ومن أوجه الضعف في حياتنا الفكرية، ما قد أصيبت به من تفكك انفرطت به وحدة الأمة شعوبا، ووحدة الشعب أفرادا، ولو شاء لنا الحق سبحانه وتعالى وحدة قوية فعالة منتجة ذات رجحان بين أمم الأرض إذا ما أقيمت الموازين، لقيض للأمة العربية من رجال «الفكر» من يضيء بأفكاره طريق الحياة الجديدة، فسارت الأمة على هداه. وليس المهم هنا هو من أين جاءت الفكرة العظيمة إلى صاحبها: أهي انبثقت من صميم فطرته، أم هي جاءته وحيا من الماضي، أم وحيا مما طالعه من حياة أمم أخرى تعاصره؟ إن الذين يهمهم رد الأفكار القوية الهادية إلى مصادرها هم المؤرخون، أما من يريد للأفكار العظيمة أن تتحول منارات لهداية السالكين، فيهمه الضوء قبل أي شيء آخر، لينفسح الأمل في حركة نتقدم بها نحو الأقوى والأعلم والأغنى والأفضل، لكننا قلما نقع في تاريخنا الفكري الحديث على رائد فكري واحد كانت له القوة الجاذبة التي تتجمع الأمة العربية تحت لوائها؛ ومن هنا تفرقت بنا السبل مع مجموعة من أواسط الرواد؛ إذ احتشد وراء كل رائد من هؤلاء الأواسط في قدراتهم أتباع، فكان أن رأينا جماعات تنادي بالعودة إلى الذي سلف لنعتصم به من عالم متغير، وجماعات أخرى ذهبت كل منها مذهبا، نقلا عن مذاهب أقوام أخرى، قد تصلح لنا وقد لا تصلح، وجماعات ثالثة تركت نفسها للريح تتجه بها إلى حيث شاءت الريح.
ولو أن حياتنا الفكرية وجدت فكرة كبرى يحملها من آمن بها من العمالقة ذوي العزيمة الماضية لقامت تلك الفكرة في ضمائر عامة الناس أملا مكتوما، وفي ضمائر المبدعين على اختلاف ميادين الإبداع مصباحا هاديا يشير إلى الوجهة العامة التي يجب أن يتجه فيها إبداعهم من أدب وفن وفكر، بما ترسله تلك الينابيع من إشعاعات تنعكس في جوانب الحياة العملية؛ من سياسة، وتعليم، واقتصاد، وإصلاح اجتماعي وغير ذلك. على أننا وإن نكن قد حرمنا مثل تلك الوجهات القوية التي لا يستطيعها إلا العمالقة، فلم نحرم من فريق من النابهين الذين تضمنت أعمالهم الثقافية إشارات تشير إلى الاتجاه الصحيح الذي ينبغي لنا أن نسير فيه، وهو اتجاه يشبه شبها قريبا ذلك الاتجاه الذي اتجهت فيه الحركة الثقافية عند أسلافنا عندما بلغوا ذروتهم في القرن الرابع الهجري وامتداده في القرن الخامس (العاشر الميلادي وامتداده في الحادي عشر) مع فرق اقتضاه اختلاف العصرين؛ فقديما كان الاتجاه ينحو بالمبدعين نحو أن يستخرجوا صيغا جديدة تجمع بين الروح العربية الإسلامية الأصيلة من ناحية، وما قد جاءوا به من ثقافات أخرى، وبصفة خاصة ما قد جاءوا به من تراث اليونان القديمة فلسفة وعلما، وما قد جاءوا به من التراث الفارسي ومن الهند تصوفا، ومن مصر فلسفة صوفية بقيت من مدرسة الإسكندرية في عصرها الزاهر. واختصارا فقد كان اتجاه أسلافنا بحثا عن وقفة تضيف إلى دينهم فلسفة، لا بالمعنى الذي يجاور بين هذين الجانبين في عقل المثقف وقلبه، بل بالمعنى الذي يقرأ فيه أحد الجانبين بلغة الآخر. ومثل هذا الاتجاه هو نفسه الذي نستطيع استخلاصه مما فعله النابهون من أعلامنا المحدثين، لولا أن الجانبين اللذين أرادوا أن يجدلوهما معا في جديلة واحدة، كانا هما الدين من ناحية والعلم العصري من جهة ثانية، كما ترى - مثلا - عند الشيخ محمد عبده وهو يعرض الإسلام على نحو يبين به أن ليس في العلم ما يتعارض مع شيء في العقيدة الإسلامية. وكانت هذه الرؤية هي الغالبة - بصفة عامة - على أعلام نهضتنا الثقافية منذ الطهطاوي وحتى يومنا هذا، لكن لأن هؤلاء الأعلام أنفسهم لم يبلغ أحد منهم من شموخ القامة ما يستهوي الآخرين لأن يتبعوه، رأينا معارضات تتفرق بين الناس اتجاها ومذهبا؛ ومن ثم فقدنا التوحد الثقافي، واعتركنا بعضا مع بعض تحت أسماء مختلفة؛ فآنا جعلناها تقدمية ورجعية، وآنا جعلناها يمينا ويسارا، وآنا ثالثا جعلناها سلفية ومستقبلية، وهكذا.
