119

قالوا: ومع ظهور مثل هذه الآية العظيمة قتل يحيى في الحبس شر قتلة، على أن هناك رأيا آخر في موت يحيى بن عبد الله، وهو أن الموكل به في الحبس منعه الأكل فمات.

ولننظر ما يرويه لنا معاصر، وهو عباس بن الحسن، عما كان من الرشيد بعدما أصاب الزبيري، مما أجمع رواة العرب على إصابته به إثر كذبه في قسمه، فقد قال: دخلنا على الرشيد، فلما نظر إلينا قال: يا عباس بن الحسن، أما علمت بالخبر؟ فقال أبي: بلى، يا أمير المؤمنين، فالحمد لله الذي صرعه بلسانه، ووقاك الله، يا أمير المؤمنين، قطع أرحامك، فقال الرشيد: الرجل والله سليم على ما يحب، ورفع الستر فدخل يحيى وأنا والله أتبين الارتياع في الشيخ، فلما نظر إليه الرشيد صاح به: يا أبا محمد، أما علمت أن الله قد قتل عدوك الجبار، قال: الحمد لله الذي أبان لأمير المؤمنين كذب عدوه علي، وأعفاه من قطع رحمه، والله، يا أمير المؤمنين، لو كان هذا الأمر مما أطلبه وأصلح له وأريده - فكيف ولست بطالب له ولا مريده؟! - ولم يكن الظفر به إلا بالاستعانة به، ثم لم يبق في الدنيا غيري وغيرك وغيره، ما تقويت به عليك أبدا. وهذا والله من إحدى آفاتك - وأشار إلى الفضل بن الربيع - والله لو وهبت له عشرة آلاف درهم، ثم طمع معي في زيادة ثمرة لباعك بها، فقال: أما العباسي فلا تقل له إلا خيرا، وأمر له في هذا اليوم بمائة ألف دينار. وكان حبسه بعض يوم، قال أبو يونس: كان هارون حبسه ثلاث حبسات مع هذه الحبسة ، وأوصل إليه أربعمائة ألف دينار. •••

وبعد، فقد عنينا بإثبات الروايات فيما كان من سيرة هذا الخليفة العباسي مع علوي من رجالات عصره؛ لنتبين نفسية المعاصرين والولاة، وما انطوت عليه صدورهم من حب لآل علي وتوقير لأشخاصهم، ونعتهم بالكرامات والمعجزات، وإذا اعتبرت أن هذا كله قد حصل في عهد خليفة عظيم بسخائه وفواضله، محبوب لمآثره ونوافله، قوي في مملكته، كثير الأنصار في شيعته، أيقنت أن للحزب العلوي أنصارا يعتد بهم، ومكانة في النفوس يحفل بها. وهذا معقول جدا، وإنك لتستسيغه من نفسك وفهمك إذا ذكرت أن أنصار هذه الدولة هم من الفرس، وأنت تعلم ما كان بين الفرس والعرب عامة، وبين الموالي وبني أمية خاصة من عداء وشجار، ومقت وكراهية، وأنت تعلم أن الدعوة في بداية أمرها كانت للعلويين دون غيرهم، وأن القائمين بها كانوا من الفرس، فمن المعقول أن تشرب قلوبهم حب هذه الدعوة وأفراد هذه الدعوة، والتغني بمذهب هذه الدعوة منذ الساعة الأولى. ولا يزيد مرور الزمان كل دعوة أو مذهب حزبي إلا قوة وانتشارا، وكثرة أنصار، ورسوخ عقيدة؛ فلنلاحظ ذلك جيدا، فإنه قد يفيدنا في تعليل بعض أفعال البرامكة.

ولنرجع إلى التحدث معك باختصار عن بقية الحوادث الداخلية في عصر الرشيد، ولنقسم القول إلى ناحيتين؛ أولاهما: ثورات ناتجة عن العصبية. وثانيتهما: فتوق وثورات في شتى ولاياته.

أما الحوادث العصبية بين النزارية واليمنية وغيرهما، فإن ابن جرير الطبري يحدثنا أن قد وقع هياج في الشام سنة ست وسبعين ومائة بين النزارية واليمنية، ورأس النزارية يومئذ أبو الهيذام، فولى الرشيد موسى بن يحيى بن خالد، وضم إليه القواد والأجناد ومشايخ الكتاب، فذهب إليهم وأصلح بينهم حتى سكنت الفتنة.

وأما الثورات الأخر، فإنا نجد في أخبار سنة ثمان وسبعين ومائة، وسنة ثمانين ومائة، وسنة سبع وثمانين ومائة ما يدل على حصول فتن وحروب من جراء العصبية أيضا.

ولقد حصلت حروب في خراسان والطالقان وحوران والجزيرة واليمن ومصر وأرمينية وحمص لرافع بن ليث ، وكان النصر في أكثرها حليف جيوش الرشيد وولاته.

على أن جل هذه الثورات ناجم في الواقع عن اتساع رقعة المملكة، وسرعة تبديل الولاة، وسوء تصرف بعض هؤلاء الولاة، ولا سيما في جباية الأموال، ومحاولة إرضاء الخليفة من جهة، ومطامعهم الخاصة من جهة أخرى.

وإنا لنجتزئ بما قدمناه لك عن السياسة الداخلية أيام الرشيد، ونتقدم الآن إلى الكلام عن السياسة الخارجية. (2) السياسة الخارجية

أما ملخص السياسة الخارجية أيام الرشيد، فيمكن تقسيمه إلى نقطتين؛ الأولى: علاقته بالروم. والثانية: علاقته بالأندلس.

Unknown page