تقديم المترجم
مقدمة
1 - الفلسفة والأيديولوجية
2 - التحول الترنسندنتالي في الفلسفة الحديثة
3 - مذهب الأنا في الفلسفة الألمانية
4 - الديالكتيك والتاريخ
5 - العالم إرادة وتمثلا
6 - مؤسس الوضعية
7 - قديس المذهب الحر
8 - نبي التطور
Unknown page
9 - الديالكتيك والمادية
10 - الخلاص بلا مخلص
11 - ظهور الوجودية
12 - العودة إلى التنوير
13 - حاشية ختامية غير علمية
تقديم المترجم
مقدمة
1 - الفلسفة والأيديولوجية
2 - التحول الترنسندنتالي في الفلسفة الحديثة
3 - مذهب الأنا في الفلسفة الألمانية
Unknown page
4 - الديالكتيك والتاريخ
5 - العالم إرادة وتمثلا
6 - مؤسس الوضعية
7 - قديس المذهب الحر
8 - نبي التطور
9 - الديالكتيك والمادية
10 - الخلاص بلا مخلص
11 - ظهور الوجودية
12 - العودة إلى التنوير
13 - حاشية ختامية غير علمية
Unknown page
عصر الأيديولوجية
عصر الأيديولوجية
تأليف
هنري د. أيكن
ترجمة
فؤاد زكريا
مراجعة
عبد الرحمن بدوي
تقديم المترجم
لم يخف مؤلف الكتاب، أو ناشره، «هنري ديفد أيكن»، على القارئ في مقدمة كتابه تعقد التيارات الفلسفية وتعددها في القرن التاسع عشر، إلى الحد الذي يجعل من العسير، أولا، اختيار الفلاسفة الذين ينبغي أن يمثلوا في كتاب من النصوص المقتطفة مثل كتابه هذا، وثانيا، اختيار النصوص التي تعرض في الكتاب لهؤلاء الفلاسفة أنفسهم؛ فعملية الاختيار هنا مزدوجة، وفي كل مرحلة منها صعوبة وحيرة؛ إذ يضطر المرء دائما - كما أشار أيكن في المقدمة - إلى التضحية بفلاسفة لهم مكانتهم المؤكدة في عالم التفكير الفلسفي، ثم يضطر بعد ذلك إلى اختيار نص ضئيل جدا، لا يتجاوز خمس عشرة صفحة في الأصل الإنجليزي، من بين ألوف الصفحات التي يكتبها كل مفكر من هؤلاء.
Unknown page
ولقد تحدث أيكن في مقدمته عن عملية الاختيار الأولى؛ أعني اختيار الفلاسفة. وأود هنا أن أعرض بضع ملاحظات على عملية الاختيار الثانية؛ أعني اختيار النصوص؛ فمن الضروري، في كتاب كهذا، أن تتوافر في النصوص المختارة صفتان؛ الأولى: أن تكون ممثلة لتفكير الفيلسوف بإيجاز. والثانية: أن تكون دالة على اتجاهه الأيديولوجي. وأستطيع أن أقول إن المؤلف كان في معظم الأحيان موفقا فيما اختاره من النصوص، ولكني أعتقد أن التوفيق لم يحالفه في حالات قليلة، وهو أمر ينبغي، في رأيي، أن ينبه القارئ إليه حتى لا يحكم على كل الفلاسفة الذين يقرأ لهم من خلال النصوص التي تمثلهم في هذا الكتاب.
فالنص المختار من «كانت» ليس دالا على فلسفته بأسرها، بل إنه يتناول جانبا محدودا منها فحسب، ولا يكشف بوضوح عن طابعها «الأيديولوجي»، بالمعاني التي حددها المؤلف في الفصل الأول لهذا اللفظ. وكم كنت أتمنى أن يختار المؤلف نصا دقيقا، واضحا، جامعا، مثل مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «نقد العقل الخالص»، حيث يجد القارئ تلخيصا كاملا لاتجاه «كانت» الفكري، وللدلالة الأيديولوجية لفلسفته، معروضا بلغة واضحة في صفحات قليلة نسبيا.
أما النص المختار من «فشته»، فهو في رأيي غير موفق على الإطلاق، ويبدو أن المؤلف ذاته أحس بذلك لأنه اهتم في مقدمته كثيرا بهذا النص ودافع بقوة عن اختياره له. وبغض النظر عن تبرير المؤلف لهذا الاختيار، فإن هناك ناحية أخرى كان ينبغي أن يحسب لها حسابا، وهي: إذا قدمت لقارئ «فشته» في عشر صفحات، فهل تقدمه له في صورة هذه المبادئ التي تتحدث كلها عن «الأنا» «واللاأنا» بطريقة تمثل قمة التعقيد في المثالية الألمانية؟ وهل هذا يتفق مع نفسية قارئ «النصوص الموجزة المختارة»، ويقدم إليه صورة صحيحة عن «فشته»، أم إنه ينفره منه نفورا قد يصبح فيما بعد أبديا؟
وبعد ذلك، فإن النص المختار من «جون ستيوارت مل»، وإن يكن موفقا من حيث دلالته على تفكير «مل» الهادئ المتسلسل في دقة وإحكام، فإنه لا ينطوي - في رأيي - على أية دلالة أيديولوجية، ولا يعدو أن يكون اختبارا منطقيا للمعاني المختلفة للفظ «الطبيعة».
أما النص المختار من «هربرت اسبنسر»، فهو خاتمة لأحد كتبه، تفترض مقدما إلمام القارئ بهذا الكتاب، وليست خاتمة من النوع الذي يلخص المناقشات الماضية تلخيصا يمكن أن يفهم بذاته.
وبعد هذه الانتقادات التي أرى لزاما علي أن أوجه إليها أنظار القارئ، أود أن أمتدح في المؤلف شيئين:
أولهما:
أن البعض الآخر من نصوصه كان موفقا دون شك، ولا سيما النصوص المختارة من كونت ونيتشه وكيركجورد.
وثانيهما:
أن الشروح التي سبقت كل نص، والتي تكاد تعادل النصوص ذاتها في عدد صفحاتها، هي بالفعل شروح واضحة مفيدة، تقدم إلى القارئ لمحة سريعة قيمة عن تفكير الفيلسوف موضوع البحث وعلاقته بغيره من فلاسفة الفترة نفسها، وربما غيرها من الفترات. (هذا إذا استثنينا بعض المقارنات التي لا تجدي فتيلا، مثل مقارنة فكرتي المراحل الثلاث عند كونت وعند كيركجورد!) وهكذا، فعلى حين قد يجد القارئ في نص معين غموضا أو قصورا عن شرح وجهة نظر الفيلسوف الكاملة، فإن الشرح السابق للنص - وهو دائما شرح وإيضاح لفلسفة المفكر كلها، لا النص الوارد بعدها فحسب - يفيد إلى حد بعيد في سد ثغرات الاختيار.
Unknown page
وينبغي في هذا المقام أن أشير بإيجاز إلى بعض مشكلات الترجمة التي يثيرها هذا الكتاب، وإلى طريقتي في معالجة هذه المشكلات. وأهم ما ينبغي أن يشار إليه في هذا الصدد، هو اضطراري إلى ترك بعض الكلمات الأصلية بأصلها الإنجليزي، ونقلها إلى العربية كما هي.
فلفظ «الأيديولوجية» الذي يتصدر عنوان هذا الكتاب، يترجم عادة ب «العقائدية»، وهي ترجمة قد يتسنى قبولها في مقال سياسي أو ثقافي عام، أما في سياق كتاب متخصص كهذا، فمن المحال أن يكون له مجال. ويكفي أن يتصفح القارئ الفصل الأول من هذا الكتاب، ليدرك اتساع معاني هذا اللفظ وتشعبها إلى الحد الذي يستحيل معه التعبير عنه بلفظ واحد كهذا، لا يتناول إلا معنى واحدا من المعاني المقصودة، هو معنى «الاعتقاد»، وهو معنى ليس هو وحده المميز للفظ. ولعل أفضل شرح للفظ الأيديولوجية هو ذلك الذي أتى به «مانهيم
Karl Mannheim » في كتابه «الأيديولوجية والمدينة الفاضلة
Ideology and Utopia »، والذي يلخص في أن اللفظ يطلق بمعنيين؛ أحدهما مذموم والآخر مقبول. فالمعنى المذموم تكون الأيديولوجية فيه هي آراء الخصم الظاهرية، التي تخفي الطبيعة الحقيقية لموقفه، والتي ليس من صالح ذلك الخصم الكشف عنها. وبالمعنى المقبول يقال إن أيديولوجية عصر أو طبقة ما هي إلا خصائص الذهن وتركيبه في ذلك العصر أو تلك الطبقة.
1
ويظهر هذان المعنيان معا في الفلسفة الماركسية، التي يرجع إليها إذاعة شهرة لفظ الأيديولوجية؛ فترى ماركس يتحدث عن الأيديولوجية على أنها تمثل مواقف الناس كما لو كانت في صورة مقلوبة، ويضع الأيديولوجية مقابل التفكير العلمي الأصيل، وينظر إلى مذهبه ذاته على أنه تجاوز للأيديولوجية وكشف لخداعها، وبهذا المعنى يتحدث عن «الأيديولوجية الألمانية» بوصفها مذهبا فكريا لفلاسفة خضعوا لمؤثرات لم يشعروا بها، على حين أن فلسفته هو لم تكن في نظره «أيديولوجية» على الإطلاق. ومع ذلك فقد تطور اللفظ إلى حد أن أي تفكير أصبح يمكن أن يعد أيديولوجيا، بمعنى أنه لا بد أن يعكس ظروف طبقة معينة. وهكذا اختفى التقابل القديم بين الأيديولوجية وبين التفكير العلمي، وأصبحنا نجد مفكرا ماركسيا مثل «جورج بوليتزر» يصف الأيديولوجية بأنها «مجموعة من الأفكار تكون كلا أو نظرية أو مذهبا أو حالة ذهنية فقط في بعض الأحيان»، ويعترف بأن المذهب الماركسي ذاته له أيديولوجيته التي تعكس تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة في الطبقة العاملة.
2
وإذن، فلفظ الأيديولوجية ينطوي على معان معقدة لا يمكن أن يعبر عنها لفظ «العقائدية» بأية حال. وإذا كان هذا الأخير يمكن - تجاوزا - أن يعد تعبيرا عن الناحية التي يعد فيها اللفظ دالا على مجموعة من الأفكار والمواقف الأساسية للإنسان، فإنه لا يمكن أن يعد معبرا عن الوجه الآخر الذي يعد فيه اللفظ دالا على «انعكاس» لأوضاع وظروف تؤثر في الفكر الظاهري وتكون أهم وأسبق منه. وهكذا يستحق اللفظ في رأينا أن يدخل على اللغة العربية بصورته الأجنبية دون تغيير.
