Cawdat Mawt Aswad
عودة الموت الأسود: أخطر قاتل على مر العصور
Genres
تمهيد
مقدمة
1 - مولد سفاح
2 - الموت الأسود يعبر القنال الإنجليزي
3 - ما بعد الموت الأسود: حلقة الوصل الفرنسية
4 - مجسات الطاعون
5 - إنجلترا تحت الحصار
6 - صورة وباء
7 - طاعون لندن العظيم
8 - آلية عمل البكتيريا والجراثيم
Unknown page
9 - تحديد ملامح السفاح
10 - كشف التاريخ
11 - بيولوجيا الطاعون الدبلي: تناول الخرافة من منظور مختلف
12 - تحليل الدي إن إيه: صرف الانتباه عن القضية الأساسية
13 - القصة الحقيقية لقرية عظيمة
14 - الصلة المدهشة بين الإيدز والموت الأسود
15 - الصورة الكلية
16 - استتار الموت الأسود في مكمنه
17 - لماذا اختفى الطاعون النزفي فجأة؟
18 - مخاطر الأمراض الناشئة
Unknown page
19 - عودة الموت الأسود
20 - هل هناك ما هو أبشع من الموت الأسود؟
قراءات إضافية
تمهيد
مقدمة
1 - مولد سفاح
2 - الموت الأسود يعبر القنال الإنجليزي
3 - ما بعد الموت الأسود: حلقة الوصل الفرنسية
4 - مجسات الطاعون
5 - إنجلترا تحت الحصار
Unknown page
6 - صورة وباء
7 - طاعون لندن العظيم
8 - آلية عمل البكتيريا والجراثيم
9 - تحديد ملامح السفاح
10 - كشف التاريخ
11 - بيولوجيا الطاعون الدبلي: تناول الخرافة من منظور مختلف
12 - تحليل الدي إن إيه: صرف الانتباه عن القضية الأساسية
13 - القصة الحقيقية لقرية عظيمة
14 - الصلة المدهشة بين الإيدز والموت الأسود
15 - الصورة الكلية
Unknown page
16 - استتار الموت الأسود في مكمنه
17 - لماذا اختفى الطاعون النزفي فجأة؟
18 - مخاطر الأمراض الناشئة
19 - عودة الموت الأسود
20 - هل هناك ما هو أبشع من الموت الأسود؟
قراءات إضافية
عودة الموت الأسود
عودة الموت الأسود
أخطر قاتل على مر
العصور
Unknown page
تأليف
سوزان سكوت وكريستوفر دنكان
ترجمة
فايقة جرجس حنا
مراجعة
هاني فتحي سليمان
سارة عادل
لوحة «الموت والبائع المتجول» التي تنتمي إلى النوع الفني «رقصة الموت» للرسام هانس هولباين. أعيد نشرها بتصريح من مكتبة بريدجمان للفنون.
تمهيد
لعبت الصدفة دورا كبيرا في ظهور هذا الكتاب إلى النور؛ فمنذ ثلاثة عشر عاما، كانت سو سكوت تبحث عن أبرشية مناسبة تجري فيها دراسة ديموغرافية متعمقة، واستقرت على بلدة بنريث بمقاطعة كمبريا. ولدى تحليلها سجلات الأبرشية، توصلت إلى أن هذا المجتمع كان يعاني من أحد الطواعين التي انتشرت نهاية القرن السادس عشر. إن نظرة واحدة إلى الحقائق كانت كافية لأن يدرك أي عالم بيولوجيا أن هذا لم يكن نوبة تفش لطاعون دبلي (طاعون الغدد الليمفاوية) بحسب الرأي التقليدي السائد عن سبب الطواعين في أوروبا. بيد أنه كان لدينا برامج بحثية أخرى تحتاج إلى التعامل معها، ولم نعد إلى سؤال «ما سبب الطواعين؟» لسنوات عديدة. هكذا بدأ التعاون بين باحثة في علم السكان وعالم حيوان بارز، كل بخبرته الخاصة. وقد أذهلنا ما اكتشفناه ونحن نسبر الأغوار أكثر فأكثر؛ إذ تأكدت بقوة معتقداتنا الأولية، وكانت أصداؤها واسعة التأثير.
Unknown page
كتبنا دراسة أكاديمية مفصلة باسم «بيولوجيا الطواعين» غطت جوانب كثيرة خاصة بالموضوع، ولكم أذهلنا رد فعل وسائل الإعلام لدى نشر هذه الدراسة؛ فقد نشرت التقارير في الصحف في كل أنحاء العالم، ودعينا إلى لقاءات في محطات إذاعية في الكثير من البلدان المختلفة، وهاتفتنا محطات التلفاز للاستفسار عن إمكانية تصوير فيلم، وانهالت علينا المكالمات الهاتفية ورسائل البريد الإلكتروني التي تطرح أسئلة وتقدم اقتراحات. وكان من ضمن مراسلينا فتاة في الثانية عشرة من العمر، قالت إن أمها اقترحت عليها أن تراسلنا لتتأكد من أن الموت الأسود لن يعاود الظهور. اتصل أحد المحاربين القدامى من الشرق الأقصى ليقول إن كتيبته قد ضربت بحمى نزفية فيروسية ولم ينج سواه. يا لها من رواية مذهلة لتجربة شخصية مع هذا المرض اللعين! ووصف مراسل من مقاطعة كنت انهيار الطريق الرئيسي على موقع مدفن الموت الأسود في بلدة بلاكهيث، فما كان من الشرطة المسلحة إلا أن أخلت في عجالة المنازل المجاورة من قاطنيها بعد أن أعلنت عن وجود خطر بيولوجي في المنطقة المتاخمة مباشرة. وكان لنا مراسلات مطولة مع كاتب سيناريو يعد سيناريو لفيلم روائي طويل يتناول فيروسا تخيليا يطيح بمعظم البشرية. وقد رأى أن الطاعون النزفي «سيكون المرض الأمثل لموضوع قصته»، وأراد الحصول على توقعات مفصلة لكيفية انتشار مثل هذا الوباء.
كل هذا كان في غاية الإثارة، وحفز قناعتنا بأن ثمة اهتماما عاما هائلا على مستوى العالم بموضوع الطواعين. وهذا الكتاب هو محاولتنا لسرد القصة وإشباع هذا التعطش للتعرف على أشهر أمراض الماضي وأكثرها بشاعة، وعن أصدائه المحتملة في المستقبل.
نعترف بكل امتنان بالدعم والتشجيع اللذين نلناهما من أشخاص كثيرين جدا.
ونوجه التحية لدكتور جراهام تويج، أول من تعرف على أن الموت الأسود لم يكن طاعونا دبليا؛ فقد كان دكتور جراهام صديقا وفيا لسنوات عديدة.
دعمت الدكتورة ديبورا ماكنزي، المحرر الأوروبي لمجلة نيو ساينتيست، فكرتنا بأن الطواعين كان سببها من البداية في الواقع فيروسا نزفيا، وقد ساعدتنا على أن نظل على علم بالتطورات الحديثة.
نوجه الشكر لحشد غفير من المراسلين في أنحاء العالم بعثوا إلينا برسائل عبر البريد الإلكتروني وخطابات ثمينة تحتوي على أخبار وتقارير وتعليقات وبيانات غير منشورة واقتراحات.
أطلعنا دكتور ستيفن دنكان بجامعة أكسفورد على تعقيدات (ومباهج) تحليل المتسلسلات الزمنية ثم أعد كافة النماذج الرياضية في عملنا، ودون هذه المساعدة الجوهرية، ما كان ليخرج أي برنامج بحثي إلى النور.
قدمت السيدة جنيفر دنكان مساعدة لا تقدر بثمن في قراءة وثائق مكتوبة بأسلوب للكتابة بخط اليد كان مستخدما في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا وفي ترجمة مقالات أصلية.
نكن تقديرا خاصا لسالي سميث، محرر نشر أول بمؤسسة وايلي للنشر، لدعمها هذا المشروع بكل إخلاص وحماس. نتقدم بالشكر أيضا إلى كل من نيكي ماكجير، وجوليا لامبام، وجيل جيفريز لدعمهن المتقد بالحماس.
