Cawdat Mawt Aswad
عودة الموت الأسود: أخطر قاتل على مر العصور
Genres
بحلول الحادي عشر من يوليو، تبقى 1500 فرد فحسب، وأورد وارويك أنه بمعدل الموت الحالي إذا مرت عشرة أيام أخرى فلن يتبقى معه سوى 300 جندي حي. وبتصريح خاص من الملكة إليزابيث، سلم ميناء هافر للفرنسيين في التاسع والعشرين من يوليو. وعندها صرح اللورد كلينتون، قائد الأسطول الإنجليزي قائلا: إن «الطاعون ذا العدوى الفتاكة قد فعل بهم ما لم تكن لتستطيع القوات الفرنسية كافة أن تفعله قط.»
عادت القوات الإنجليزية المتبقية إلى وطنها، وعندما وطئت أرض إنجلترا، أصدرت الملكة إليزابيث مرسوما يحث كل الأفراد على استقبالهم بحفاوة وإجلال، لكن لما عاد الجنود إلى أوطانهم، نشروا العدوى في كل أنحاء إنجلترا وعانت كل البلدات والقرى على السواء.
لا يبدو أن اهتياج البشرة، أحد الأعراض المصاحبة للطاعون عادة، كان حاضرا في هذه النوبة من الابتلاء. كان العرض الأول هذه المرة هو حمى عنيفة وحرارة مرتفعة للغاية بالتناوب مع نوبات ارتجاف، ثم يحدث جفاف في الفم وجفاف في اللسان، مع الشعور بوخزات في الصدر والخصر، ثم يعقبه ألم في الرأس وهزال ورغبة في النوم، وبعد النوم، كان يأتي الموت في أغلب الأحيان.
لمنع انتشار العدوى، كانت تنظف المنازل والسلالم والشوارع تنظيفا شاملا، وتفتح النوافذ على مصارعيها، ويتدلى منها أغصان بلوط أو صفصاف خضراء نضرة، ويبعثر على الأرضيات نبات الحماض البستاني والخس والزهور وأوراق البلوط، وترش باستمرار بمياه الينابيع أو بالخل ومياه الورد. ومن السرداب إلى الغرفة العليا، كانت المنازل تبخر لمدة ست ساعات يوميا بأعشاب الصندل والمسك والصبار والكهرمان والقرفة، وفي أسوأ الأكواخ حالا، كانت تتصاعد بخور عشب إكليل الجبل (الروزماري) وعشب الغار، ومع ذلك، لم يجد أي علاج نفعا.
كانت ليون مدينة ثرية تضم بين جدرانها العديد من الصناعات الرئيسية التي تشمل غزل الحرير والطباعة، وتأوي 60 ألف نسمة. وكانت إحدى نقاط تقاطع طرق التجارة الدولية، وتقام فيها أربعة معارض تجارية سنوية، فعانت على نحو منتظم من الأوبئة التي كان يجلبها المسافرون والتجار إليها. كان عام 1564 مدمرا على نحو خاص، وخلال شهرين، كادت المدينة تصاب بالشلل التام وأغلق ثلث المنازل. وحتى القلة القليلة من الضحايا الذين كانوا يتعافون في بعض الأحيان ماتوا من الجوع بعدها. تراكمت الجثث في الشوارع؛ إذ لم يوجد مكان لدفنها ولا المال الكافي لاستئجار حاملي الجثث. ببساطة كانت الجثث تلقى في نهر الرون، ونتيجة لذلك، كان لا بد من إغلاق صناعة صيد الأسماك.
