كذلك قد يساعد إجراء بعض المقارنات بينه وبين ماركس في تحديد موقع فلسفته؛ فكلاهما يؤمن بالمذهب الطبيعي، وكلاهما يألو على نفسه، إلى حد معين، أن يفسر العالم الطبيعي وموقع الإنسان في الطبيعة تفسيرا علميا. ولقد كاد نيتشه أن يكون، مثل ماركس، رومانتيكيا رغم أنفه، وهو يشبه ماركس في احتقاره للتفكير الغيبي اللاعقلي، ولجهالة العصور الوسطى، وللابتعاد عن التنوير، وهي كلها صفات لبعض أوجه رومانتيكية القرن التاسع عشر. غير أنه يدرك بوضوح تام، كما أدرك ماركس، مدى التغير الذي لحق مصير الإنسان في القرن التاسع عشر منذ «الأيام الجميلة الغابرة»، أيام موتسارت وفولتير وهيوم. ورغم حنينه إلى عصر التنوير، فإنه يدرك أن مثل ذلك العصر لا يمكن أن تكون مثله هو. وهو يشعر بالمرارة نتيجة لإدراكه ذلك. وهكذا أضفى عليه الحس التاريخي شعورا بالأسى أعمق مما كان لدى ماركس، بل لدى هيجل نفسه؛ فرغم روح الظفر الفياضة التي يتصف بها زرادشت، فإن نيتشه لم يشارك ماركس تأكيده الجاد القائل إن التطور التاريخي للبشر، رغم كل ما فيه من منازعات دموية وضياع، إنما هو مسار قهري نحو المجتمع الفاضل.
ولقد كان نيتشه أصدق تنبؤا بكثير من ماركس؛ فقد تكهن بظهور جيل جديد من الطغاة، الذين سيستغلون، بشيء من الهزء، مخاوف الجماهير وافتقارها إلى الأمان؛ لكي يوجهوهم كيفما شاءوا عن طريق أساطير اجتماعية محكمة. كما تنبأ، ببصيرة نادرة، بأن المثل الأعلى الذي رسمه هيجل للدولة سينحدر إلى مثل أعلى لدولة سوقية تمجد الثراء، ولا هدف لها إلا الحرب «ثم الحرب».
2
ولكنه يعد الاشتراكية مجرد تطور آخر الأخلاق القطيع الديمقراطية النفعية، وهي الأخلاق التي يعدها أول نتيجة دنيوية للمسيح. «ومن الطريف أن نقارن بينه وبين هربرت سبنسر في رأيه هذا في الاشتراكية»؛ فالاشتراكية في رأي نيتشه ليست مذهبا تحرريا مجددا على الإطلاق، بل إنها تدعو إلى المزيد مما هو موجود فحسب. وهو يرى أن ما هو مطلوب ليس مجرد إعادة تنظيم لوسائل الإنتاج أو إصلاح عام للأشكال السياسية الديمقراطية القائلة بمذهب الحرية، وإنما هو إعادة تقويم شاملة للقيم، ترفض صراحة أخلاق خدمة الغير بأسرها، وهي الأخلاق التي ترتكز عليها الاشتراكية ومذهب الحرية معا.
ويشترك نيتشه مع ماركس في كثير من آرائه حول الشرور المتأصلة في الحياة الاجتماعية والسياسية الحديثة، غير أن تشخيصه وعلاجه كانا معا مختلفين تمام الاختلاف؛ فمن الملاحظ أولا أن التفكير بطريقة مادية، من خلال الأساليب الاقتصادية للإنتاج، والصراع المنظم بين الطبقات، كان غريبا عن ذهن نيتشه إلى حد بعيد. وهو لا يؤمن على الإطلاق بالفضيلة الكامنة في العمل الجماعي وفي الإخاء الاجتماعي. كما أنه لا يعبأ كثيرا بأي حل اقتصادي أو سياسي في أساسه لمشكلة حرية الإنسان وإبداعيته المفقودة. وربما كان نيتشه أكثر المفكرين كراهية لكل ما هو جماعي في تاريخ الفلسفة الحديثة. ومن هنا لم يكن من قبيل المصادفة أن يكون الرمز المعتاد الذي أشار به إلى الجماهير هو «القطيع». والحق أن الخوف الذي ملأ قلبه من أن يطأه القطيع بأرجله، والرعب الانطوائي من أن تطغى عليه الحياة اللاشخصية الجماعية الحديثة، هو الذي يتخذ له رمزا عكسيا في دعوته إلى إرادة القوة؛ فالقوة ترمز عند نيتشه، كما ترمز عند اسبينوزا، إلى تقرير المرء لمصيره. وهي تعني بالنسبة إليه أن تفعل، وتكون قادرا على أن تفعل ما تريد، لا ما تعده طبقة معينة أو نظام معين أو إرادة عامة «خيرا» لك؛ ففي رأي نيتشه أنه طالما ظل الفرد غارقا في نسيج من الطقوس الجماعية والقواعد الاجتماعية اللاشخصية الرتيبة، فإن أي تدخل في النظام السياسي أو الاقتصادي يترك المصير الأساسي للحياة الحديثة كما هو، دون أن يمسه، مهما أدت تلك الطقوس والقواعد إلى ما يسمى ب «الرخاء» العام.