مقدمة
Unknown page
على مدار أكثر من 600 عام، وكلمة «طاعون» تبث الرعب في قلوب الرجال والنساء؛ فهي تثير سيناريو مرعبا لمرض شديد العدوى لا يمكن ردعه، ولا علاج له، ولا مفر من أن يموت صاحبه ميتة مؤلمة. بالنسبة لقاطني أوروبا في العصور الوسطى الذين عاشوا يوميا تحت تهديد هجوم الوباء على مجتمعهم، كان هذا الخوف مبررا تماما. ومنذ اختفائه من المشهد في منتصف القرن السابع عشر، استمر هذا العهد من الرعب في تشويق الأفراد وإثارة ما هو أكثر من مجرد مشاعر خوف، حتى أقل أطفال المدارس تركيزا يستمتعون بشدة بدروس «طاعون لندن العظيم»، حيث الحرق والدمار في عامي 1665 و1666 المحفوفين بالمخاطر.
والآن في القرن الحادي والعشرين، صار لدينا معرفة أكبر من أي وقت مضى بالمرض، وعدد من اللقاحات والعلاجات الفعالة، وخبراء متمرسون في علم الأوبئة والبيولوجيا الجزيئية، ومجموعة من الاختبارات التشخيصية والتقنيات الحديثة التي من شأنها تحديد تسلسل جينوم أي فيروس جديد في خلال أشهر من ظهوره الأول. ومع ذلك يظل الرعب من أن يظهر مرض جديد - ربما طاعون آخر - يهدد بقاءنا، بنفس القوة التي كان عليها فيما مضى.
إن ظهور سارس (المتلازمة التنفسية الحادة الشديدة) عام 2003 أثبت بجدارة الدمار الذي يمكن أن يحدثه مرض جديد. وردت أنباء عن ظهوره في آسيا في يناير من نفس العام، وتصدر عناوين الأخبار على مدار الأشهر القليلة التالية. أكان يمكن أن يصبح سارس الطاعون الفتاك الجديد؟ عم الذعر على نطاق واسع وفر الأفراد من المناطق المصابة؛ مما ساهم في نشر المرض إلى مسافات أبعد. ولم يمض وقت طويل حتى وردت أنباء عن ظهور حالات في أوروبا وبالمثل في الأمريكتين الشمالية والجنوبية. مقارنة بأوبئة طاعون الماضي، كان إجمالي الوفيات التي تسبب فيها سارس قليلا نسبيا، فإجمالي عدد المصابين به 8000 حالة في 27 دولة، لم يمت منهم سوى 780 شخصا. وبالرغم من ذلك بذلت الهيئات المعنية بالصحة قصارى جهدها للتعامل بفعالية مع المرض، فمنع السفر من بلاد بأكملها لغير الضرورة، وتعرضت شركات الطيران للإفلاس، وانهارت اقتصادات محلية، وكان هناك خوف حقيقي من انهيار الأسواق المالية العالمية. وارتفعت مبيعات أقنعة الوجه الورقية في الولايات المتحدة الأمريكية، مع أنه لم يكن هناك سوى 192 حالة إصابة بسارس تماثلوا جميعهم للشفاء.
ترى لماذا أثارت هذه المشكلة الصحية التافهة نسبيا الذعر والفزع العالميين، حتى في البلاد التي لم يكن بها أي حالات سارس أو كان بها حالات قليلة؟ في أبريل من عام 2003، كتب دكتور ستيوارت دربيشير أننا نعيش وسط «أفراد متعطشين إلى الشعور بالهلع، ومتلهفين إلى سماع رسالة الدمار التي تستدعي مثل هذه التحذيرات، فهذه التحذيرات من شأنها أن تمتزج بتوقعاتنا المفرطة في الخوف والحذر بشأن خراب هذا الكوكب، بل حتى كبار الأساتذة الذين يبدون متزنين لا يسعون إلا إلى صرف المشتتات عن الشيء الحقيقي المتوقع وحسب. لا يرعبني أي من عائلتي «سارس الكامنتين » الفيروسيتين مثلما يرعبني فيروس إنفلونزا جديد خبيث.»
في أبريل عام 2003، كتب ديكلن ماكولا؛ وهو مراسل سياسي يقطن واشنطن:
سارس هو أول فيروس يتفشى في عصر الإنترنت، فانتفع من حقيقة أنه فيما أصبحت المعلومات أكثر قابلية للانتقال، تصبح الشائعات أكثر قابلية للانتشار أيضا. أثارت خدعة أحد المراهقين على الإنترنت التي ادعى فيها أنه سيتم غلق حدود هونج كونج هرع المواطنين لشراء الأطعمة المعلبة والمناديل الورقية. قضى صاحب متجر بقالة في ساكرامنتو أسبوعين في محاولة إثبات أنه وعائلته ليسوا مصابين بسارس، وأن متاجره آمنة تماما على عكس ما أثير من شائعات. وفي يوم الثلاثاء، حاول أحد العاملين بالمجلس المحلي لمدينة ساكرامنتو تبديد الهلع حيث تناول بكل شجاعة تفاحة خضراء من قسم المنتجات أمام المراسلين الصحفيين.
لكن بالنسبة لبعض الناس، قد ينذر خطر يتهدد الصحة على الصعيد العالمي بسيناريو «نهاية العالم الآن»، أو ظهور «الوباء الكبير» التالي، عندما يتسبب وباء كبير لمرض معد فتاك لا علاج ولا لقاح له في كارثة عالمية ويهدد وجود البشرية. (1) ماذا نعرف عن الطواعين؟
هذا الخوف من مرض غير معروف له أساس راسخ في التاريخ، ولعل أقدم إشارة إلى الطواعين ظهرت في الكتاب المقدس في سفر صموئيل الأول؛ فنحو عام 1320 قبل الميلاد سرق الفلسطينيون «تابوت العهد» من الإسرائيليين وعادوا به إلى أرضهم:
فثقلت يد الرب على الأشدوديين، وأخربهم وضربهم بالبواسير في أشدود وتخومها. وانتشرت الفئران في أرضهم ... وكان بعدما نقلوه أن يد الرب كانت على المدينة باضطراب عظيم جدا، وضرب أهل المدينة من الصغير إلى الكبير ونفرت لهم البواسير.
تعلم كل منا في المدرسة وقرأ في الكتب عن أشهر مرض على مر العصور - الموت الأسود - ذاك المرض الفتاك الذي ظهر من العدم، وانتشر سريعا، ومحا قرابة نصف الأوروبيين في العصور الوسطى من على وجه البسيطة. لقد سمعنا أغنية الأطفال التالية التي يقال إنها تحيي ذكرى الطواعين المريعة:
Unknown page
هيا نرقص في دائرة من الورود،
وبصحبتنا باقات الزهور،
نعطس كثيرا،
فنسقط جميعا.
يصور البيت الأول من الأغنية الطفح الجلدي المحمر المستدير الذي كان يظهر على جلد ضحية الطاعون. كانت باقات الزهور حلوة الرائحة هي ما يشتمه الأفراد لدرء العدوى، وأما العطس فهو أحد الأعراض المبكرة للمرض؛ الأمر الذي كان يتبعه على الفور «السقوط» أو الموت المفاجئ.
في منتصف القرن السابع عشر، ضرب طاعون عظيم لندن وأودى بحياة ما يصل إلى خمس السكان. سجل صموئيل بيبس الأحداث في يومياته، ويمكننا أن نتتبع هذا التفشي عن كثب ونتوحد مع الضحايا بسبب رواياته الواقعية للأحداث.
