درت حول البركة. أوشكت أن أصطدم ببغلة يمتطيها شيخ عجوز لحقت به جماعة من الإنكشارية جند الوالي التركي، تميزهم ريشة ذات شعبتين فوق طراطيرهم. حاذى أحدهم العجوز فدفعه جانبا وأوقعه، ثم التقط مقود البغلة وجرها خلفه.
ساعدت العجوز على النهوض، وأخذ يولول على بغلته المخطوفة. واصلت الركض. تراجعت الشمس وخف لهيبها. الموسكي. عبرت القنطرة بصعوبة. خيل لي أنها ستقع من فرط الزحام. قطعت شارع الأشرفية حتى نهايته في مبتدأ شارع الغورية. عطفت على خط الصنادقية. اندفعت من باب الحارة المفتوح. رأيت مدرسة السنانية التي تعلم بها شيخي مغلقة الأبواب، في مقابلها وكالة السلطان إينال مغلقة، وبجوارها البيت. توقفت أمامه ألهث أسفل المشربيات المغلقة النوافذ.
باب مقنطر موارب. مدخل قصير بجوار مصطبة منحوتة من الحجر. باب آخر يفتح على رحبة واسعة في وسطها حديقة صغيرة. الشيخ عبد الرحمن الجبرتي واقف قرب الباب الداخلي للبيت ومسبحته في يده. الاضطراب ظاهر على وجهه. إلى جواره ابنه خليل الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره ويصغرني بعامين. منصور، عبده الأسود، يداه مضمومتان إلى صدره، وعيناه مثبتتان على عيني سيده، يدرس رغباته لينفذها قبل أن ينطق بها.
لحقني جعفر بقلة الماء. حكيت لأستاذي ما وقع من أحداث. كيف قاتل المماليك في شجاعة؛ الواحد منهم يطلق أولا قربينته ثم يدسها تحت فخذه، وبعدها يطلق طبنجاته ويقذف بها من فوق كتفه ليلتقطها خدمه، ثم يقذف بسهام الجريد الفتاك، وأخيرا يهاجم بسيفه الأحدب، وأحيانا يحمل سيفين في آن واحد ويضرب بهما ولجام الجواد بين نواجذه. لكنهم تراجعوا أمام الفرنساوية الذين نظموا أنفسهم في مربعات غريبة الشكل.
سألني: وإبراهيم بك؟
قلت: هرب.
انفرجت أسارير وجهه الأسمر الذي يشي بأصوله الحبشية في ضحكة جافة. قال: جمعت الهزيمة أخيرا بين الأميرين المتنافسين.
طوفت البصر في أرجاء الحوش الصغير الذي سقف بعضه، تبينت بغلة أستاذي مسرجة وفوقها صندوق كبير. صندوق آخر فوق حمار، ظننته ذاهبا إلى أحد المنزلين اللذين ورثهما عن أبيه الشيخ حسن؛ واحد بجوار الأبزارية على شاطئ النيل، الثاني جهة بركة الرطلي بين المزارع والبساتين. قال إنه سيغادر المدينة إلى مزرعته في إبيار حتى تستقر الأمور.
تطلعت إليه متسائلا. قال: عمر مكرم وبقية الأعيان والعلماء غادروا المدينة، والشيخ السادات والشيخ الشرقاوي هربا إلى المطرية. سكت لحظة ثم استطرد: لم تعد المقاومة مجدية بعد هزيمة الأميرين. ولا بد أن الفرنساوية سيدخلون المدينة في الصباح.
قلت: الطريق خطرة. والعربان والفلاحون يتلقفون الخارجين من المدينة فيأخذون متاعهم ولباسهم.
Unknown page