لقد تحدث الماديون قبل دورنج عن المادة والحركة، أما هو فيرد الحركة إلى القوة الميكانيكية بوصفها صورتها الأساسية المزعومة، وبذلك يصبح من المستحيل عليه فهم الارتباط الحقيقي بين المادة والحركة، وهو الارتباط الذي كان بالفعل غامضا لدى جميع الماديين السابقين عليه. ومع ذلك فالأمر بسيط إلى حد بعيد؛ فالحركة هي طريقة وجود المادة، إذ لم توجد، ولا يمكن أن توجد في أي مكان، مادة بلا حركة. فهناك حركة الفضاء الكوني، والحركة الآلية للكتل الصغرى الموجودة على مختلف الأجرام السماوية، وحركة الدقائق التي تتخذ شكل حرارة أو تيارات كهربية أو مغناطيسية، أو تفاعل أو تحلل كيميائي، أو حياة عضوية، هذه كلها حركات تسري واحدة منها، أو كثرة منها في آن واحد، على كل ذرة مادية في الكون. وكل سكون، وكل توازن، إنما هو نسبي فحسب، ولا معنى له إلا بالنسبة إلى صورة محددة ما للحركة؛ فالمادة بلا حركة، كالحركة بلا مادة، أمر يستحيل تصوره، ولذلك فالحركة لا تقبل السكون والفساد، شأنها في ذلك شأن المادة ذاتها. وكما قالت من قبل إحدى الفلسفات (فلسفة ديكارت)، فإن كمية الحركة الموجودة في العالم تظل دائما على ما هي عليه، وإذن فالحركة لا تخلق، وإنما يمكن أن تنقل فقط، وعندما تنقل الحركة في جسم إلى آخر، فإنها تعد موجبة من حيث هي تنقل ذاتها، وتكون علة للحركة، بقدر ما تكون هذه الأخيرة منقولة؛ أي سالبة. وهذه الحركة الموجبة هي ما نسميه ب «القوة»، بينما السالبة هي «مظهر القوة»، ومن هذا يظهر بكل وضوح أن القوة مساوية لمظاهرها؛ لأن نفس الحركة هي التي تظهر في كليهما في واقع الأمر.
وعلى ذلك فإن القول بحالة ساكنة للمادة هو فكرة من أسخف الأفكار وأكثرها امتناعا، وهو خيال هذياني محض. ومن الضروري للوصول إلى فكرة كهذه، تصور التوازن الميكانيكي النسبي (وهو حالة يمكن بالفعل أن يمر بها أي جسم على الأرض) على أنه سكون مطلق، ثم مد هذه الفكرة إلى الكون بأسره. ولا شك أن مما ييسر ذلك إرجاع الحركة الكونية إلى قوة ميكانيكية محض، كما أن قصر الحركة على القوة الميكانيكية المحض له ميزة أخرى، هي إمكان تصور القوة على أنها ساكنة ومتوقفة؛ أي على أنها قد شلت مؤقتا. أما عندما يكون نقل الحركة عملية معقدة إلى حد ما، تنطوي على عدد من النقاط الوسطى، كما يحدث في كثير من الأحيان، فعندئذ يصبح من الممكن إرجاء النقل الفعلي إلى أية لحظة نشاء، عن طريق حذف الحلقة الأخيرة في السلسلة.
