94

وربما كان من العدل التاريخي أن نحتاط أمام هذه الروايات الكثيرة التي أسرف المؤرخون في روايتها إثباتا لبخل المنصور وشحه؛ فقد يكون مصدرها ما ألفوه من إسراف الخلفاء، ولعل المنصور لم يبلغ أكثر من أنه كان شديد الميل إلى الحرص والتدبير، والنفرة من الملحفين، وأخذ أهل بيته بذلك كله.

ولم يفت المنصور أن يعلل ذلك البخل؛ فقد جاء في عيون الأخبار أنه قال في مجلسه لقواده: «صدق الأعرابي حيث يقول: أجع كلبك يتبعك»، فقام أبو العباس الطوسي وقال: «يا أمير المؤمنين، أخشى أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك!»

وقد كان أبرويز أحكم من المنصور إذ قال لابنه شيرويه وهو في حبسه: «لا توسعن على جندك فيستغنوا عنك، ولا تضيقن عليهم فيضجوا منك، أعطهم عطاء قصدا، وامنعهم منعا جميلا، ووسع عليهم في الرجاء، ولا تسرف عليهم في العطاء.» •••

وليس أدل على الشخصية السياسية لهذا الخليفة من سيرته مع ثلاثة هم في حقيقة الأمر أكبر زعماء الدولة في عصره، فهذه السيرة تبين لك - في وضوح وجلاء - ما قدمناه من أن المنصور كان «مكياڤلي» السياسة لا يحجم عن الغدر وقطع الرحم وكفر النعمة إذا رأى منفعته في ذلك.

وهؤلاء الزعماء هم؛ أولا: أبو مسلم الذي أخلص في نصرة المنصور والسهر على ملكه، فلم يأل جهدا في تعقب الخارجين على الملك، لا يفرق في ذلك بين أشياع المنصور وأهله من بني العباس، ولا خصومه الذين يكيدون له في السر أو في العلانية، فقتل الشيباني والكرماني وأبا سلمة الخلال، وحارب عم المنصور عبد الله بن علي واستولى على ما في عسكره من الغنائم والأسلحة. وثانيا: عمه عبد الله بن علي، وهو الذي فعل ما فعل في نصرة الدعوة العباسية وتقتيل خصومها من بني أمية، فضلا عن حروبه الموفقة في صد جيوش مروان، ومع ذلك فقد سلط عليه المنصور أبا مسلم فحاربه وقهره، ولما لم يصل إلى قتله كلف ابن عمه عيسى بن موسى والي الكوفة أن يقتله، فلما لم يقتله تولى المنصور قتله بنفسه؛ ليأمن ما قد يحدثه من الثورة والاضطراب. وثالثا: ابن عمه وولي عهده عيسى بن موسى، وقد رأيت كيف أشخصه المنصور لقتال محمد بن عبد الله ملحا في ذلك، حتى إذا أشخص قال المنصور: «لا أبالي أيهما قتل صاحبه!» ثم ما زال المنصور يكيد لهذا الأمير حتى خلعه من ولاية العهد، وبايع مكانه لابنه المهدي، ثم مضى في الكيد له. وقد يكون من المفيد أن ننقل ما جاء في المستطرف عن خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد بمعرفة المنصور، وما قاله ابن الأثير عن قتل عمه عبد الله بن علي، فإن فيما قالاه تصويرا دقيقا لسياسة المنصور، وتمثيلا لحرصه على الملك الذي كان لا يبالي في سبيل توطيده أن ينكث بما عقد من عهد، أو ينقض ما أبرم من ميثاق.

جاء في المستطرف: أن عيسى بن موسى لما غدر به المنصور ونقل ولاية العهد منه إلى المهدي ابنه أنشد:

أينسى بنو العباس ذبي عنهمو

بسيفي ونار الحرب زاد سعيرها

فتحت لهم شرق البلاد وغربها

فذل معاديها وعز نصيرها

Unknown page