بحلول صيف عام 1564، كانت كل من منطقة بروفنس ومقاطعة لانجيدوك قد ضربتا بالوباء، وكذلك أصيبت مدينة نيم بحلول منتصف يوليو. حدث كمون للوباء في شهر أغسطس، وإن كان قد وردت أنباء عن حدوث حالات تفش قرب نهاية العام في منتصف ديسمبر تقريبا، إلى أن وضع شتاء قاس حدا لمعاناتهم. إن هذا بمنزلة خيط مهم؛ لأنه يوضح أن الطاعون كان سريع التأثر بدرجة حرارة الشتاء، حتى في جنوبي فرنسا. لقد اكتشفنا أن الأوبئة يمكن أن تستمر في المناخ قارس البرودة، لكن نقل العدوى كان أكثر صعوبة في ظل هذه الظروف. على الأرجح كانت الإصابة بالعدوى مستحيلة خارج المنازل . (3) الأوبئة في أوج نشاطها
عانى الفرنسيون أشد ما عانوا في الفترة ما بين عامي 1622 و1646، على عكس الوضع في إنجلترا حيث ظهرت أخطر الأوبئة فيما بعد، بين عامي 1620 و1666. ومما زاد من المأساة في فرنسا انتفاضات الفلاحين، وعمليات السلب والنهب التي كان يقوم بها الجنود، والظهور المتوحش لأمراض أخرى. اضطر الناس إلى فتح المزيد والمزيد من المدافن، وبالرغم من ذلك، كثيرا ما تعين دفن الموتى في الحدائق أو المواقع البديلة. وكانت الخسائر المالية المترتبة على تفشي أحد الأوبئة هائلة: من تكلفة عناية بالمرضى، إلى أجور أطباء وحراس وشرطة، وإلى مدافن وأطعمة وأدوية وإنشاء بيوت للطاعون. وكلها كان يتعين دفع تكلفتها من الضرائب والاستدانة.
بحلول هذا الوقت كانت اللوائح والتدابير المكافحة للطاعون قد تأسست على نحو سليم، وكان الفقراء يعاملون على نحو أكثر سخاء. في عام 1636، دفعت سلطات بورج أون بريس للفتيان والفتيات الصغار أجورا مقابل احتجازهم - في منازل جرى تبخيرها حديثا - لمدة 40 يوما، هي مدة الحجر الموحدة؛ لاختبار مدى كفاءة عملية التطهير، مما يعد مثالا مبكرا على الاختبار التجريبي لتدابير الصحة العامة.
ضربت ليون مرة أخرى في صيف عام 1628، واتهم جنود مروا بها بأنهم حملوا الوباء اللعين معهم «وكذلك أمتعتهم»، ربما لأن إحدى أولى الحالات التي وردت أنباء عن موتها كانت في مهجع جنود في قرية قريبة. مرة أخرى يبدو أن مسافرا مصابا جاء من مكان بعيد جلب الطاعون إلى المجتمع. طبقت السلطات اللوائح المعتادة؛ حيث عين الحراس على بوابات المدينة، وتعين على أي شخص ممن يسعون إلى دخول المدينة تسليم شهادات صحية، ومرة أخرى فرض حجر صحي مدته 40 يوما. وجرى تهيئة بيت طاعون لعزل المصابين كان يكتظ في أي لحظة بأربعة آلاف محتضر. لكن ضحايا كثيرين اضطروا إلى بناء أكواخ صغيرة لأنفسهم والبقاء فيها إلى أن يلقوا حتفهم، وآخرون اضطروا إلى الاختباء من الرياح وراء أكوام الجثث، منتظرين موتهم هم أنفسهم، وما أرهبها صورة لنهاية مؤلمة ومفزعة للحياة. صارت البلدة في الواقع مستشفى كبيرا؛ فقد تبعثرت في الشوارع والمنازل الجثث التي كانت تدفن في بعض الأحيان في عجالة في الحدائق والأقبية، وكان الرهبان والراهبات يضطرون إلى الصعود فوق الجثث الملقاة على الأرضيات والسلالم لتقديم يد العون إلى أولئك الذين لا زالوا يتنفسون.
انحسر عدد الوفيات نحو نهاية شهر ديسمبر، إلا أنه ارتفع مرة أخرى ارتفاعا هائلا باكر العام التالي، قبل أن يضمحل تدريجيا خلال الربيع والصيف. للغرابة الشديدة، بلغت الوفيات في ليون خلال الوباء الذي دام اثني عشر شهرا نحو 35 ألف نسمة. (4) التجارة: شريان حياة الطاعون
Unknown page