ونحن نتحرك في هذه الدنيا بعواطفنا؛ أي: نسعى للعيش ونجد لتحقيق الطمأنينة، ونتزوج ونقتني العقار، ونؤيد النظم الاجتماعية، ونطلب العدل ونجحد الظلم؛ لأننا نستند إلى أربع أو خمس غرائز أصلية تكيفت وعدل بها عن أصلها، وترتبت إلى مئات من الدوافع الاجتماعية؛ فقد أقعد إلى مكتبي كي أؤلف كتابا عن الدين أو الفلسفة، فما هي العاطفة التي تدفعني إلى هذا الجهد؟ وما هي الغريزة الأساسية التي ترجع إليها هذه العاطفة؟
كلنا يسلم بأن الطفل الرضيع يخشى السقوط بغريزته، ومعنى هذا أنه يحب أن يطمئن إلى مكانه؛ أي: مهده، ونحن الكبار نعيش بهذه الغريزة أيضا ونتوخى الطمأنينة، وإنما مهدنا هو الدنيا أو حتى الكون كله. والجهد الذي أبذله في إيضاح الفلسفة أو الدين إنما هو عاطفة الخوف، تبعثني على أن أنشد الطمأنينة النفسية أو الذهنية على مسرح عالمي أو كوني. وبالطبع قد اشتبكت مع هذه العاطفة جملة عواطف أخرى، منها الرغبة في التقدير الاجتماعي لشخصي، والكسب المادي من بيع الكتاب، والانتصار على الخصوم الذين لا يوافقونني على فلسفتي، ولكن البؤرة الأصلية هي الرغبة في الطمأنينة.
والعاطفة هي القوة الموطرية للنفس البشرية، وهي التي تبعث على الجهد والمثابرة؛ ومن هنا نفهم كيف يسهل علينا تعليم الطفل الحساب بالنقود؛ نسلمه القروش والمليمات ونجعله يشتري ويميز بين الحلويات والمسليات التي يقتنيها؛ فإنه لا تمضي عليه أيام حتى يحذق غير قليل من الجمع والطرح، لا يحذق عشرهما إذا تعلم بأرقام مجردة على الورق؛ ومن هنا شجاعة الجندي البريطاني يدافع عن الإمبراطورية البريطانية، وفتور الجندي الهندي في دفاعه عنها. ومن هنا التعب يحسه العامل عند الساعة السادسة مساء بعد مجهود النهار، ثم نشاطه في هذه اللحظة بالذات عندما يعرض عليه العمل ساعة أخرى بأجر ساعة ونصف. ومن هنا أيضا هذا المجهود العظيم الذي تبذله الأم في الاستيقاظ أربع مرات لإرضاع طفلها في الليل، بل السهر عليه طوال الليل إذا كان مريضا دون أن تحس إعياء يذكر؛ ففي كل هذه الحالات أحدثنا قوة موطرية (عاطفة) تحرك النشاط الذهني والجسمي، سواء في الطفل بالحلوى، أو في الأم بالقلق على ابنها، أو في الجندي بوطنيته، أو في العامل بالكسب الزائد.
نحن نتحرك في هذه الدنيا بالعواطف التي ترجع إلى غريزة واحدة، أو إلى بضع غرائز كل منها مركز بؤري يتشعع منه النشاط النفسي أو الذهني أو الجنسي.
الغريزة الأصلية
ما هي الغريزة الأصلية التي تتحرك بها إلى النشاط والعمل والقتال والكفاح؟ أي: ما هي البؤرة الملتهبة التي يتشعع منها نشاطنا في مختلف نواحيه؟ أي: ما هي العاطفة أو العواطف التي تحمل ألمانيا على الحرب، كما تحمل حزب المحافظين في بريطانيا على كراهة الاشتراكيين، كما تحمل الرجعيين على كراهة الحرية في مصر، كما تحمل الكاتب الضعيف على البذاء والسباب، كما تحمل العمال على الإضراب، كما تحمل كافة الناس على جمع المال، كما تحمل التلميذ على الدراسة؟ وأخيرا: ما هي العاطفة التي تحمل المجنون على الدعوى بأنه ملك فيستقر مرتاحا إلى هذه الدعوى؟
هل هناك غريزة واحدة أو جملة غرائز تحرك فينا عواطف تبعثنا على بذل المجهود الجسمي والذهني والنفسي الذي نعيش به؟
كان فرويد يعزو إلى الغريزة الجنسية جميع ألوان النشاط البشري، وكان يتوسع في معنى هذه الغريزة، حتى كان يراها في الطفل وهو يرضع أمه بإيقاع، كما كان يراها في النشاط الفني الذي نتوخى به الجمال. ولا يستطيع أحد يعرف حقيقة التطور، أن ينكر قيمة الغريزة الجنسية؛ وحسبك نظرة عاجلة إلى ذكرين من الحيوان يتقاتلان على أنثى كي ترى قوة العاطفة الجنسية. كما أن آلاف القصص الشائعة بشأن الحب تبين لنا مقدار المجهود الذي تتحيزه هذه العاطفة في النفس البشرية.
وكان فرويد يعتقد أن كظم العاطفة الجنسية هو الذي يؤدي إلى جميع حالات الجنون؛ لأن هذا الكظم يسد القناة الأصلية للعاطفة، فتحتال للبروز بأساليب شاذة، وتخرج من هنا متسللة ومن هناك متفجرة.
وكان أدلر يعتقد أن غريزة التسلط أو الرغبة في السيطرة بجميع ألوانها كالتفوق، أو البروز المالي أو الاجتماعي أو الجنسي، أو الرغبة في التقدير من الأقران ونحو ذلك، هذه الغريزة هي الأصل للنشاط النفسي كله، وأن صد هذه الغريزة أو عرقلتها هما السبب، لجميع الأمراض والشذوذات النفسية.
Unknown page