قد يعرف بعضنا أيضا أشهر قصة طاعون على الإطلاق: توغل الوباء في قرية تلية صغيرة تدعى إيم بمقاطعة ديربيشير التي تقع على حافة منطقة التلال بيك ديستريكت في شمال إنجلترا؛ حيث قدم الكاهن وشعب كنيسته تضحية بطولية حين اتفقوا على رسم نطاق للحجر الصحي حول القرية وأخضعوا أنفسهم بمحض إرادتهم للحجر الصحي؛ فلم يكن مسموحا لأي شخص أن يهرب من العدوى والموت المحقق. بهذه الطريقة كان لديهم أمل في منع استشراء المرض والحيلولة دون وصوله إلى المجتمعات المجاورة. وطيلة محنتهم، كانوا يحصلون على الطعام من خلال القرويين القريبين الذين كانوا يحضرونه إلى حدود أبرشيتهم، ولم يكن في مقدورهم في محبسهم سوى الانتظار ومشاهدة أنفسهم وهم يموتون، ببطء في البداية، في حين أنه في ذروة توغل الوباء كان الكاهن يدفن عددا كبيرا من شعبه كل يوم. استمر الوباء اللعين فترة بشعة وصلت إلى خمسة عشر شهرا حتى صارت إيم في النهاية أشبه بقرية أشباح. إلا أن تضحيتهم لم تذهب سدى؛ إذ لم تنتقل العدوى إلى مجتمع آخر وتنتشر فيه.
ولكن، هل هذا هو مقدار ما لدينا من معرفة عن الطواعين؟ على سبيل المثال، كم منا يستطيع أن يحدد بدقة متى وقعت هذه الأحداث الكارثية؟ هل بمقدورنا أن نحدد ما إذا كانت أوبئة انفجارية لنفس المرض أم لا؟ الأرجح أننا نستطيع القول إن طاعون لندن العظيم كان نتيجة للطاعون الدبلي، وهو مرض تنشره براغيث الفئران المصابة، وإن لم يكن بمقدورنا أن نحدد السبب وراء اعتقادنا ذلك، باستثناء أننا نتذكر أنهم أخبرونا في المدرسة أن «حريق لندن الكبير» الذي شب عام 1666 قتل كل الفئران وأنقذ إنجلترا من المزيد من نوبات استشراء الطاعون. (2) رحلة بحثنا
في عام 1990 كان هذا أيضا هو كل ما نعرفه عن الطواعين التي كان لها أثر بالغ في التاريخ. لم نكن نعرف الكثير مثل جميع الناس إلى أن عثرنا - بمحض المصادفة - على سجل مختصر لوباء كارثي استشرى في بلدة إنجليزية صغيرة يقام فيها سوق مركزية نحو نهاية العصر الإليزابيثي. كانت هذه هي المرة الأولى التي نصادف فيها الطاعون في أبحاثنا حول تاريخ السكان، وقد أثارت اهتماما سرعان ما تحول إلى افتنان وعزم على اكتشاف أكبر قدر يمكن أن تطوله أيدينا عن هذا المرض الذي يخشاه الناس بشدة.
في بداية رحلة بحثنا لم نكن ندرك جيدا أن هذا سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى فضح خطأ التصورات الشائعة حول هذا الرعب القديم. كنا على مشارف قلب التاريخ رأسا على عقب، فلدهشتنا، بل الأكثر أهمية، أننا أمطنا اللثام عن رسالة مرعبة لنا اليوم: قد يكون مرض القرون الوسطى راقدا في مهجعه منتظرا اللحظة المواتية ليضرب من جديد.
Unknown page
هذه هي قصتنا. (3) البدايات
كانت سو سكوت تجري دراسة تاريخية متعمقة عن المجتمع في بنريث بداية من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر. تقع هذه البلدة الصغيرة في وادي آيدن بمقاطعة كمبريا في شمال إنجلترا، بالقرب من الحدود الاسكتلندية. وكان أهلها معزولين عن بقية إنجلترا؛ إذ إنها محاطة بجبال بحيرة ديستريكت الخلابة غربا، وسلسلة جبال بيناينز الوعرة شرقا، وجبال ويستمورلاند الأقل وعورة جنوبا. إلا أن الطريق المؤدي إلى اسكتلندا كان يقطع مركز بنريث مباشرة، وطيلة قرون كان المسافرون والتجار ورعاة الماشية يتنقلون عبره. كان من الممكن أن يجلب كل هؤلاء من بعيد أمراضا معدية تؤدي إلى الموت، كالطاعون والجدري، حتى من لندن التي كانت تبعد نحو 280 ميلا (450كم) من جهة الجنوب الشرقي، تلك المسيرة التي تستغرق عدة أيام بالجياد.
عرفنا من دراسات سو أنه في نهاية القرن السادس عشر كانت أرض وادي آيدن تعتبر بعيدة عن المراكز الصناعية والتجارية الكبيرة؛ فقد كان الغرباء ينفرون منها؛ إذ كان المسافرون يجدون صعوبة في الوصول إليها، وملاك الأراضي غائبين باستمرار، وقطاع الطرق يجولون بلا رادع. في قلب هذه المنطقة كانت تقع بلدة السوق الصغيرة بنريث التي كانت - كما يتضح من خريطة نشرت بعدها بمائتي عام - مقسمة إلى تجمعات حول كنيسة القديس أندراوس، ومتاخمة لأطلال إحدى القلاع المهجورة منذ زمن طويل، التي بنيت لدرء غارات المخربين الاسكتلنديين المتكررة. كانت الحياة صعبة على قاطني بنريث، وكثيرا ما اضطروا إلى العيش في ظل ظروف أشبه بالمجاعة. ونتيجة لذلك، كانت الخصوبة ضعيفة، وعادة ما كان يولد أربعة أطفال في الأسرة، لا يبلغ منهم سوى طفلين فحسب سن الخامسة عشرة.
وهكذا بدأت الرحلة، حيث سو جالسة إلى واحدة من الطاولات الكبيرة المصنوعة من خشب الماهوجني في مكتب السجلات بمدينة كارلايل. يتمتع هذا المكتب بموقع مميز؛ إذ تطل بنايته المصنوعة من الطوب والمكونة من طابقين على أحد جوانب ساحة قلعة كارلايل حيث كانت ماري ملكة اسكتلندا معتقلة، كما يضم المكتب كافة السجلات التي تخص مقاطعة كمبرلاند القديمة، التي أصبحت جزءا من كمبريا الآن. كانت سو تدرس سجلات أصلية للأبرشية، الوثائق الرسمية لكنيسة إنجلترا، التي يعود بعضها إلى عام 1538، والتي كانت تودع للحفظ عموما في مكاتب سجلات المقاطعة المختلفة المتناثرة في أنحاء البلاد. وبالإضافة إلى كون هذه الوثائق الخاصة بالمعمودية والزواج والدفن، والمحفوظة بعناية، مصدرا لأخصائيي علم الأنساب ومؤرخي العائلات، فإنها تقدم أيضا بيانات قيمة للباحثين المحترفين؛ لما تقدمه من فهم عميق فريد عن تاريخ العائلة والمجتمع على مدار ثلاثة قرون.
مع أن أهل بنريث ظنوا أنهم في مأمن لكونهم معزولين عن بقية البلاد؛ فقد اكتشفت سو أنه لم يكن هناك مخبأ من الطاعون. تقول سجلات الأبرشية:
طاعون عنيف في ريتشموند، وكيندال، وبنريث، وكارلايل، وأبلبي وأماكن أخرى بمنطقة ويستمورلاند وكمبرلاند في سنة 1598 بعد الميلاد.
حفظت سجلات الأبرشية بالكامل أثناء هذه الفترة، وبالفعل عندما توصلت سو إلى المدخلات المناسبة وجدت:
سجلات مدافن بنريث، 1597
سبتمبر
22
Unknown page
أندرو هوجسون، غريب (ها هنا بدأ الطاعون (عقاب الله) في بنريث) (أولئك المشار إليهم بحرف بي
لقوا حتفهم بفعل المرض، وأولئك المشار إليهم بحرف إف
F (اختصارا لكلمة
fell
بمعنى منحدر) دفنوا أعلى منحدر جبلي.)
آنذاك، تعين على الكهنة بموجب القانون تمييز وثائق دفن ضحايا الطاعون من خلال إضافة كلمة
(اختصارا لكلمة
pestilence ، الاسم الشائع للطاعون) أو مجرد إضافة حرف
إلى أسمائهم.
