقد. وابن عبد ربه الذي يقول فيه الثعالبي النيسابوري صاحب يتيمة الدهر إنّه «أحد محاسن الأندلس علما وفضلا وأدبا ومثلا، وشعره في نهاية الجزالة والحلاوة، وعليه رونق البلاغة والطلاوة» أصيب آخر أعوامه بالفالج، كما أصيب الجاحظ من قبله، وأبو الفرج الأصبهاني من بعده، وتوفي يوم الأحد لثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادي الأولى سنة ٣٢٨ هجرية وهو ابن إحدى وثمانين سنة وثمانية أشهر وثمانية أيّام ودفن في اليوم التالي لوفاته ...
هذه لمحة موجزة عن حياة الرجل، أما عن أعماله الأدبية فقد كان «العقد» أكثر كتبه شهرة، وقد تحدّث نفسه عن تسميته بهذا الاسم فقال: «وسمّيته كتاب العقد الفريد لما فيه من مختلف جواهر الكلام، مع دقة المسلك وحسن النظام» وقد اعتمد كما لاحظنا في تأليفه واختياره لموضوعاته وأخباره على مصادر كثيرة، منها ما هو ديني كالقرآن والانجيل والتوراة، والحديث النبويّ الشّريف، ومنها ما هو أدبيّ وتاريخيّ، كعيون الأخبار، والمعارف لابن قتيبة، والحيوان، والبخلاء، والبيان والتبيين، للجاحظ، والكامل للمبرّد وكليلة ودمنة والأدب الكبير والصغير لابن المقفّع، والأمالي لأبي عليّ القالي، ودواوين كثيرة لشعراء جاهليين وإسلاميين، وغير ذلك من الكتب التي تناولتها يداه ...
وقد قسّم الرجل كتابه إلى فنون عديدة، وضمّنه خمسة وعشرين كتابا انفرد كلّ كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد «بحيث يقع على كلّ من جانبي واسطة العقد، اثنتا عشرة جوهرة، كلّ منها سمّيت باسم التي تقابلها من الجانب الآخر، وبذلك تكون أولى جواهر العقد وآخره على اسم واحد، ففي العقد لؤلؤتان وزبرجدتان وياقوتتان وجمانتان وهلمّ جرّا» وقد أشار ابن عبد ربّه في مقدمة كتابه إلى ذلك فقال: «وجزّأته على خمسة وعشرين كتابا كلّ كتاب منها جزآن، فتلك خمسون جزءا في خمسة وعشرين كتابا» .
€
المقدمة / 3
أمّا الموضوعات التيّ تناولها العقد، فقد تنوّعت وتوزّعت بين السياسة والسلطات، والحروب ومدار أمرها، والأمثال والمواعظ، والتّعازي والمراثي وكلام الأعراب وخطبهم وأنسابهم وعلومهم وأدابهم وأيّامهم واخبار مشهوريهم من الخلفاء والقادة، هذا فضلا عن تضمينه كتابه كثيرا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وكثيرا من الأشعار والأخبار التاريخية، وإثباته لنفسه كثيرا من القصائد التي وردت على شكل معارضات لشعر كبار الشعراء في الموضوعات التي استشهد بأشعارهم عليها.
