ومن أين لي أن أدلك عليه وأنا أروي لك قصة تمتد جذورها نيفا وأربعين عاما؟ وما أحسب أنني مقصر فالملامح المحددة قد انماعت في عيني ولم يبق أمامي منها إلا الخطوط العريضة أقدمها إليك وأنا واثق أنك أنت. أنت أيها القارئ ستعرف الملامح بكل وضوح، وستتبينها بكل دقة؛ فإن ذاكرتك أنت أكثر نشاطا وأعظم تركيزا، فما علي بأس أن أترك لك أنت أن ترى من ألمحت إليه وأن تتعرف أنت على اسمه وسماته، بل إنني واثق أنك ستصل من الأمر إلى أبعد من ذلك؛ فإنك قادر لا شك أن تذكر لي اسم أمه وأبيه، واسم زوجته وبنيه. ما ساروا فيه جميعا من دروب وما ارتادوا من طريق؛ فأنت دائما أيها القارئ أعظم الناس علما بمن حولك وما حولك، فشأنك وهذا الفتى الذي أصبح شابا، ثم صار كهلا يأخذ طريقه إلى الشيخوخة ولكن بخطوات نشطة وصوت عال مرتفع الضجيج، لم تنل السن منه وما أوهنته السنون.
صورة من مرآة النفس (ترقية)
كان صاحبي موظفا من خيرة الموظفين الذين عرفتهم المصلحة التي يعمل بها. وكان رؤساؤه دائما يعجبون به ويكلفونه بما يشاءون من مهمات وهم مطمئنون أنه سيؤديها على أحسن وجه. وكان صاحبي على أحسن علاقة بكل الرؤساء الذين توافدوا على المصلحة. وكانوا هم أيضا يراعون ألا يكلفوه إلا بما يتناسب مع خبراته؛ فقد كان خبيرا بشئون الموظفين وترقياتهم وعلاواتهم.
وكان صاحبي أيضا على أحسن علاقة بكل الموظفين الذين يعملون معه في المصلحة؛ فكلهم يحبه. والظرفاء منهم يطيب لهم دائما أن يرووا له ما سمعوا من نكات، كما كانوا يتمتعون بما يرويه لهم وبتعليقاته الضاحكة وإن كانت ساذجة. هو حريص دائما أن يرى ابتسامة على وجه زملائه، وكان حديثه دائما قادرا على أن يجعل البسمة تثب إلى شفاههم حتى وإن كانت ابتسامة متشحة بالتكلف.
وكنت أزوره بالمصلحة فيستقبلني زملاؤه أحسن استقبال لحبهم له. وكان صاحبي من القلة النادرة التي أوشكت تنعدم، التي ترضى عما هي فيه؛ فهو لا يشكو من الزمن عثار حظ، أو قلة مال، أو إرهاقا في الإنفاق، كان يقبل من الدنيا ما وهبت له، ولا يسخط منها على شيء حرمته منه؛ فهو لا يطمع في أكثر مما نال، ولا يتوقع أحسن مما أصاب. تقف آماله في هذه الساحة الرحيبة من القناعة التي لا تريد إلا الستر، وإلا أن يكرمها الله في أبنائها.
وكان صاحبي يعرف أن للحياة سنتها الطبيعية التي لا تتغير، وأنه لخاضع لهذه السنة راض بها؛ فهو يتقبل المرض في أبنائه لأن من طبيعة الأمور أن يمرض الأبناء، وهو ينفق على علاجهم في صبر ويستقبل شفاءهم وكأنه أعجوبة لم يكن يتصور أنها ستحقق؛ فقد كان يحتفل بالمناسبات السعيدة احتفالا رائعا قل أن تجده المناسبة السعيدة عند غيره من الناس؛ فلو أن هذه المناسبات كانت ذات عقل أو كانت صاحبة منطق لما انقطعت عن زيارته أبدا.
وكان يعلم أن السن حين تتقدم به أو بزوجه التي تقاربه فمن الطبيعي أن يواجها هذه السن بما يتفق وإياها من تكاسل أو مرض.
وهكذا كان صاحبي يمثل في نظري نموذجا فريدا من الإنسان الرضي الخلق الهادئ المؤمن بالله المتقبل لكل ما يوافيه به القدر، في غير جزع عند الشدة وفي نشوة عارمة عند الخير.
حتى كان يوم قرأت في الجرائد أنه رقي رئيسا للمصلحة التي يعمل بها، ففرحت له فرحة تتناسب وما أكنه له من حب وتقدير. وسارعت فألغيت ما كان مقدرا ليومي هذا من مواعيد، وذهبت إلى المصلحة لأهنئه.
كان كل الموظفين في سعادة غامرة، حتى لقد رأيت البشر يلف المصلحة جميعا. ولأول مرة لا أدخل إلى مكتبه مباشرة، وإنما قصدت قصدا أن أطلب الإذن من السكرتير، مع أن الساعي الواقف على بابه أراد أن يفتح لي الباب النافذ إليه مباشرة. أحسست في مروري بالسكرتير لذة أحببت أن أتمتع بها. وحاول السكرتير أن يدخلني دون إذن ولكني رجوته أن يستأذن وأصررت، ودخل السكرتير فإذا بصاحبي يخرج معه وهو يهتف بي: ما هذا؟! أهذا معقول؟! تفضل. واحتضنته وقبلته ودخلنا إلى غرفته وجلست معه أنتظر القهوة. عرفت أنه كان يرجو أن ينال هذا المنصب ولكنه كان أملا ألقى به إلى سحيق من جب نفسه لا يطفو ولا يقترب من الهواء ولا يتنشق نسمة من الحياة. حتى إذا لاحت الفرصة سعى سعيه وهو يائس؛ فهو يعرف نفسه كل المعرفة أنه يتغلف بالنفاق دائما إذا كان الحديث مع صاحب شأن، ولكنه يقول إنه كان ينافق لا ليصل إلى منصبه هذا، وإنما ليبقي على نفسه الوظيفة التي كان يشغلها، ولم يكن يدري أن النفاق مصعد صاروخي إلى هذا الحد الذي شق به هو الطريق إلى سماء المصلحة.
Unknown page