ونريد الآن أن نلم إلمامة قصيرة بدور الانتقال إلى العصر العباسي قبل التكلم عن العصر نفسه؛ لنرى كيف كان اتجاه الأفكار في ذلك الحين. (2) دور الانتقال
إن الذي ينظر في كتب التاريخ الإسلامي عامة، ثم يراجع ما كتبه المستشرقون خاصة عن الدولة الفارسية في دور انحطاطها وضياع استقلالها وفناء أهلها في الإسلام، مع رسوخهم في المدنية وسبقهم إلى العلوم الاجتماعية وسياسة الشعوب؛ ليذكر حياة اليونان وعلماء اليونان حين دالت دولتهم وخضعوا للرومان وهم دونهم في العلوم والفنون.
ولسنا هنا بصدد الإفاضة في بيان المناحي التي تغلب فيها الموالي على العرب، فإن لذلك مكانه الطبعي في هذا الكتاب، وقصارانا الآن أن نحيل القارئ إلى الجزء الأول من كتاب الأستاذ «إدوارد برون» الذي وضعه عن التاريخ الأدبي للفرس - وهو من مجلدات «مكتبة تاريخ الآداب» - فإن فيه الكفاية لمن يريد تفصيلا.
أذعن الموالي صاغرين لغلبة العرب عامة والأمويين خاصة، وذاقوا ما ذاقوا من الذلة والمسكنة، وعانوا ما عانوا من ضروب الهوان، فكان من المعقول أن يترقبوا الفرص لينقضوا على سادتهم العرب، وأن ينتظروا أول بارقة تلوح في أفق السياسة ليناصروا الناقمين على المملكة الأموية؛ فقد كانت دولة بني أمية مكروهة عند الناس ملعونة مذمومة ثقيلة الوطأة، مستهترة بالمعاصي والقبائح، فكان الناس من أهل الأمصار ينتظرون زوال هذه الدولة صباح مساء. •••
أضف إلى ما تقدم أن الشيعة كانت - إلى جانب قوة الحجة في أنها أحق بالخلافة؛ إذ كان أنصارها يدعون إلى بيعة صهر النبي أو أبناء بنت النبي - تضم إلى رجالاتها شخصيات بارزة في الدين والكفاية والصلاح، فكان خيار الناس يطيعونها تدينا، وكان غيرهم يطيعها رغبة أو رهبة. وكان العلويون لا يفترون عن بث دعاتهم في العراق وفارس وخراسان وغيرها من البلاد النائية عن مركز الخلافة التي انفصمت عروتها وكان من انحلالها ما وصفناه. وكان الفرس يستخدمون زملاءهم المنتشرين في البقاع العربية في الدعوة إلى مبايعة خصوم الأمويين ومناصرتهم، رغبة في التخلص من ظلم بني أمية وعسفهم، وطمعا في أن يكون لهم من تبدل الحال حظ من العزة والسلطان.
ولنذكر مع هذا ثورة الممالك الإسلامية عامة على الأمويين، تلك الثورة الهادئة المخيفة التي كان من آثارها أن قتل بعض ولاتهم في الأمصار، وأن خرج فريق على الخليفة، ولنذكر كذلك انشقاق البيت الأموي نفسه، وتصدع أركانه؛ فإن لذلك أثره الفعال في ثل عرش الأمويين. وقد كانت بداية ذلك الانشقاق خروج يزيد بن الوليد على عمه الوليد بن يزيد وتشهيره إياه أسوأ تشهير ، ووصمه بأقبح الوصمات، حتى تمثل بعض بني أمية بقول الشاعر:
إني أعيذكمو بالله من فتن
مثل الجبال تسامى ثم تندفع
إن البرية قد ملت سياستكم
فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
Unknown page