وقد صاغ صاحب العقد موضوعاته وما تضمّنها من معلومات بأسلوب أدبيّ، واضح بحيث نراه يهذّب كلّ ما جمعه، ويصفّيه من الأسانيد التاريخية لأنّ غايته من تأليف كتابه كانت أدبيّة بحتة، هذا ونلاحظ في كتابه ميلا إلى الفكاهة والدّعابة، ونزوعا إلى القصص والنّوادر والنكات، فنراه في كتابه يذكر الكثير من ذلك أو لا يستنكف عن ذكر بذيء اللفظ وسافل المعنى، ورغم كلّ ذلك فإنّ المسحة الأدبيّة تبدو قويّة في كتابه بحيث يشعر بها كلّ من يقرأ العقد أو يتصفّحه فقد أراد الرجل أن يكون كتابه «مجموعة من متخيّر الآداب ومحصول جوامع البيان» وقد وفّق إلى ذلك وسبق الكثيرين ممّن ألفّوا على شاكلة كتابه، وامتاز على غيره بالوضوح والسهولة وحسن الترتيب والتنسيق حتى غدا كتابه كلّا متماسكا وسفرا جامعا لأكثر علوم عصره إن لم نقل كلّها، هذا وقد تضمّن العقد «ما لا يقل» عن عشرة آلاف بيت من الشعر لأكثر من مئتي شاعر من العصر الجاهلي والأموي والعباسي، وربّما يصعب أن نذكر شاعرا معروفا لا نرى عنه خبرا أو نتفا من شعره، استشهد بها ابن عبد ربه لمناسبة ما فضلا عن تخصيصه كتابا لأعاريض الشعر وعلل القوافي، كما تضمّن العقد خطبا كثيرة ورسائل عديدة لكثير من الأدباء والمتراسلين..
كذلك فإنّ في العقد فصولا نقدية قيّمة نقلها من الكتب السابقة لكتابه ويجدر بمن يتعاطى مهنة الأدب أن يطلع عليها للإفادة منها، كما أن فيه فصولا دينية قيّمة، فقد ذكرنا من قبل أنّ الرجل كان فقيها، فلا غرو إذا ظهرت في كتابه الثقافة الدينية بمختلف فروعها، ونستطيع في هذا المجال أن نلاحظ أخبار كثير من الائمة الذين تقدّموه كما نلاحظ كثيرا من أقوالهم وأحكامهم وفتاويهم في بعض المسائل.
€
المقدمة / 4
بعد هذا العرض الموجز لما تضمّن العقد من مادة غنيّة ومتنوعة، نستطيع القول:
إنّ العقد كتاب عظيم النفع جليل القيمة، وافر المعلومات واسع الأفق، بحيث نراه يتحوّل بجهد صاحبه إلى سفر موسوعيّ ضخم يتضمّن كثيرا من المعارف والعلوم والآداب، التي رتبها ابن عبد ربه ونسّقها بحيث غدت متّصلة العرى متآلفة الموضوعات متماسكة الحلقات، تشهد للرجل بحسن البراعة والاختيار، كما تشهد له بالعلم والمعرفة وسعة الاطلاع، فالرجل في مصنّفه لم يكن مجرّد ناقل ومبوّب، بل كان صاحب رأي وصاحب ذوق يطلان في كثير من الآماكن بشكل واضح وجلّي، فضلا عن كونه شاعرا بارعا قويّ الديباجة، سلس الأسلوب دقيق المعاني، ولكن مع ميل إلى تقليد المشارقة، والعمل على محاكاتهم وإظهار التفوّق عليهم في أغلب الأحيان.
وهكذا فإنّ العقد بجواهره النفيسة التي تشعّ كثيرا من الأصواء والمعارف، كتاب ينبغي الاقتناء له والاستفادة من ألقه الرائع بين السطور والكلمات.
والله من وراء القصد.
د. مفيد محمد قميحة
المقدمة / 5
الجزء الأول
[مقدمة المؤلف]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[ربّ يسّر وأعن قال أبو عمرو أحمد بن عبد ربّه الأندلسيّ، ﵀]:
الحمد لله الأوّل بلا ابتداء، الآخر بلا انتهاء؛ المنفرد بقدرته، المتعالي في سلطانه؛ الذي لا تحويه الجهات ولا تنعته الصّفات؛ ولا تدركه العيون، ولا تبلغه الظنّون؛ الباديء بالإحسان، العائد بالامتنان؛ الدالّ على بقائه بفناء خلقه، وعلى قدرته بعجز كلّ شيء سواه؛ المغتفر إساءة المذنب بعفوه، وجهل المسيء بحمله؛ الذي جعل معرفته اضطرارا، وعبادته اختيارا؛ وخلق الخلق من [بين] ناطق معترف بوحدانيّته، وصامت متخشّع لربوبيّته؛ لا يخرج شيء عن قدرته، ولا يعزب «١» عن رؤيته؛ الذي قرن بالفضل رحمته، وبالعدل عذابه؛ فالناس مدينون بين فضله وعدله، آذنون بالزّوال، آخذون في الانتقال؛ من دار بلاء، إلى دار جزاء.