ولم تكن تلك الانقسامات لتقف عند حدود الصفوة من المثقفين، وإلا لفقدت كثيرا من قيمتها العملية، بل الذي نراه هو أن كتلة الشعب في مجموعها، قد وقفت - من غير اختيار واع - مع أي فريق يقف مناهضا لتحديث الفكر، سواء أطلق عليه من معارضيه اسم «الرجعية» أو «السلفية» أو «اليمين»، فكانت خلاصة الموقف دائما هي أن موجات من التغير الفكري قد يهتز بها سطح المحيط مع حركات الرياح، وأما أغوار المحيط على عمقها واتساعها، فقد ظلت ثابتة أو كالثابتة، تساند جمود الفكر على صورته السلفية، أيا كان الاسم الذي يطلق على الناطقين دفاعا عن ذلك الجمود. وأما الدعوة إلى تحديث الفكر تحديثا يضع في الأدمغة أفكارا تلائم ظروف العصر مكان أفكار ذهب زمانها، فكانت دائما تقتصر على قلة يكتب بعضها ليقرأ لهم بعضها الآخر، وكأنهم جماعة تنتسب إلى ناد يجمعهم وراء أسوار تحجبهم عن كتلة الجمهور. ولهذه الظاهرة أثرها القوي في سيرتنا الثقافية؛ لأنها أوقفتنا أمام متناقضات تثير الحيرة، فإذا أنت زعمت للناس أننا على وجه الجملة لا نتغير من الناحية الثقافية، أجابك معترض يشير إلى جماعة من أفراد تجمعت في عواصمنا الكبرى ممن ارتفعوا بأنفسهم إلى رؤية ثقافية متطورة جديدة، وإذا أنت زعمت للناس أننا بخير، فينا من الأعلام في مجال الثقافة ما يقربنا من أي بلد متقدم، أجابك معترض يشير إلى كتلة الجمهور العريض بزعامة من يتزعمهم من القارئين الكاتبين. ويزيد الأمر في ظاهره تعقيدا على تعقيد، أن كتلة الجمهور على جمودها الثقافي، لم تتردد في أن تملأ القرى والكفور بأحدث الأجهزة العصرية منذ أول لحظة وجدت في أيديها المال الذي تنفقه على تلك الأجهزة، فإذا زعمت للناس بأننا في جمود فكري يميل بنا نحو التحجر إزاء عالم متغير متطور، أجابك المعترض إجابة لا يقتصر فيها على ذكر الصفوة المثقفة في المدن، بل يضيف إلى ذلك شاهدا آخر، هو ما تطور به الريفي حين زود داره بأجهزة حديثة.
لكن هذه الظواهر المتناقضة كلها إن هي إلا زبد يذهب جفاء، وأما ما يبقى أمام الرائي بعد ذلك في تركيبنا الثقافي فهو محيط واسع عميق من جمهور لم تتغير رؤيته، ولهذا الجمهور الثابت على رؤيته القديمة مرشدون ناطقون كاتبون. وأما البقية الضئيلة عددا، الضعيفة أثرا، فهم أولئك الذين ساروا بأنفسهم على نهج ما سار به السلف في عصر الازدهار الثقافي الذي أشرنا إليه، وهو النهج الذي يجمع إلى العقيدة الدينية رؤية ثقافية لا تتعارض معها، بل تندمج في إطارها اندماجا. ولقد كانت «الفلسفة» اليونانية هي العنصر الأساسي المضاف قديما، وهو ينبغي اليوم أن يكون علوم العصر، فإذا كان ابن رشد قد جعل عنوانا لأحد مؤلفاته مشيرا إلى الاتصال بين «الحكمة» (أي الفلسفة) و«الشريعة» وجب أن يكون العنوان الذي يهدينا اليوم، هو الاتصال بين «العلم الحديث» والشريعة.
