وهكذا، فهناك فارق هائل بين الصورة - ونحن نستعيدها الآن، بعيدا تماما عن حدوثها - وبين الصورة لحظة حدوثها.
فجأة، شل تفكير الجميع، الوحيدون الذين أصبحوا يفكرون هم السفاحون الذين اعتلوا الطائرة وسيطروا عليها، بل أعتقد أن هؤلاء الآخرين كانوا يعانون في داخلهم رعبا قاتلا.
وهنا، وفي مثل هذا الجو، تتجلى بطولة رجل الأمن المصري: مدحت، فأمامه ثلاث قنابل يدوية مصوبة إليه وإلى الركاب، وثلاث فوهات مسدسات، ومع هذا قرر أن يؤدي واجبه، وما دام واجبه أن يقاوم الإرهاب، فليضرب وليتظاهر بإخراج جواز سفره، ويخرج مسدسا معدا، يردي به قائد العملية بثلاث طلقات مفاجئة مصوبة بعناية.
ولكن زملاءه كان لهم تصرف آخر، فقد آثروا الاستسلام وألقوا بمسدساتهم أرضا، هكذا دفعتهم حلاوة الروح والرغبة في النجاة بالنفس، أليس من سخرية القدر، وحكمة المولى أن الذي تصرف بشجاعة وأدى واجبه هو الذي يعيش الآن، بينما هلك زميلاه اللذان آثرا السلامة والاستسلام؟! إنها ليست سخرية أقدار، إنها قانون الحياة، فالبقاء دائما للأشجع، والحرص على الحياة هو بالشجاعة وليس باستهزاء واستكانة، وأكل العيش بالجبن يطيل العمر، كان خالد بن الوليد، رضي الله عنه، أشجع فرسان العرب؛ ولهذا لم يمت أبدا في حرب فقد كان يدخلها فيهزم عدوه ويعيش، ويموت العدو.
أما قائد الطائرة فأعتقد أن مسئوليته كبرى عن الفاجعة التي حدثت ففي حالة كتلك هو مسئول فيها عن مائة إنسان، كان عليه حتى لو كان أشجع الشجعان أن يطيع أمر هؤلاء المجرمين تماما، فإذا أنت قررت أن تقوم بمهمة كالتي كلفوا بها، ووضعت رأسك على كفك، ونويت، إذا حانت اللحظة أن تفجر الطائرة وأنت فيها، فمن أبسط مبادئ الذكاء أن تطيع إنسانا كهذا طاعة عمياء؛ لأنه يكون في حالة نفسية مستعدا فيها لكي يقامر بأي شيء وبكل شيء.
ولهذا كان قرار الكابتن أن يراوغ ويفرغ بنزين الطائرة ويفرغ إطاراتها من الهواء، كان في رأيي قرارا خاطئا؛ لأنه عرض حياة الركاب للخطر أكثر، فمعنى هذا أنه حدد قدرة التهوية وقدرة الطيران، أي كسح نفسه وطائرته وأرقدها فوق مطار فاليتا لا حول لها ولا قوة.
وقد فسر هو هذا بقوله إنه كان خائفا أن يرغمه المختطفون على التوجه إلى ليبيا حيث يفجرون الطائرة، وهو تفسير قاصر؛ فليس من المعقول - إذا كان المتهم هو ليبيا - أن تقبل تفجير طائرة على أرضها، فمن باب أولى أن يفجرها المختطفون في مالطة، إذا كان في نيتهم التفجير، العكس هو الصحيح، لقد كان من مصلحته ومصلحة الركاب والطائرة أن يتوجهوا جميعا إلى طرابلس حيث تصبح المسئولية مسئولية ليبيا بدلا مما هو حادث الآن من أن الدوائر الإعلامية العالمية تحمل مصر المسئولية عن مأساة الطائرة.
ومن رأيي أن الكابتن أصيب بحالة من الارتباك أدت إلى هذا التفكير الخطأ، وأنا من مجلسي فوق مكتبي هذا لا ألومه، ولست أعرف كيف كنت ولا كيف كان غيري يتصرف إن وضع في هذا الموقف!
الخطأ الأكبر الثاني الذي ارتكبه الكابتن هو مطالبته التدخل بقوات من خارج الطائرة تنقذ الموقف، وإلحاحه في هذا بطريقة تدل على أنه كان يعاني شبه انهيار لا منقذ له منه إلا بقوة خارجية، مع أنه يعلم تماما أن أي تدخل خارجي سيكون على حساب ركابه وعلى حسابه هو شخصيا، وقد تبع هذا الخطأ، وكنتيجة له، سلسلة من الأخطاء، ففي سبيل التحريض على التدخل بالغ القائد في صورة الوضع داخل الطائرة بحيث إن المعلومات التي ذكرها دفعت القيادة العسكرية في مصر إلى سوء تقدير الموقف، وكان القرار بالتدخل.
وهناك طرق علمية للتدخل، منها إدخال الغازات المخدرة، ومحاصرة الطائرة إلى درجة إنهاك مختطفيها حتى لو كانوا يقتلون أحد الركاب بين الحين والحين، أما الهجوم بفرقة صاعقة، ما أشجع أبطالها هم الآخرون وهم يواجهون خطرا لا يعرفون كنهه! ولكنهم خضر العود والتجربة والإعداد بحيث هجموا على الطائرة وكأنهم قوة أمن مركزي في طريقها إلى فض مظاهرة بالتفجير وقنابل الدخان، والاقتحام بالقوة وحدها، واقتحام قلعة محصنة، يسيطر عليها مسلحون سوف يكون ضحيته بلا أدنى شك الرهائن الأبرياء.
Unknown page