هنا تغيرت لهجة عبادة تماما، وبعد مقدمات طويلة دقت قرون الاستشعار في نفسها معلنة أنه اقترب جدا من المنطقة الخطيرة التي كانت تحدثها نفسها منذ اللحظة التي رأته فيها أنه سيتقرب منها ويحاول، وبالتحديد لم تصغ بوعي إلا حين بدأ يقول: أنا فاهم إزاي واحدة ذكية مدردحة زي حضرتك قاعدة ساكتة وهي شايفة ناس أغبى منها كتير، وأقل منها كتير، وهم عمالين يبلعوا في بطونهم اللي ما بتتمليش؟ دلوقتي حدش شايفنا؟ حدش سامعنا؟ إنتي عندك أمر من رئيسك إنك تملي التصاريح، هو المسئول وهو اللي قالك وما عليكي إلا التنفيذ، فيها حاجة دي؟ ما فيهاش حاجة أبدا، أنا ليكي علي أسكت خفاجة والباشكاتب سكوت أبدي، ولا هم ح يعرفوا إنك خدتي ولا الجندي ولا حد ح يعرف، ودي فيها مصلحة متبادلة، بدل أنا ما أدفع 100 جنيه تتوزع على سبعة ولا عشرة، ادفع سبعين ... الباشكاتب وخفاجة عشرين، وإنتي لوحدك خمسين، ودول تصريحين يعني إنتي لوحدك ح تطلعي بميه، ميت جنيه قد ماهيتك سبع تشهر ح تاخديهم من غير ما تتحملي أي مسئولية، لمجرد إنك تكتبيهم، وكل المطلوب منك إنك تكتمي على الحكاية وما تقوليش للجندي ولا لحد، أظن اللي يرفض حاجة زي كده اسمحيلي بقى يبقى ما يستاهلش المكتب اللي قاعد عليه.
وكأنما استمرارا للحديث مد عبادة بك يده وفتح درج مكتبها فتحة ضيقة وأخرج من جيبه رزمة أوراق من ذات الخمسة جنيهات مثبتة معا «بأستك» البنك، رزمة منتفخة مغرية كالصفحات المتراصة لكتاب ثمين، وقد يكون ألف خاطر وخاطر قد دار في عقل سناء، وقد يكون الأمر وكأن خاطرا واحدا لم يدر فالدوران السريع يبدو كالثبات المقيم ... والألف خاطر حين تدور في جزء من الثانية لا تترك في العقل أو التصرف أثرا وتبدو وكأن خاطرا لم يدر.
كل ما حدث أن القلم في يدها كف عن الكتابة وألقت نظرة عابرة سريعة على الرزمة في قاع الدرجة، ثم عادت تحدق في خانات التصريح وقد شل عقلها تماما، ولم يبق متحركا فيها وفيه غير تساؤل واحد ظل يدق باستمرار في إلحاح عنيد، كجرس الباب حين يدقه صاحب دين لحوح.
كان التساؤل هو ... ماذا يحدث لو أخذتها؟ تساؤل هكذا يلقى ويعود يلقى دون أن تنتظر إجابة عليه، ماذا يحدث لو أخذتها؟ ماذا يحدث؟ ماذا يحدث؟
كل ما كانت تريده هو مهلة خاطفة تستطيع بطريقة ما أن توقف هذا التساؤل المتواصل المزعج وتفكر فيها، ولكن بدا وكأن عقلها نفسه لا يريد هذه المهلة ولا يريد أن يفكر، ويريدها أن تتصرف بوحي من غرائزها البدائية الأولى ... الغرائز التي تنجذب إلى الدفء والنور وتهرب من الظلام والبرد، التي تطمع وتستنكر على الآخرين الطمع ... الغرائز التي تنجذب إلى الأشياء وتنفر من الأشياء لا بحسب قيمها العليا ومعانيها العميقة وإنما بحسب قيمها الظاهرة المحسوسة ومعانيها التي تتلخص في معنيين اثنين: أهذا الشيء يضر جسدي حتى أهرب منه، أم يفيده حتى أحصل عليه ؟
وبحكم هذه الغرائز لو كان لص قد دخل الحجرة في ذلك الوقت لاستماتت سناء دفاعا عن الرزمة، بحكمها كانت قد أصبحت ملكها وبحكمها أيضا قد أصبحت المشكلة لا أن تأخذها أو لا تأخذها، وإنما هي كيف تدافع عنها وتمنعها من التسرب من حوزتها.
وحتى حين كف التساؤل الملح عن التردد وأصبح بإمكانها أن تستعمل عقلها، لم تشأ بإراداتها هذه المرة أن تستعمله، وبسرعة كانت قد كونت لنفسها رأيا يخرج بها من اللحظة المتوقعة، إذ قالت آخذها أولا وبعد هذا أمامي المتسع من الوقت للتفكير، بحيث إذا وصلت في تفكيري إلى أن من الخطأ أخذها فمن الممكن حينئذ أن أردها لصاحبها مهما رفض وأبى.
