وقال:
ما علمت لكم من إله غيري ، قال: صدقت، فأخبرني فمن خير: أنت أم موسى بن عمران؟ قال: موسى كليم الله وصفيه اصطفاه لنفسه، وائتمنه على وحيه، وكلمه من بين خلقه، قال: صدقت، أفما تعلم أنه لما بعثه وأخاه إلى فرعون قال لهما:
فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى - ذكر المفسرون أنه أمرهما أن يكنياه - هذا وهو في عتوه وجبروته، على ما قد علمت، وأنت جئتني وأنا بهذه الحالة التي تعلم؛ أؤدي أكثر فرائض الله علي، ولا أعبد أحدا سواه، أقف عند أكبر حدوده وأمره ونهيه، فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأشنعها، وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدبت ، ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك، فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيا؟ قال الزاهد: أخطأت يا أمير المؤمنين، وأنا أستغفرك، قال: قد غفر لك الله. وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها وقال: لا حاجة لي في المال؛ أنا رجل سائح، فقال هرثمة وخزره: ترد على أمير المؤمنين، يا جاهل، صلته؟! فقال الرشيد: أمسك عنه، ثم قال له: لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه، ولكن من عادتنا أنه لا يخاطب الخليفة أحد ليس من أوليائه ولا أعدائه إلا وصله ومنحه؛ فاقبل من صلتنا ما شئت، وضعها حيث أحبب. فأخذ من المال ألفي درهم وفرقها على الحجاب ومن حضر الباب.
وأما ورعه فقد ذكر أن أبا مريم المدني كان مع الرشيد، وكان مضحاكا له محداثا فكها، فكان الرشيد لا يصبر عنه ولا يمل محادثته، وكان ممن قد جمع إلى ذلك المعرفة بأخبار أهل الحجاز وألقاب الأشراف ومكايد المجان، فبلغ من خاصته بالرشيد أن بوأه منزلا في قصره، وخلطه بحرمه وبطانته ومواليه وغلمانه، فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر، وقام الرشيد إلى الصلاة فألفاه نائما، فكشف اللحاف عن ظهره ثم قال له: كيف أصبحت؟ قال: يا هذا، ما أصبحت بعد، اذهب إلى عملك، قال: ويلك، قم إلى الصلاة، قال: هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي. فمضى وتركه نائما، وتأهب الرشيد للصلاة فجاء غلامه فقال: أمير المؤمنين قد قام إلى الصلاة. فقام فألقى عليه ثيابه ومضى نحوه، فإذا الرشيد يقرأ في صلاة الصبح، فانتهى إليه وهو يقرأ:
وما لي لا أعبد الذي فطرني
فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله! فما تمالك الرشيد أن ضحك في صلاته، ثم التفت إليه وهو كالمغضب فقال: يا ابن أبي مريم، في الصلاة أيضا؟ قال: يا هذا، وما صنعت؟ قال: قطعت علي صلاتي، قال: والله ما فعلت، إنما سمعت منك كلاما غمني حين قلت:
وما لي لا أعبد الذي فطرني
فقلت: لا أدري والله! فعاد فضحك وقال: إياك والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما.
وأما تواضعه فنترك الكلمة فيه لأبي معاوية الضرير، وهو من علماء دولته، فإنه يقول: أكلت مع الرشيد يوما فصب على يدي الماء رجل فقال: يا أبا معاوية، أتدري من صب الماء على يديك؟ فقلت: لا، يا أمير المؤمنين، قال: أنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت تفعل هذا إجلالا للعلم؟ قال: نعم. فتصور إلى أي حد بلغ صنيعه. •••
نترك جانبا الآن التكلم عن البرامكة ونكبة البرامكة إلى فصل مستقل، وربما كان من المصلحة الفنية للكتاب أن يفرد لكل بحث من بحوثه باب خاص نستوعب فيه ما يجدر بنا استيعابه من تلك النواحي الهامة الشديدة الصلة بموضوعنا.
Unknown page