أحمده على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه بعد قدرته؛ فإنّه رضي الحمد ثمنا لجزيل نعمائه، وجليل آلائه «٢»؛ وجعله مفتاح رحمته، وكفاء نعمته، وآخر دعوى أهل جنّته، بقوله جلّ وعزّ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
«٣»
1 / 3
وصلّى الله على [سيّدنا محمّد] النبيّ المكرّم، الشافع المقرّب، الذي بعث آخرا واصطفي أوّلا، وجعلنا من أهل طاعته، وعتقاء شفاعته.
وبعد: فإنّ أهل كلّ طبقة، وجهابذة «١» كلّ أمّة؛ قد تكلّموا في الأدب وتفلسفوا في العلوم على كلّ لسان، ومع كلّ زمان؛ وإنّ كلّ متكلّم منهم قد استفرغ غايته وبذل مجهوده في اختصار بديع معاني المتقدّمين، واختيار جواهر ألفاظ السالفين؛ وأكثروا في ذلك حتى احتاج المختصر منها إلى اختصار، والمتخيّر إلى اختيار.
ثم إني رأيت آخر كلّ طبقة، وواضعي كلّ حكمة ومؤلّفي كل أدب، أعذب ألفاظا وأسهل بنية وأحكم مذهبا وأوضح طريقة من الأوّل، لأنه ناكص متعقّب «٢»، والأوّل باديء متقدّم.
فلينظر الناظر إلى الأوضاع المحكمة والكتب المترجمة بعين إنصاف، ثم يجعل عقله حكما عادلا [وفيصلا] قاطعا؛ فعند ذلك يعلم أنها شجرة باسقة الفرع، طيّبة المنبت، زكيّة التّربة، يانعة الثّمرة. فمن أخذ بنصيبه منها كان على إرث من النّبوّة، ومنهاج من الحكمة؛ لا يستوحش صاحبه، ولا يضلّ من تمسّك به.
وقد ألّفت هذا الكتاب وتخيّرت جواهره من متخيّر جواهر الآداب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب الّلباب؛ وإنّما لي فيه تأليف [الأخبار، وفضل] الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش في صدر كلّ كتاب؛ وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء. واختيار الكلام أصعب من تأليفه. وقد قالوا: اختيار الرجل وافد عقله «٣» . وقال الشاعر:
قد عرفناك باختيارك إذ كا ... ن دليلا على الّلبيب اختياره
1 / 4
وقال أفلاطون: عقول الناس مدوّنة في أطراف أقلامهم، وظاهرة في حسن اختيارهم.
فتطلّبت نظائر الكلام وأشكال المعاني وجواهر الحكم وضروب الأدب ونوادر الأمثال، ثم قرنت كلّ جنس منها إلى جنسه، فجعلته بابا على حدته؛ ليستدلّ الطالب للخبر على موضعه من الكتاب، ونظيره في كلّ باب.
وقصدت من جملة الأخبار وفنون الآثار أشرفها جوهرا، وأظهرها رونقا، وألطفها معنى، وأجزلها لفظا، وأحسنها ديباجة، وأكثرها طلاوة وحلاوة؛ آخذا بقول الله ﵎: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ
«١» .
وقال يحيى بن خالد: الناس يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون: ويتحدّثون بأحسن ما يحفظون.
وقال ابن سيرين: العلم أكثر من أن يحاط به فخذوا من كلّ شيء أحسنه.
وفيما بين ذلك سقط الرأي، وزلل القول؛ ولكلّ عالم هفوة [ولكلّ جواد كبوة]، ولكل صارم «٢» نبوة.
وفي بعض الكتب: انفرد الله تعالى بالكمال، ولم يبرأ أحد من النّقصان.
وقيل للعتّابي: هل تعلم أحدا لا عيب فيه؟ قال: إنّ الذي لا عيب فيه لا يموت [أبدا]، ولا سبيل إلى السّلامة من ألسنة العامّة.
