فقال علي رضي الله عنه: «ليس على الموحدين سبي، ولا يغنم من أموالهم إلا ما قاتلوا به وعليه، فدعوا ما لا تعرفون وألزموا ما تؤمرون.»
أجل! هذا هو علي حقا، الذي أبت رأفته وأبي دينه أن يمنع أهل الشام من الماء كما منعوه أثناء منازلتهم حتى كاد يهلك جنده عطشا، والذي منع شيعته وأنصاره من شتم معاوية ضاربا صفحا عن آثار استغلال ذلك في الدعوة السياسية لتأييد خلافته، والحط من ملك منافسه؛ فإنه لما بلغه أن حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يظهران شتم معاوية ولعن أهل الشام أرسل إليهما: أن كفا عما بلغني عنكما، فأتياه فقالا: «يا أمير المؤمنين، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! قال: كرهت لكم أن تكونوا شتامين لعانين، ولكن قولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوى عن الغي من لهج به.»
هذا هو علي حقا، الشديد في محاسبة نفسه وعماله، أما محاسبة نفسه فظاهرة خلقية واضحة الوضوح كله، وأما محاسبته عماله؛ فإن تاريخه مفعم بمئات الأدلة والشواهد مما أفاد منه معاوية أيما فائدة.
وكان من آثار هذه المحاسبة هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني من علي وانضمامه إلى معاوية، وكذلك يزيد بن حجبة التيمي الذي كان قد استعمله علي على الري فكسر من خراجها ثلاثين ألفا، فكتب إليه علي يستدعيه فحضر، فسأله عن المال قال: أين ما غللته من المال؟ قال: ما أخذت شيئا. فخفقه بالدرة خفقات وحبسه، ووكل به سعدا مولاه، فهرب منه يزيد إلى الشام، فسوغه معاوية المال، فكان ينال من علي، وبقي بالشام إلى أن اجتمع الأمر لمعاوية، فسار معه إلى العراق، فولاه العراق.
فهذه الشواهد وأمثالها فيها أقطع الدلالات على شدة محاسبته لعماله وإغضابه آل بيته تدينا وورعا وعملا للآخرة، لا لبناء ملك في الدار الأولى.
فلنحفظ هذه الصورة جيدا، ولنذكر أنها لم يتح لها الفوز والنجاح في ذلك الجهاد السياسي، وأن الكفة الراجحة في سياستنا الدنيوية كانت لمنازله الذي يجدر بنا أن ندرسه بإيجاز واقتضاب. (3) تحول الرأي العام
صور الشاعر العبقري «شكسبير» في روايته «يوليوس قيصر» تأثر الرأي العام ببلاغة زعمائه التي يستغلون بها سذاجة موقفه، ويتملكون بها عقول قومهم التي بها يفكرون، ويسحرون بها عيونهم التي بها يبصرون، فلا يصدرون إلا عن إرادتهم، ولا يفكرون إلا بعقولهم، وقد أبدع أيما إبداع في موقفي «بروتس» قاتل قيصر ومنقذ الرومان، و«أنطونيوس» مؤبنه وراثيه، وأظهر إلى أي مدى افتتن بهما الجمهور، وإلى أي مدى تناقض في حبه وبغضه، وإكباره وتألبه.
شكر الرومان «بروتس» قاتل قيصر لأجل الرومان وفي سبيل الرومان، فأسلس له قيادهم وطلبوا منه أن يتبوأ العرش مكانه، وحمل على الأعناق بعد أن تبوأ منهم حبات القلوب، ثم استمعوا إلى «أنطونيوس» يرثي قيصر، وما استمعوا له لأن «بروتس» طلب منهم أن ينصتوا؛ لأن قيصرا الطاغية غير قيصر الراحل، فأنصتوا وتكلم «أنطونيوس»، فحرك من شئونهم وأنساهم أنفسهم، واستغل في موقفه ما بثياب قيصر من دماء وثقوب، وما بجسمه من طعنات وجروح، حتى اضطرمت الفتنة، وكان نصيب «بروتس» ما تعلم بعد حمله على الأعناق!
هكذا فعل معاوية في جهاده وجلاده عليا، فقد صدع بما أشار به عليه عمرو بن العاص؛ إذ طلب إليه إظهار قميص الدم الذي قتل فيه عثمان وأصابع زوجته، وأن يعلق ذلك على المنبر ثم يجمع الناس ويبكى عليه عازيا قتل عثمان إلى علي، مطالبا بدمه مستميلا بذلك أهل الشام وغيرهم من عامة المسلمين. أخرج معاوية القميص والأصابع وعلقه على المنبر، وبكى واستبكى الناس، وذكرهم بمصاب عثمان، فانتدب أهل الشام من كل جانب، وأيدهم الأشراف وذوو النفوذ كشرحبيل بن السمط وسواه، وبذلوا له الطلب بدم عثمان والقتال معه على كل من آوى قتلته، ثم خلق لعلي معضلة سياسة لا يهون على السياسي حلها؛ ذلك بأن بعث برسالة إلى جماعة علي، وهذه الرسالة تحتوي على أسس المبادئ العثمانية وتقول: «أما بعد، فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة؛ أما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا، وأما الطاعة لصاحبكم فلا نراها؛ إن صاحبكم قتل خليفتنا، وفرق جماعتنا، وآوى ثأرنا
1
Unknown page