فمن الممكن إذن أن نتصور أن المادة في حالتها الساكنة المماثلة لذاتها كانت محملة بالقوة، ويبدو أن هذا هو ما يعنيه دورنج بوحدة المادة والقوة الميكانيكية، إن كان يعني بذلك شيئا على الإطلاق. على أن هذه الفكرة باطلة؛ لأنها تتناول حالة هي بطبيعتها نسبية، وبالتالي لا تنطبق إلا على جزء واحد من المادة في الوقت الواحد، فتنقلها إلى الكون وكأنها مطلقة. وقد يكون لنا أن نلف وندور ما شاء لنا اللف والدوران، ولكننا سنعود دائما، إذا اتبعنا طريق دورنج، إلى إصبع الله. •••
إن صاحبنا الميتافيزيقي هذا ليجد في القول بأن مقياس الحركة إنما يكون في ضدها، وهو السكون، عظمة في حلقه وعلقما في لسانه، فهذا بالفعل تناقض صارخ، وكل تناقض هو في رأي دورنج لغو فارغ. ومع ذلك فمن الصحيح أن الحجر المعلق، كالبندقية المحشوة، يمثل كمية محددة من الحركة الميكانيكية، وأن هذه الكمية تقاس بدقة بوساطة وزنه وبعده عن الأرض، وأن الحركة الميكانيكية يمكن أن تستخدم على أنحاء شتى حسبما نشاء؛ أي في سقوطها المباشر، أو انزلاقها على سطح مائل، أو في إدارة أسطوانة. فإمكان التعبير عن الحركة من خلال ضدها؛ أي السكون، لا ينطوي على أية صعوبة على الإطلاق من وجهة النظر الديالكتيكية. وما التناقض بأسره، بالنسبة إلى الفلسفة الديالكتيكية، إلا شيء نسبي، فليس ثمة شيء اسمه السكون المطلق، والتوازن غير المشروط. بل إن كل حركة مفردة تسعى إلى التوازن، والحركة من حيث هي كل تضع حدا للتوازن. وعلى ذلك فعندما يحدث السكون والتوازن، فإنهما يكونان نتيجة لحركة أوقفت، ومن الواضح أن هذه الحركة قابلة للقياس في نتيجتها، ويمكن أن يعبر عنها من خلال هذه النتيجة، وأن تستخلص منها ثانية بصورة أو بأخرى. غير أن دورنج لا يمكنه أن يريح نفسه بقبول هذا العرض البسيط للمسألة؛ فإخلاصه للميتافيزيقا يجعله يبدأ بحفر هوة لا قرار لها، ولا وجود لها في الواقع، بين الحركة والتوازن، ثم يدهشه بعد ذلك أنه لا يستطيع الاهتداء إلى أي جسر يعبر به هذه الهوة التي صنعها بنفسه. وإنه لحري به، والحال هذه، أن يمتطي صهوة جواده الميتافيزيقي الهزيل،
6
ويتعقب «الشيء في ذاته» الكانتي، إذ إن هذا، ولا شيء غيره، هو الذي يختبئ من وراء ذلك الجسر الذي لا يمكن الاهتداء إليه.
الديالكتيك: الكم والكيف
من الصحيح أننا طالما كنا ننظر إلى الأشياء على أنها ساكنة لا حياة فيها، وعلى أن كلا منها قائم بذاته بجوار الآخر ومن بعده، فلن يعترضنا فيها أي تناقض. حقا إننا سنجد بعض الصفات التي يكون منها ما هو مشترك بينها، ومنها ما هو متباين، بل متناقض، بين الواحد والآخر، غير أن هذه الصفات تكون عندئذ موزعة بين أشياء مختلفة، وبذلك لا تنطوي على تناقض. وفي حدود هذا المجال يمكننا أن نظل نسترشد بالطريقة الميتافيزيقية المعتادة في التفكير. ولكن الوضع يختلف تماما حالما نتأمل الأشياء في حركتها، وتغيرها، وحياتها، وتأثيرها المتبادل بعضها في البعض؛ ففي هذه الحالة نصادف التناقض على التو. بل إن الحركة ذاتها تناقض؛ فأبسط تغيير ميكانيكي للمكان لا يمكن أن يحدث إلا عن طريق جسم يكون في نفس الآن في مكان ما، وفي مكان آخر معا، ويكون موجودا وغير موجود في المكان الواحد. وما الحركة ذاتها، إلا تأكيد مستمر لهذا التناقض، ورفع له في الوقت ذاته.
فإذا كان التغير الميكانيكي البسيط للمكان ينطوي على تناقض، فإن هذا يصدق بالأحرى على الصور الأعلى لحركة المادة، ولا سيما الحياة العضوية ونموها. ولقد رأينا من قبل أن قوام الحياة إنما هو أن يكون الشيء الحي ذاته وشيئا آخر في كل لحظة. فالحياة إذن تناقض بدورها، وهي تناقض يتمثل في الأشياء والعمليات ذاتها، ويؤكد ذاته، ويرفع ذاته على الدوام، وحالما يتوقف التناقض، تنتهي الحياة ذاتها، ويقبل الموت. وقد رأينا كذلك أننا لا نستطيع تجنب التناقض في مجال الفكر أيضا، وأن التناقض الموجود بين قدرة الإنسان على المعرفة، وهي محدودة بطبيعتها، وبين تحققها الفعلي في الناس، الذين تحد من معرفتهم الظروف الخارجية، وكذلك قدراتهم العقلية الخاصة، يرفع عن طريق ما نعده، في رأينا على الأقل، ومن وجهة نظر عملية، تعاقبا لا نهاية له للأجيال التي تسير في تقدمها إلى ما لا نهاية.
وقد انتهى ماركس في ص336،
Unknown page