حادي عشر:
لقد اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم على أنحاء عدة، غير أن المهم في الأمر هو تغييره.»
ضد دورنج
التصنيف - الأولية
Apriorism
لا يمكن أن تتعلق القوالب المنطقية إلا بأشكال الفكر، ولكن موضوع بحثنا هنا ليس إلا أشكال الوجود، والعالم الخارجي، وهذه الأشكال لا يمكن أن يخلقها الفكر ويستمدها من ذاته، وإنما من العالم الخارجي فقط. غير أن هذا يؤدي إلى قلب العلاقة بأسرها رأسا على عقب؛ فالمبادئ ليست نقطة بداية البحث، وإنما نتيجته النهائية، وهي لا تطبق على الطبيعة والتاريخ البشري، وإنما تجرد منهما، وليست الطبيعة وعالم البشر هما اللذان يتفقان مع هذه المبادئ، بل إن المبادئ لا تصح إلا بقدر ما تتفق مع الطبيعة والتاريخ. هذه هي النظرة المادية الوحيدة إلى المسألة، أما نظرة السيد دورنج فهي مثالية، تجعل الأشياء واقفة على رءوسها تماما، وتصوغ العالم الحقيقي من أفكار ومن قوالب أو إطارات أو مقولات توجد في مكان ما قبل العالم منذ الأزل، فهو في ذلك مثل هيجل تماما.
مثل هذه النتيجة تتلو من القول، على مثال المذهب الطبيعي تماما، بأن «الوعي» و«الاستدلال» أشياء معطاة، وأشياء قائمة منذ البداية، في مقابل الوجود والطبيعة. ولو كان الأمر كذلك، لكان من الأمور التي تدعو إلى العجب الشديد أن يوجد مثل هذا التناظر بين الوعي والطبيعة، والفكر والوجود وقوانين الفكر وقوانين الطبيعة. ولكن لو أثير السؤال الآخر: ما هو الفكر والوعي إذن، ومن أين أتيا؟ لوضح أنهما ناتجان للمخ البشري، وأن الإنسان ذاته ناتج للطبيعة، تطور في بيئته ومعها، ومن هنا فمن الواضح بذاته أنه لما كانت نواتج المخ البشري في نهاية الأمر نواتج للطبيعة أيضا، فإنها لا تناقض بقية الطبيعة وإنما تناظرها.
فإذا استخلصنا القوالب التي تسري على العالم، لا من أذهاننا، وإنما من العالم الواقعي بتوسط أذهاننا فحسب، فلن نحتاج إلى فلسفة لهذا الغرض، وإنما إلى المعرفة الوضعية للعالم وما يحدث فيه، وما تمدنا به هذه المعرفة ليس بدوره فلسفة، وإنما علم وضعي.
وفضلا عن ذلك، فإذا لم يعد ثمة داع لأية فلسفة من هذا النوع الخالص، فلن يعود هناك داع أيضا لأي مذهب، بل لأي مذهب طبيعي في الفلسفة؛ فإدراك الارتباط المتبادل المنظم بين ظواهر الطبيعة يؤدي بالعلم إلى إثبات وجود مثل هذا الارتباط المتبادل المنظم في جميع المجالات، من حيث أوجهها العامة وتفاصيلها. ولكن من المستحيل علينا، وسيظل من المستحيل دائما، الإتيان بتعبير علمي صحيح شامل عن هذا الارتباط المتبادل، وصياغة صورة فكرية دقيقة لنظام العالم الذي نعيش فيه. ولو أمكن في أي وقت من تطور البشر الوصول إلى نسق نهائي كامل للارتباطات المتبادلة في العالم - المادي والذهني والتاريخي أيضا - لكان معنى ذلك أن المعرفة البشرية قد بلغت منتهاها، ولتوقف التطور التاريخي منذ اللحظة التي يصبح فيها المجتمع متوافقا مع هذا النسق، وهي فكرة ممتنعة، ولغو محض؛ فكل صورة ذهنية للنظام العالمي تحد موضوعيا وستظل تحد، بالمرحلة التاريخية التي تمر بها، وذاتيا بالتركيب المادي والذهني لصانعها.
الفلسفة الطبيعية: تركيب الكون والفيزياء والكيمياء
Unknown page