وقال العتّابي: من قرض شعرا أو وضع كتابا فقد استهدف للخصوم واستشرف للألسن، إلا عند من نظر فيه بعين العدل، وحكم بغير الهوى، وقليل ما هم.
وحذفت الأسانيد من أكثر الأخبار طلبا للاستخفاف والإيجاز، وهربا من
1 / 5
التثقيل والتّطويل؛ لأنها أخبار ممتعة وحكم ونوادر، لا ينفعها الإسناد باتّصاله، ولا يضرّها ما حذف منها.
وقد كان بعضهم يحذف أسانيد الحديث من سنّة متّبعة، وشريعة مفروضة؛ فكيف لا نحذفه من نادرة شاردة، ومثل سائر، وخبر مستطرف، [وحديث يذهب نوره إذا طال وكثر] .
سأل حفص بن غياث الأعمش عن إسناد حديث. فأخذ بحلقه وأسنده إلى حائط وقال: هذا إسناده! وحدّث ابن السّمّاك بحديث، فقيل له: ما إسناده؟ فقال: هو من المرسلات عرفا «١» .
[وروى الأصمعيّ خبرا، فسئل عن إسناده. فقال: هو من الآيات المحكمات التي لا تحتاج إلى دليل وحجّة] .
وحدّث الحسن البصريّ بحديث، فقيل له: يا أبا سعيد، عمّن؟ قال: وما تصنع بعمّن يا بن أخي؟ أمّا أنت فنالتك موعظته، وقامت عليك حجّته.
وقد نظرت في بعض الكتب الموضوعة فوجدتها غير متصرّفة في فنون الأخبار، ولا جامعة لجمل الآثار؛ فجعلت هذا الكتاب كافيا [شافيا] جامعا لأكثر المعاني التي تجري على أفواه العامّة والخاصّة. وتدور على ألسنة الملوك والسّوقة. وحلّيت كلّ كتاب منها بشواهد من الشّعر، تجانس الاخبار في معانيها، وتوافقها في مذاهبها؛ وقرنت بها غرائب من شعري، ليعلم الناظر في كتابنا هذا أن لمغربنا على قاصيته «٢»، وبلدنا على انقطاعه، حظّا من المنظوم والمنثور.
1 / 6
وسمّيته كتاب (العقد الفريد) لما فيه من مختلف جواهر الكلام، مع دقة السّلك وحسن النّظام؛ وجزّاته على خمسة وعشرين كتابا، كل كتاب منها جزآن، فتلك خمسون جزءا في خمسة وعشرين كتابا [و] قد انفرد كلّ كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد، فأوّلها:
كتاب اللؤلؤة في السلطان.
ثم كتاب الفريدة في الحروب [ومدار أمرها] .
ثم كتاب الزّبر جدة في الأجواد والأصفاد.
ثم كتاب الجمانة في الوفود.
ثم كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك.
ثم كتاب الياقوتة في العلم والأدب.
ثم كتاب الجوهرة في الأمثال.
ثم كتاب الزّمردة في المواعظ والزّهد.
ثم كتاب الدّرّة في التعازي والمراثي.
ثم كتاب اليتيمة في النسب [وفضائل العرب] .
ثم كتاب المسجدة في كلام الأعراب.
ثم كتاب المجنّبة في الأجوبة.
ثم كتاب الواسطة في الخطب.
ثم كتاب المجنّبة الثانية في التّوقيعات والفصول والصّدور وأخبار الكتبة.
ثم كتاب المسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم.
ثم كتاب اليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجّاج [والطالبيّين والبرامكة] .
ثم كتاب الدرة الثانية في أيام العرب ووقائعهم.
ثم كتاب الزّمرّدة الثانية في فضائل الشّعر ومقاطعه ومخارجه.
ثم كتاب الجوهرة الثانية في أعاريض الشّعر وعلل القوافي.
1 / 7
ثم كتاب الياقوتة الثانية في [علم] «١» الألحان واختلاف الناس فيه.
ثم كتاب المرجانة الثانية في النّساء وصفاتهنّ.