ومثل هذا يقال عن لفظ «الترنسندنتالي» الذي أذاعته ونشرته في الأوساط الفلسفية كتابات «كانت». وأنا أول من يدرك أن اللفظ بصورته الأجنبية المعربة هذه ثقيل على اللسان والأذن، ولكن مثل هذا الحل يبدو أمرا لا مفر منه؛ فليس للفظ علاقة بالعلو أو «التعالي»، التي يدل عليها اشتقاقه في اللغات الأجنبية، بل هو، كما يردد «كانت» في كتاباته دائما، ولا سيما في «المدخل إلى كل ميتافيزيقا مقبلة»، على عكس العلو والتعالي تماما؛ لأنه تعبير عن الشروط «الكامنة» في المعرفة بحيث تجعلها ممكنة. وقد كنت أوثر ترجمة مثل «الممكن» أو «التمكيني»، ولكن هذه الألفاظ ما زالت عاجزة عن التعبير عن كل المعاني المعقدة التي استخدم بها «كانت» هذا اللفظ. وهكذا فأنا أعترف بأن استخدام لفظ «الترنسندنتالي» هنا هو، إلى حد بعيد، حل مبعثه العجز عن الإتيان بما هو أحسن.
أما عن الترجمة نفسها، فقد يجد القارئ اختلافا طفيفا بين بعض الترجمات وبين النص الإنجليزي الأصلي، ولا سيما في النصوص التي يكون أصلها غير إنجليزي؛ وسبب هذا الاختلاف هو إيثاري الرجوع إلى الأصل في هذه الحالات.
Unknown page
بقيت أخيرا كلمة عن مؤلف الكتاب أو ناشره، هنري ديفد أيكن. وقد ولد أيكن عام 1912م، وتلقى دراساته بالجامعات الأمريكية، ولا سيما جامعة هارفارد، ثم تولى التدريس فيها أيضا. ومؤلفاته المنشورة في صورة كتب قليلة العدد، منها، إلى جانب هذا الكتاب، نشرة لكتاب «الفلسفة الأخلاقية والسياسية» لديفيد هيوم
Moral and Political
، كما أصدرت له دار «نوبف
A. Knopf » للنشر بنيويورك منذ أشهر قليلة كتاب «العقل والسلوك
Reason and Conduct ».
أما الكتاب الذي نترجمه ها هنا فقد أصدرته أولا دار
Houghton Mifflin
بأمريكا سنة 1956م، ثم دار
Braziller
في سنة 1957م، وبعد نفاد هاتين الطبعتين، صدرت له طبعتان شعبيتان، في دار
Unknown page
Mentor
للطباعة الشعبية. والكتاب هو المجلد الخامس في سلسلة من ست مجلدات بعنوان «العصور الكبرى للفلسفة الغربية
Great Ages of Western
».
نيويورك في يناير 1962م
فؤاد زكريا
مقدمة
إن التفكير الفلسفي في أي عصر هو دائما أشد تنوعا وتعقيدا مما يبدو لأول وهلة. ومع ذلك فإن القرن التاسع عشر يفوق بمراحل عديدة القرنين السابع عشر والثامن عشر - مع احترامنا الكامل لسلفيه العظيمين هذين - وذلك على الأقل من حيث تعدد أفكاره الفلسفية وتنوعها وتعقيدها. ولذا كان من الصعب إلى حد بعيد أن يهتدي المرء إلى قضية أو مسألة أساسية تدور حولها آراء معظم كبار مفكري تلك الفترة، بل إن مجرد الجمع بين أسماء ضخمة مثل هيجل ونيتشه، وماركس ومل، وكونت وكيركجورد، ليبعث في الذهن على التو فروقا لا نظير لها، لا في المزاج والأسلوب الفلسفي فحسب، بل في المؤثرات السابقة والمنهج أيضا. ففي القرن التاسع عشر تزدهر مملكات فلسفية كاملة، ثم تدول، خلال بضع سنوات قصيرة، وسرعان ما يتحول المصطلح الفني لدى إحدى المدارس إلى هراء في نظر المدرسة التالية. وباقتراب نهاية ذلك القرن، يتزايد تداخل الحدود الفاصلة واختلاطها، حتى لتكاد التصنيفات المفيدة الصادقة للفلاسفة تغدو مستحيلة. ومع ذلك فقد تبين لي، رغم هذا كله، أنه توجد من وراء معظم المشاهد المحيرة التي تعرض لمن يؤرخ فلسفة القرن التاسع عشر ويقتطف منها نصوصا مختارة، مجموعة رئيسية من المشاكل يرجع إليها القدر الأكبر من غرابة هذه الفلسفة وصعوبتها؛ فمنذ «كانت» طرأ تعديل أساسي عميق على نفس مفهوم التفلسف كما كان يسود منذ وقت أرسطو، مما استتبع تغييرا هائلا حتى في معاني ألفاظ أساسية في مصطلح الفلسفة التقليدية مثل «الميتافيزيقا» و«المنطق». وتبين حينئذ أن هناك مشاكل لم يشك أحد في قيمتها أو دلالتها طوال ألفي عام، قد أصبحت تعد خلوا من المعنى، واستعيض عنها بمسائل أخرى لم تخطر من قبل على بال أحد. وإلى هذه الحقيقة يرتد مباشرة كثير من الغموض الذي يكتنف الكتابات الفلسفية في القرن التاسع عشر.
ولا جدال في أن هذا قد زاد من عمق فلاسفة القرن التاسع عشر وأصالتهم، غير أنه لم يزدهم وضوحا، ولم يجعل كتاباتهم أسهل قراءة.
ولقد كان ضيق المكان عاملا آخر على تعقيد عملية اختيار فلاسفة معينين لتقديمهم في هذا الكتاب؛ فقد تبين لي منذ البداية أن من المستحيل أن أدرج هنا كل فيلسوف ذي أهمية رئيسية خلال هذه الفترة، إذا شئت ألا يغدو هذا الكتاب مجرد ثبت لا معنى له بالأسماء والاتجاهات الاقتباسات. وكان اختياري النهائي مبنيا على عوامل ثلاثة؛ هي الأصالة والتأثير التاريخي، والأهمية المعاصرة. وحتى مع تقيدي بهذه العوامل، فقد تعين علي أن أحذف فلاسفة عديدين تكاد تنطبق عليهم كل هذه الشروط التي وضعتها لإدراج الفيلسوف في الكتاب، مثل شلنج،
Unknown page
1
وبنتام
2
وف. ه. برادلي.
3
ومع ذلك، فلو كنت قد أدرجتهم، لاضطررت إلى حذف فيلسوف آخر كان حذفه في نظري، لسبب ما، أمرا لا يعقل. ومع ذلك فإني أسارع إلى تنبيه القارئ إلى أن القرن التاسع عشر فترة في تاريخ الفلسفة بلغت من الخصوبة حدا يجعل ما قدم منها في هذه الصفحات مجرد لمحات سريعة فحسب.
ولقد كتب «عصر الأيديولوجية» هذا للقارئ المفكر الذي قد لا يهتم بمناقشات الشراح العلمية المعقدة، وإنما يلتمس شيئا قد يكون ذا صلة بمشاكله العقلية والروحية الخاصة، أو يلقي بعض الضوء على الخلافات الأيديولوجية التي ورثها عصرنا من القرن السابق عليه. وهكذا حاولت أن أضع هاتين الحاجتين المشروعتين نصب عيني دائما، دون أن أشوه آراء الفلاسفة الذين عرضت لهم ها هنا. وبالاختصار، فقد هدفت إلى أن أكتب لأولئك الذين يعتقدون أن التفكير الفلسفي ليس ترفا محفوفا بالخطر، وإنما هو عنصر لا غنى عنه يعيننا على السلوك في الحياة. ويؤمنون مثلي، في الوقت ذاته، بأن من المستحيل التمسك بقول سقراط «اعرف نفسك!» إن لم يكن المرء يعرف شيئا على الإطلاق. ولو أتاح هذا الكتاب لقارئ أن يهتدي في تفكير فيلسوف مثل كانت أو مل أو نيتشه إلى مفتاح معين لحل مشاكل عميقة خاصة به، أو شجعه على الاستزادة من قراءة هؤلاء المفكرين الكبار، لكنت بذلك قد حققت كل ما أرمي إليه من هذا الكتاب.
وقد يتساءل القارئ عن السبب الذي دعاني إلى ألا أختار في كتاب له مثل هذا الاتجاه نصوصا ذات طابع أيديولوجي أوضح وأصرح. فلماذا مثلا، اخترت بحث مل في «الطبيعة»، بدلا من كتابه عن «الحرية
Liberty »، أو «مذهب المنفعة
Utilitarianism »؟ ولماذا اخترت بحث ماركس «قضايا عن فويرباخ» بدلا من «البيان الشيوعي
Unknown page
The Communist Manifesto »؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ترتد إلى أساس نظرتي إلى القرن التاسع عشر من حيث هو عصر للأيديولوجية، فليس ثمة شك في المدلول الأيديولوجي المؤكد لكتابات مثل «الحرية»، أو «البيان الشيوعي»؛ فهي كتابات ترمز إلى صراع أيديولوجي ضخم بلغ قمته في عصرنا هذا. ولكن الأمر الذي قد لا تدركه الأذهان بنفس هذا القدر من الوضوح، هو أن المذاهب الأعمق أسسا لدى فلاسفة القرن التاسع عشر تحمل بدورها طابعا أيديولوجيا بالمعنى العام؛ فمن المفارقات العجيبة أن إيمانويل كانت، الذي ظن أنه سدد إلى الميتافيزيقا النظرية ضربة الموت، قد استهل حركة إحياء ميتافيزيقي ضخم في المثالية المطلقة لدى فشته وهيجل. ومع ذلك فقد كانت الميتافيزيقا لديهما، كما سنرى فيما بعد، من نوع لم يكن يحلم به الفلاسفة السابقون. على أن الفارق بين ميتافيزيقا فيلسوف مثل فشته وميتافيزيقا فيلسوف مثل ديكارت أو ليبنتس، ليس فارقا نظريا، وإنما هو فارق يتعلق بدلالة المواقف الميتافيزيقية ومعناها ذاته. وهو أساسا فارق بين نوع من البحث يلتمس معرفة نظرية لأشمل سمات الوجود، ونوع آخر يسعى إلى إثبات الالتزامات الأساسية التي ينطوي عليها كون المرء إنسانا أو كونه شخصا، أو عاقلا، أو متمدينا. فقد نظر ديكارت، وأرسطو من قبله، إلى الميتافيزيقيا على أنها استمرار للأبحاث في العلوم الخاصة، ولا تختلف عن هذه الأبحاث إلا في النطاق والأولوية. أما عند فشته، فإن هدفها ومنهجها عمليان، لا نظريان، في المحل الأول؛ فهي لا تأتي بأوصاف للأمور الواقعة، وإنما ب «أوضاع أو تأكيدات
» أو التزامات أساسية للسلوك في الحياة.
