فالاقتصاد عصب السياسة كرد فعل على التجارب الوحدوية الأولى التي كانت سياسة بلا اقتصاد، ودولا بلا شعوب، ونظما سياسية متباينة دون رؤية قومية واحدة. ورءوس الأموال متوافرة من زيادة عوائد النفط المتتالية منذ حرب أكتوبر 1973م، والتي بلغت أكثر من ثلاثين ضعفا، ومرشحة للازدياد إلى ستين ضعفا في السنوات القادمة، خاصة إذا اندلعت الحرب لأي سبب في المنطقة بسبب عدوان إسرائيلي أمريكي على إيران بحجة تخصيب اليورانيوم ، وإمكانية تحويله إلى أسلحة نووية، أو من طامع في عوائده وأصوله في الآبار حتى لا تبقى للعرب قوة عسكرية بعد تدمير العراق، أو اقتصادية بعد تغيير موازين القوى في الخليج. وإذا كان العرب قد أضاعوا الثورة فما زال الأمل موجودا في عدم ضياع الثروة، واستثمار عوائد النفط المتراكمة في التنمية الشاملة للوطن العربي الذي يمتلك المال والأرض والمياه والعمالة والخبرة الكافية؛ كي يتحولوا من دول نامية إلى دول متقدمة. وتجارب ماليزيا وأندونيسية وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وإيران وتركية خير شاهد على ذلك.
وللخليج موضع جغرافي فريد؛ فهو على الضفتين العربية والآسيوية في الغرب والشرق، تمنحه قدرة على أن يكون مركز اتصالات عالمية بين الشرق والغرب. وهو ما يحدث الآن في دبي. وهو نقطة التقاء بين الشمال العربي في العراق والشام الكبرى والجنوب الأفريقي، كما فعلت الهجرات الهندية إلى أفريقية، والتي منها خرج غاندي مدافعا عنها.
ويكون للخليج نفس المركز الذي لقناة السويس في ربط الشرق بالغرب، والشمال بالجنوب. وهو المركز الذي تطمح له إسرائيل بشق قناة مائية جديدة بين البحر الميت والبحر المتوسط لخلق مركزية إسرائيلية جديدة، بدلا من المركزية العربية في الخليج ومصر.
يحتاج الخليج إلى سياسة توازن بين شرقه الآسيوي وغربه العربي، بين سكانه الآسيويين وسكانه العرب الأصليين أو المهاجرة من الشام ومصر، وليس توازنا بين شيعة وسنة؛ فهذه أسطورة خلقها الغرب لبث الفرقة بين أبناء الأمة الواحدة، وزرع الشقاق بين دول الجوار، إيران والخليج، أو إيران ومصر، أو إيران والعراق، وحتى لا يميل الميزان نحو إحدى الضفتين بفعل القرب الجغرافي أو الثقل السكاني أو المصالح المشتركة.
لقد كان من التوفيق وحسن السداد دعوة إيران لحضور اجتماع مجلس التعاون الخليجي الأخير لإنشاء السوق الخليجية المشتركة؛ فإيران دولة خليجية مثل دول الخليج، والمصالح الاقتصادية معها أكبر من المصالح مع الغرب الأوروبي والأمريكي والشرق الأقصى الآسيوي. الخلاف المذهبي هو نوع من التعددية الفكرية داخل المذاهب، وداخل كل مذهب هناك تعدديات وفروع لا تنتهي. والتعارض النووي والتهديد العسكري أسطورة خلقها الغرب بوجه عام، وأمريكة بوجه خاص، لإزاحة التعارض بين العرب وإسرائيل، أو العرب وأمريكة.
وهو تعارض فعلي بعد غزو أمريكة للعراق، واحتلال إسرائيل لكل فلسطين، وخلق تعارض وهمي بين إيران والعرب. وإيران تقف مع الحق العربي في فلسطين لأبعد الحدود. والتعاون الاقتصادي كفيل بالتعاون السياسي، وحل قضية الجزر بما يحقق مصالح الطرفين. فعل ذلك عبد الناصر في محافظات التكامل بين مصر والسودان في وادي حلفا، ويمكن أن تتكرر في حلايب وشلاتين. وجود الشعوب على أرض مشتركة خير وسيلة لحل قضية الحدود التي زرعها الاستعمار بعد نشأة الدول الوطنية لمنع التعاون الإقليمي، وخلق بؤر توتر دائم قد تنتهي إلى حد الصراع المسلح، وتغليب التناقض الفرعي بين العرب والعرب مثل المغرب والجزائر في قضية الصحراء، أو العرب والمسلمين مثل قضية الجزر، على التناقض الرئيسي؛ الصراع العربي الإسرائيلي وحقوق شعب فلسطين.
