قال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين معاوية قط إلا في أمر واحد؛ طلبت إليه رجلا من عمالي كسر علي الخراج، فلجأ إليه، فكتبت إليه: «إن هذا فساد عملي وعملك»، فكتب إلي:
إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة: لا نلين جميعا فيمرح الناس في المعصية، ولا نشتد فنحمل الناس على المهالك، ولكن تكون أنت للشدة والفظاظة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة.
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج حين استأذنه في أخذ تلك الصبابة من المال التي تترك لأصحاب الأراضي يتعللون بها، ولتكون لهم ردءا وظهيرا إذا نزلت بساحتهم النوائب والجوائح، قال: «لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك، وأبق لهم لحوما يعقدون بها شحوما.»
بمثل هذه السياسة بين العمال والخلفاء، وبمثل اختيار معاوية وغير معاوية؛ كهشام وعبد الملك، لعمال ذوي كفاية ودهاء، وحذق وحسن بلاء؛ كزياد ومن على شاكلته، أتيح لمعاوية وخلفاء معاوية تبوء عرش المملكة العربية قوي الأركان لا تهتصره العواصف والأعاصير، ثابتا لا تزعزعه ثورات الخوارج ولا حروب المنافسين.
كانت الدولة أيام معاوية، أيام بنائها وتشييدها، أيام تلك المصاعب الكأداء التي اعتورت سبيلهم، وتلك الشدائد التي تشيب وتفزع، وتقض المضاجع، وتجتث من النفوس آمالها، ومن العزمات مضاءها، ومن القلوب بأسها - كانت الدولة يومئذ غنية بالكفايات ، خصبة بمهرة العمال وحذاق الولاة. ولعلها سنة طبعية أن يكون دور بناء العروش والممالك خصبا برجاله الكفاة، كما يكون دور انحلالها قاحلا عقيما في كل شيء، وإن كانت الأمم وهي تتقطع أنفاسها قد لا تخلو ممن لا يألو جهدا في سبيل إقالتها من عثرتها، وإنهاضها من سقطتها.
ألم يكن إلى جانب معاوية في عصر البناء أصحاب الكفايات النادرة من العمال والولاة أمثال: عمرو بن العاص وزياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة الذين يقول فيهم بعض النقاد: «ما رأيت أثقل حلما ولا أطول أناة من معاوية، ولا رأيت أغلب للرجال ولا أبذ لهم حين يجتمعون من عمرو بن العاص، ولا أشبه سرا بعلانية من زياد، ولو كان المغيرة في مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر؛ لخرج من أبوابها كلها.»
على أنه يجدر بنا أن نصور حالة الولاة الكفاة أيام القوة، وما آل إليه أمرهم بعد ذلك حتى أضحوا يتقربون إلى الخلفاء بالهدايا والألطاف والرشا مع عسف الرعية والكيد لها، ولنترك لليعقوبي التكلم عن الحالة الأولى، ولابن الأثير بيان الثانية، ثم نردف ذلك ببعض الحقائق التاريخية لكي يتاح لنا بعدئذ أن نطمئن إلى تقدير هذا العنصر - عنصر العمال - وأنه لا يقل عن المال قوة وأثرا، سواء أكان ذلك في البناء أم في الهدم، أما البناء فبحسن اختيار العمال وكفاياتهم، وأما الهدم فبعسف الولاة وخرقهم، وسوء اختيارهم، وقلة بضاعتهم في تدبير الممالك وسياسة الناس.
قال اليعقوبي في معرض كلامه عن زياد بن أبيه بعد أن وصف ما له من دهاء وحيلة وصولة: «كان زياد يقول: ملاك السلطان أربع خلال: العفاف عن المال، والقرب من المحسن، والشدة على المسيء، وصدق اللسان، وكان زياد أول من بسط الأرزاق على عماله ألف درهم ألف درهم، ولنفسه خمسة وعشرين ألف درهم، وكان يقول: ينبغي للوالي أن يكون أعلم بأهل عمله منهم بأنفسهم.»
وبعد أن ضرب اليعقوبي الأمثال على معرفة زياد بدخائل رعيته قال مصورا رأي زياد فيما يتطلبه بعض الشئون العامة من الصفات فيمن يتولاه: كان زياد يقول: «أربعة أعمال لا يليها إلا المسن الذي قد عض على ناجذه: الثغر، والصائفة، والشرط، والقضاء، وينبغي أن يكون صاحب الشرط شديد الصولة، قليل الغفلة، وينبغي أن يكون صاحب الحرس مسنا عفيفا مأمونا لا يطعن عليه، وينبغي أن يكون في الكاتب خمس خلال: بعد غور، وحسن مداراة، وإحكام للعمل، وألا يؤخر عمل اليوم لغد، والنصيحة لصاحبه، وينبغي للحاجب أن يكون عاقلا فطنا قد خدم الملوك قبل أن يتولى حجابتهم.»
ثم انظر ما آل إليه الأمر أيام الوليد بن يزيد الذي رغب في اكتساب قلوب الناس بعد نفورها، وإرضائها بعد تبرمها، وإيناسها بعد وحشتها، بأن يزيد في أعطياتهم، ويضاعف أرزاقهم، بيد أن معين المال قد نضب أو كاد، والخزانة قد استنزفتها الملاذ وحروب الخوارج وإخماد الفتن، فعمد إلى بيع الولايات.
Unknown page