وعلى ذلك فالرأي الذي أدافع عنه لا يقتصر على القول بأن أبرز سمات مذاهب فلاسفة القرن التاسع عشر وأقواها أثرا كانت ذات طابع أيديولوجي في الأساس، بل إني لأذهب في رأيي هذا أيضا إلى القول بأن الفلاسفة قد ازدادوا منذ عهد «كانت» إدراكا لطبيعة الهدف الأساسي للنقد الفلسفي، من حيث هو لا ينتمي إلى «العلم»، بأي معنى معتاد للكلمة، وإنما إلى شيء لا تنطبق عليه إلا كلمة «الأيديولوجية».
أما من حيث ما قدمته من شروح على كل فيلسوف بعينه، فإن ديني عظيم لعشرات من الباحثين، وهو في الحق أكبر من أن أعترف هنا بتفاصيله، فلهم جميعا الشكر على ما اقتبست منهم عن وعي ومن غير وعي. ومع ذلك فبودي أن أعبر عن امتنان خاص لعدة أشخاص؛ أولهم زوجتي «ليليان ودورث أيكن»، التي أبدت حكمة ومساعدة جمة في قراءة كل المسودات المتعاقبة لهذا الكتاب. كما أن صديقي وزميلي «بول زيف» قد قرأ أجزاء كبيرة وناقشني بالتفصيل في عدة فلاسفة ممن كتبت عنهم، فله مني ثناء حار على تشجيعه لي. ويسرني أن أعرب لزميلين آخرين هما «مورتون وايت» و«و. ف. كواين» عن شكري للصحبة العقلية والولاء اللذين أعاناني طوال سنوات عديدة كنت خلالها أتحسس طريقي نحو آفاق فلسفية لا أظن أنها تختلف كثيرا عن آفاقهما. ولقد اعتمدت على «الوعي التاريخي» لدى الأول - وهو أعمق كثيرا مما لدي من هذا الوعي - اعتمادا أعظم مما يعلم. على أن ديني الأعظم إنما هو إلى «رالف بارتون بيري»، الذي أهدي إليه هذا الكتاب بمودة واحترام، والذي استمددت منه أهم ما لدي من معايير التفوق خلال السنوات التي انقضت منذ أول أيام دراساتي العليا بجامعة هارفارد.
لكسنتن
ماساتشوستس. هنري ديفد أيكن
الفصل الأول
الفلسفة والأيديولوجية
في القرن التاسع عشر
تتميز فترة الفلسفة الحديثة الواقعة بين إمانويل كانت وبين إرنست ماخ بأنها فترة مرت فيها الميتافيزيقا - التي كان ديفيد هيوم قد أجهز عليها منذ عهد قريب، وكانت قد أعلن موتها رسميا - بعهد إحياء معجز عادت فيه إلى الظهور في المثالية المطلقة لدى فشته وهيجل، وعاشت حياة جديدة قوية في المذهب الطبيعي التطوري عند هربرت سبنسر، ووجدت، كما يرى البعض، دارها الباقية في المادية الديالكتية عند كارل ماركس. كذلك كان عصر الأيديولوجية فترة بلغت فيها فلسفة التاريخ - وهي أشد المباحث الميتافيزيقية بريقا - أقصى مراحل الازدهار، وأتت معها بمجموعة كاملة من النظريات الطامحة المتعلقة بطبيعة المسار التاريخي ومصير الإنسان. وهكذا يبدو لأول وهلة أن القرن التاسع عشر، على خلاف القرن السابق عليه، كان عصر تأملات غير ناقدة، بل جامحة، في الطبيعة النهائية للعالم الحقيقي، أكثر مما كان عصر نزعة نقدية اجتماعية وسياسية، سلمت بالمبدأ القائل إن الموضوع الصحيح لدراسة الفلسفة، إن لم يكن لدراسة الجنس البشري ذاته، هو الإنسان.
Unknown page
ومع ذلك، فحتى لو قبل هذا الوصف على علاته، فما زال من الممكن الدفاع عن الرأي القائل بأن القرن التاسع عشر كان عصرا أيديولوجيا؛ فلفظ الأيديولوجية، يعني، في أحد معانيه المتعددة، «التأمل النظري أو الفكري المجرد». غير أن مثل هذا الوصف لفلسفة القرن التاسع عشر بأسرها وصف غير كامل؛ فهو يغفل ذلك الاتجاه والاندفاع الأساسي للتفكير الفلسفي في القرن التاسع عشر، حتى في إطاره الميتافيزيقي ذاته. ولو رجعنا إلى قاموس «وبستر
Webster »، لوجدنا معاني أخرى للفظ «الأيديولوجية» لها ارتباط أوثق بتلك المعاني التي أقصدها حين أطلق على هذه الفترة اسم «عصر الأيديولوجية»؛ ففي أحد هذه المعاني يشير اللفظ إلى «نسق من الأفكار بشأن الظواهر، ولا سيما ظواهر الحياة الاجتماعية؛ طريقة التفكير المميزة لطبقة أو فرد.» غير أن هذا التعريف يغدو أكثر غموضا كلما أمعن المرء التفكير فيه؛ ذلك لأن الجزء الأول فيه يوحي بنظرية عن الظواهر، ولا سيما الاجتماعية منها، في حين أن الجزء الثاني لا يوحي بنظرية، وإنما بطريقة في التفكير أو نسق من المواقف. فالأول يبعث في الذهن قضايا موضوعية تصف شيئا موجودا في العالم، والثاني لا يوحي بقضايا يجوز فيها الصواب أو الخطأ، وإنما بشيء أكثر ذاتية، يعبر عن الطريقة التي ينظر بها فرد أو جماعة إلى عالم الواقع. هذا الغموض أو ازدواج المعنى، هو في رأيي كامن في الاستخدام المألوف لكلمة «الأيديولوجية»، وهو أيضا ازدواج يكمن في صميم التفلسف المميز للفترة التي نتناولها ها هنا بالبحث؛ ذلك لأن نظرة معظم فلاسفة القرن التاسع عشر إلى أية قضية ذات صورة فكرية على أنها شيء يتصور، ويوضع (أو يؤكد)، ويرغب فيه، ويتاق إليه، هي ذاتها التي تجعل من العسير علينا أن نعرف متى يتحدثون عن طريقة التفكير ومتى يتحدثون عن موضوعه. وهم كثيرا ما يتحدثون عن الأمرين معا، أو على الأصح، عن علاقة بينهما يعدونها أساسية لهما معا. أما السبب في تحدثهم على هذا النحو، فإنه يؤلف جزءا كبيرا من مشكلتنا في هذا الكتاب. وعلى أية حال فسواء أكانت هذه الفكرة صحيحة أم باطلة، فإنها تمثل خروجا على طبيعة التفلسف النظري السابق، وهي تؤدي آخر الأمر إلى نظرة جديدة تماما إلى عملية التفلسف ذاتها.
ولقد كان الفلاسفة في الفترة السابقة على القرن التاسع عشر يهتمون كثيرا بمشكلة المنهج، ولكنهم في عمومهم لم يشكوا كثيرا في وجود حقيقة مستقلة موضوعية يمكن فهمها على نحو ما .
1
كما أنهم لم يرتابوا في وجود طريقة موضوعية للتفكير في الواقع، مشتركة بين كل الحيوانات العاقلة، ولا تؤدي إلى تغيير أو تشويه أساسي للشيء المعروف. فهم في واقع الأمر لم يتعمقوا كثيرا مفهوم الموضوعية ذاته، بل اقتصروا على استخدامه للتعبير عن إيمان شبه شعوري بقدرة الملكة العاقلة على بلوغ موضوعها، وعن التطابق بين الشيء في ذاته والشيء كما يعرف. وقد نظروا إلى ما أسموه ب «العقل
reason »، على أنه الملكة العاقلة التي تدرك بها قوانين الطبيعة، وعلى أنه في الآن نفسه مبدأ النظام أو القانونية اللذين تدركهما الملكة العاقلة في الطبيعة. وهكذا نظر إلى العلاقة بين تفكير الإنسان في الواقع وبين الواقع ذاته على أنها علاقة «تطابق»، شفاف، وعدت أيضا علاقة خارجية صرفا، لا تؤثر بحال في الخصائص الكامنة في الشيء المعروف.
2
أما الانسجام المقدر بين الذهن العارف والموضوع الحقيقي للمعرفة فهو، تبعا لهذا الرأي، معجزة إلهية لا يملك الإنسان إلا أن يعرب عن امتنانه لها.
أما منذ وقت كانت، فقد أصبح افتراض وجود تطابق مقدر بين الذهن وموضوعه، يعد افتراضا دجماطيقيا (توكيديا) غير ناقد.
فإذا كان العقل الكامن في الأشياء هو ذاته العقل الذي نعترف بأنه معيار التفكير السليم في أي موضوع، فما ذلك إلا لأنا نحن أنفسنا قد حددنا مقدما الشروط التي ينبغي أن تتوافر في أي موضوع حتى نعده «حقيقيا
Unknown page
real ». وبالاختصار، فالذات المفكرة هي ذاتها التي تضع معايير الموضوعية. وإذا لم يكن العالم هو «فكرتي»، على حد تعبير شوبنهور المضلل، فإنه على أية حال لا يكون حقيقيا في نظرنا إلا بقدر ما يتمشى مع فهمنا الخاص للشروط الواجب توافرها في أي شيء حقيقي.
وهكذا فإن أية صورة فلسفية للواقع تفترض مقدما طريقة للتفكير فيه، وقاعدة أو مبدأ لتنظيم التصورات، ينبغي أن يسلم بها صانعها تسليما. وبهذا يكون من المحال حذف عنصر الذاتية، مهما دق تخفيه، حذفا تاما من أي مذهب فلسفي؛ فكل مذهب فلسفي يفترض، بطريقة شعورية أو بغيرها، بعض الالتزامات أو «المواقف» النهائية الأخرى. وهذه الالتزامات أو المواقف من صنع الحيوان العاقل ذاته، يضعها حتى يعيش ويؤدي عمله، دون أن يكون ثمة جهة يحتكم إليها في حالة الاعتراض على صحتها من بعد تصميمه هو على الالتزام بها.