من الواضح أن العدوى وصلت المجتمع الصغير عن طريق أحد الغرباء الذي يفترض أنه أتى عبر الطريق الرئيسي الذي يقطع المدينة. وكانت النتيجة كارثية: فقد تبع قيد أندرو هوجسون موجة مريعة من وثائق الدفن المضاف إليها حرف
Unknown page
. دام هذا الوباء العنيف 15 شهرا، لكن مع أن الوقت كان عصيبا بلا شك بالنسبة لكاهن المنطقة (إذ فقد زوجته وابنه الصغير)، فإنه سجل الأحداث التي وقعت إبان هذا الابتلاء المرعب بكل إخلاص في سجلات الأبرشية. وكما جرت العادة، أخبر الكاهن شعبه أن هذا كان عقاب الله لهم على خطاياهم.
واحد من الألغاز التي سبرنا غورها في التو لدى دراسة السجلات: أنه عقب موت أندرو هوجسون، لم يكن هناك حالات موت بسبب الطاعون لمدة 22 يوما. أليست هذه فترة كمون طويلة للغاية بالنسبة لعدوى عادية؟
في لحظة ما، عند توقف توغل الوباء أخيرا، نقش على جدران الكنيسة ببنريث أعداد الأفراد الذين ماتوا في وادي آيدن:
بنريث
2260
كيندال
2500
ريتشموند
2200
كارلايل
Unknown page
1196
ثم نقل هذا الإهداء إلى جدار محراب الكنيسة عند إعادة بنائها عام 1720، لكن على ما يبدو طمست معالمها أثناء الترميم؛ فقد حل محلها طبقة نحاسية، وقد تحققت سو من الأرقام إبان زياراتها إلى بنريث. وكانت سو تعرف من دراساتها السابقة تقديرا مؤكدا بأن بنريث لم يكن يقطنها سوى 1350 شخصا قبل بدء تفشي الطاعون مباشرة، وعليه فمن الواضح أن رقم 2260 حالة وفاة، المذكور في النقش على جدار الكنيسة، كان رقما غير دقيق بالمرة، فعدنا إلى السجلات وأحصينا 606 وثيقة دفن مضافا إليها حرف
، إلا أنه كانت هناك فجوة في سجلات الدفن بلغت 11 يوما عندما كان الوباء في ذروته، وقدرنا أن تعداد الوفيات النهائي بلغ نحو 640 حالة وفاة في الغالب. ومع أن هذا الرقم كان يمثل نحو 50٪ من تعداد سكان هذا المجتمع الصغير - كثافة مرعبة للموت بالنسبة لفترة مدتها 15 شهرا - فقد كان من الواضح أنه أقل كثيرا من الرقم المنقوش على جدار الكنيسة. إذن ما الخطب هنا؟ أثار هذا حيرتنا، وقررنا أن نمعن البحث أكثر في الموضوع.
كان واضحا من النقش الموجود على جدار الكنيسة أن هذا الوباء الغريب والمخيف لم يكن قاصرا على بنريث، وإنما كان منتشرا على نطاق أوسع في وادي آيدن. كشف بحث سجلات ومحفوظات أبرشيات المنطقة أن العدوى انتقلت من نقطة تمركزها الأساسية في بنريث إلى كارلايل التي تبعد 20 ميلا (32كم) شمالا، وكيندال التي تبعد 32 ميلا (51كم) جنوبا. الأمر المثير هو أن أولى حالات الوفاة في كلتا المدينتين وقعت في اليوم نفسه، بعد مرور 11 يوما على أول حالة وفاة في بنريث. ذهلنا من اكتشافاتنا واندهشنا لدى معرفة أن هذا المرض كان بمقدوره أن ينتقل لمسافة بعيدة وبسرعة كبيرة. بيد أننا لم نندهش لدى علمنا بتسجيل معدل وفيات مروع مرة أخرى في كل من كيندال وكارلايل.
إن اكتشاف هذا الوباء غير المعروف على نطاق واسع، الذي ضرب ثلاثا من البلدات التي كانت تعقد فيها سوق مركزية في شمال غرب إنجلترا في نهاية القرن السادس عشر، حملنا على التفكير. في التو اعتبر الكاهن وأبناء البلدة هذا الوباء نوعا من الطاعون أو الوباء اللعين؛ لقد كانت لديهم خبرة عن هذا المرض، من المفترض أنها خبرة شخصية مباشرة. لكن كان هناك عدد من السمات المحيرة في هذا الوباء: هل كانت نوبة تفشي بنريث عادية؟ هل كان هذا المرض هو نفس نوبات تفشي الطاعون الأخرى في أنحاء أوروبا؟ هل كان هو الموت الأسود؟ وعليه عقدنا العزم على تقصي الأمر. (4) الخيوط الأولى
كما سيخبرك أحد المخبرين السريين الأكفاء، يتطلب التعرف على قاتل ما فحصا شاملا لمسرح الجريمة، ومعرفة تفصيلية بكافة الأدلة. اليوم لدى علماء الأوبئة الذين يدرسون مرضا ظهر حديثا مجموعة من الأساليب العلمية الحديثة. في الواقع هم بمقدورهم أن يفحصوا مرضاهم ويسجلوا ملاحظات مباشرة. بيد أن مؤرخي علم الأوبئة مهمتهم أصعب بكثير؛ لأنه لا يكاد توجد معلومات بمقدورهم الاعتماد عليها للتشخيص. الأمر صعب لأنه مر زمن طويل على الأحداث؛ ومن ثم لا بد أن يستخدموا كل ما في جعبتهم من فطنة للتمييز بين الحقيقة والخيال.
وهكذا، تمثلت مهمتنا الأولى في تلخيص ما عرفناه حتى الآن عن هذا المرض الغامض في بنريث:
مرض فتاك؛ إذ لم نعثر على أية أدلة تشير إلى أي شخص أصيب بالعدوى وعاش.
مرض معد جدا؛ فقد انتشر المرض انتشار النار في الهشيم، وبالأخص في صيف عام 1598.
وصول العدوى إلى المجتمع حدث عن طريق مسافر غريب.
Unknown page
بعد أول حالة وفاة، كانت هناك فترة كمون مدتها 22 يوما قبل دفن ثاني ضحية، وبالتأكيد كان هذا أمرا لافتا للنظر.
سرعان ما قطع الوباء مسافات كبيرة ليصل إلى كارلايل وكيندال؛ حيث مات أول ضحيتين هناك في ذات الوقت بعد مرور 11 يوما على دفن هوجسون.
تمثلت الخطوة التالية على طريق البحث في الرجوع إلى الروايات الأصلية عن الطاعون الذي اجتاح أوروبا التي تطيح بكل التأويلات والروايات الزائفة التي أضيفت خلال المائة عام الأخيرة، وفي البحث عن المزيد من الخيوط. نستهل رحلتنا بالسنة المشئومة سنة 1347 عندما ظهر الطاعون أول ما ظهر دون سابق إنذار وضرب الحضارة الأوروبية تاركا آثارا كارثية.
الفصل الأول
مولد سفاح
«ثم كانت تظهر بثرة على أفخاذهم أو على أعضادهم ... كانت هذه تصيب الجسم بأكمله، فكان المريض يتقيأ دما بشدة. كان هذا التقيؤ للدم يستمر بلا انقطاع طيلة ثلاثة أيام، ولم توجد وسيلة لعلاجه، ثم يلقى المريض حتفه.» هكذا وصف الراهب الفرنسيسكاني مايكل من بلدية بياتسا كرب أولى ضحايا الموت الأسود.
في أكتوبر عام 1347، كان كل ما يعرفه الأشخاص الذين عاشوا في هذا الزمن هو أن مرضا معديا فتاكا وغير معروف من قبل قد ظهر من العدم في جزيرة صقلية. ولم يكن بمقدورهم أن يجدوا سبيلا لفهم طبيعة خصمهم .