ثم كتاب الجمانة الثانية في المتنبّئين والممرورين والبخلاء والطّفيليّين.
ثم كتاب الزّبرجدة الثانية في بيان طبائع الإنسان وسائر الحيوان [وتفاضل البلدان] .
ثم كتاب الفريدة الثانية في الطّعام والشراب.
ثم كتاب اللؤلؤة الثانية في [النّتف والهدايا و] الفكاهات والملح.
1 / 8
كتاب اللّؤلؤة في السلطان
فرش الكتاب
: السلطان زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوام الحدود والقطب الذي عليه مدار [الدين و] الدنيا. وهو حمى الله في بلاده وظلّه الممدود على عباده، به يمتنع حريمهم، وينتصر مظلومهم، وينقمع ظالمهم «١»، ويأمن خائفهم.
للحكماء
: قالت الحكماء: إمام عادل، خير من مطر وابل «٢» . وإمام غشوم، خير من فتنة تدوم. ولما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن «٣» .
وقال وهب بن منبّه: فيما أنزل الله على نبيه داود ﵇: إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي. فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم رحمة، ومن كان لي على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة.
فحق على من قلّده الله أزمّة حكمه، وملّكه أمور خلقه، واختصه بإحسانه، ومكّن له في سلطانه، أن يكون من الاهتمام بمصالح رعيّته، والاعتناء بمرافق أهل طاعته، بحيث وضعه الله من الكرامة، وأجرى عليه من أسباب السعادة.
قال الله ﷿: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ
«٤» .
1 / 9
للنبي ﵌
وقال النبي ﵌: «عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة» . وقال ﵌.
كلّكم راع، وكلّ راع مسئول عن رعيته.
وقال الشاعر:
فكلّكم راع ونحن رعيّة ... وكلّ يلاقي ربّه فيحاسبه
ومن شأن الرعيّة قلة الرضى عن الأئمة، وتحجّر العذر عليهم «١»، وإلزام اللأئمة لهم ورب ملوم لا ذنب له. ولا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة إذ كان رضى جملتها، وموافقة جماعتها من المعجز الذي لا يدرك والممتنع الذي لا يملك.
ولكلّ حصته من العدل، ومنزلته من الحكم. فمن حقّ الإمام على رعيته أن يقضي عليهم بالأغلب من فعله والأعمّ من حكمه، ومن حق الرعيّة على إمامها حسن القبول لظاهر طاعتها وإضرابه صفحا عن مكاشفتها، كما قال زياد لما قدم العراق واليا عليها: أيها الناس، قد كانت بين وبينكم إحن «٢»، فجعلت ذلك دبر «٣» أذني وتحت قدمي، فمن كان محسنا فليزدد في إحسانه، ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته. إني لو علمت أنّ أحدكم قد قتله السّل من بغضي لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدي صفحته لي «٤» .
لابن عمر
: وقال عبد الله بن عمر: إذا كان الإمام عادلا فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان الإمام جائرا فله الوزر وعليك الصبر.
لكعب الأحبار
: وقال كعب الأحبار: مثل الإسلام والسلطان والناس: مثل الفسطاط والعمود
1 / 10
والأوتاد. فالفسطاط الإسلام، والعمود السلطان، والأوتاد الناس. ولا يصلح بعضهم إلا ببعض.
وقال الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهّالهم سادوا «١»
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وإن تجمّع أوتاد وأعمدة ... يوما فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
نصيحة السلطان ولزوم طاعته
قال الله ﵎: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
«٢» وقال أبو هريرة: لما نزلت هذه الآية أمرنا بطاعة الأئمة. وطاعتهم من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله.
للنبي ﵌:
وقال النبي ﵌: «من فارق الجماعة أو خلع يدا من طاعة مات ميتة جاهليّة» .
وقال ﵌: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأولي الأمر منكم» .
فنصح الإمام ولزوم طاعته فرض واجب وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلّا به، ولا يثبت إسلام إلا عليه.