ومع ذلك فإن تلك القلة الضئيلة عددا، الضعيفة أثرا، هي وحدها موضع الأمل في أن يبدل العربي برؤية خسر بها حاضره، أو كاد، رؤية ثقافية أخرى، تصون جوهر ماضيه وتفتح له آفاق الحياة القوية في مستقبل جديد.
مأزق حرج
من المشكلات الفكرية ما قد يعرض لك عبورا في لحظة من لحظات الحياة الجارية وكأنها جاءت مصادفة لتختفي مع ظروف حدوثها، ولكنك تراها وقد تشبثت برأسك لا تريد أن تنزاح عنه إلا أن تجد لها حلا فتستريح. ولو أنها مشكلة هامشية لا تضرب بجذورها في حياتنا إلى الصميم، لأمكن تجاهلها برغم حضورها، أما أن تنظر إليها فتجدها مما يقع في بنائنا الثقافي عند حجر الأساس، فها هنا يزداد أمرها تعقيدا؛ فلا هي تنزاح من تلقاء نفسها نسيا مع ما ينساه الإنسان من همومه مع مر الزمن، ولا أنت من جانبك تريد لها أن تنزاح قبل أن تحل عقدتها.
ومن أمثلة هذه المشكلات المحيرة، مشكلة كنا طرحناها عرضا - أو قل إنها طرحت نفسها في مجرى الحديث - وكنا ثلاثة؛ صديقين وأنا (والصديقان الآن في رحاب الله) وسوف أعرض على القارئ، لنحاول معا أن نجد منها مخرجا، وإن كنت على شك في أن يشارك قارئ اليوم في أمثال هذه القضايا الفكرية، التي ربما ظن أنها قضية لا تمس حياتنا العملية في كثير أو قليل، وتأخذه الدهشة للوهلة الأولى، حين أزعم له أنها تسري في تلك الحياة العملية سريان الدماء في أوعيتها من الكائن الحي؛ فلقد كان موضوع الحديث بيننا - أعني الصديقين وهذا الكاتب - هو البحث عن أعمق أساس يمكن أن نرد إليه اختلاف النظرة الأخلاقية بين العربي من جهة، وشعوب الغرب بصفة عامة من جهة أخرى. نعم إننا نحن وهم على حد سواء ندين بديانات هي نفسها الديانات هنا وهناك (وذلك على الأعم الأغلب) مما كان يمكن أن يؤدي إلى رؤية أخلاقية واحدة أو متقاربة، وأسس الفضائل والرذائل متشابهة في البشرية بأسرها. إذن فما الذي أحدث الاختلاف الظاهر بين الرؤيتين في آخر المطاف؟ أم أن الاختلاف - يا ترى ظاهرة سطحية، حتى إذا ما حفرنا التربة تحت الشجرتين، وجدناهما فرعين من أصل واحد؟
ذلك هو السؤال كما طرحناه على أنفسنا ذات يوم من أواخر سنوات الخمسينيات؛ فبعد أن تخبطنا في السير بأفكارنا، هنا مرة وهناك مرة، اقترح أحدنا، وكان دائما سريع الالتفات بفكره نحو «اللغة» ليجد فيها ما يفض معظم المشكلات الفكرية، اقترح أن ننظر إلى مفردات لغوية نراها أساسية بالنسبة إلى الوقفة الأخلاقية لنقارن مفرداتنا العربية بما يقابلها من مفرداتهم، لعلنا نقع على قبس يهدي، ثم أشار صاحبنا إلى كلمة «المثال» (أو «المثل الأعلى») في اللغة العربية، وما يقابلها في الإنجليزية والفرنسية معا، وقد يكون كذلك في لغات أوروبية أخرى؛ لأن ذلك المقابل يرتد إلى أصل يوناني قديم، وأعني بذلك المقابل كلمة «أيديال»؛ فما نسميه باللغة العربية «مثلا أعلى» (أو «مثالا») يسمونه هناك «أيديال». وما إن تقدم صاحبنا بهذا الاقتراح، حتى فتح الله علينا بشيء كثير مما نبحث عنه، فانظر - أولا - إلى الكلمة العربية «مثال» التي