كان حجم الكارثة غير مسبوق؛ إذ لم يكن يوجد أي علاج، وكان كل شخص يصاب بالعدوى يموت ميتة شنيعة بحق. كان هذا أول ظهور لطاعون من شأنه أن يدمر أوروبا على مدار الثلاثمائة عام التالية، ويحصد أرواح ملايين لا حصر لها من الضحايا؛ أكبر سفاح على مر العصور وأكبر حادث مأساوي في تاريخ البشرية. (1) قصة الضحايا الأوائل
إن الروايات المعاصرة عن أول ظهور للطاعون تتحدث إلينا عبر القرون، ناقلة شيئا من الرعب والإحباط المطلقين اللذين ابتليت بهما شعوب بأكملها. وصف الراهب مايكل من بلدية بياتسا كيف أن 12 سفينة قادمة من مدينة جنوة الإيطالية، قيل إنها خرجت من القرم، قد دخلت ميناء مسينة في صقلية، وأطقمها الذين حملوا مثل هذا المرض المعدي «في عظامهم حتى إن كل شخص تحدث إليهم فحسب كان يصاب بمرض مهلك يستحيل معه الفرار من الموت. انتقلت العدوى إلى كل شخص تعامل مع المريض بأي شكل، وقد شعر المصابون بألم يخترق كل أنحاء جسدهم.»
يبدو أن أطقم السفن كانوا أصحاء ولم تظهر عليهم أية أعراض، ومع ذلك خر أهل مسينة صرعى سريعا. عندما أشارت السلطات بأصابع الاتهام إلى السفن، باعتبارها المسئولة عن جلب هذا المرض المخيف، طردوها من الميناء وأجبروا أطقمها على الإبحار مرة أخرى. أما أطقم البحارة، الذين كانوا لا يزالون يتمتعون بوافر الصحة، فلا بد أنهم كانوا في حيرة وسخط.
Unknown page
قيل إنهم أبحروا من هناك إلى جنوة، ولدى وصولهم بدأت نوبة تفش جديدة للوباء المميت، حيث انتشر المرض سريعا، تقريبا في نفس الوقت الذي رست فيه السفينة. مرة أخرى، تشير التقارير إلى أن أفراد الأطقم نجوا من الطاعون، ومع ذلك:
ظهرت العدوى في جنوة في أبشع صورها بعد يوم أو يومين من وصول السفن، «مع أنه لم يكن أي من أولئك الموجودين على متنها يعاني من الطاعون» لأننا نعلم أنه لم تكن توجد حالات طاعون على متن السفن، مع أن هواء أو رائحة القادمين الجدد بدت كافية لتلويث هواء جنوة ونقل الموت إلى كل جزء في المدينة في غضون أيام قلائل.
من الواضح أن هذه التقارير انطوت على مبالغة كبيرة، وقد خلصنا إلى أن الوباء كان قد تفشى بالفعل بحلول الوقت الذي وصلت فيه السفن إلى مسينة. ونظرا لأن أطقم السفن كانوا يتمتعون بوافر الصحة بعد رحلة دامت على الأقل شهرا، بالإضافة إلى الرحلة الأبعد إلى جنوة، فمن المستحيل أنهم كانوا يحملون العدوى. ومجرد وصولهم في الوقت الذي أدرك فيه أهل مسينة أنهم يتعرضون لوباء كان حتما مجرد صدفة بحتة. ونخلص من هذا إلى أنه كان يوجد في الغالب ضحايا لم يتعرف عليهم ماتوا من الطاعون في مسينة على مدار بضعة أسابيع قبل وصول السفن.
في غمرة آلام الوباء الناتج، رأى أهل مسينة أن أدنى اتصال مع المصاب يضمن سرعة حدوث العدوى. كتب الراهب مايكل قائلا:
سرعان ما مقت الناس بعضهم بعضا بشدة؛ لدرجة أنه إذا ما هاجم المرض ابنا، فإن أباه ما كان ليعتني به، وإذا حدث - وبالرغم من كل المخاطر - وتجرأ ودنا منه، فإنه كان يصاب بالعدوى في الحال، ولا مفر من الموت في غضون ثلاثة أيام. لم تكن هذه نهاية المطاف؛ فكل أولئك الذين يخصونه أو يقيمون في المنزل نفسه، حتى القطط والحيوانات الداجنة الأخرى، كانوا يتبعونه إلى القبر. وفيما تزايدت أعداد الموتى في مسينة، تمنى كثيرون أن يعترفوا بخطاياهم للكهنة، وأن يحرروا وصاياهم وشهاداتهم الأخيرة، إلا أن القساوسة والمحامين والوكلاء القانونيين رفضوا الدخول إلى منازل المرضى، فإذا ما وطئ أحدهم بقدمه مثل هذا المنزل ليحرر وصية أو لأية أغراض أخرى، حكم عليه بالموت المفاجئ. الرهبان المنتمون إلى رهبنة الإخوة الأصاغر (الفرنسيسكان) والرهبان الدومنيكان وأعضاء الرتب الدينية الأخرى الذين استمعوا إلى اعترافات المحتضرين، كان يقعون فريسة للموت في الحال، بل إن البعض ظلوا في غرف المحتضرين.
وسرعان ما كانت الجثث ترقد مهملة في المنازل، فلا قس ولا ابن ولا أب ولا أي ذي صلة قرابة كان يجرؤ على أن يقترب منها، لكنهم كانوا يدفعون أجورا كبيرة للخدام لدفن الموتى. وظلت منازل المرضى مفتوحة بكل مقتنياتها الثمينة والذهب والمجوهرات؛ فمتى قرر أحد الدخول لم يكن يوجد من يمنعه؛ لأن الطاعون شن هجمة شرسة لدرجة أنه سرعان ما حدث نقص في أعداد الخدم، ولم يتبق أحد في نهاية المطاف.
قد يكون بعض أجزاء هذه الرواية مبالغا فيه، إلا أنها تنقل بصورة حية الرعب والفزع الذي انتاب كل شخص عندما ضرب هذا الطاعون الجديد أول ما ضرب. لقد رزحوا تحت وطأة ضراوة هذا المرض الغامض الذي كان يفوق تماما نطاق خبرتهم في الحياة. ثمة شيء واضح وضوح الشمس - وهو خيط مهم - ألا وهو أنهم أدركوا في الحال أن انتقال العدوى يحدث مباشرة من شخص لآخر.
مع موت المئات وحدوث العدوى المؤكدة مع أضعف احتكاك بالمرضى، تملك الذعر أهل مسينة المتبقين وفروا. لكن فيما ظنوا أنهم يتمتعون بوافر الصحة، فإنهم لم يكونوا على دراية بأنهم يحملون الطاعون معهم دون أن يدروا.
استقرت مجموعة من اللاجئين في حقول وكروم جنوبي صقلية، إلا أن كثيرين منهم خروا صرعى في الطريق ولقوا حتفهم. التمس آخرون اللجوء إلى الميناء المجاور، ويدعى كاتانيا، حيث جرت رعايتهم في المستشفى إلى أن صرعهم الموت، إلا أن أهل كاتانيا سرعان ما أدركوا الخطأ الذي وقعوا فيه؛ فما كان يجدر بهم أن يستقبلوا هذه العدوى المروعة في بلدتهم، وسرعان ما طرحت الجثث في خنادق خارج الأسوار، وجرى فرض القيود الصارمة على الهجرة إليهم.
يروي الراهب مايكل أن «أهل كاتانيا كانوا أشرارا وكان يتملكهم الخوف لدرجة أنه لم يكن أحد منهم يتعامل مع اللاجئين أو يتحدث إليهم، إنما كل كان يفر سريعا لدى اقتراب هؤلاء اللاجئين». سواء أكانت هذه علامة على «الشر» أم تصرفا بدهيا محضا، فقد سبق السيف العذل واجتاح الموت الأسود البلدة: «فقدت بلدة كاتانيا جميع قاطنيها ليطويها النسيان في نهاية المطاف.» على الأرجح كان الراهب مايكل يغالي مرة أخرى، إلا أن الصورة واضحة.