مما وصى به العباس ابنه حين قدمه عمر
: الشعبي عن ابن عباس ﵄، قال: قال لي أبي: أرى هذا الرجل- يعني عمر بن الخطاب- يستفهمك ويقدّمك على الأكابر من أصحاب محمّد ﵌. وإني
1 / 11
موصيك بخلال أربع: لا تفشينّ له سرّا، ولا يجرّبنّ عليك كذبا، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابنّ عنده أحدا.
قال الشعبي: فقلت لابن عباس: كل واحدة خير من ألف. قال: إي والله، ومن عشرة آلاف.
لرجل من الهند ينصح ملكا
: وفي كتاب للهند «١»: أنّ رجلا دخل على بعض ملوكهم فقال: أيها الملك، إنّ نصيحتك واجبة في الصغير الحقير والكبير الخطير، ولولا الثقة بفضيلة رأيك، واحتمالك ما يشقّ «٢» موقعه [من الأسماع والقلوب] «٣» في جنب صلاح العامة وتلافي الخاصة، لكان خرقا مني «٤» أن أقول؛ ولكنا إذا رجعنا إلى أنّ بقاءنا موصول ببقائك، وأنفسنا متعلقة بنفسك، لم نجد بدّا من أداء الحق إليك وإن أنت لم تسلني ذلك، فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته، والأطباء مرضه، والإخوان بثّه «٥»، فقد أخلّ بنفسه؛ وأنا أعلم أنّ كل كلام يكرهه سامعه لا يتشجّع عليه قائله، إلا أن يثق بعقل المقول؛ فإنه إذا كان عاقلا احتمل ذلك؛ لأنه ما كان فيه من نفع فهو للسامع دون القائل. وإنّك أيها الملك ذو فضيلة في الرأي وتصرّف في العلم، ويشجعني ذلك على أن أخبرك بما تكره، واثقا بمعرفتك نصيحتي لك وإيثاري إيّاك على نفسي.
ابن عتبة ينصح الوليد
: وقال عمرو بن عتبة للوليد حين تغيّر الناس عليه: يا أمير المؤمنين، إنه ينطقني الأنس بك، وتسكتني الهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك، أفأسكت مطيعا أم أقول مشفقا؟ قال: كلّ مقبول منك، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه. فقتل بعد ذلك بأيام.
1 / 12
لابن صفوان في خالصة السلطان
: وقال خالد بن صفوان: من صحب السلطان بالصحّة والنصيحة أكثر عدوّا ممن صحبه بالغش والخيانة؛ لأنّه يجتمع على الناصح عدوّ السلطان وصديقه بالعداوة والحسد، فصديق السلطان ينافسه في مرتبته، وعدوّه يبغضه لنصيحته.
ما يصحب به السلطان
لابن المقفع في خادم السلطان:
قال ابن المقفع: ينبغي لمن خدم السلطان ألا يغتر به إذا رضي ولا يتغيّر له إذا سخط، ولا يستثقل ما حمّله، ولا يلحف في مسألته. وقال أيضا: لا تكن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة «١» منك لنفسك على طاعتهم. فإن كنت حافظا إذا ولّوك، حذرا إذا قرّبوك، أمينا إذا أئتمنوك ذليلا إذا صرموك «٢»، راضيا إذا أسخطوك، تعلّمهم وكأنك متعلّم منهم، وتؤدّبهم وكأنك متأدب بهم، وتشكرهم ولا تكلفهم الشكر. وإلا فالبعد منهم كلّ البعد، والحذر منهم كل الحذر.
وقال المأمون: الملوك تتحمّل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرّض للحرم.
وقال ابن المقفع: إذا نزلت من السلطان بمنزلة الثقة فلا تلزم الدعاء له في كل كلمة؛ فإنّ ذلك يوجب الوحشة ويلزم الانقباض «٣» .
وقال الأصمعي: توصلت بالملح وأدركت بالغريب «٤» .
وقال أبو حازم الأعرج لسليمان بن عبد الملك: إنما السلطان سوق، فما نفق عنده حمل إليه.
