صلى الله عليه وسلم ، وبكم استنقذهم من أيدي الظلمة أئمة الجور، والناقضين عهد الله، والسافكين الدم الحرام، والآكلين الفيء، والمستأثرين به، فاذكروا ما أعطاكم الله من هذه النعمة، واحذروا أن تغيروا فيغير بكم.
وإن الله جل وعز استأثر بخليفته موسى الهادي الإمام فقبضه إليه، وولى بعده رشيدا مرضيا أمير المؤمنين بكم رءوفا رحيما، من محسنكم قبولا، وعلى مسيئكم بالعفو عطوفا، وهو - أمتعه الله بالنعمة، وحفظ به ما استرعاه إياه من أمر الأمة، وتولاه بما تولى به أولياءه وأهل طاعته - يعدكم من نفسه الرأفة بكم، والرحمة لكم، وقسم أعطياتكم فيكم عند استحقاقكم، ويبذل لكم من الجائزة مما أفاء الله على الخلفاء، مما في بيوت الأموال، ما ينوب عن رزق كذا وكذا شهرا غير مقاص لكم بذلك فيما تستقبلون من أعطياتكم، وحاملا باقي ذلك للدفع عن حريمكم، وما لعله أن يحدث في النواحي والأقطار من العصاة المارقين إلى بيوت الأموال، حتى تعود الأموال إلى جمامها وكثرتها والحال التي كانت عليها؛ فاحمدوا الله، وجددوا شكرا يوجب لكم المزيد من إحسانه إليكم بما جدد لكم من رأي أمير المؤمنين، وتفضل به عليكم، أيده الله بطاعته، وارغبوا إلى الله له في البقاء، ولكم به في إدامة النعماء لعلكم ترحمون، وأعطوا صفقة أيمانكم، وقوموا إلى بيعتكم. حاطكم الله وحاط عليكم، وأصلح بكم وعلى أيديكم، وتولاكم ولاية عباده الصالحين.» •••
بهذا الكتاب القيم البليغ أشعر العالم العربي بابتداء خلافة هارون الذي نستطيع بحق أن نقول: إنه أضخم الخلفاء المسلمين اسما، وأبعدهم صوتا، وأشدهم في الخيال تأثيرا، فأنت لا تستطيع أن تسمع اسم هارون الرشيد حتى يحدث في نفسك صورا خيالية مختلفة النوع، ولكنها متفقة في القوة، فهو ينشئ في نفسك حينا صورة الخليفة المترف، المسرف في الترف الذي بلغ منه ما لم يبلغه أحد قبله ولا بعده، وينشئ في نفسك حينا آخر صورة الخليفة القوي الذي أذل أعداء الإسلام، وبسط سلطان الخلافة على أطراف الأرض، وأخذ ملوك الروم بدفع الجزية، وينشئ فيها مرة أخرى صورة الخليفة الحذر الذي بث الجواسيس ليعرف من أمر الناس ما ظهر وما خفي، ثم لم يكتف بذلك، بل استحال هو جاسوسا يطوف في الأسواق، ويوغل في البيوت، ويغشى المجالس والأندية حتى ألم بكل شيء، وأحاط بكل خفية، ثم بطش بأعدائه والمؤتمرين به بطشا لم يستطع التاريخ أن ينساه، ثم ينشئ في نفسك صورة الخليفة العالم الأديب، الفقيه بألوان العلم والدين والأدب، المشجع للفقهاء والعلماء والشعراء والكتاب تشجيعا أصبح فيه مثلا لمن جاء بعده من الخلفاء والملوك في الشرق والغرب، وينشئ في نفسك أيضا صورة الخليفة الورع الزاهد المتهالك نسكا وطاعة وتبتلا لله، كما ينشيء فيها صورة الخليفة الذي لا يكاد يخلو إلى نفسه ويسدل الستار بينه وبين رعيته حتى يأخذ مع المجان في مجونهم، فيخيل إليك أنه لا يدع من سبل اللذة سبيلا إلا سلكها وجنى ثمارها، فمن غناء إلى شراب إلى عبث، إلى استمتاع بالنساء، من حرائر وإماء، وهو بعد هذا كله سياسي ماهر بعيد النظر في تصريفه الأمور ، فيه حزم المنصور وعنفه، وميله إلى الغدر والأثرة، وكل ما يشخص سياسة «مكياڤلي»، وفيه حلم معاوية ودهاؤه اللين المرن، وسخاؤه بالمال، واصطناعه الناس.
ومن غريب الأمر أن كل هذه الصور المتناقضة التي تتباين أشد التباين قد اجتمعت حقا في شخص هذا الخليفة، لا كما يصورها المؤرخون والرواة والقصاص وأصحاب الأساطير، بل اجتمعت اجتماعا يختلف قوة وضعفا باختلاف الظروف والمؤثرات الكثيرة التي كونت مزاجه وشخصيته، وقصره، وبيئته السياسية العامة، فليس الرشيد في حقيقة الأمر شخصا كغيره من الأشخاص يمثل نفسه وما ورث عن أسرته، ولكنه مرآة اجتمعت أمامها صور مختلفة من الناس والكفايات والظروف، فانعكست فيها هذه الصور.
فالرشيد يمثل كل هؤلاء الناس، وكل هذه الأشياء، وكل هذه الظروف التي شهدتها بغداد قرب آخر القرن الثاني للهجرة، ومن هنا كان من العسير جدا أن نستخلص منه صورة تاريخية صادقة بريئة من الغلو والإسراف.
فأما المؤرخون من العرب فقد تأثروا حين كتبوا عن الخلفاء، وخاصة أصحاب الشخصيات البارزة منهم، بكل ما عرفت أنهم تأثروا به من الإغراق والمبالغة والغلو في المدح مخلصين في أكثر الأحيان.
وأما المؤرخون من الفرنج فلم يسلم أشدهم احتياطا من التأثر بهذه الطائفة الضخمة من الأساطير التي بثها في نفوس الجماعات كتاب «ألف ليلة وليلة» منذ زمن طويل.
وقد ظهر هذا التأثر مظهرين مختلفين؛ مظهر المدح والإسراف فيه عند قوم، ومظهر الذم والإغراق فيه عند قوم آخرين، وأولئك وهؤلاء مخدوعون عن أنفسهم واحتياطهم بكل هذه المبالغات التي أحاطت بإحسان الرشيد وإساءته.
ونحن مجتهدون لا في أن نعطيك هذه الصورة الصادقة من الرشيد التي لا يزال التاريخ محتاجا إليها - فليس ذلك غرضنا في هذا البحث، وليس في هذا الكتاب متسع له - بل في أن نعطيك صورة صادقة من فهم المؤرخين من العرب والفرنجة لعصر الرشيد، غير مهملين مع ذلك أن نسجل آراء لنا هنا وهناك حين نشعر بالحاجة إلى ذلك؛ لتوضيح مذهبنا في فهم عصر المأمون الذي نضع فيه هذا الكتاب . •••
يجمع المؤرخون العرب على ورع الرشيد وفضله وأدبه، وبسطة يده بالخير والعطاء، وانطوائه على الجود والسخاء؛ فقد ذكروا أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته.
Unknown page