Unknown page
لقد فر أهل مسينة في هلع جنوني، ناشرين الطاعون في كل أنحاء صقلية. كان تعداد الوفيات كبيرا في سيراقوسة، ويقال إن ميناء تراباني أصبح خاليا من السكان. (2) أعراض الطاعون
كيف كانت أعراض الإصابة بالموت الأسود؟ فيما يلي وصف الراهب مايكل لأعراض الطاعون، وهذا وصف لا يصلح لضعاف القلوب:
ظهرت «تقرحات حارقة»، وتكونت البثور في أجزاء مختلفة من الجسم: عند البعض على الأعضاء التناسلية، وعند آخرين على الأفخاذ أو الأذرع، وعند فريق ثالث على الرقبة. في البداية كانت هذه البثور في حجم البندقة وكان المريض تستبد به نوبات رعشة عنيفة، سرعان ما تتركه في حالة هزال شديد حتى إنه لم يكن يقوى على الوقوف، إنما كان يضطر إلى الاستلقاء في الفراش، تنهشه حمى عنيفة ويرزح تحت وطأة الكرب الشديد الذي أصابه. بعد قليل تكبر البثور لتصير في حجم ثمرة الجوز، ثم في حجم بيضة الدجاجة أو بيضة الإوزة، وهي مؤلمة للغاية وتؤدي إلى تهيج الجسم؛ فيتقيأ دما من خلال إتلاف العصارات. كان الدم يرتفع من الرئة المصابة إلى الحلق فيحدث تعفنا، وفي نهاية المطاف تأثيرا تحليليا في الجسم بأكمله. كان المرض يدوم ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع - على أقصى تقدير - يموت المريض.
ربما يكون ممكنا تكملة هذه الرواية بالوصف الآتي الذي قدمه عالم الإنسانيات الفلورنسي جيوفاني بوكاتشيو عندما اجتاح الطاعون فلورنسا:
على عكس ما شوهد في الشرق حيث النزف من الأنف نذير للموت، شهدنا نحن هنا أوراما في منطقة أعلى الفخذ أو منطقة الإبط، بعضها في حجم التفاحة الصغيرة وبعضها في حجم البيضة، بعدها تغطي بقع أرجوانية معظم أجزاء الجسم: في بعض الحالات تكون كبيرة وقليلة العدد، وفي حالات أخرى تكون صغيرة وكثيرة العدد، وكان كلا النوعين نذيرين معتادين للموت. لم يكن لكل من المعرفة الطبية وقوة العقاقير أي تأثير في علاج هذا المرض ... جميع المصابين تقريبا لقوا حتفهم في اليوم الثالث من بدء ظهور الأعراض، كان البعض يموت أسرع من البعض الآخر، وكان ذلك يحدث دون الإصابة بأي نوع من أنواع الحمى أو أية أعراض ثانوية أخرى. ما جعل هذا الطاعون فتاكا، أنه لما كان ينتقل من المرضى إلى الأصحاء ، فإنه كان ينتشر بصفة يومية ... ليس فقط من خلال مجرد التحدث إلى المريض أو الاقتراب منه، لكن حتى من خلال لمس ملابسه.
سرعان ما أصبح جليا أنه لم يكن يوجد علاج: فما إن تظهر الأعراض المخيفة، حتى كانت النهاية المؤلمة تبدو حتمية، فعندما كانت «أمارات الرب» - بقع نزفية ناتجة عن تسرب الدم من الأوعية التالفة تحت الجلد - تظهر على الجسم، فإنها كانت بمنزلة شهادة الموت وبداية أربعة أو خمسة أيام من الآلام المبرحة والهياج والهذيان. وكان عطش الضحايا لا يروى حتى إن بعضهم كان يجري عاريا في الشوارع وهو يصرخ ثم يلقي بنفسه في صهاريج المياه. آخرون كانوا يفقدون صوابهم بالكامل من الألم، بل كانوا يلقون بأنفسهم من النوافذ. كان يحدث نزيف داخلي، وفي الأيام الأخيرة كانت أعضاء الجسم الحيوية تبدأ في الذوبان. كان الموت عتقا رحيما لهم بحق. (3) انتشار الذعر في أنحاء إيطاليا
منذ بداية الطاعون وهو ينتقل إلى الخارج من خلال وسيلتين: السفن، حيث يمكنه أن يقطع أميالا عديدة ليظهر في ميناء جديد تماما، وسيرا على الأقدام حيث يزحف ببطء لكن بشكل مؤكد على الأرض.
وصول الموت الأسود إلى مسينة في جزيرة صقلية وانتشاره بعدها في أنحاء مدن البحر المتوسط عن طريق السفن.
تحتل جزيرة صقلية موقعا محوريا في البحر المتوسط، وكان كل من مينائي مسينة وكاتانيا محطة توقف مهمة للتجارة البحرية. كانت التجارة هي السبب في انتشار الطاعون، ومن صقلية انتشر المرض إلى شمال أفريقيا عن طريق تونس، وإلى جزر البليار وقبرص، وإلى كورسيكا وسردينيا. لو أن الطاعون اقتصر على هذه المناطق، فلربما اندثر بل لربما أغفله التاريخ، إلا أن الطاعون شن بعض الضربات الحرجة في الوقت نفسه تقريبا.
وصل الطاعون إلى جنوة، ميناء إيطاليا الشمالي، في يناير عام 1348 (بعد مرور نحو ثلاثة أشهر على رسو السفن في مسينة). كما أنه قفز قفزة قصيرة عبر المضيق إلى جنوبي إيطاليا.
Unknown page
في يناير عام 1348 وصل المرض البندقية أيضا ربما عن طريق البحر من صقلية. يفيد أحد التقديرات المعاصرة أن تعداد الوفيات كان 100 ألف نسمة، مع أن هذا رقم مبالغ فيه على الأرجح. كتب أحد أهل البندقية قائلا:
أجرى شخص معين عملية فصد لدمي، فانفجر الدم في وجهه. في اليوم نفسه سقط مريضا، وفي اليوم التالي وافته المنية؛ وبنعمة الله نجوت أنا. أسجل هذا لأن مجرد التواصل مع المريض كان ينقل الطاعون المميت إلى الشخص السليم ... من أجل ذلك كان الأصحاء يحرصون بشدة على تجنب المرضى. حتى الكهنة والأطباء كانوا يفرون من المرضى في خوف، والجميع كانوا يتحاشون الموتى. وفي أماكن ومنازل كثيرة، عندما كان يموت أحد قاطنيها، سرعان ما يلحق به الباقون واحدا تلو الآخر. وكانت أعداد الموتى هائلة بحق، حتى إنه تعين تخصيص مدافن جديدة في كل مكان.
هل يمكن أن يستوقفنا شيء هنا؟ أكان الرجل الذي فصدت دماؤه يعاني من الطاعون ومع ذلك شفي؟
يعتقد أن شخصا غريبا (على ما يبدو هو شخص مصاب فعليا بالعدوى) قد جلب المرض إلى بادوفا، وكان الدمار الناتج هائلا؛ فقد مات ثلثا السكان، وهو عدد صاعق؛ فكان إذا مرض أحد أفراد الأسرة، سرعان ما تلحق به الأسرة بأكملها. أكان هذا خيطا مهما لفهم طبيعة المرض؟
ضرب الطاعون بيزا، في الغالب عن طريق ميناء ليجهورن، في مارس عام 1348. من هناك انتشر الطاعون شمالا إلى توسكانا وجنوبا إلى روما. لقد كانت إيطاليا مدمرة بحق.
في تلك الآونة كانت أوروبا فعليا تخوض حربا مع الطاعون، وعلى ما يبدو كان هذا الصراع ميئوسا منه؛ إذ كان هذا المرض يفوق قدرة الأفراد بالكامل على الاستيعاب أو تجاربهم في الحياة. كان العدو خفيا ولم يكن أحد يدري متى وأين سيظهر بعد ذلك. وعندما كان يوجه ضربته، لم يكن بمقدور الناس الدفاع عن أنفسهم وكان الكثيرون يسقطون أمامه، وكلما انتابهم الهلع وهربوا، ازداد انتشار المرض. كانت الغلبة للطاعون دائما.
