ولن تجد لسنة الله تبديلا (الفتح: 23)،
ولن تجد لسنة الله تحويلا . (فاطر: 43). فالكون يخضع للسنن، والتاريخ يسير طبقا لقانون؛ لذلك كان النظر في الطبيعة والآثار جزءا من الاعتبار.
وفي النظم الديمقراطية سلطة الرؤساء يحدها الدستور، وإن خرق الرئيس الدستور يعزل. ويحدها البرلمان والسلطات التشريعية، وإلا حوكم. ويراقبها القضاء والمحكمة الدستورية العليا التي تحكم ضد الرؤساء إذا ما خرقوا الدساتير والقوانين. ويواجهها الرأي العام الذي تعبر عنه الصحافة الحرة؛ فالوظيفة العامة ملك للرأي العام، ورأس السلطة التنفيذية مسئول عن رعاية الصالح العام. تحدد سلطة الرؤساء من الداخل، من طبيعة النظام السياسي الديمقراطي؛ فقد نشأت الديمقراطية ضد تسلط الكنيسة والملكيات المطلقة والإقطاع. في النظم الرئاسية التي يجمع فيها الرئيس بين سلطة رئيس الدولة وسلطة رئيس الوزارة، تتحدد سلطة الرؤساء بالبرلمان والدستور. وفي النظم البرلمانية التي تفصل بين سلطة رئيس الدولة ورئيس الوزراء، يكون رئيس الوزراء هو المسئول أمام البرلمان، ولا يكون للرئيس إلا منصب شرفي (بروتوكولي)، إنما السلطة للشعب الذي ينتخبه ممثليه وحكامه.
وفي النظم التسلطية يظن الرؤساء أن سلطاتهم بلا حدود؛ فالدولة ملكية خاصة لهم، ضيعة ورثوها أو استولوا عليها بقوة السلاح. تسمى أسماء الدول بأسمائهم، والقرارات المصيرية في الحرب والسلام في الرأسمالية أو الاشتراكية، في العزلة والاحتجاب داخل الحدود القطرية، أو في الانتشار وتحمل المسئولية القومية بأيديهم. ملهمون من الله، أو تابعون لإملاءات القوى الكبرى، أو خاضعون لجماعات الضغط ورجال الأعمال التي بيدها السلطة والثروة. هو تصور أبوي موروث؛ فالرئيس هو «سي السيد» في الأسرة والمجتمع، في المدرسة والجامعة، في الوزارة وفي الإمارة، في قسم الشرطة وفي المعتقل. هو تصور شعائري قبائلي أسري طائفي أو عرقي؛ فالرئيس ينتمي إلى قبيلة أو عشيرة أو عائلة أو طائفة أو عرق. يدافع عن بني بلدته أو عن طائفته ومذهبه. ومن كثرة ممارسة هذا الاقتناع، أن سلطة الرؤساء بلا حدود، تبدأ المخاطر الخارجية والداخلية لتبين حدود سلطة الرؤساء بالغزو الخارجي المباشر كما حدث في العراق وأفغانستان، أو بالضغوط الخارجية كما يحدث في مصر، أو تفكيك الأوطان كما يحدث في السودان والصومال ولبنان، والذي قد يصل إلى حد الحروب الأهلية، تضحية بالوطن لصالح العشيرة والقبيلة أو الطائفة والمذهب.
وما يبين حدود سلطة الرؤساء هي المقاومة الداخلية بشتى أنواعها؛ فالأوطان والشعوب عصية على التطويع مهما بلغت سلطة الرؤساء المطلقة. ومن مظاهرها انقلاب الجيش كما حدث في أوائل الخمسينيات في الوطن العربي، بالرغم من سلطة الاستعمار والقصر والإقطاع والأمن. وقد تصحبه حركة اغتيالات الرؤساء كما اغتال الرؤساء زعماء المعارضة، واستعبدوا الشعوب والأوطان؛ فلا يفل الحديد إلا الحديد. وقد تتكون جماعات سرية أو علنية مسلحة لمقاومة سلطة الرؤساء، وتقاوم قوى الجيش والشرطة والأمن خاصة في الجبال كما حدث في الجزائر، وكما يحدث الآن في باكستان. وقد تقوم ثورة شعبية عارمة وتحركات جماهيرية واسعة كما حدث في مصر في مارس 1968م ضد هزيمة يونيو (حزيران) 1967م، وفي يناير 1977م ضد غلاء الأسعار، وفي يناير 1986م من الأمن المركزي ضد الأغنياء في الدولة. وقد تندلع مظاهرات جزئية فئوية ضد الجوع والغلاء والضنك والبؤس من العمال في كبرى المصانع، ومن الموظفين في كبرى الوزارات والمصالح المالية. وقد تتحول المعارضة إلى عصيان مدني في الشوارع مثل لبنان. وقد تتحرك نوادي القضاء وأعضاء هيئات التدريس بالجامعات والاتحادات والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني. وقد تتوالى مظاهرات الطلاب بالرغم من حصارها داخل أسوار الجامعات ضد اللوائح الطلابية المفروضة، وتدخل الأمن، وشطب الطلاب الإسلاميين أو الناصريين من قوائم الانتخابات. وقد يعلو صوت صحف المعارضة، وتتناول كل الممنوعات في العقل السياسي، سلطة الحزب الحاكم، تزوير الانتخابات، الرئاسة مدى الحياة، التوريث، فساد الطبقة الحاكمة، الاحتكارات، تهريب الأموال.
هنا يدرك الرؤساء أن هناك حدودا لسلطاتهم المطلقة، وأنهم لا يعيشون في دول خاوية من الشعب والمؤسسات، وأن الأوطان كيانات مستقلة عن النظم السياسية. قد يتحول الرئيس إلى أسد جريح عندما يدرك حدود سلطته، فيفقد أعصابه، وتطيش ضرباته، فيضع كل معارضيه في السجون كما فعل رئيس الجمهورية الثانية في مذبحة سبتمبر 1981م، أو تقديم سبعة من رؤساء صحف المعارضة أمام المحاكم العسكرية كما يفعل الآن رئيس الجمهورية الثالثة؛ فنتج عن الأول حادث المنصة، ولا ندري ماذا ينتج عن الحدث الثاني.
وقد يدرك الرؤساء حدود سلطاتهم بعد فوات الأوان بالموت الفجائي
إنك ميت وإنهم ميتون (الزمر: 30)، أو بما لا يمكن التنبؤ به في الواقع؛ فالعنف قادر على اختراق سياج الأمن مثل حادث المنصة في 6 أكتوبر 1981م، أو دس السم لرئيس يراد أعداؤه التخلص منه كما حدث لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، أو وقوع طائرته كما حدث لجون جارانج رئيس جبهة تحرير السودان.
إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة ضد طبائع الأشياء؛ فالعالم متعدد القوى. بقاؤه في توازنها حتى لا يميل الميزان، وهو ما تثبته تجارب التاريخ ونهاية نظم الطغاة عند اليونان والرومان، وفي الغرب الحديث بإعدامهم في المقصلة. وهكذا كان مصير الفراعنة
ما علمت لكم من إله غيري (القصص: 38)،
Unknown page