ومن السهل، وسط هذه الغوامض، أن تغيب عن بال المرء الدلالة الإنسانية لفلسفة هيجل؛ فكثيرا ما يتهم هيجل بالالتواء المتعمد، ولكن لا شك في أن رده هو أن هذه هي الطريقة الوحيدة لتصور حقيقة هي أكثر التواء. فالمرء يلمس في فلسفته بأسرها شعورا طاغيا بتغير كل الأشياء، وتسلطا رومانتيكيا للفكرة القائلة بوجود نقص كامن في كل نشاط ونظام بشري. وهو يجمع، على نحو غريب، بين القلق والاستسلام، وبين الطموح العقلي المفرط والتواضع الذي نجح في إخفائه. وإن قراءته لتذكر المرء دائما بعبارة فاوست الخالدة: «ليس تماما أبدا ...» (
ever not quite )؛ ففلسفته تعد، من وجهة نظر معينة، كابوسا في نظر المنطقي، وإفسادا حقيقيا للعقل، ولكن المطلق، الذي هو وحده المعقول والحقيقي تماما في نظر هيجل، يظل مثلا أعلى للعقل لا يمكن بلوغه، ولا يمكن أن يدركه الوعي الديالكتيكي المتناهي للإنسان إلا بوصفه هدفا يسعى إليه دون انقطاع، ولا يتوصل إليه أو يفهم أبدا. ولقد أطلق على مذهب هيجل، إن كان هذا هو الوصف الذي يصدق على فلسفته، اسم الكوميديا الإلهية الفلسفية. ولهذا المذهب قطعا أوجهه الكوميدية، ولكن ما يعرضه أقرب، في المنظور البشري، إلى المأساة (التراجيديا) منه إلى الكوميديا. والحق أنه لم يكن من قبيل المصادفة أن هيجل قد حلل في مذهبه الفلسفي الضخم عن الفن، معنى المأساة على نحو أعمق مما فعل أي فيلسوف حديث آخر؛ فالمأساة في نظره عقلية وأخلاقية أو ميتافيزيقية في آن واحد، وهي مظهر لا مفر منه لحياتنا الجزئية المتناهية المتغيرة المنشقة على ذاتها.
ولنعد الآن إلى فلسفة التاريخ في هيجل. فلنقل باختصار إن هيجل يعد كل تغير تاريخيا، وينظر إلى التاريخ ذاته على أنه هو الديالكتيك كما يتبدى في الزمان. وهو بهذا المعنى حركة هائلة أشبه برقصة الفالس،
2
من القضية إلى نقيضها إلى المركب بحيث تمثل كل خطوة مرحلة أعلى في التطور الذاتي المطلق؛ في التطور الديالكتيكي للأفكار، الذي يطلق عليه هيجل اسم «المنطق»، لا تنكر أية قضية إنكارا كاملا نهائيا، كما أن أي نجم لا يأفل تماما في ديالكتيك التاريخ. وكل لحظة تاريخية، إذ تقضي على سابقتها، تقتبس منها في الوقت ذاته ما هو هام فيها، وتحتفظ بها بوصفها مظهرا لواقع اجتماعي أكثر ثراء وشمولا. وإذن فلكل جيل جديد، من وجهة نظر هيجل، أن يعد نفسه محطم الحضارة التي ورثها من الجيل السابق عليه، وكذلك حافظها والناهض بها في آن واحد. والواقع أن حضارتنا الغربية ذاتها هي، من وجهة نظر معينة، شيء جديد تحت الشمس. غير أن كل ما كان ذا أهمية حيوية في حضارات اليونان وروما وجوديا ومسيحية العصور الوسطى، لم يضع «حقيقة»، وإن تكن حضارتنا الحالية قد حورته وتجاوزته جزئيا. والواقع، في نظر هيجل، أن الدلالة الكامنة في هذه الحضارات تتكشف لنا على نحو لم يكن ميسورا لليونانيين والرومانيين واليهود القدماء، بل وللمسيحيين أنفسهم. ولهذا السبب استطاع هيجل أن يدعي فهم المسيحية أفضل مما فهمها آباء الكنيسة، وفهم الدلالات التي تنطوي عليها الفلسفة اليونانية خيرا مما فهمها أفلاطون وأرسطو.
ولكن لهذه الفكرة وجها آخر؛ ذلك لأنه إذا كان في وسعنا فهم «فكرة» اليونان أو المسيحية أفضل من اليونانيين القدماء والمسيحيين أنفسهم (نظرا إلى موقعنا في التاريخ)، فليس في استطاعتنا أن نحيا حياتهم من جديد، أو أن نعيد إقامة الظروف الحضارية للمجتمعات التي عاشوا فيها. وهكذا فإن هيجل، رغم إعجابه الشديد باليونانيين، لم تكن تشوب فكره أية شائبة من تلك «العقلية العتيقة» كما أسماها المؤرخ توينبي، وهي العقلية التي تميز أولئك الذين يرجعون القهقرى، بفكرهم، إلى حضارة سابقة ما يعدونها العصر الذهبي. كذلك عد هيجل نفسه «مسيحيا»، ولكن فلسفته لم يكن فيها أثر لذلك التعلق بالعصور الوسطى، الذي تميز به كثير من رومانتيكيي عصره.
والتاريخ عند هيجل عملية ديالكتيكية وروحية معا، وهكذا نظر إليه على أنه التكشف أو التطور الذاتي الديالكتيكي لما هو غير مشروط على الإطلاق؛ أي للمطلق ذاته، وهذا يعني، بتعبير أكثر عبثية، أن من الواجب النظر إلى التغير التاريخي على أنه صراع مستمر نحو الحرية الروحية للبشر. وكل مرحلة في هذه العملية هي مرحلة (أعلى) بالنسبة إلى ما سيتلوها. ولو نظرنا إلى الأمور من وجهة نظر ما سيحدث، فإن أي شيء يبدو أنه يقاوم التغير هو، بهذا المعنى، شر، ولكنه، من حيث هو تحقيق واكتمال لما سبقه، هو، بهذا المعنى، خير. ومن الشائع أن ينظر إلى هيجل على أنه محافظ متطرف، وهو بالفعل قد أخذ في سنواته الأخيرة يزداد تأكيدا لأهمية التراث والنظم الثابتة بوصفها نواقل للحضارة. غير أن تفكيره، كما رأى ماركس فيما بعد، ينطوي أيضا على جانب ثوري، ومذهبه ذاته يرى في حتمية تغير كل تراث وكل نظام مجرد حقيقة من حقائق الحياة. والواقع أن فلسفة هيجل محافظة وثورية في آن واحد. ولقد كان هيجل نفسه يميل شخصيا إلى الجانب المحافظ، غير أنه كان في الوقت ذاته شاعرا بأن العصر الذي كان يمثل روحه كان موشكا على الزوال.
وكتاب هيجل في «فلسفة التاريخ» هو في أساسه لاهوت أخلاقي
theodicy ،
3
Unknown page