ولقد كان «مل» من الفلاسفة الذين كان نيتشه يحب دائما إبداء عدائه لهم؛ فقد احتقر نيتشه فلسفة المنفعة التي أسماها ب «فلسفة الخنازير»، وكان هذا المذهب في نظره دعوة تتسم بالحرص الممزوج بالجبن إلى تحقيق منافع مادية جماعية، لا تصلح إلا لمجتمع من أصحاب الحوانيت العمليين، وذلك طبقا لتصوره للبريطانيين. وقد أطلق على مل اسم «الغبي» وجهر باشمئزازه من «سوقية ذلك الرجل»، ولكن الواقع أن اختلاف نيتشه عن مل كان أقل مما تصور؛ فقد اشتركا معا في ميلهما إلى النزعة الطبيعية، وإلى العلم في حدود معينة. ولم يكن هناك اختلاف كبير بين موقفيهما من الكنيسة وأخلاقها العزوفية المتعلقة بعالم آخر. ولم يكن مل يقل عن نيتشه سخطا على ما تجلبه النظم الديمقراطية الاجتماعية والسياسية من نتائج تبدو محتومة فيها ضعة وإملال واطراد. كما أن مشكلة تحرر الإنسان في العالم الحديث لم تكن تقف، في رأي مل أيضا، عند حد مسألة الحريات المدنية، بل كانت تعني عنده، كما كانت تعني عند نيتشه، قدرة الفرد على إكمال ذاته، وتحقيق أعلى قدراته من حيث هو إنسان. ويبدو لي أن لغتهما، لا معناها الأساسي، هي التي كانت مختلفة تماما. وفضلا عن ذلك فإن كراهية نيتشه الأرستقراطية للمعايير الكمية الخالصة للكمال، لها ما يقابلها عند مل في تفضيله لفكرة «الحكام العدول»، بوصفهم معيارا مستقلا للقيمة.
ولكن، رغم اشتراكهما في الرغبة في إنقاذ ما أطلق عليه «مانيو أرنولد
Matthew Arnold » اسم «البقية الاستثنائية»، فإن هذا يقابله عند مل، وليس عند نيتشه، تعاطف عميق مع القطيع؛ ولذلك لم يشعر مل بأي ميل إلى التخلي عن ولائه للمثل العليا الديمقراطية السياسية من أجل إنقاذ القيم الأرستقراطية، قيم الذوق، والجدارة الشخصية، والامتياز الفردي؛ فالمجتمع الفاضل ينبغي في رأيه أن يشمل الاثنين معا؛ ذلك لأنه إذا كانت الأخلاق عند مل أكثر إنسانية، فإن نيتشه أقوى شعورا بصعوبة التوفيق بين أخلاق الرخاء وبين أخلاق الكمال الذاتي للأفراد «الأرقى» أو «الحكام العدول». وكان يعتقد أن من الضروري القيام باختيار بين الأمرين اللذين حاول مل أن يجمع بينهما. ولا شك في أن قراره النهائي بينهما واضح تماما. ولعله كان خليقا بأن يقول إن الأخلاق عند مل؛ إذ تحاول الجمع بين رفاه المجموع وكمال الفرد، تغدو مزجا مختلطا عقيما بين مثل لا تقبل التوفيق بينها. أما بنتام فكان على أية حال خصما متسقا مع نفسه، وعلى استعداد تام لتحمل نتائج معاييره الكمية المحض ؛ فبنتام هو القائل إنه إذا كان في لعبة الكرة من اللذة قدر ما في الشعر، فإنها تعادله من حيث هو خير، وهذا كل ما في الأمر. ولا شك أن الرد الممكن لمل على ذلك هو أنه ليس ثمة تحقيق ذاتي دون حب، ولا سعادة عامة إذا كان فيها تجاهل للفروق الكيفية بين أنواع الخير البشري.
أما الصلات بين نيتشه وبين شوبنهور، فإنها أوضح ظهورا.
فقد كانت الاستعارة الرئيسية في فلسفة نيتشه، وهي إرادة القوة، تعديلا، من خلال دارون، لإرادة الحياة عند شوبنهور. والواقع أن نيتشه قد تصور «الصراع من أجل الوجود» على نحو أكثر حرفية مما تصوره دارون. فهذا الصراع في نظره مجهود مستمر، فيه تناحر ووحشية، لا من أجل الحياة فحسب، كما ظن شوبنهور، وإنما من أجل السبق أيضا. وفضلا عن ذلك فإن نظرة نيتشه إلى الإرادة كانت أقل ميتافيزيقية من نظرة شوبنهور إليها. فالإدارة عنده تتعلق بالفعل قبل كل شيء، وليست المسألة في نظر نيتشه مسألة إرادة «حرة»، وإنما مسألة إرادات أقوى وأضعف. ولقد حاول شوبنهور - وربما كان في ذلك غير متسق مع نفسه - أن يجعل الإرادة تنقلب على ذاتها، بحيث نظر إلى الحياة الصالحة على أنها حياة التأمل المتحرر من الإرادة. أما نيتشه، فقد أدرك ما في هذا الموقف من افتقار إلى الاتساق، ورأى أن من المسلم به كون الإرادة كامنة في كل حياة، وكونها باقية ما بقيت الحياة. ولذلك فالمسألة عنده لا يمكن أن تكون مسألة إنكار للإرادة أو تجاوز لها، وإنما السؤال الوحيد هو: أية إرادة هي التي ستسود؟ وهذه في رأيه مسألة قوة فحسب.
Unknown page