Cawd Ila Bad
عود على بدء
Genres
وتحسسنا طريقنا حتى هبطنا إلى حجرة مسدودة النوافذ، وفيها نور ضئيل أخضر من مصباح بترول صغير موضوع على الأرض فى ركن، وكنت اتعجب لعم أحمد ودخوله البيت كأنه من أهله، وفى هذه الملابس التى لايليق أن يلقى بها أحدا وخاصة إذا كان هذا الأحد سيدة، وزاد عجبى أنى رأيتهم لاينكرون وجوده بينهم واجتراءه وتسحبه عليهم هكذا.
وأقبلت الأم والعم ولولو والبقية، وصار كل امرئ يرمينى بسلسة متصلة غير منقطعة فن الأسئلة، ولا ينتظر جوابها.
ولما كلت الألسنة، وفترت همتها قال سونه: «لما سمعت الزمارة خرجت لأتفرج فقابلنى عم أحمد وعاد بى».
بهذا الإيجاز المخل! فلو استطعت لقرصته! فعادوا يقولون كيف يفعل ذلك وهو لم يشف؟ وكيف يخاطر بحياته الغالية؟ وكيف وكيف حتى ضجرت فى جوفه، ولكنه كان يبتسم ولا يستثقل حملتهم اللفظية.
وما كاد أكثرهم يكبح لسانه ويكف عن اللغط حتى خيل إلى أن الأرض تميد. فقد انطلقت المدافع مرة واحدة، انطلاقا متتابعا، وكانت كأنها قريبة منا، وكنا نحس أن بعضها منصوب على بابنا، فقالوا: يا ستار استر ... وجمعتنى أمى فى حجرها وأحاطتنى بذراعيها وألصقت وجهى بصدرها، ولم أكن أنا خائفا ولكن سونه كانت تصطك ركبتاه وأسنانه، ولم يكفه هذا فأنشأ يبكى بصوت عال! ولا يكتم أنه «خائف يا ماما»، حتى هذا لم يكفه فصرخ، ولم يكن هذا لائقا، ولكن ما حيلتى وهو الذى فى وجهه العين الباكية، وفى فمه اللسان الدائر؟ ولو كان الأمر إلى أنا وحدى، لأقعدته على كرسى وألزمته الرزانة والاتزان ورباطة الجأش، ولوضعت له رجلا على رجل، وجعلت فى يده سيجارة، فإن التدخين يطيب فى مثل هذا الوقت، ويعين على إفادة السكينة. وعلى ذكر التدخين أقول إنى لم أر فى هذا البيت الطويل العريض أحدا يدخن، فلم أستطع أن أحتال وأسرق سيجارة أدخنها سرا وخفية، ولعل هذا الحرمان هو الذى أضعف إرادتى فراح سونه يركض بى بغير عنان.
ولم يطل الآمر، وانطلقت الصفارة المؤذنة بانتهاء الغارة، فما راعنى إلا أن هذا الفتى الاخرق قفز من حجر أمه وانطلق يصفق ويقول: «هيه ...» ممطوطة طويلة.
وأخجلنى سونه مرة أخرى ونحن نصعد درجات السلم عائدين إلى غرفنا. فقد تعلق بذراع أمه وراح يموء كالقطة، فلما سألته عما به قال إنه خائف ... فبالله مم يخاف هذا الرعديد؟
وزجرته همسا: «اختش يا شيخ ... عيب».
ولكن من يقول ومن يسمع؟ أنا من جسده فى مثل غيابات الجب التى ألقى فيها يوسف - عليه ألف سلام - وما أحسبه - أى يوسف - خاف مثل هذا الخوف الذى يخافه سونه، ولو فعل لكان معذورا، فقد كان فى جب، وكان وحده. أما هذا فما عذره؟ وهو فى بيت، بل قصر معمور، وأنا معه لا أفارقه، وأونسه وإن كنت لا آنس به؟ وهو - أعنى سونه - على رأس السلم، وتحت ذراع أمه التى تهدئ من روعه وتعده آن تبقى معه، فكيف يصغى إلى هذا الصوت الخافت الذى يشبه صوت الضمير، ويهمل صوت أمه الواعد بالأمن والاطمئنان وأين فى الناس من يلقى باله إلى الضمير الذى لا يحسن إلا التنغيص؟
وتذكرت أيام كنت أنا حدثا مثله فى حياتى المستقلة، وقبل أن تتصل أسبابى بأسبابه - أى سونه - وكيف كنت أقطع طريق الصحراء الموحشة، وحدى، فى الليل البهيم، وأجتاز منطقة القبور اختصارا للطريق، فى الظلام الدامس، ولا أفزع ولا أتهيب، ولا يخيفنى عفريت، أو قاطع طريق، أو مجرم متربص، وكان البيت الذى نشأت فيه فى حارة عتيقة، وكان الغلمان - غيرى - يقطعونها عدوا حتى فى النهار المشمس، لشدة ما ينتابهم من هولها، وكان بئر السلم - والعياذ بالله - يجعل قلب أجرأ الناس كلعبة اليويو، فى صعود وهبوط بين الحذاء والصدر، فقد كان يوقع فى الروع أنه مباءة العفاريت والقتلة، ومع ذلك لم أكن أقول: «ياماما أنا خائف» كما يقول هذا الفتى الذى سود وجهى.
Unknown page