3
ومع ذلك فقد عدلت هذه الذاتية العميقة تدريجيا بفعل عامل آخر كان أقوى سيطرة على تفكير معظم الفلاسفة في العصر الأيديولوجي؛ ذلك هو ما يسمى ب «الوعي التاريخي». ولقد كان هيجل هو الفيلسوف الذي ساهم بأكبر نصيب في دعم هذه الطريقة في التفكير. ومنذ وقت هيجل، أصبح الاتجاه المفضل هو النظر إلى الطبيعة البشرية في عمومها، بل إلى العقل ذاته، على أنهما متطوران خلال التاريخ، وبالتالي على أنهما يتأثران على الدوام بتغير ظروف الفرد والحياة الاجتماعية. وهذا ينطوي، أو يبدو منطويا، على القول بأن العقل ليس مبدأ شاملا ثابتا للفهم البشري والطبيعي، وإنما صورة للفكر متطورة تاريخيا، تخضع معايير الصحة فيها للتغير وفقا لتغير مقتضيات الحياة البشرية وظروفها.
ويتضمن قاموس «وبستر» معنى ثالثا للفظ «الأيديولوجية» هو بدوره مرتبط بموضوعنا؛ ففي هذا المعنى - وهو المعنى الأصلي - يشير اللفظ إلى «علم الأفكار؛ أي دراسة أصل الأفكار وطبيعتها، ولا سيما في مذهب كوندياك
Condillac ، الذي استمد جميع الأفكار من الإحساس وحده».
غير أن دلالة هذه الإشارة التاريخية ليست واضحة، ولزام علينا أن نأتي بتفسير لها، نظرا إلى أهميتها الأساسية بالنسبة إلى المشكلة التي يتعرض لها هذا الكتاب. فقد كان أول من صاغ لفظ «الأيديولوجية» فيلسوف فرنسي أصبح الآن منسيا، اسمه «ديتوت دي تراسي
Destutt de Tracy » (1754-1836م).
4
وقد استخدمها دي تراسي للإشارة إلى التحليل التجريبي المجدد للذهن البشري، وهو التحليل الذي صاغه في أكثر صوره اتساقا الفيلسوف «كوندياك» في القرن الثامن عشر، والذي يرجع آخر الأمر إلى «طريق الأفكار الجديد
Unknown page
The new way of ideas »، الذي وضعه لأول مرة جون لوك في كتابه «بحث في الفهم البشري
Essay Concerning the Human Understanding ». وقد تبنى زعماء الثورة الفرنسية هذا التحليل، الذي جعل من الإحساس مصدرا لكل الأفكار، على أساس أنه سلاح لا غنى عنه في محاربة العقائد السياسية والدينية المتسلطة التي استغلها النظام القديم في الاحتفاظ بقبضته. بل إن حكومة الثورة قد اعترفت بهذا التحليل بوصفه الفلسفة الوحيدة، وكان الفلاسفة الوحيدون المعترف بهم أثناء عهدها هم «الأيديولوجيون
les idéologues » كما أصبحوا يسمون فيما بعد.
ومنذ ذلك الحين فقدت كلمة «الأيديولوجية» هذا المعنى المحدود، ولكن ارتباطها بالمذاهب المستمدة من اعتبارات سياسية، والمؤيدة رسميا، ظلت باقية. ومع ذلك فقد طرأ تحول آخر على هذا المعنى للفظ خلال عهد نابليون، عندما أصبحت «الأيديولوجية» تكاد تعني أي رأي ذي طابع جمهوري أو ثوري؛ أعني أي رأي مضاد لنابليون ذاته. على أن هذه الارتباطات شبه المجازية لم تختف تماما قط من استعمالات هذا اللفظ، بل لقد ظلت طوال القرن التاسع عشر تكتسب قوة جديدة، ويتسع نطاقها، ولا سيما في كتابات كارل ماركس وزميله فريدرش إنجلز؛ ففي كتابهما المشترك «الأيديولوجية الألمانية»، ظل معنى اللفظ مرتبطا ارتباطا وثيقا بالفلسفة، ولا سيما تلك الفلسفات التي كانت في نظرهما معادية لفلسفتهما الثورية الخاصة في التاريخ. وهكذا استخدما اللفظ، ليس فقط للدلالة على التراث «البرجوازي» للمثالية الألمانية التي يمثلها هيجل وأتباعه، بل أيضا للإشارة إلى الصور «الآلية» السابقة للمذهب المادي، وهي الصور التي تعجز في رأيهما عن تفسير طبيعة التطور التاريخي.
وهناك عدة سمات في مفهوم الأيديولوجية عند ماركس وإنجلز، تقتضي هنا بعض البحث؛ فمن الملاحظ أولا أن ما أطلقا عليه اسم «الأيديولوجية» لا يشمل نظرية المعرفة والسياسة فحسب، بل يشمل أيضا الميتافيزيقا والأخلاق والدين، وأية «صورة للوعي» تعبر عن المواقف أو الالتزامات الأساسية لطبقة اجتماعية. كذلك يتضمن كتاب «الأيديولوجية الألمانية» عددا من الفقرات الطريفة التي يبدو فيها أن ماركس وإنجلز يحاولان إيجاد نوع من التمييز بين المكونات «الأيديولوجية» للوعي وبين ما يطلقان عليه تارة اسم «المعرفة الحقيقية»، وتارة اسم «العلم الوضعي الحقيقي». وهما لا يقدمان أبدا إيضاحا تاما لمعنى هذا التمييز، ولكنه يوحي على أية حال بأن الأيديولوجيات، أو «الأسباب» التي تدعو إلى قبولها، غير عقلية. كذلك يثير هذا التمييز مسألة صعبة تتعلق بمركز المادية الديالكتيكية ذاتها، التي تصورها ماركس على أنها ليست أيديولوجية الطبقات العاملة الثورية فحسب، بل على أنها أيضا فلسفة «علمية» يمكن وصفها، دون تردد، بأنها «صحيحة».
ولم يقم ماركس وإنجلز أو أحد من أتباعهما مطلقا بتحديد دقيق للصلات بين الأيديولوجية وبين العلم والمعرفة. ومع ذلك فإن القول بوجود ارتباطات لا معقولة تتعلق بالمصالح الاجتماعية أو السياسية البعيدة، وهي الارتباطات التي ما زالت تلحق المذاهب «الأيديولوجية» في كثير من الأحيان، يرجع الكثير من جذوره إلى النظرية الماركسية القائلة إن العناصر الأيديولوجية وبالتالي الفلسفية، في الوعي، تنتمي إلى «التركيب الظاهر»
superstructure
5
للحضارة.
وتبعا لهذا الرأي تكون هذه المذاهب، رغم مظاهرها الخارجية، مفتقرة إلى المضمون العقلي أو «المعرفي» المستقل، وليس لها مسار تاريخي قائم بذاته.
Unknown page
ولقد كان كلام ماركس وإنجلز عن وجود معنى مضلل ودلالة «حقيقية» باطنة للمذاهب الأيديولوجية أقوى أثرا أو أعمق تغلغلا في تفكير القرن العشرين مما يعترف به عادة؛ ففي رأيهما أن علاقات الناس وأفكارهم عندما تصاغ في قوالب أيديولوجية، تظهر الصورة المقلوبة؛ أي إن الأيديولوجية والفلسفة تتجهان إلى عرض الأفكار ذاتها كأنها قوى متحكمة قادرة على توجيه وتحديد العلاقات السياسية والاقتصادية بين الناس. وإلى هذا الميل إلى أن نصبغ بصبغة موضوعية ونشخص ما هو في حقيقته مجرد ناتج ثانوي ذاتي للصراع الاقتصادي الطبقي، ترجع سيطرة الأفكار الخالصة على من يؤمنون بها، ويعتقدون أن في إمكانها إحداث فارق ملحوظ في حياتهم. وهذا كله باطل؛ فالصورة التي تعرض بها القضايا الأيديولوجية تخفي مضمونها الحقيقي، وهي في واقع الأمر لا تعدو أن تكون مظهرا للتضليل اللغوي اللازم للدعوة إلى أية «نظرية» أيديولوجية. والواقع أن الأيديولوجيات في نظر ماركس إنما هي «انعكاسات» أو «أصداء» لقوى أخرى متحكمة تقوم هي ذاتها بالمهمة الأساسية في إحداث أي تغيير اجتماعي حقيقي. ويطلق ماركس على هذه العلل التنفيذية أو الفاعلة للتغير الاجتماعي اسم العلل «المادية»، وذلك إيضاحا للتقابل بينها وبين نواتجها العرضية الأيديولوجية.
وليس هذا موضع القيام بتحليل أو تقدير شامل لأقوال ماركس وإنجلز التي لم تكن متسقة دائما، بشأن الصلات بين «التركيب الظاهر» الأيديولوجي وأساسه الاقتصادي المادي. غير أن هذه النظرية توحي ضمنا على الدوام بأن المذاهب الأيديولوجية أساطير اجتماعية أو «مخدرات» للشعوب، وبأن «أسباب» قبولها لا صلة لها، في أساسها، باعتبارات البداهة أو الواقع. وما زالت هذه الفكرة المتضمنة في النظرية مرتبطة بمفهوم الأيديولوجية حتى يومنا هذا.
وأود في هذا الكتاب أن أستخدم بعض، لا كل، المعاني والارتباطات التاريخية المعقدة للفظ «الأيديولوجية». والرأي الذي أود أن أقدمه ها هنا هو أن الفلسفة لم تعد تتصور، خلال الجزء الأكبر من القرن التاسع عشر، على أنها امتداد للعلم ذاته أو جزء منه. وهذا، كما سنرى، يصدق حتى على أشد الفلاسفة تعلقا بالعلم، مثل أوجيست كونت. غير أني لا أستخدم لفظ الأيديولوجية بمعنى مجازي لكي أوحي بأن هيجل أو كونت أو حتى ماركس ذاته قد استخدموا فلسفاتهم - بشيء من المخادعة - ذريعة لتحقيق أهدافهم السياسية أو الاجتماعية الخفية؛ فلا المثالية، ولا الوضعية، ولا المادية، يمكن أن تفهم أو تقدر بما فيه الكفاية إذا ما عدت مجرد أساطير أو مخدرات اجتماعية. كذلك لا أود أن أوحي بأن جميع المذاهب الفلسفية لدى الفلاسفة الذين سنعرض لهم هي مذاهب «لا عقلية»، بل إن استخدامي للفظ «الأيديولوجية» محايد تماما في هذه النواحي. ولا جدال في أن الالتزامات الأيديولوجية لفلاسفة القرن التاسع عشر يمكن أن توضع مقابل المعتقدات الواقعية المنتمية إلى النوع الذي يؤمن به الناس العاديون أو رجال العلم من حيث هم علماء، غير أن هذا لا ينطوي على أقل اعتقاد بأن هذه الالتزامات لا عقلية، أو بأنها تقترح أو تقبل بلا سبب. ومن الأمثلة الواضحة لذلك هيجل؛ فهو لم يفترض لحظة واحدة أن فلسفة التاريخ لديه تنتمي إلى مجال العلم الوضعي، ولكنه صاغ هذه الفلسفة على نحو نقدي واع بذاته إلى حد بعيد، وهو يقدم ما يطلق عليه «مل» اسم «خواطر للتأثير في الذهن»، وهي في رأيه كفيلة بأن تجعل هذه الفلسفة معقولة، وربما مقبولة لدى أي شخص نزيه. وفضلا عن ذلك، فحتى لو كان صحيحا أن صفة «الأيديولوجية» تنسب إلى معظم القضايا الفلسفية لفلاسفة القرن التاسع عشر، بحيث تضعها مقابل نظريات العلم التجريبي، فهذا لا يعني بأية حال أنه لا توجد بين هذه الفلسفات وبين العلم التجريبي أية علاقات سوى علاقة التضاد أو التقابل.