1 / 13
وصاة أبي سفيان وزوجه لابنهما معاوية حين عمل لعمر
: ولما قدم معاوية من الشام، وكان عمر قد استعمله عليها، دخل على أمه هند؛ فقالت له: يا بنيّ، إنه قلما ولدت حرة مثلك، وقد استعملك هذا الرجل، فأعمل بما وافقه أحببت ذلك أم كرهته. ثم دخل على أبيه أبي سفيان؛ فقال له: يا بنيّ، إنّ هؤلاء الرهط «١» من المهاجرين سبقونا وتأخرنا عنهم، فرفعهم سبقهم وقصّر بنا تأخّرنا، فصرنا أتباعا وصاروا قادة؛ وقد قلّدوك جسيما من أمرهم؛ فلا تخالفن أمرهم، فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه، ولو قد بلغته لتنفّست «٢» فيه.
قال معاوية: فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ.
لا برويز ينصح صاحب بيت ماله
: وقال أبرويز لصاحب بيت المال: إني لا أعذرك في خيانة درهم، ولا أحمدك على صيانة ألف ألف؛ لأنك إنما تحقن بذلك دمك وتقيم أمانتك، فإنك إن خنت قليلا خنت كثيرا. واحترس من خصلتين: النّقصان فيما تأخذ، والزيادة فيما تعطي؛ واعلم أني لم أجعلك على ذخائر الملك وعمارة المملكة والعدّة على العدوّ، إلا وأنت عندي آمن من موضعه الذي هو فيه، وخواتمه التي هي عليه، فحقّق ظني باختياري إياك أحقق ظنّك في رجائك إياي؛ ولا تتعوّض بخير شرّا، ولا برفعة ضعة، ولا بسلامة ندامة، [ولا بأمانة خيانة] «٣» .
ليزيد بن معاوية ينصح سلما حين ولاه خراسان
: ولما ولّى يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان قال له: إنّ أباك كفى أخاه عظيما، وقد استكفيتك صغيرا؛ فلا تتكلنّ على عذر مني فقد اتكلت على كفاية منك.
وإياك مني قبل أن أقول إياي منك؛ فإن الظن إذا أخلف مني فيك أخلف منك فيّ؛ وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه، وقد أتعبك أبوك فلا تريحن نفسك.
1 / 14
لعمر بن الخطاب ومعاوية حين قدم عليه الشام
: قال يزيد: حدّثني أبي أنّ عمر بن الخطاب لما قدم الشام قدم على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار، فتلقّاهما معاوية في موكب ثقيل، فجاوز عمر معاوية حتى أخبر به، فرجع إليه. فلما قرب منه نزل إليه، فأعرض عنه، فجعل يمشي إلى جنبه راجلا. فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل. فأقبل عليه عمر فقال:
يا معاوية، أنت صاحب الموكب آنفا مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذاك؟ قال: لأنا في بلد لا نمتنع فيها من جواسيس العدوّ ولا بدّ لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان؛ فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت. فقال: لئن كان الذي تقول حقا فإنه رأي أريب «١»؛ وإن كان باطلا خدعة أديب، وما آمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه! فقال: لحسن موارده جشّمناه ما جشّمناه «٢» .
الربيع الحارثي في حضرة ابن الخطاب
: وقال الربيع بن زياد الحارثيّ: كنت عاملا لأبي موسى الأشعري على البحرين.
فكتب إليه عمر بن الخطاب يأمره بالقدوم عليه هو وعمّاله وأن يستخلفوا من هو من ثقاتهم حتى يرجعوا. فلما قدمنا أتيت يرفأ «٣»، فقلت: يا يرفأ، ابن سبيل مسترشد، أخبرني أيّ الهيئات أحبّ إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عمّاله؟ فأومأ إلى الخشونة. فأخذت خفّين مطارقين «٤»، ولبست جبّة صوف، ولثت رأسي. بعمامة دكناء. ثم دخلنا على عمر، فصفّنا بين يديه وصعّد فينا نظره وصوّب «٥»، فلم تأخذ عينه أحدا غيري، فدعاني؛ فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثي. قال: وما تتولى من أعمالنا؟ قلت: البحرين. قال: فكم ترزق؟ قلت: خمسة دراهم في كل
1 / 15
يوم. قال: كثير! فما تصنع بها؟ قلت: أتقوّت منها شيئا وأعود بباقيها على أقارب لي، فما فضل منها فعلى فقراء المسلمين. فقال: لا بأس، ارجع إلى موضعك؛ فرجعت إلى موضعي من الصف. ثم صعّد فينا وصوّب، فلم تقع عينه إلا عليّ، فدعاني؛ فقال: كم سنوك؟ فقلت: ثلاث وأربعون سنة قال: الآن حين استحكمت.