على أساسها نصف الشخص الأكمل، أو السلوك الأكمل، بأنه «مثالي» تجدها شديدة الصلة بالكلمة الدالة على الفرد العادي الذي لم يبلغ - بالضرورة - درجة الكمال في المجال الذي يكون هو موضوع الحديث، وأعني بها كلمة «مثل»؛ فليس بين «المثل» الواحد من الأمثلة الكثيرة في نوع ما، وبين «المثال» إلا حرف واحد، هو حرف الألف في كلمة مثال، لكن ذلك الحرف الواحد قد ميز «الأعلى» من كل ما دونه من «أمثلة»، فإذا قلنا عن طالب معين من طلاب الجامعة، إنه هو «مثال» الطالب الجامعي، كان معنى ذلك أنه قد بلغ أكمل درجات التفاوت، بالنسبة إلى جميع «الأمثلة» التي تقع عليها في مجموعة الطلاب، لكن كلمة «مثال» وإن تكن قد رفعت صاحبها إلى أكمل الدرجات فيما يتفاوت فيه طلبة الجامعة، فهي في الوقت نفسه لا تجعل من ذلك الطالب المثالي مخلوقا آخر ينتمي إلى غير أسرة البشر؛ أي إن من هو «أكمل» ومن هم دون ذلك مرتبة، يتدرجون جميعا في جماعة إنسانية واحدة، يتفاوت أفرادها في الدرجة، دون أن يختلفوا في النوع الإنساني الذي ينتمون إليه. وقل هذا نفسه أينما ميزت شيئا دون سائر الأمثلة من أقرانه، كأن تميز معزوفة موسيقية بدرجة الكمال التي بلغتها ولم يبلغها سواها، أو أن تميز جوادا دون سائر الجياد، أو كتابا في موضوع معين دون سائر الكتب في ذلك الموضوع، وهكذا، وما معنى ذلك؟ معناه أن نظرة العربي - استدلالا من لغته - حين يفاضل في مجال الأخلاق، أو في أي مجال آخر، فهو إنما يفاضل بين كائنات من كائنات العالم الواقعي الفعلية، فاضلا ومفضولا على حد سواء، فجميعهم على درجة ما من النقص وكل ما هنالك من فرق بين فاضل ومفضول، هو أن درجة النقص في أولهما أقل من درجة النقص في الثاني. ولعل مرد هذه النظرة العربية، هو أن يحتفظ بالكمال المطلق لله وحده سبحانه وتعالى.
ونترك هذه النظرية العربية مؤقتا، لنتجه بأنظارنا إلى نظرة أهل الغرب، مأخوذة من لغتهم؛ فقد أسلفنا بأن الكلمة المقابلة لل «مثال» عندنا، هي كلمة «أيديال» عندهم، وهي كلمة مشتقة اشتقاقا مباشرا من «أيديا» ومعناها «فكرة»، وأين تكون الأفكار؟ إنها لا تكون على الأرض كسائر الأجساد والأجسام، بل هي كائنات «عقلية» لا يحدها ما يحد الأشياء المادية من حدود المكان وحدود الزمان، والفكرة العقلية عن أي شيء مهما يكن موضوعه، هي دائما أقرب جدا إلى الفكرة الرياضية. ومعلوم أن الفكرة الرياضية لا تشير إلى مادة الأشياء، بل تشير إلى ما بين الأشياء من «علاقات»، فإذا قلت مثلا «خمسة» فأنت لا تشير بهذه الصورة الرياضية إلى مجموعة بذاتها من مجموعات الأشياء، وإنما تقدم بها «صورة» عددية تصلح لكل مجموعة من الأشياء توازيها في «العلاقات» التي تصور هيكلها البنائي، وقد تكون مجموعة الأشياء خمس برتقالات، أو خمسة كتب، أو خمسة رجال أو ما شئت؛ فكل المجموعات الخمسية متشابهة في صورة علاقاتها الداخلية بين أفرادها؛ أي إنها متشابهة كلها في «الصورة» برغم اختلاف مجموعات الأشياء المختلفة في مادة مضموناتها.
Unknown page