وهذا يفضي بنا إلى بحث لا بد منه في أي تقدير سليم لفلاسفة القرن التاسع عشر؛ فكتاباتهم عادة معقدة، وكثيرا ما تكون غامضة، وذلك على عكس أسلافهم في القرن الثامن عشر. غير أن من الأسباب الرئيسية لذلك أنهم اضطلعوا بمهمة لم يكن لدى هؤلاء الأخيرين أبسط فكرة عنها. ومن المسلم به أن السهولة والسلاسة أمر يسير، طالما أن المرء يقنع بأن يستخدم، دون تساؤل، تلك التصورات والمناهج المتوارثة التي فرضت عليه «معقوليتها»، «وصحتها»، مقدما. ولكن إذا ما بدأ المرء في الشك في ضرورتها الأزلية الشاملة، وبالتالي في الشك في وجود معايير ومبادئ موضوعية في «طبيعة الأشياء»، فإن عمل التحليل والنقد الفلسفي يبدأ عندئذ في الظهور في ضوء مخالف. ففي «عصر العقل»،
6
ظلت الإهابة بالعقل أو بالطبيعة لا تلقى انتقادا، لا لشيء إلا لأن معظم الفلاسفة كانوا يشاركون في نفس الإيمان بالعقل، وقبلوا معظم ما تتضمنه نفس مجموعة المبادئ «العقلية». ولكن مثل هذه الإهابة لم تعد ممكنة بالنسبة إلى كانت وخلفائه. ولهذا السبب اضطروا إلى الاضطلاع بتلك المهمة التي هي أعجب وأغرب المهام الفلسفية، ألا وهي نقد العقل ذاته وتبريره؛ فهؤلاء الفلاسفة لم يكونوا شكاكا بأي معنى معتاد للكلمة، وإنما كان شكهم محدودا، وموجها في المحل الأول إلى المفاهيم السائدة للعقل، وإلى الادعاءات الفلسفية التي كانت تساق بلا حساب باسم العقل.
كما أنه ليس من الإنصاف أن يستخف المرء بهم بحجة أنهم ليسوا إلا رومانتيكيين لا عقليين؛ فهم لم يثوروا إلا على عصر العقل وعلى ما يمكن أن يسمى بالحساسية الزائدة للعقل في الفلسفات العقلية السابقة. والذي حدث هو أن مفهوم العقل لم يعد تلك الفكرة الواضحة المتميزة التي بدت لديكارت أو اسبينوزا، ولم تعد قوانينه المزعومة تتسم بما ادعي لها من وضوح ذاتي. ومع ذلك فإن هذه الشكوك لم تكن إلا إحدى مراحل اتجاه عام متزايد القوة إلى النقد الذاتي، كانت تمر به الحضارة الغربية بأسرها. ففي ذلك العصر، امتدت إلى قلب الفلسفة ذاتها تلك الثورات السياسية والاجتماعية والعلمية التي كانت مستمرة منذ عصر النهضة، مما أدى آخر الأمر إلى التشكك في أداة التفكير الفلسفي ذاتها؛ أي العقل. وهكذا تساءل المفكرون: أفلا يجوز أن يكون العقل، ذلك المحرر المزعوم للفكر البشري، مجرد مستودع للأوهام البالية والعادات الذهنية العتيقة التي لا تتسم بأي قدر من الصحة الشاملة؟ فإذا صح ذلك، فماذا إذن تكون «الصحة
Validity » ذاتها؟ وكيف تحدد معاييرها، أو تعدل إذا اقتضى الأمر؟ بل كيف يكون نقد العقل ذاته ممكنا؟ أليس هناك نوع أساسي من الامتناع في نفس محاولة نقد وشروط وحدود كل قول معقول، تقويم مهمة العقل العملي ذاتها؟
ولم تكن الإجابات التي أدلى بها كانت وخلفاؤه على هذه الأسئلة تتسم بما يوده المرء من الوضوح. غير أن من أسباب إخفاقهم في هذه المهمة، بالقياس إلى غيرهم، أنهم اضطروا إلى إثارة مسائل لم تثر من قبل، بل لقد خلقوا، من العدم تقريبا، إطارا من التصورات ومنهجا لمناقشتها. وترتب على ذلك أنهم ارتكبوا أخطاء، وكثيرا ما ضللوا قراءهم، بل أنفسهم، باللغة الجديدة الغريبة التي استخدموها في محاولة حل مشاكلهم. وبدا أحيانا أنهم يمارسون نشاطا فلسفيا يشبه ما أطلق عليه الفلاسفة السابقون اسم «الميتافيزيقا» أو «علم المعرفة». ولكن الواقع أن المرء عندما يتأمل ما وراء شكل الألفاظ، يجد أن هدفهم كان في حقيقة الأمر القيام بنقد أساسي، لا للعقل فحسب، بل لكل نظام المعايير والمبادئ في الفلسفة الغربية. وهذه المهمة لم تتحقق، ولم يكن من الممكن أن تتحقق، من طريق مجرد استخدام مناهج «عقلية» كانت هي المستخدمة تقليديا في النظر الفلسفي؛ إذ إن هذه المناهج ذاتها كانت تؤلف جزءا أساسيا من الحضارة التي أصبحت معاييرها موضوعا للشك والتساؤل.
ومع ذلك فمن الخطأ أن نتصور أن فلاسفة القرن التاسع عشر كانوا «مجرد أيديولوجيين»، أو أن مذاهب أسلافهم لم تكن لها أوجه أيديولوجية ، بل إن الأمر على العكس من ذلك تماما.
Unknown page
فالموضوعات التي كانت تندرج تحت اسم «الفلسفة»، كانت في عمومها تشتمل دائما على أمور تزيد على ما ينطوي عليه معنى «الأيديولوجية» مهما توسعنا فيه؛ ف «الفلسفة» توحي بحب المعرفة فضلا عن الحكمة العملية، حتى لو توسعنا في العبارة الأخيرة بحيث تشمل «حكمة العالم». وكثير من الفلاسفة، قبل كانت وبعده، كانوا يعتقدون أنهم يساهمون بنصيب، لا في زيادة الحكمة اللازمة للسلوك في الحياة فحسب، بل في مقدار المعرفة أو المعلومات النظرية المتعلقة بالعالم أيضا؛ فالفلسفة كانت، ولا تزال، أم العلوم ذاتها، أو على الأقل كانت هي مربية هذه العلوم وراعيتها. ولقد كانت العلوم، شأنها شأن كل الأبناء، تميل دائما إلى إنكار آبائها عندما تبلغ سن الرشد، غير أن الفلاسفة كثيرا ما كانوا يثيرون بطريقتهم النظرية أسئلة أجاب عليها العلماء فيما بعد بطريقتهم التجريبية. وقد ظلت الفلسفة في القرن التاسع عشر مستودعا لمشاكل لم تحل قبل ذلك، حول طبيعة الأشياء. وساهم فلاسفة القرن التاسع عشر بدور أصيل مفيد في ميداني النظريات الاجتماعية وعلم النفس بوجه خاص. فهيجل مثلا كان له تأثير عميق في النظريات القانونية التالية، كما أن شوبنهور ونيتشه قد ساهما بدور كبير فيها يسمى الآن ب «علم النفس المتعمق». وكذلك لم يكتف أوجيست كونت بنحت ذلك الاسم الأجنبي غير الموفق
7
لعلم الاجتماع، بل ربما كان أول مفكر وضع علما عاما للمجتمع. تلك كلها مساهمات هامة، حتى لو كانت مهمة إيضاحها وتأكيدها قد تركت للآخرين.
ومن الصحيح مع ذلك أن الجهود الرئيسية لفلاسفة القرن التاسع عشر كانت متجهة إلى غاية أخرى؛ فهناك هوة شاسعة بين كتابين مثل كتاب «الأخلاق» لاسبينوزا، وكتاب فشته «نظرية العلم
Wissenschaftslehre
أو علم المعرفة
Science of knowledge
كما تشيع ترجمته خطأ في الإنجليزية. ومن مظاهر التباين بينهما، ذلك التحول الأساسي في المفهوم الفعلي أو الممكن للمباحث الفلسفية الرئيسية، كنظرية المعرفة والميتافيزيقا والأخلاق؛ فاسبينوزا، الذي كانت كتاباته تمثل مركزا تتلاقى فيه المفاهيم السابقة لهذه المباحث الفلسفية، وبالتالي لمهمة التفلسف ذاته، لم يكن يهدف إلى أقل من البرهنة، من خلال بديهيات وتعريفات واضحة بذاتها، على الحقائق الأساسية الضرورية المتعلقة بالله، والإنسان، وسعادة الإنسان. وقد استخدم نفس المنهج الهندسي الذي استخدمه إقليدس، لا لشيء إلا لأنه كان يعتقد أنه المنهج «الوحيد» الذي يمكن به الوصول إلى معرفة علمية لأي موضوع. وقد حاول اسبينوزا في كتاب «الأخلاق» أن يحول الحكمة الشعبية القديمة لدى الأنبياء إلى علم للأخلاق، وأنظار القدماء في الطبيعة إلى حقيقة ميتافيزيقية ضرورية. ففلسفة الإيمان والوحي اليهودية والمسيحية القديمة قد استعيض عنها، من وجهة نظره، بعقيدة للعقل، هدفها الوحيد هو معرفة ما هو كائن. وهكذا عمد اسبينوزا - وكأنه يحاول في ذلك إقناع القارئ نهائيا بأن الدين والفلسفة والعلم لها كلها نهج واحد - إلى وضع عبارة «وهو المطلوب إثباته
quod erat demonstrandum » عند نهاية البرهان على كل نظرية في «الأخلاق»، سواء أكانت هذه النظرية تقول بوحدة الله، أم بعدم وجود إرادة حرة على الإطلاق، أم بأن غاية الحياة البشرية هي الحب العقلي لله.