ثم دعا بالطعام، وأصحابي حديثو عهد بلين العيش وقد تجوّعت له، فأتي بخبز يابس وأكسار بعير «١»، فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد الأكل. فنظرت فإذا به يلحظني من بينهم، ثم سبقت مني كلمة تمنيت أني سخت في الأرض ولم ألفظ بها، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الناس يحتاجون إلى صلاحك، فلو عمدت إلى طعام هو ألين من هذا. فزجرني وقال: كيف قلت؟ قلت: أقول: لو نظرت يا أمير المؤمنين إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم، ويطبخ لك اللحم كذلك، فتؤتى بالخبز ليّنا وباللحم غريضا. فسكّن من غربه وقال: هذا قصدت؟
قلت: نعم. قال: يا ربيع، إنا لو نشاء لملأنا هذه الرّحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم شهواتهم فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها
«٢» ثم أمر أبا موسى أن يقرّني وأن يستبدل بأصحابي!
ابن عبد ربه يفسر غريب الخبر
: قوله «لثتها على رأسي» . يقال: رجل ألوث، إذا كان شديدا، وذلك من اللوث؛ ورجل ألوث، إذا كان أهوج، مأخوذ من الّلوثة. يقال: (لثت عمامة على رأسي) يقول: أدرتها بعضها على بعض على غير استواء.
وقوله «صلائق» هي شيء يعمل من اللحم، فمنها ما يطبخ ومنها ما يشوى، يقال: صلقت اللحم، إذا طبخته، وصلقته إذا شويته.
وقوله «غريضا» يقول طريا. يقال: لحم غريض، تراد به الطراوة قال العتابي:
1 / 16
إذا ما فاتني لحم غريض ... ضربت ذراع بكري فاشتويت
و«سبائك» يريد الحوّارى من الخبز، وذلك أنه يسبك فيؤخذ خالصه، والعرب تسمي الرقاق: السبائك.
و«الصناب» طعام يؤخذ من الزبيب والخردل، ومنه قيل للفرس: صنابي إذا كان في لونه حمرة. قال جرير:
تكلّفني معايش آل يزيد ... ومن لي بالمرقّق والصّناب
وقوله: «أكسار بعير» فالكسر والقصل والجزل: العظم يفصل ما عليه من اللحم.
وقوله «نعى على قوم شهواتهم» أي عابهم بها ووبّخهم.
زياد أول من استن ترك السلام على قادم عند السلطان
: ومما يصحب به السلطان: ألا يسلّم على قادم بين يديه، وإنما استنّ ذلك زياد بن أبيه؛ وذلك أن عبد الله بن عباس قدم على معاوية وعنده زياد؛ فرحّب به معاوية وألطفه وقرّب مجلسه ولم يكلّمه زياد شيئا فابتدأه ابن عباس وقال: ما حالك أبا المغيرة! كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجرا. قال: لا، ولكنه لا يسلّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين. فقال له ابن عباس: ما ترك الناس التحية بينهم بين يدي أمرائهم. فقال له معاوية: كفّ عنه يا بن عباس، فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت.
ترك أبي مسلم السلام على المنصور بحضرة السفاح
: دخل أبو مسلم على أبي العباس وعنده المنصور. فسلم على أبي العباس. فقال له: يا أبا مسلم؛ هذا أبو جعفر! فقال له: يا أمير المؤمنين. هذا موضع لا يقضى فيه إلا حقك!
1 / 17