قالت سارة: عشان كده الخرطوم ملآنة بالكفار.
ضحكا ضحكا عاليا.
وصلنا القرية عند العصر، بعد عشرين عاما من الوعود التي لم تتحقق لمحمد آدم، كنت أترقب خروجه من قطية ما، من راكوبة ما، أو من أية حجرة من وقت لآخر يلبس جلبابه القروي، على ظهر حمار أو يجري خلف مرفعين صغير أتى به أبوه من رحلة صيد متعبة، طالما لم نلتق في الطريق إلى القرية، طالما لم يستقبلنا عند مداخلها، طالما لم يهتف مرحبا بنا ونحن ندخل الحوش الكبير الذي حدثني عنه كثيرا كثيرا ... طالما ...
قالت لي أمه: كنت دائما أتوقع زيارتك للقرية، كل سنة، كل سنة، سبحان الله! دي عشرين سنة مضت من اليوم اللي مات فيه محمد آدم، أنا كأني أشوفو الآن، لم يكبر محمد أبدا، دائما صغير ونشيط ويتكلم ويحكي ويركب الحمير ويمشي العيد مع الكبار، وكل مرة يفشل في صيد مرفعين صغير لك. «تبتسم». - كل مرة أقول أجيكم ربنا ما يطلق القدم، ومرت بي ظروف كثيرة منذ أن توفي محمد آدم، أبدا ما استقريت على وضع محدد، دراسة، سفر، مشاكل أسرية لا ليها أول ولا آخر. - وعايزة أوريك بالمناسبة دي، طبعا أنا حضرت زواجك، كان بعد سنة من وفاة المرحوم. - افترقنا، طلقني واتزوج، والآن عنده ولد وبت. ولكن بعدما شوفني الويل ونجوم النهار.
قالت متأثرة: المرحوم دائما كان يقول لي، دائما كان ... ولكن قدر الله وما شاء فعل.
ثم صمتت على صوت أطفال يلهون في الخارج ويقتربون من المنزل. - محمد آدم، يا ولد يا محمد ... تعال هنا في ضيوف، تعال سلم عليهم.
كان هو نفسه، فقط ازداد طولا بعض الشيء وربما صار أكثر نحافة، والجرح القديم الذي في وجهه اختفى تماما ولا أثر له، كان حافيا ويرتدي جلبابا به بقع من الطين الأحمر ناشفة، شعره كث، في وجهه عينان مرتابتان كعيني خروف شبع. - دي عمتك سهير حسان. دا عمك آدم زكريا. دي خالتك سارة. دا عمك مايكل كولي . آه، عمك مايكل، وزي ما شايف هو من الجنوب. دي خالتك، خالتك سابا، وبنتها الصغيرة الحلوة دي حنخطبها لك من اليوم، رأيك شنو؟
ضحكنا معا، ولكن أنقذتنا الجدة بالرد: أنت شايفها نوار شنو؟
قال دون تردد: نوار السيال.
كثيرون منا ما كانوا يعرفون السيال، وإذا عرفوه ربما لم ينتبهوا إلى نواره، وإذا انتبهوا إلى نواره مثلي، فإنهم لا يعرفون تلك الرائحة العطرة التي تفوح منه، وذلك الطعم الجميل، وصوته الشجي الذي هو طنين الزنابير عليها. شرحت لنا جدته كيف كان يرى جمال نوار.
Unknown page