من جنوة انتقل الطاعون إلى بياتشنزا التي تبعد نحو 60 ميلا (100 كيلومتر) إلى الشمال الشرقي، كتب جابرييل دي موسي، أحد قاطني بياتشنزا، الذي كان يعمل كاتب عدل:
لكن بصفتي أحد قاطني بياتشنزا طلب مني أن أكتب المزيد عنها، لعله يتضح ما حدث هناك عام 1348. بعض من أهل جنوة الذين فروا من الطاعون المتفشي في مدينتهم ارتحلوا شمالا وسكنوا في بوبيو، وهناك باعوا السلع التي جلبوها معهم. وسرعان ما كان المرض يضرب الشاري هو وكل أفراد عائلته وكثير من جيرانه ليموتوا جميعا. تمنى أحد هؤلاء أن يحرر وصيته؛ فاستدعى كاتب عدل والكاهن الذي يعترف له بخطاياه والشهود اللازمين، وفي اليوم التالي دفن كل هؤلاء معا. اشتدت البلية لدرجة أنه سرعان ما سقط كل سكان بوبيو تقريبا ضحايا للمرض، ولم يتبق في المدينة سوى الأموات.
في ربيع عام 1348 قدم فرد آخر من أبناء جنوة المصابين بالطاعون إلى بياتشنزا. لقد قصد صديقه فولتشينو ديلا كروتشا الذي استضافه في منزله، بيد أنه مات بعدها مباشرة، وسرعان ما مات فولتشينو أيضا هو وكامل عائلته وكثيرون من جيرانه. رأى جابرييل دي موسي بوضوح أن هذا المرض ينتقل مباشرة من إنسان إلى آخر. استطرد جابرييل قائلا:
كان الطاعون قد انتشر في كل أنحاء المدينة خلال فترة زمنية قصيرة. لا أعرف من أين أبدأ: النحيب والعويل في كل مكان، معدل الوفيات كان هائلا جدا؛ ومن ثم تملك الناس رعب شديد. أعداد الموتى أصبحت لا حصر لها، والأحياء حسبوا أنفسهم في تعداد الهالكين واستعدوا للقبر.
Unknown page
توضح روايته لنا حجم الكارثة المرعب:
عجزت المدافن عن أن تسع جثثا أكثر من ذلك، فتعين حفر الخنادق لدفن الموتى. كثيرا ما كان يلقى بعائلات بأكملها معا في نفس الحفرة. لم يختلف الحال عن المدن والقرى المجاورة. استدعى شخص يدعى أوبيرتو دي ساسو - الذي كان قد وفد من أحد الأماكن المصابة إلى كنيسة رهبنة الإخوة الأصاغر (الفرنسيسكان) ليحرر وصيته - كاتب عدل، وشهودا، وجيرانا. كل هؤلاء ومعهم ستون آخرون ماتوا في غضون فترة زمنية قصيرة.
كانت فلورنسا، التي تبعد 40 ميلا (60 كيلومترا) من بيزا، واحدة من أعظم المدن في أوروبا، ومركزا ديمقراطيا للثقافة والفنون والتعلم، ومن ضمن كنوزها أعمال دانتي وجوتو. لم تفلت فلورنسا؛ إذ ضربها الموت الأسود ضربة قاسية ، على الرغم من اتخاذ كل الاحتياطات الحكيمة والتوسلات إلى الله. كتب بوكاتشيو في كتابه «ديكاميرون» رواية مهمة عن فلورنسا إبان هذه الفترة:
عزل البعض نفسه تماما عن الناس وتجنب أشكال التواصل الاجتماعي كافة وجميع أنواع الترف، في حين احتسى البعض الآخر الخمر وغنى وعربد بحرية معتقدا أن هذه الطريقة في العيش هي العلاج القوي والفعال لمثل هذه الكارثة الهائلة.
تجنب المواطن أخاه المواطن، وقليلون هم من أبدوا أي مشاعر تعاطف مع غيرهم، وعزل الناس أنفسهم عن الآخرين؛ فلم يلتقوا أقاربهم قط، بل «الأدهى من ذلك، الذي يكاد لا يصدقه عقل، أن الآباء والأمهات هجروا أطفالهم تاركين إياهم بلا عناية ليواجهوا مصيرهم، كما لو كانوا غرباء.»
ما من امرأة مهما، كانت جميلة أو حسنة المنظر أو عريقة النسب، كانت تعزف عن تلبية كل ما يطلبه من يحاول علاجها لدى إصابتها بالمرض، ولا يهم إذا كان من يعالجها شابا أم كهلا، كما أنها لم تكن تتورع عن كشف كل جزء من جسدها له دون أن يعتريها الخجل، كما لو كانت تتعرى أمام امرأة؛ من شدة ما تعانيه من مرض.
كثيرون لقوا حتفهم أثناء النهار أو الليل في الشوارع العامة، أما رحيل الكثيرين الذين ماتوا في منازلهم فلم يكن الجيران يدرون به غالبا إلى أن تنتشر الرائحة النتنة للجثث المتعفنة، ونتيجة للجثث المنتشرة في كل الأرجاء صار المكان بأكمله بمنزلة قبر.
كان من عادة معظم الجيران، الذين كان يحركهم الخوف من التلوث الناجم عن الجثث المتعفنة أكثر من الإحسان إلى المتوفين، أن يجروا الجثث إلى خارج المنازل ويلقوها أمامها، ثم كانوا يحضرون النعوش أو الألواح الخشبية التي يسجى عليها الموتى، حين يكون هناك نقص في النعوش.
كان حاملو الجثث، أو ما يطلق عليهم عاملو المقابر، يؤدون خدماتهم بالأجرة، وكانوا يحملون النعوش بسرعة إلى المدافن. كانوا يحفرون خنادق هائلة «يلقون فيها الجثث بمجرد وصولهم، مئات الجثث في المرة الواحدة، مكدسين إياهم بنفس الطريقة التي تحفظ بها البضائع في مخازن السفن ، طبقة فوق الأخرى، وكل جثة مغطاة بقليل من التراب، إلى أن يصبح الخندق غير قادر على تحمل المزيد من الجثث.»
ولم يكن عاملو المقابر بأناس لطفاء، فعلى ما يبدو أنهم كانوا وحوشا مجردة من الإنسانية يقومون أيضا بدور أكثر شرا؛ مما ساعد في استفحال البؤس العام؛ إذ كانوا يقتحمون منازل الأشخاص الذين لا يزالون على قيد الأحياء ويجرونهم لينضموا إلى صفوف الموتى ما لم يدفع الرجال لهم أموالا من أجل سلامتهم وما لم تدفع النساء من عفتهن.
Unknown page
بلغت الوفيات في فلورنسا ما بين نحو 45 ألف نسمة و65 ألف نسمة، وهي نسبة تعادل على الأرجح 50 بالمائة من وفيات مدن وبلدات إيطاليا. مرة أخرى تكررت الرواية من جديد؛ فإبان طاعون سيينا، وصف أنيولو دي تورا (الذي دفن خمسة من أبنائه) كيف كان الأب يهجر أبناءه، وهكذا يموتون واحدا تلو الآخر. لم يكن ممكنا العثور على شخص ليدفن أكوام الموتى الضخمة في الحفر العميقة، إنما كان ينثر التراب عليها لدرجة أن الكلاب كانت تجرهم إلى الخارج وتنهش أجسامهم. يا لها من صورة مرعبة.
واجه الشاعر بترارك الطاعون في بارما ووصفه في خطاباته. حاول السكان إقامة حجر صحي حول أنفسهم لمنع أي تواصل مع البلدان التي كانت مصابة بالفعل، ولم يصل الطاعون إلى هناك حتى يونيو عام 1348. لكن عندما وصل، وقعت نفس الأحداث المقيتة؛ بلغت الوفيات نحو 40 ألف نسمة في غضون ستة أشهر.
