ولما كانت الدولة العباسية قد قامت بالموالي وبأسنتهم، ومحاولتهم الانتقام لأنفسهم وكرامتهم من بني أمية الذين ساموهم سوء العذاب، وساسوهم شر سياسة، فإنا نرجئ كلامنا عن هذا العنصر القوي من أسباب اعتلاء الدولة الأموية سلطان الحكم وأسباب سقوطها إلى موضعه الطبيعي من تنظيم كتابنا، وحين ذاك يحق لنا أن نبين تحول العصبية العربية إلى تلك النواحي الشائكة الوعرة التي قضت على الدولة الأموية، وأقامت دولة بني العباس، والتي أدالت منها هي أيضا، وحين ذاك أيضا يحق لنا أن ندرس نظر العربي إلى غير العربي في العصر الأموي وفي غير العصر الأموي، مما كانت له نتائجه الخطيرة في حياة العرب، وفي تحول مدنيات العرب.
فلنتريث إذن، وخير لنا وللتاريخ أن يكون موضع هذا الباب في كلامنا على الدولة العباسية، وخير لنا أيضا أن ننتقل الآن إلى تصوير الحياة الأدبية من نثر وشعر وخطابة، وإلى تصوير الحياة العلمية بضروبها لذلك العصر الأموي الذي كان بحق نواة طيبة للعصر العباسي، متوخين في ذلك الإيجاز والإجمال، ولعلنا نوفق إلى حسن الإصابة فيما نريد.
الفصل الخامس
الحياة العلمية والأدبية للعصر الأموي
(1) توطئة
لسنا نريد أن نسهب في بيان الحياة العلمية والأدبية في العصر الأموي؛ لأن ذلك يكاد يخرج بنا عن مقصدنا الأساسي من اقتصار مقدمتنا هذه على توضيح موجز، من غير إسراف ولا تطويل، للعصر السابق لعصرنا المأموني الذي كان نتيجة لازمة لما تقدمه واكتنفه من عوامل متعددة، توضيحا معتدلا يجعلنا نطمئن، بعد تفهمنا للآداب العباسية، إلى تبين الفروق والمميزات والآثار التي خلفها لتاريخ المدنية الإسلامية، بل لتاريخ المدنية الإنسانية، ذلك العصر الذهبي، وهو عصرنا المأموني الخالد.
لقد تغيرت حالة اللغة وآدابها في العصر الأموي عما كانت عليه في الدور الجاهلي تغيرا عظيما؛ إذ رقت الأساليب وقل الحوشي والمتنافر، واتسعت الأغراض وكثرت باتساع مطالب الحياة الجديدة ووفرتها، وهذا يتمشى بوجه عام مع تغيير حياة العرب الاجتماعية والدينية والسياسية، وبعبارة أخرى: تغيرت حياة الآداب والعلوم في ذلك العصر طبقا لما أفادته العرب في فتوحهم ومغازيهم في غنائم وأموال، ووقوفهم على آثار المدنيات لأمم ذات حظ من العلم غير قليل. ولقد كان لكتاب الله المعجز بآياته وسحر بلاغته
كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير
أثره في فتق أذهانهم، وصقل عباراتهم، وتوحيد لهجاتهم، بل كان الكنز الذي يلجئون إلى ما فيه من أدب جم، وعظة بالغة، وأساليب رائعة، ويستمدون منه ما ينفعهم في معاشهم وحياتهم الدنيا والآخرة.
وإنه ليجدر بنا أن نتساءل عن مدى ما أصاب الآداب العربية من تغيير في العصر الأموي، وهو تغير خطير يستدعي درسه عناية ودقيق ملاحظة وتعرفا غير قليل لما كانت عليه الآداب في العصر الجاهلي. •••
Unknown page