ومن أجل الحفاظ على أمن الخليج بالحفاظ على توازنه بين جناحه الشرقي الآسيوي، وجناحه الغربي العربي، فإنه يمكن دعوة مصر أيضا لحضور مجلس التعاون الخليجي والانضمام إلى السوق الخليجية المشتركة؛ فمصر وإيران هما ميزان الثقل في المنطقة، يجمعهما الجوار المشترك، والتاريخ المشترك، والحضارة المشتركة، والمصالح المشتركة، والمخاطر المشتركة. يستطيع ميزان التعادل هذا المحافظة على عروبة الخليج سكانيا ولغويا وثقافيا في الحياة اليومية، وسياسيا واقتصاديا في الحياة العامة. وقد كان هذا هو الهدف من إعلان دمشق. ويمكن إعادة تفعيله لمصلحة الأمن القومي في الخليج على الأمد الطويل.
وعلى هذا النحو تصبح العمالة العربية في الخليج عنصرا إيجابيا لا سلبيا لإيجاد التوازن قدر الإمكان مع العمالة الآسيوية التي هي الآن العنصر الغالب. وإذا كانت القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، قادرة على توجيه قرارات الأمم المتحدة لصالحها، وإملاء إرادتها عليها، فإنه يمكن في لحظة غضب على الخليج، ورفضه التطبيع مع إسرائيل قبل إحلال السلام وقبول مبادراته التي تنص على «الأرض مقابل السلام»، إصدار قرار بتحويل العمالة الآسيوية إلى مواطنين كاملين، لهم حق الاقتراع العامة؛ وبالتالي تنتهي عروبة النخبة الحاكمة، ويصبح العرب كلهم خليجيون ومهاجرون أقلية، والآسيويون هم الأغلبية. وتستطيع الهند مقايضة هذا الخطر بكشمير، وبالتحالف الهندي الإسرائيلي.
وحرصا على عروبة الخليج، وإيجاد عنصر التوازن بين ضفتيه الآسيوية والعربية، يتم استثمار جزء من عوائد النفط لتنمية الوطن العربي من أجل تكامله اعتمادا على العمالة العربية، وحلا لمشكلة البطالة فيه. كما يساعد ذلك على تدعيم الأمن القومي الداخلي في الخليج، وتقليل المخاطر الخارجية المحتملة من إسرائيل وأمريكة، واحتلال آبار النفط بدعوى حرمان إيران منها، ودفاعا عن الأمن القومي لأمريكة بتأمين مصادر النفط، وتهديد الأمن القومي الإسرائيلي من القوة العسكرية والاقتصادية للخليج بضفتيه الشرقية والغربية، الآسيوية والعربية. وهو تحقيق لاتفاقية الدفاع العربي المشترك التي ما زالت حبرا على ورق، والتي لم تستطع صد الغزوات على الوطن العربي من خارجه، أمريكة وإسرائيل، أو من داخله، العراق. وفي هذه الحالة لا لزوم للقواعد العسكرية الأجنبية داخل الوطن العربي وفي مياهه الإقليمية؛ فدفاع الوطن العربي عن نفسه كاف لحمايته من الأطماع القطرية والأجنبية.
من المخاطر المحدقة بالوطن العربي تآكله من الأطراف؛ من الطرف الآسيوي شرقا في العراق والخليج، ومن الطرف الأفريقي جنوبا، السودان والصومال وزنجبار وموريتانيا، وانحسار العروبة في شمال تشاد ومالي، وانحسار الإسلام في باقي الدول الأفريقية في جنوب الصحراء. كما قد تتآكل حدود الوطن العربي الشمالية من مخاطر الفرانكفونية والتوجه الغربي نظرا للقرب الجغرافي بين المغرب العربي وأوروبة، وإقامة تعاون مغاربي أوروبي لحساب فرنسة بدلا من مشاريع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير لحساب الولايات المتحدة الأمريكية، وابتلاع الوطن العربي كله شرقه وغربه وشماله وجنوبه ووسطه في مصر عبر الأطلنطي، وكمجال حيوي للإمبراطورية الأمريكية الجديدة. فإذا غاب المركز ضمرت الأطراف أو شلت
Unknown page