استشرى الوباء في إيطاليا لمدة بلغت نحو عام قبل أن يبدأ في الانحسار. كتب بترارك في أسى شديد إلى أخيه، الناجي الوحيد من بين خمسة وثلاثين شخصا بأحد الأديرة بمونريو:
خيم الحزن على كل الأرجاء، وكان الخوف في كل مكان. ليتني لم أولد قط يا أخي، أو على الأقل ليتني مت قبل أن أرى هذه الأيام. كيف ستصدق ذريتنا أنه أتى زمان أصبح العالم بأكمله تقريبا غير مأهول بالسكان؟
متى سمع أو شوهد أي شيء مثل هذا؛ في أي حوليات قرئ قط عن أن المنازل تركت غير مأهولة، والمدن مقفرة، والبلاد مهملة، والحقول صغيرة للغاية عن أن تسع الموتى، وسادت عزلة مخيفة وعامة في كل أنحاء الأرض؟
هل ستصدق الأجيال القادمة هذه الأمور، في الوقت الذي يصعب علينا نحن الذين شهدناها أن نصدقها؟ كنا سنظن أننا كنا نحلم لو أننا لم نر بأم أعيننا المدينة وهي في حداد جنائزي عند خروجنا من المنزل، ونجدها خاوية لدى عودتنا؛ فنعلم أن ما نتحسر عليه واقع فعلي.
لعلنا اكتشفنا خيطا مهما هنا: أخو الشاعر بترارك كان الناجي الوحيد في مجتمع رهبنة مغلق، ومع ذلك فلا بد أنه كان على مقربة كبيرة من زملائه الرهبان، فكيف تحاشى العدوى؟ هل هذا دليل على أن بعض الأشخاص في أوروبا أظهروا نوعا من المقاومة لهذا المرض اللعين؟ (4) اجتياح فرنسا
بعد أن ضرب الطاعون فرنسا في أواخر عام 1347 أو مطلع عام 1348، ربما يكون تقدير الوفيات بنحو 57 ألف نسمة في مارسيليا وما حولها مبالغا فيه، إلا أن أحداث الرعب والوفيات هناك هي ما توقعناه تماما. دون سيمون دو كوفينو، وهو طبيب من باريس، ذكرياته عام 1350، وهي تقدم قراءة باعثة على الانقباض:
صارت الوجوه شاحبة، والهلاك الذي يهدد الناس كان موصوما على جباههم. كان يكفي أن تنظر في وجوه الرجال والنساء لتقرأ فيها أن البلية أوشكت أن تحدث؛ إذ كانت تعلوها صفرة مميزة تنبئ بدنو العدو، وقبل يوم الهلاك، كان حكم الإعدام يكتب بوضوح على وجه الضحية. لم يبد أن أي مناخ له أدنى تأثير في هذا المرض الغريب؛ فما من حرارة أو برودة أمكنها أن تردعه، فالبيئات الصحية المرتفعة عرضة له مثلها مثل البيئات الرطبة المنخفضة. كان ينتشر في برد الشتاء بنفس القدر من السرعة التي ينتشر بها في حرارة الصيف.
يمكننا معرفة بعض الأمور المهمة عن طبيعة هذا المرض من هذه الرواية القيمة. لاحظ كوفينو أيضا أن الطاعون بدا معديا للغاية لدرجة أن نفسا واحدا من المصاب، أو قطعة من ملابسه، كافية لنقل المرض.
Unknown page
انتشر الطاعون غربا من مارسيليا إلى مونبلييه، ونربونة، وبيربينيا، وقرقشونة التي وصلها في مايو عام 1348، ومن هناك انتقل إلى تولوز ، ومونتوبان، وهكذا وصل إلى ميناء بوردو على الساحل الأطلسي في الفترة ما بين يونيو وأغسطس عام 1348. كان متوسط معدل انتشاره بين ميل وخمسة أميال (2-8 كيلومترات) في اليوم؛ مما يوحي أنه كان ينتقل في المقام الأول عن طريق الأفراد المصابين المسافرين سيرا على الأقدام وليس على صهوة الجياد.
انتشر الموت الأسود شمالا أيضا من مارسيليا، ووصل أفينيون في مارس 1348، حيث ضربها بوحشية. عدد الوفيات المسجل، مع أنه رقم مبالغ فيه بكل تأكيد، هو عدد صاعق: 1800 نسمة خلال ثلاثة الأيام الأولى، وإجمالي 150 ألف نسمة في المدينة وضواحيها الريفية. فر كثيرون من المدينة، إلا أن البابا كليمنت السادس ظل في عزلة على مقربة، محيطا نفسه بألسنة النيران الهائلة التي كان من المفترض أنها تنقي الهواء.
كتب أحد الكهنة المجهولين خطابا إلى أصدقائه يروي فيه القصة الكاملة للطاعون في أفينيون. استهل الكاهن خطابه بتقديم وصف قيم لمسار تطور المرض ومجريات التحقيقات التي أمر بها البابا:
يمكن أن يظهر المرض في ثلاثة أشكال مختلفة: في الشكل الأول، يعاني الأفراد من آلام في الرئة وصعوبة في التنفس، ولا ينجو هؤلاء الضحايا حتى لو كان المرض قد هاجمهم هجوما طفيفا، ولا يعيشون بأي حال من الأحوال أكثر من يومين. أجرى الأبحاث أطباء من مدن كثيرة بإيطاليا، وأيضا في أفينيون، بناء على أمر من البابا للوقوف على منشأ هذا المرض. فتح الأطباء الكثير من الجثث وشرحوها، ووجدوا أن جميع الذين قضوا نحبهم فجأة بهذه الطريقة قد أصيبت رئاتهم وكانوا يبصقون دما. الطبيعة المعدية للمرض هي حقا الأكثر بشاعة؛ لأنه فيما يموت أي مصاب، فإن كل من رآه في مرضه، أو زاره، أو دخل معه في أية تعاملات تجارية، أو حتى حمله إلى القبر، سرعان ما يلحق به إلى هناك، ولم تكن توجد سبل معروفة للوقاية منه.
ثمة شكل آخر من أشكال المرض، يستكمل دورته بالتزامن مع الشكل الأول؛ بمعنى أن أوراما معينة تظهر في الإبطين، وسرعان ما يموت الأفراد نتيجة لذلك. الشكل الثالث للمرض - على غرار الشكلين السابقين - يصيب الأفراد من كلا الجنسين بأورام أعلى منطقة الفخذ، وهذا النوع يفضي سريعا إلى الموت أيضا.
افترض الكاهن، كالجميع، أن هذا المرض معد عن طريق الاتصال المباشر وكرر ما كتبه الآخرون:
تفاقم الوباء بالفعل لدرجة أن الطبيب كان لا يزور المريض خوفا من العدوى، حتى لو أعطاه المريض كل ما يملك عن طيب خاطر، ولم يكن الأب يزور ابنه ولا الأم ابنتها. في الحقيقة لم يكن أحد يزور أحدا مهما كانت صلة قرابتهما إلا إذا كان مستعدا للموت معه، أو اللحاق به سريعا.
على ما يبدو فإن التجنب التام حتى لأقرب الأقربين كان السلوك السائد، وما من أحد شكك في فكرة أن المرض كان معديا نتيجة الاتصال المباشر. استطرد الكاهن قائلا:
قضى نصف أو أكثر من نصف سكان أفينيون نحبهم بالفعل. يوجد الآن أكثر من 7 آلاف منزل مغلق بداخل جدران المدينة، لا أحد يقطن هذه المنازل، فكل قاطنيها رحلوا، والضواحي شبه خاوية من السكان. اشترى البابا حقلا قريبا من كنيسة «سيدتنا العذراء مريم صانعة المعجزات» ودشنه لدفن الموتى، فدفن فيه 11 ألف جثة. هذا بخلاف أولئك الذين دفنوا في مدافن مستشفى سانت أنطوني، والمدافن التابعة للهيئات الدينية، والمدافن الأخرى الكثيرة الكائنة في أفينيون. وفيما يتعلق بالمناطق المجاورة، أود أن أشير إلى أن كل بوابات مارسيليا، باستثناء بوابتين صغيرتين، مغلقة الآن؛ لأن أربعة أخماس السكان لقوا حتفهم.
من الواضح أن تعداد الوفيات كان مرتفعا في فرنسا مثلما كان مرتفعا في إيطاليا.
Unknown page