وهكذا لم يطل توقف القلم، وسرعان ما استأنف تسديد الخانات وهي مصرة ومقتنعة ومتصرفة على أساس أن شيئا ما لم يحدث، وأنها لم تر أو تسمع أو تلاحظ أمرا غير عادي.
ولعل عبادة بك بحكم خبرته الطويلة كان يقرأ تفكيرها كالكتاب المفتوح، فلم تكن هذه أول مرة يتولى فيها إفساد ذمة موظف، ولن تكون الأخيرة، إذ بصرف النظر عن أنها بعض عمله فقد تربت لديه هواية قوامها ذلك الجزء من العمل، هواية ككل الهوايات الشاذة كانت مزاولتها تشيع في جسده العريض القصير المترهل نوعا من اللذة الشيطانية الوحشية دونها بكثير لذة إفساد الفتاة البكر، أو الكسب الضخم الحرام في البوكر والباكاراه، وكان يفخر أن موظفا كبيرا أو صغيرا، مديرا أو وزيرا لم يصمد أمامه أبدا، وأنه يتحدى أن يصمد أحد أمامه، ولذته الكبرى كانت تبدأ تلوح إذا آنس من هذا الموظف أو ذاك مقاومة، أو وجده عنيدا مصرا، أو لاح وكأنه من أصحاب المبادئ، حينئذ تنشط كل مراكز الإبداع والتفكير في عقل عبادة بك، وكلما زادت الصعوبات في وجهه استبشر بها ووطن نفسه على النشوة العظمى يوم النصر ... إذ هو متأكد دائما من النصر، والفرق في نظره هو فارق زمني محض، وحتى كلما طال الزمن طال استعذابه للتجربة والهواية ... وكانت طريقته أن يتفحص في اللقاء الأول الشخص ليصدر حكمه المبدئي عليه، وهو فخور بأحكامه تلك يتباهى بأن واحدا منها لم يخب، وبهذا الحكم يخمن نقطة الضعف في الموظف أهو المال أم النساء أم الترقية أم التهديد؟ ثم يجمع بنفسه وبالاستعانة باثنين من موظفي مكتبه ما يمكنه جمعه من معلومات ليستطيع على هداها أن يحدد «الكم» بعد أن حدد الكيف، والكم هنا لا يقل أهمية عن الكيف، إذ هو لا يعتمد أبدا على مركز الموظف أو أصله أو منصبه، كم من وزراء بكل هيلمانهم اشتراهم بعشوة أو بباقة زهور معينة استوردها من هولندا، وكم من موظفين صغار كلفه شراؤهم آلافا، والنساء رتب، ولبابهم طلبات خاصة وتوصيات، والتهديد سلاح نادرا ما يلجأ إليه فهو يحب أن يكون أولا محل ثقة الموظف ... ثقة مطلقة لا تشوبها شائبة، فهو الذي سيودع عنده ذمته ولا بد أن تكون ثقة الناس فيه تصل إلى حد يستخدمونه كبنك مضمون لإيداع الذمم. وكذلك عاين سناء في أول لقاء، ومن معاينته استنكف طريقة محمد الجندي المكشوفة الخشنة التي لا ذوق فيها ولا فن، ومع هذا تظاهر باندماجه فيها فقط ليسبر غور هذه الإنسانة الجديدة التي لا يعلم عنها شيئا، وقد علمته الأيام والتجارب أن النساء أصعب في بيع ذممهن بعشرات ومئات المرات من الرجال، بل المرة الوحيدة التي فشل فيها وخاب كانت أمام إحدى الموظفات الكبيرات، كثيرا ما استعمل سلاح الحب إذ هو يعرف أن نقطة الضعف الوحيدة الخطيرة في أية امرأة هي الحب، ولديه لهذا عشرات من الشبان المدربين القادرين على إيقاع أشرف نساء الدنيا، تماما مثلما لديه عدد من الجميلات من كل جنس وملة قادرات على إيقاع أشرف رجال الأرض، والغريب أن معظم هؤلاء وأولئك هواة لا يتقاضون، إذا تقاضوا، إلا ما تكلف المغامرة من مصاريف.
ومما حدث يومها حيره أمر سناء ورأى أنه مقبل على مغامرة صعبة مثيرة، وغادر المصلحة يومها وهو يحاول أن يصدر حكمه المبدئي مفاضلا بين طريق الحب وطريق المال، وثمة شيء يؤكد له أن الطريقين لا يصلحان، وأنه لا بد أن يبتكر طريقا جديدا لهذا الجيل الجديد الذي دخل الحكومة حاملا معه قيما جديدة وعقليات وأفكارا ليس من السهل التغلب عليها.
Unknown page