كل هذا بعيد تماما عن نظرة فشته إلى موضوعه؛ فالميتافيزيقا ونظرية المعرفة والأخلاق تبدو بالنسبة إليه مباحث معيارية في أساسها، مهمتها تحليل وتقدير وإعادة تكوين المبادئ الأساسية التي ينبغي علينا أن نفكر ونحيا بها. وإذا كان هو ومعاصروه قد أطالوا الحديث عن «عالم الواقع
Unknown page
reality »، فلم يكن ما يتحدثون عنه هو الوجود اليومي الفعلي، وإنما الواقع «الفكري»، فحسب. ولا يحاول فشته أن يبرهن على قضاياه الميتافيزيقية الأساسية، وإنما هو يكتفي «بوضعها أو تأكيدها»، بوصفها مقتضيات لا مفر منها لأناه الخاص. ولا شك أن القليلين من فلاسفة القرن التاسع عشر هم الذين يقبلون تلك الذاتية المتطرفة في مذهب المعرفة عند فشته، بل إن فلاسفة قليلين في أي عصر هم الذين يتجرءون على قبولها. ومع ذلك فإن معظم فلاسفة القرن التاسع عشر يعترفون، بطريقة ما، بأن مهمتهم الأساسية، لا من حيث هم باحثون أخلاقيون فحسب، بل بوصفهم ميتافيزيقيين ولاهوتيين وباحثين في نظرية المعرفة أيضا، ترتبط بالمسائل المتعلقة بالمبدأ أكثر مما ترتبط بالمسائل المتعلقة بالواقع، وتتعلق بمعايير الصحة والمعقولية في أي مجال أكثر مما تتعلق بالأشياء الخاصة التي تتفق مع هذه المعايير أو لا تتفق، بل إن البعض منهم على الأقل يصل إلى حد الاعتراف بأن الموضوعية ليست حقيقة عن الكون بقدر ما هي مسألة معايير مشتركة في الحكم والنقد. وبالاختصار، فهنا تعد الموضوعية اشتراكا بين الذوات في أحكام واحدة. والمعايير المشتركة بين الذوات لا يتفق عليها أفراد المجتمع لأنها موضوعية، بل إنها في الواقع تغدو موضوعية لأن الأفراد قد اشتركوا في قبولها.
ولقد كان اعتراف فلاسفة القرن التاسع عشر بوجود فارق في النوع بين المسائل المعيارية والمسائل الواقعية (مهما كان غموض ذلك الاعتراف)، وكذلك نظرتهم إلى مسائلهم الفلسفية الصرفة على أنها معيارية، كان ذلك هو الذي حدا بمعظمهم إلى الاعتراف تدريجيا بأن عملهم، بوصفهم فلاسفة، لم يكن، بما هو كذلك، جزءا من العلم، وبأنهم لا يستطيعون استخدام مناهج العلم. وليس معنى ذلك أنهم كانوا في عمومهم معادين للعلم؛ فبعضهم كان كذلك، وبعضهم الآخر لم يكن. ولكن حتى أولئك الذين كانوا مناصرين للعلم كانوا شاعرين، على نحو ما، بأن الدفاع عن العلم ليس في ذاته جزءا من النظرية العلمية المعترف بها رسميا؛ فالمفكرون من أمثال كونت ومل كانوا، من حيث هم فلاسفة، شهود إثبات في المحكمة أكثر مما كانوا قضاة أو أعضاء في هيئة المحلفين. ولقد كان كانت، الذي تبدأ به قصتنا، عالما، وصديقا للعلم طوال حياته، غير أن كتابه «نقد العقل الخالص»، الذي يستهدف أمورا منها؛ كيف، وبأي الشروط، تكون المعرفة العلمية ممكنة، لا ينتمي هو ذاته إلى العلم. ومثل هذا يصدق على الفلسفة الوضعية عند أوجيست كونت.
ونحن لا ننكر مع ذلك أن بعض فلاسفة القرن التاسع عشر، مثل هربرت سبنسر، قد اعتقدوا أن جزءا من أقوالهم، على الأقل، كان قابلا للتبرير علميا. ولكن الاهتمام الفلسفي لدى هؤلاء الفلاسفة أنفسهم لم يتجه إلى الوقائع بما هي كذلك، وإنما إلى المواقف الأساسية التي تؤيدها الوقائع كما وصفوها؛ فهم لم يكونوا باحثين علميين في المحل الأول، كما كان تشارلس دارون ، وإنما أصحاب مواقف، يسعون إلى استخلاص النتائج الصحيحة من الكشوف التي توصل إليها فرض التطور. وقد أنكروا، بوصفهم باحثين طبيعيين، وجود أية كيانات عالية على التجربة. ولكن اهتمامهم باستخدام هذا الإنكار في إثارة شكوك عملية حول المواقف الدينية والأخلاقية التقليدية، كان أعظم كثيرا من اهتمامهم بمجرد وصف السمات الشاملة للوجود بما هو كذلك.
وإنا لنجد في نيتشه مثلا رائعا على ما نقول؛ فمن صفات كتابه «أصل نشأة الأخلاق
The Genealogy of Morals »، أنه استبق بوقت طويل الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية الحالية في تطور الأفكار والعادات الأخلاقية. وهناك خط واضح يصل مباشرة بين نيتشه وبين هبهوس
Hobhouse
ووسترمارك
Westermark
ومالينوفسكي
Malinowski
Unknown page
مثلا.
8
ولكن رغم أن نظرة نيتشه إلى هذه الدراسة كانت ذات نزعة تجريبية وطبيعية واضحة، فإن اهتمامه الكامن من ورائها لم يكن علميا، وإنما أيديولوجي؛ أي إنه يستخدم آراءه في أصل نشأة الأفكار الأخلاقية، بل فكرة وجود أصل ونشأة الأخلاق ذاتها، وسيلة لتخليص قرائه من التزاماتهم القديمة الساذجة تجاه أسلوب في الحياة يراه مناقضا لذاته؛ فالنظرة التاريخية إلى دراسة الأخلاق ذاتها هي في رأي نيتشه أداة أساسية في «انقلاب كل القيم» عنده. وبالاختصار، فقد كان التاريخ والعلم بالنسبة إليه، كما كان بالنسبة إلى كونت وماركس، أدوات للتغير الحضاري، تستخدم قصدا لإعادة تشكيل مواقف الإنسان الغربي تجاه تراثه، وبالتالي تجاه ذاته.
ولكن هناك مع ذلك معنى أوسع كان فيه التفكير الفلسفي في القرن التاسع عشر ذا طابع «أيديولوجي». فمن الممكن، من وجهة نظر معينة، النظر إلى تاريخ الأفكار في العصر الحديث بأسره على أنه تاريخ الانهيار التدريجي للمذهب المسيحي الوسيط الذي عبر عنه توما الأكويني في «الجامع
Summum »
9
على أدق نحو ممكن، وعبر عنه دانتي في «الكوميديا الإلهية» أقوى تعبير مؤثر مقنع. فمنذ عصر النهضة، كانت أولى «المشاكل الوجودية» للإنسان وأهمها هي تكييف المواقف والأفكار الجديدة مع القيم المتوارثة والنظرة التقليدية إلى مصير الإنسان كما تتمثل في المذهب الوسيط. ولكن، منذ أواسط القرن الثامن عشر، أخذ الشك في إمكان هذا التكيف ذاته يتزايد على مستويات حضارية متزايدة الأهمية. وفي القرن التاسع عشر، أصبح فلاسفة كثيرون ينكرون إمكان هذا التكيف. وهكذا قرروا أن يعيدوا بناء المثل العليا للحضارة الغربية على أساس دنيوي وإنساني خالص؛ أي على أساس غير مسيحي. وربما كان ذلك من الأسباب التي جعلت فلاسفة القرن التاسع عشر أشد اهتماما بمسألة معنى الرموز الدينية منهم بوجود الله، وهو من الأسباب التي جعلتهم، على خلاف شكاك القرن الثامن عشر، الذين شكوا في وجود علة أولى للأشياء، يبدءون في التساؤل عما إذا كان «الإله قد مات»؛ فبعضهم قد اعتقد فعلا بأن «الإله»؛ أي الرمز التقليدي للألوهية، قد مات.
وهم يقصدون بذلك أن هذا الرمز لم يعد له أي فائدة للناس في عصر النظم السياسية والاجتماعية الدنيوية. وغيرهم، ممن لم يكونوا أقل من هؤلاء شكا في جدوى السؤال اللاهوتي التقليدي عن وجود الله بالنسبة إلى الإنسان الحديث، قد سعوا إلى إعادة تفسير الرموز الأساسية للعقيدة الغربية على نحو يجعلها معبرة عن محن الإنسان الحديث ومواقفه. غير أن النتيجة في كل حالة هي نقد انقلابي عنيف للعقيدة، لم يعد يقنع بآراء الدين «الطبيعي» العقلية، ولا بالعقيدة الإنجيلية أو المنزلة كما تفسر تقليديا. وكثيرا ما يبدو هذا النقد «لا عقليا»، على الأقل من وجهة نظر المعايير الأسبق عهدا للمعقولية الفلسفية، ولكنه ليس في الحق إلا واحدا من أوجه النقد المستمر للعقل ذاته.
مثل هذه الآراء قد تساعد على إيضاح السبب الذي دعا فلاسفة القرن التاسع عشر إلى أن يأخذوا على عاتقهم تلك المهمة الهائلة، مهمة إعادة البناء الأيديولوجية والثقافية، التي كان يستحيل معها التفلسف بالطرق «العقلية» و«الموضوعية» التقليدية التي سادت الفلسفة الغربية منذ عهد أفلاطون، وأرسطو؛ فهؤلاء الفلاسفة لم يكونوا يستطيعون الاكتفاء بالتأمل أو النظر أو ممارسة الاستدلال على طبيعة الأشياء؛ إذ إن نفس الإطار الذي دار فيه التأمل والنظر والاستدلال الفلسفي التقليدي قد تزعزع حتى أعمق جذوره. وبالاختصار، فقد كان عصرهم عصر أزمة طويلة الأمد للعقل، كانت أعمق من أية أزمة مرت بها الحضارة الغربية منذ الاصطدام الأصلي بين الوثنية وبين المسيحية الأولى.
الفصل الثاني
Unknown page
التحول الترنسندنتالي في الفلسفة الحديثة
إمانويل كانت (1724-1804م)
لن يستطيع المرء حين يتصفح للمرة الأولى كتاب كانت «نقد العقل الخالص» أن يهتدي على التو إلى أسباب التأثير الضخم الذي أحدثه ذلك الكتاب؛ فهو يحفل بغوامض ومعميات عظيمة التجريد، تبدو لأول وهلة بعيدة عن المشاكل التي تحير الأذهان البشرية المعتادة. وأسلوبه شديد التعقيد، يصدم دون شك من ينتقل إليه مباشرة بعد قراءة كتاب مثل فولتير أو هيوم. وفضلا عن ذلك، فإن افتقار كتابة كانت إلى ذلك الوضوح واللمعان الكلاسيكي الذي يرتبط عادة بعصر التنوير، لا تعوضه أية نفحة من الحماسة والبلاغة الجديدة التي كان روسو، أمير الرومانتيكيين، قد أدخلها على النثر الفلسفي منذ عهد قريب. ومع ذلك كله فقد كان ذهن كانت من أكثر الأذهان في تاريخ الفكر البشري جرأة وأصالة. وقد انطوى نقداه المعقدان للعقل الخالص والعملي، كما أدرك بعض معاصريه، على انقلاب فلسفي عميق.
