وحضور حلقات الاستماع شرف كبير للمستمعين. يتهافت عليها الصغار والكبار، الرجال والنساء؛ ليستمعوا إلى الوعظ الجديد، ويظهرون في التليفزيون. يبحث الناس عن بطل بعد أن عز الأبطال بانقضاء الستينيات. يبحون لا شعوريا عن شجيع وفتوة، ويتوقون إلى مخلص ولو بالنبوت كما صور نجيب محفوظ في «ملحمة الحرافيش».
الناس في حاجة إلى زعيم وقائد لا يجدونه في الواقع فيوجدونه في الخيال. يغيب في الحياة فيحضرونه في الوعظ الديني. تتوق الأمة إلى من يأخذ بيدها، يهديها ويرشدها إلى الطريق المستقيم، وينقذها مما هي فيه من آلام ومآس وأحزان، ويحميها مما تنتظره من كوارث ومصائب تمس لقمة العيش.
والمستمع ابن وقته مثل الصوفي، يعيش لحظته لينسى الزمان الممتد العريض قبل لحظة الوعظ وبعدها. أتى إلى الوعظ ليفرج همه، ويخفف كربه، ويستريح نفسيا، ثم يغادر الوعظ ليشحن من جديد بمنغصات الحياة، والصراع من أجل البقاء، وإشباع الحاجات الأساسية وتوفيرها للزوجة والأولاد، وللآباء والأمهات، وللإخوة والأخوات الذين يعولهم. يجد في الوعظ خلاصا وقتيا، وسعادة لحظية، وراحة مؤقتة عن الهم الدائم والشقاء المستمر. لا يهمه موضوع الوعظ، بل الوعظ نفسه؛ جماله ولغته وأسلوبه وصوته وخيالاته وأوهامه. يهمه الشكل دون المضمون. يعجب بالواعظ بشخصه بصرف النظر عن وعظه؛ جماله وصوته وملامح وجهه وإشراقه، يكفيه حتى ولو نطق كفرا. المستمع يتوق إلى مهارة وسحر وإبداع وتفوق وعبقرية وخيال يجده في الواعظ الذي يشبع فيه حاجاته النفسية التي لم يشبعها فيه المجتمع، ولم توفرها له الدولة.
أصبح الوعظ أقوى مؤسسة دينية تنافس جميع مؤسسات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان والطفل والشيخ والمريض والمعتقل السياسي.
الوعظ أقرب إلى الخداع منه إلى الصدق، يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (الصف: 2-3). يسحر الناس بالكلام مثل الحقنة المخدرة دون أن يساهم في يقظة الوعي بالذات وبالعالم. يجتزئ الآية عن سياقها وعن مجموع الآيات كلها. يدعو إلى الإيمان دون العقل، وإلى الرضا دون الغضب. يذكر أن الله يحب المتقين والمقسطين، ويكتم أن الله لا يحب المعتدين والظالمين والخائنين والمختالين. يتناول العدل دون الظلم، والغنى دون الفقر، والسعادة دون الشقاء. يؤمن ببعض الكتاب ويكفر بالبعض الآخر. يستعمل الآية خارج أسباب النزول حتى يعلم الناس كيف غيرت الآية واقع الناس، وأن وظيفتها في التغيير الاجتماعي وليس فقط مجرد السماع. يستعملها خارج الناسخ والمنسوخ، وهو ما يبين تغير الأحكام الشرعية بتغير الزمان. لا يختار إلا الكلام الآمن عن المحبة والسلام، دون الكلام الخطر عن الكراهية والحرب، مع أن الله يحب ويكره، والأمة تسالم من يسالمها، وتعادي من يعاديها
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها (الأنفال: 61)، والعدو يعتدي كل يوم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير.
والقرآن يتحدث عن الوسط
وكذلك جعلناكم أمة وسطا (البقرة: 143)، كما يتحدث عن الصراع
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض (البقرة: 251).
Unknown page