ولكنه حين يشرع في الإنتاج بحيث يؤدي عمله في الزراعة مثلا إلى توفير الطعام لشخص ونصف، حينئذ فقط، يصير الرق مفيدا؛ لأني عندئذ أستعبد شخصين وألزمهما العمل فينتجان طعامهما وطعامي، دون أن أحتاج أنا إلى مشقة العمل.
والآن نسأل: هل مذهب الرق نشأ قبل ممارسة الرق أم العكس هو الذي حدث؟ أي إن الناس مارسوا الرق ثم وضعوا نظامه ودافعوا عن مذهبه؟ نظن أن القارئ يسلم بالفرض الثاني؛ أي إن الأفكار تأتي بعد الحوادث، والتفسير السيكلوجي لهذا أننا حين نملك عبدا نحس عاطفة الاقتناء والتسلط، ومن العاطفة تنشأ العقيدة، وهي أن الرق نظام حسن.
وعلى هذا القياس نقول: إن الناس امتلكوا الأرض قبل أن ينشأ «مذهب» الامتلاك؛ فالأحوال المادية التي نمارسها في الوسط هي التي تقرر لنا عقائد؛ لأنها تحدث لنا مكاره ومحاب، ومن هذه العقائد تنشأ الأنظمة الاجتماعية.
وليس شك أن الأسس التي ينبني عليها المجتمع هي غرائز الفرد؛ فالرغبة في الجنس الآخر قد أحدثت أنظمة الزواج والعائلة والمواريث، إلخ، والرغبة في الطعام قد أحدثت أنظمة الصناعة والزراعة والتجارة.
والرغبة في الطمأنينة قد أحدثت أنظمة الحكومة والديانة.
والرغبة في التسلط (= الطمأنينة الإيجابية) قد أحدثت امتلاك الأرض واسترقاق الأفراد.
ولكن كل هذه الرغبات قائمة أيضا عند الإسكيماوي في القطب الشمالي وعند رجل الغابات، ولكن لم تنشأ منها عندهما عائلة أو صناعة أو تجارة أو حكومة أو ديانة؛ لأن الوسط المادي لا يتيح هذا التفكير لهما؛ إذ ماذا يستفيد الإسكيماوي مثلا من استرقاق رجل آخر يعرف أنه لن يصيد أكثر مما يكفيه؟ أو ماذا ينتفع من الحكومة وهو لا يخشى أحدا إذ ليس عنده شيء يسرق؟ أي: إنه بعد أن اجتمع الناس بالزراعة وبعد أن استعبدوا الأسرى شرعوا يسوغون امتلاك الأرض والرق بأنظمة نتوهم أنها هي الأصل؛ مع أنها هي الثمرة.
ونحن نعيش في مجتمعنا بعقائد أملت العواطف، ونحن نسوغ سلوكنا في المجتمع - سواء كنا نسير على قواعده أم نشذ - بتفسيرات أو حتى تخريجات لا تصطدم بعواطفنا، وسلوكنا الاجتماعي ينبني لهذا السبب على أسس عاطفية وليست وجدانية، وقليل منا - بل قليل جدا - من يحاولون النظر إلى نظم المجتمع بالوجدان؛ أي: هذا النظر الموضوعي المنطقي التعقلي الذي لا يستسلم للعاطفة.
وجميع عقائدنا عاطفية، حتى ولو كان لها أصل وجداني؛ فإن المسلم لا يحرم لحم الخنزير فقط، بل يشمئز منه؛ أي إن العقيدة عنده تستند إلى عاطفة، وكذلك كان الشأن عند آبائنا عندما طلب إليهم تحرير عبيدهم؛ فإن اقتناء العبيد أحدث عندهم عاطفة لذيذة هي الامتلاك والتسلط، وهذه العاطفة أحدثت عقيدة الرق وأنظمته.
والتفسير الاقتصادي للتاريخ أو النظر المادي للتاريخ هو نفسه وجداني لأنظمة المجتمع وتغيراته؛ ولذلك يكرهه بعض الناس أشد الكراهة؛ لأنهم يؤمنون بعقيدة الامتلاك التي أوجدتها - في زعمهم - «غريزة» الاقتناء والادخار.
Unknown page