ولقد قدم إلينا الشاعر «هينه» وصفا موجزا لكانت يغني، في تعبيره عن أهم خصاله، عن مائة صفحة مكتوبة عن تاريخ حياته؛ فهو يقول: «من العسير كتابة تاريخ حياة إمانويل كانت؛ إذ لم تكن له حياة ولا تاريخ، وإنما كانت حياته حياة أعزب عجوز، مجردة آلية التنظيم، في شارع هادئ منعزل في كونجزبرج، تلك البلدة القديمة الواقعة على الحدود الشمالية الشرقية لألمانيا. ولست أعتقد أن الساعة الضخمة للكاتدرائية القائمة هناك كانت تؤدي عملها اليومي على نحو أكثر دأبا وانتظاما مما كان يؤديه مواطنها إمانويل كانت؛ فقد كان يلتزم وقتا محددا في استيقاظه، وشربه القهوة، وفي كتابته وقراءته محاضرات الجامعة، وأكله ومشيه، وكان جيرانه يدركون أن الساعة قد بلغت الثالثة والنصف بالضبط، عندما يبارح إمانويل كانت باب داره بمعطفه الرمادي، وفي يده عصاه الخيزرانية، ويسير في شارع «شجرة الليمون» الذي لا يزال يسمى ب «طريق الفيلسوف»، تخليدا لذكراه. فما أشد التعارض بين الحياة الخارجية لذلك الرجل، وبين تفكيره الهادم المحطم للعالم! والحق أن مواطني كونجزبرج لو كانوا قد أدركوا من بعيد المعنى الحقيقي لتفكيره ، لأحسوا عند مرآه بهلع يفوق هلعهم من رؤية جلاد متخصص في قتل البشر. إن هؤلاء السذج لم يروا فيه سوى أستاذ للفلسفة، وعندما كان يمر بهم في الوقت المحدد، كانوا يحيونه تحية الصديق، ويضبطون ساعاتهم عليه. ولكن إذا كان إمانويل كانت، الهادم الأكبر في عالم الفكر، قد فاق ماكسميليان روبسبير بكثير في الإرهاب، فقد كان بينه وبين هذا الأخير أوجه شبه عديدة تغري على المقارنة بينهما؛ فكل منهما يتسم، أولا، بنفس الشعور الصارم، القاطع، الجاف، الجاد، بالشرف والنزاهة. وكل منهما يتميز بالقدرة الفائقة على الارتياب، وهي قدرة مارسها أحدهما على الأفكار وأسماها بالمذهب النقدي، وطبقها الآخر على الناس وأسماها بالفضيلة الجمهورية. ومع ذلك فقد كان كل منهما يمثل «برجوازية» المواطن العادي أصدق تمثيل؛ فقد شاءت لهما الطبيعة أن يقوما بوزن القهوة والسكر، ولكن القدر أصر على أن يقوما بوزن أشياء أخرى، وهكذا وضع أحدهما ملكا، والآخر إلها في الميزان، وتعادلت كفتا الميزان تماما.»
1
ولقد كان تطور كانت الفكري بطيئا إلى حد غير مألوف؛ فقد تشبع وهو طالب بمذهب عقلي كان يحظى باحترام كبير في ذلك الحين، وهو مذهب «كريستيان فون فلف
Christian von Wolff »، وهو تلميذ غير لامع لليبنتس العظيم. ولم يبدأ كانت في التغلب على هذا التأثير إلا في أواسط حياته. وكان أول ما أعانه في هذا الصدد كتابات روسو وهيوم. وهذان، بالإضافة إلى ليبنتس، يمكن أن يعدوا المؤثرات الرئيسية الثلاثة التي شكلت فكره الناضج. ومن المحال أن يفهم المرء فلسفة كانت ذاتها إلا إذا ألم بعض الإلمام بطبيعة هذه المؤثرات.
فقد كانت مشكلة المعرفة تشغل جانبا كبيرا من اهتمام مدرستين فلسفيتين رئيسيتين، ابتداء من عصر ديكارت، هما العقلية والتجريبية. بل إن من الشائع وصف هذا الاهتمام بأنه هو المميز للفترة «الحديثة» في تاريخ الفلسفة من الفترتين القديمة والوسطى السابقتين عليها. ومع ذلك فإن أحدا من السابقين على كانت لم يتصور لحظة أن مسائل المنهج هي نقطة النهاية في الفلسفة، بل لقد كان معظمهم يعدون نظرية المعرفة، أو الأبستمولوجيا، كما تسمى، مجرد نقطة بداية ضرورية للتفلسف الحقيقي، الذي هو تحديد الطبيعة الحقيقية للأشياء، وشروط سعادة الإنسان؛ فغاية ديكارت من كتابة مقاله المشهور في المنهج لم تقتصر على إيضاح ما عده منهج العلم، الذي كان يتفق في رأيه مع طريقة المعرفة بوجه عام، وإنما كانت أيضا تطبيق نتائجه في حل المسائل الميتافيزيقية الكبرى المتعلقة بطبيعة الذهن والمادة وعلاقاتهما، وعلتهما، التي أسماها بالله. ولقد كان ديكارت وخلفاؤه في المدرسة العقلية؛ أي اسبينوزا وليبنتس، يعدون أنفسهم علماء ذوي وعي ذاتي عميق، مهمتهم إيضاح نفس المناهج التي أحرزت أخيرا ذلك النجاح الباهر في ميادين الرياضيات والفيزياء، ثم تطبيقها على المشاكل الأعم المتعلقة بالوجود، والتي عالجها الفلاسفة منذ عصر ما قبل أفلاطون. وقد تصوروا أنفسهم علماء هندسة أو علماء فيزياء من مرتبة أعلى - إن جاز هذا التعبير - ولم يداخلهم شك في أن أبحاثهم الميتافيزيقية ذاتها كانت في أساسها امتدادا لأبحاث العلوم «الخاصة»، وكانت الميتافيزيقا؛ أي علم الوجود، لا تعدو في نظرهم أن تكون «ملكة العلوم»، أما الأخلاق فليست سوى نسق من «القوانين الطبيعية» التي تحدد شروط تحقيق الإنسان لطبيعته. ولم يدر بخلدهم وجود أي نوع من التمييز القاطع بين قوانين الطبيعة والمبادئ المعيارية، على حين أن هذا التمييز كانت له أهميته الكبرى في فلسفة كانت.
ولقد استبق كبار خصوم المذهب العقلي، وهم لوك وباركلي وهيوم، كثيرا من أفكار كانت. ولكن إذا كان لوك، في كتابه المشهور «بحث في الذهن البشري»، قد سار مترددا في الطريق المؤدي إلى مشكلة النقد العقلي عند كانت، فإن فهمه للمشكلة قد ظل غير واضح؛ فتحليله للذهن البشري لم يتضمن خروجا صريحا على مسلمات ديكارت المنهجية الأساسية. كما أنه لم ينظر إلى هدفه الخاص بتحديد «يقينية المعرفة البشرية ومداها» على أنه هدف يختلف اختلافا شديدا عما نطلق عليه نحن اسم علم النفس التجريبي (
empirical ). وكان اهتمامه بالمسائل الخاصة بأصول أفكارنا، واتباعه لما أسماه ب «المنهج التاريخي الصريح»، دليلا قويا على أنه لم يشعر بوجود فارق أساسي بين الأبحاث النفسية للعلل المتحكمة في أفكارنا ومعتقداتنا ، وبين التحليلات الفلسفية لمعنى أفكارنا وصحة معتقداتنا.
Unknown page
أما فلسفة كانت فهي تفترض في أساسها تمييزا قاطعا بين المسائل المنتمية إلى مجال ما هو كائن، وتلك المنتمية إلى مجال ما يجب أن يكون. ومثل هذا التمييز في رأيه ضروري، لا في الأخلاق فحسب، حيث ينبغي التفرقة بين المرغوب فيه وبين الجدير بأن يكون مرغوبا فيه، وإنما هو ضروري أيضا في المنطق ونظرية المعرفة، حيث ينبغي التفرقة، على نحو مماثل، بين ما نعتقده وما ينبغي أن نعتقده، وبين ما نستدل عليه وما يكون من الصحيح الاستدلال عليه. ومما له دلالته أن كانت، من حيث هو فيلسوف، لم يكتب «بحثا في الطبيعة البشرية» كما أسمى هيوم كتابه الرئيسي، وإنما كتب «نقدا للعقل الخالص» و«نقدا للعقل العملي». ولا جدال في أن «المنهج التاريخي الصريح» عند لوك لم يكن يفي بأغراض كانت على الإطلاق، ومن ثم فقد كان عليه أن يضع «منهجا ترنسندنتاليا» جديدا، هو وحده الكفيل بتحديد أسس الاعتقاد والفعل المبنيين على العقل.
وطالما أساء الناس فهم المعنى الذي استخدم به كانت لفظ «الترنسندنتالي». فقد يظن القارئ غير المدقق، حين يلاحظ تكرار ورود هذا اللفظ في صفحات مؤلفات كانت، أن فيلسوفنا كان يعني به طريقة للوصول إلى أشياء «تعلو على هذا العالم». ومثل هذا الاعتقاد باطل؛ إذ إن آراء كانت حول إمكان معرفتنا لأية حقيقة علوية كانت آراء حذرة لا تطلق جزافا على الإطلاق. ولم تكن لديه أية رغبة في أن يفعل ما فعلته إحدى شخصيات أوبرا جلبرت وسليفان «بيشنس
»،
2
فيأخذ جميع بذور الألفاظ الترنسندنتالية ويزرعها في كل مكان، بل إنه بذل قدرا كبيرا من طاقته العقلية في سبيل انتقاد التطبيق الميتافيزيقي للألفاظ الترنسندنتالية على ما يتجاوز حدود التجربة الممكنة.
ولقد كان كانت يعتقد أن نقده للعقل قد أحدث ما يمكن تسميته ب «الانقلاب الكبرنيكي» في الفلسفة. غير أن التشبيه الذي قصده من هذه التسمية غامض، وكثيرا ما أسيء فهمه، شأنه في ذلك شأن لفظ «الترنسندنتالي». وعلينا، لكي نفهم على نحو أكمل المعنى الذي قصده كانت، أن نعود إلى الموقف التاريخي الذي واجهه عندما قرأ لأول مرة، في وقت كان فيه من أتباع ليبنتس، تحليل هيوم للعلية، الذي بدا ذا طابع شكاك.
