فإليك إذن ما صور القلم. إن كنت قد بلغت به من نفسك ما أتمنى أن أبلغ فما أعظم هذا لي وما أسعدني به! فإن الكاتب لا يهنأ بشيء قدر أن يعرف أن الشرارة التي انبعثت من قلمه قد لاقت شرارة مثلها عند قارئه. وفي هذا اللقاء يضيء مصباح ينير حياة البشر أجمعين.
أما إذا كان الطريق قد أكدى بي فحسبي عندك أنني حاولت، وكنت فيما حاولت أتمنى رضاءك. وفي هذا التمني وحده ما يمهد لي عندك أسباب الاعتذار، ويمهد لك عندي أسباب الشكر. والله من فوق الجميع هو ولي التوفيق.
ثروت أباظة
عاشق الليل
سبحان الخالق العظيم! جعل كل فرد من الناس نمطا مستقلا بذاته، له مشاعره الخاصة، وشكله الخاص، وأفكاره التي تتخلج في أعماق نفسه، لا يعرف أسرارها إلا الخالق سبحانه، ثم جعل لكل إنسان بصماته الخاصة التي لا يتماثل فيها اثنان في العالم؛ كأن هذه البصمة هي توقيع لفنان انتهى من عمله الفني.
من هذا الشتات من الأفكار ومن المشاعر ومن التركيب الخلقي والخلقي تتكون الشعوب، ومن هذه الشعوب تتكون البشرية.
فكل نظرية لا تدخل في حسبانها أن الإنسان مشاعر ورغبات وآمال وآلام وعواطف تضطرب بين الحب الجارف بلا حدود والكره القاتل لا يرده شيء، نظرية لم تخلق للإنسان، وقد تصدق على الآلة الصماء بلا مشاعر لها ولا آمال ولا آلام.
في قريتي أنماط الناس على كل صنف ولون، ولكن بعض أشخاص لا يستطيع النظر أن يعبرهم بغير إنعام وتمعن.
عبد الحليم حسون؛ عرفته أول ما عرفته خفيرا نظاميا في القرية، وكان عمدة القرية معجبا به أشد الإعجاب؛ فهو أول من يتسلم سلاحه في صفار الشمس وهو آخر من يسلمه بعد أن يصلي الفجر.
ولا يأتي جزء من الليل على عبد الحليم إلا وهو يقظ لا ينام؛ فعبد الحليم يحب الليل ولا يطيق أن يفلت منه لحظة دون أن يعيشها بأكملها، بأعماقها جميعا، ويستمتع بكل ما في الليل. وهو يستمتع بالليل على أي صورة له فهو يحبه أسود قاتم الظلمة معتما. وهو يحبه والنجوم على صدر سمائه. وهو يحبه والقمر يحيله إلى هذا اللون الأزرق الذي يشيع في النفوس الحب للحب، والهوى للهوى، والشفافية الشاعرة الرقراقة. ويسعد بغلالة القمر نسجتها يد الفنان الأعظم. ويلقي عبد الحليم نفسه في هذه الغلالة سعيدا لا يدري لسعادته سببا ولا يريد أن يدري. وكأنما أدرك بحسه كالبدائي الصادق أن التغلغل في أسباب السعادة يدمر السعادة. إنما هي لحظة إشراق تومض، فهو بها في نشوة، ولا يعنيه من بعد من أين جاءت هذه الإشراقة، وكم ستمكث، ومتى ستولي عنه. وإنما هو يلقي نفسه إليها بالدنيا جميعا. هي لحظته تلك، وليكن بعد ذلك ما يكون.
Unknown page