فقد سلم كانت في شبابه، حين كان من أتباع المذهب العقلي، بأن مبدأ العلية؛ أي المبدأ القائل بأن لكل حادث علة، هو مبدأ ضروري للطبيعة، متأصل في طبيعة الأشياء، ولا يحتاج المرء لإدراك حقيقته إلا إلى عقله الخالص، دون التجاء إلى التجربة. كما سلم دون مناقشة بوجود ارتباطات ضرورية في الطبيعة، كامنة في النظام الموضوعي للواقع. ومن خلال وجهة النظر هذه، لا يمكن أن تكون قوة العقل سوى القدرة على إدراك مثل هذه «العلاقات الواقعية» بالحدس، فيكون بذلك قد رسم نوعا من الخريطة أو الأشعة السينية للتركيب الداخلي للوجود ذاته؛ فالذهن البشري يفكر من خلال العلية؛ لأن ذلك الذهن ذاته هو في واقع الأمر مرآة تعكس بدقة ذلك التركيب الباطن للعالم الخارجي. والعقل يدرك هذه المبادئ على أنها ذات صحة واضحة بذاتها؛ إذ إنه «يرى»، عن طريق عملية حدس عقلي، أنها تصح بالضرورة على طبيعة الأشياء. وهكذا لا يكون العقل من وجهة النظر هذه مجرد ملكة للتجريد والاستدلال، وإنما ملكة للكشف أيضا، تتيح لنا إدراك أعم صفات الأشياء كما هي في ذاتها.
ولقد رد هيوم على هذا كله ردا غاية في البساطة.
فقد تساءل: كيف يتسنى لنا أن نعرف، على نحو مستقل عن التجربة، أن كل حادث له، وينبغي أن تكون له، علة؟ لقد كان هيوم على استعداد للاعتراف بأن لبعض القضايا صحة ضرورية، ومن هذه القضايا الحقائق الرياضية والمنطقية، والقضايا «اللفظية» مثل «كل كلب كلب» و«كل شيء ملون ممتد». غير أن مثل هذه الحقائق تعبر عن «علاقات بين الأفكار»، ولا تنبئنا بشيء عن الأمور الواقعة أو الوجود الفعلي. والمعيار الوحيد للحقيقة الضرورية عند هيوم هو قانون عدم التناقض.
فإذا كان من المحال نفي قضية دون تناقض، فإن القضية تكون صحيحة بالضرورة. ولكنها، لهذا السبب عينه، لا تنبئنا بشيء يتجاوز ما تتضمنه التصورات التي تنطوي عليها . أما القضية التي يمكن نفيها دون تناقض، فليست لها صحة مطلقة. وفي هذه الحالة لا يمكن استخلاص الشواهد على صحتها - إن كان لها أي معنى - إلا من التجربة.
Unknown page
فماذا نقول إذن عن قانون العلية؟ أهناك أي تناقض في إنكار إمكان وجود شيء دون علة؟ يرى هيوم أن الجواب ينبغي أن يكون بالنفي دون قيد ولا شرط؛ فمبدأ العلية الشاملة، من حيث هو قانون للطبيعة، لا يمكن إدراك صحته بطريقة أولية سابقة على التجربة.
وللمسألة موضوع الخلاف هنا أهمية قصوى؛ إذ لو كان مبدأ العلية غير يقيني، لبدا أن العلم بأسره لا يرتكز على أساس أمتن من ذلك الذي ترتكز عليه العقيدة المنزلة. وإذن فهلا يوجد مبرر لاعتقاد العالم باطراد الطبيعة؟ أهذا الاعتقاد مجرد رأي إيماني ليس له من الأسس العقلية أكثر مما لالتزامات الكاهن أو النبي أو الطبيب؟
مثل هذه الأسئلة الفائقة الأهمية هي التي تصدى لها كانت في كتابة «نقد العقل الخالص»، وكانت إجابته عليها تؤلف الجزء الأكبر من ثورته الكبرنيكية في الفلسفة؛ فقد أخذ كانت بالوجه السلبي لتحليل هيوم، ووافق على أن أصحاب المذهب العقلي كانوا يفتقرون إلى الروح النقدية عندما اعتقدوا أن قانون العلية الشاملة حقيقة مطلقة يدرك العقل بحدسه انطباقها على جميع الأشياء كما هي في ذاتها. وكان من رأيه أن ذلك القانون ليس، على حد تعبيره، «تحليليا»؛ فهيوم كان مصيبا تماما حين أنكر أن معنى لفظ «الشيء» يستتبع أن تكون له علة. وإذن ينبغي أن يكون المبدأ «تركيبيا». غير أن كانت يأبى أن ينظر إلى هذا المبدأ على أنه مجرد تعبير عرضي عن أمر واقع، مثل «كل البجع أبيض»، أو «كل الفلاسفة مصابون بالعصاب». وإذن، فإلى أي نوع من القضايا ينتمي قانون العلية؟
يجيب كانت عن هذا السؤال بأن القانون ليس تعبيرا عن أمر واقع، ذا صحة بعدية
aposteriori ، وليس إيضاحا «تحليليا» لمعان موجودة بالفعل في تصور ما. وإنما هو مبدأ تنظيمي يعبر عن قاعدة شاملة لكل بحث عقلي؛ فجميع المبادئ التي تنتمي إلى هذا النوع أولية، ولكنها تركيبية أيضا؛ أي إنها ذات شمول وضرورة مطلقة، ومن ثم فإن صحتها لا تتوقف على تأييد من التجربة، بل إن صحتها، على العكس من ذلك، تفترض ضمنا في جميع الأحكام التي تنقل إلينا معرفة بالظواهر. ومع ذلك فهل هذه المبادئ تنطبق على تصورنا للأشياء من حيث هي موجودة، لا على ما أسماه هيوم بالعلاقات بين الأفكار فحسب.
وإذن فالسؤال الأساسي في نقد العقل لا يعدو، في رأي كانت، أن يكون: «كيف تكون الأحكام التركيبية الأولية ممكنة؟» وليس في وسعنا في هذا الحيز المحدود، إلا أن نشير إشارة عامة إلى إجابة كانت على هذا السؤال؛ فالمقدمة التي يرتكز عليها هي أن الذهن البشري لا يمكن تصوره مرآة سلبية تعكس، بطريقة حدسية، الأنماط الكامنة في الأشياء كما هي ذاتها، أو العنصر المعقول فيها، وإنما ينبغي أن ننظر إلى ما نسميه بالذهن على أنه قوة فعالة تقوم هي ذاتها بتشكيل المادة الخام التي تقدمها التجربة الحسية في نظام شامل من الظواهر المصوغة في تصورات. ومع ذلك فإن كانت ليس «مثاليا»؛ أي إنه لا يقول إن الذهن ذاته هو الحقيقة الوحيدة، أو أن الذهن يخلق عالمه؛ فعناصر التجربة الحسية «معطاة» سواء شئنا أم لم نشأ، ونحن، بكل بساطة، نجدها هناك كلما فتحنا أعيننا وآذاننا. كذلك لا يشك كانت في أن ثمة «أشياء في ذاتها» بمعنى معين؛ أشياء خارجة عن الذهن، ذات حقيقة مستقلة عنه. بل إن هذا الافتراض في الواقع من القضايا الرئيسية في فلسفته بأسرها. غير أن الأشياء في ذاتها ليست، في رأيه، موضوعات للمعرفة، وليس لدى الذهن أي شيء يقوله عنها بالمعنى الصحيح. بل إن مهمة الذهن هي تشريع قوانين البحث، التي تتيح للوقائع الحسية الخام أن تتعايش سويا في مجتمع مدني يضم موضوعات خاضعة للقانون.
ومع ذلك، فمن واجبنا ألا نمضي في هذا التشبيه أبعد مما ينبغي؛ فكانت لا يعتقد أن الذهن المشرع يستطيع إذا شاء أن يضع قواعد غير تلك التي تستخدم بالفعل في تفكيرنا العادي وتفكيرنا العلمي في الظواهر. وفي هذا الصدد ظل كانت ملتزما التراث العقلي الذي تأثر به؛ فما يسميه كانت ب «صورتي الحدس»، وهما المكان والزمان، هما، رغم ذاتيتهما، كامنتان في كل إدراك بشري. وفي رأيه أن من المحال تصور شيء لا يشغل مكانا ولا يمر بزمان. وفضلا عن ذلك فقد اعتقد كانت أن الهندسة الإقليدية، التي كانت في عصره الهندسة الوحيدة التي وضعها الرياضيون، تعبر عن العلاقات الضرورية الشاملة بين جميع الموضوعات التي يمكن أن تظهر لنا في المكان، ولم يدر بخلده قط أن من الممكن وضع هندسات أخرى قد تكون أكبر فائدة من هندسة إقليدس في ميادين علمية معينة. كذلك اعتقد أن مقولات مثل العلة والجوهر أساسية في كل تفكير عقلي حول الظواهر. ولم يطف بذهنه مجرد إمكان قيام علم يستغني عن هذه المقولات.
ومع ذلك، فالأمر الذي أدركه بوضوح هو أن جميع المقولات، من أمثال «العلة» و«الجوهر»، لا تمثل علاقات أو كيانات حقيقية.
ولقد كان هو أول من قال بذلك الرأي الذي عبر عنه مفكرون تالون على أنحاء شتى، والقائل إن التصورات والمبادئ المنهجية للبحث ليست تعبيرا عن عنصر عقلي كامن في طبيعة الأشياء، وإنما هي أفكار وقواعد إجرائية، تتخذ لأغراض عملية هدفها السيطرة على العالم الذي نعيش فيه.
ونستطيع أن نقول، على الإجمال، إن الوجه السلبي لمذهب كانت كان له أثر أعظم من الوجهة التاريخية؛ فموقفه، كما رأينا، يحتم ألا تكون صورتا الحدس، وهما المكان والزمان، ومقولات الذهن، كالجوهر والعلة، قابلة للانطباق على ما يتجاوز المعطى في التجربة الحسية. والثمن الذي ينبغي علينا أن ندفعه لكي نضمن إمكان المبادئ التركيبية الأولية، كقانون العلية، هو أن نقصر تطبيقها على عالم الظواهر الداخلة في نطاق التجربة. ومن حقنا أن نظل نميز، داخل هذا العالم، بين ما هو «حقيقي»، وما هو «خداع»، غير أن مثل هذا التمييز لا ينطبق على الأشياء في ذاتها؛ فعندما نحاول أن نتوسع في تطبيق أفكار كالعلة والجوهر بحيث تسري على الأشياء في ذاتها، أو أن نفكر «بطريقة واقعية» حول «علة» عالم الظواهر في مجموعه، فإن المطاف ينتهي بنا حتما إلى نقائض لا ضابط لها، ولا قبل للذهن البشري بحلها على الإطلاق. مثل هذا الاستخدام النظري
Unknown page