العقل والمخ
كان هناك شيء في القرن التاسع عشر يدعى «علم الفراسة »، وكان أكبر دعاته رجل يدعى جول، وجد من الجمهور استعدادا لتصديق مزاعمه. وكان جول هذا يرسم للمخ خارطة يبين فيها الكفاءات، ويعين للناس أخلاقهم ودرجات ذكائهم؛ فهذا النتوء في خلف القحف، وهذا الغثور في الجبهة، وهذه الأبعاد في الجبين وما فوق الأذن وما يليها من الخلف أو الأمام، كل هذا يدل على كفاءات معينة في الشخص يمكن أن نتفرسها. وكانت أوروبا تشتاق إلى التفسيرات المادية التي تغنيها عن الغيبيات؛ ولذلك شاع مذهب الفراسة هذا وقتا غير قصير.
ولكن البحث العلمي أثبت أن نظرية الكفاءات هذه غير صحيحة؛ أي إننا لا نستطيع أن نعين بقعا خاصة في المخ تدل إحداها على الصدق والأخرى على الغدر أو الرذيلة أو الفضيلة. ولكن الحرب الكبرى الأولى، بما حدث فيها من إصابات مختلفة ومتعددة في المخ، أثبتت شيئا يقارب مزاعم جول؛ هو أن هناك مراكز معينة في المخ للنظر، أو حركة اليد، أو حتى حركة إبهام اليد، أو الكلام، أو غير ذلك، بحيث إذا أصيب المخ في إحدى هذه البقع عجز المصاب عن الكلام أو عن تحريك الإبهام أو عن الرؤية.
وأكثر من هذا؛ إذ ثبت أن المركز الحسي في المخ يتسع على الدوام، كي يتصل بمراكز حسية أخرى عن طريق الملايين من خلايا المخ التي تصل بين مركز حسي وآخر؛ ومن هنا الظاهرة التي كانت مألوفة في هؤلاء الجرحى في الحرب؛ فإن الإصابة المخية قد تعجز أحدهم عن القراءة ولكنها لا تعجزه عن الكتابة؛ لأن المركز المخي للسان جرح ولكن المركز الحسي لليد والإبهام لم يجرح؛ فهو يكتب ولا يقرأ. ولكن اتصال هذه المراكز الحسية بعضها ببعض يجعل الفهم مضمونا؛ لأن ما نفقده بحاسة لا يزال باقيا بالمراكز الحسية الأخرى.
ومن هنا قيمة المخ الكبير، أو بكلمة أصح، قيمة المخ في القحف الكبير؛ لأنه يكون مثلا كثير التلافيف؛ لأن هذه الخلايا تربط بقع الإحساس المختلفة، وتجعل التذكر قائما على جملة قواعد، إذا فسدت واحدة بقيت الأخرى؛ ومن هنا أيضا نفهم أن التذكر يحتاج كي يكون راسخا، إلى أن نربطه بجملة بقع حسية؛ فإذا أردنا أن نحفظ قصيدة، كان حفظنا لها أرسخ، إذا نحن تلوناها بصوت عال نسمعه (= بقعة السمع)، وإذا كتبناها (= بقعة اللمس باليد والإبهام)، ويزيد على هذين رؤية الحروف (= بقعة النظر)؛ فهذه البقع الثلاث ترتبط بالذاكرة فلا ننسى ما حفظنا. ويكون حفظنا أضعف إذا حفظناها من شخص نتلوها بعده؛ لأننا هنا نفقد رباطي النظر واللمس؛ وأقل ضعفا إذا لم نكتبها؛ لأن الكتابة تزيد رباط اللمس باليد والإبهام.
وبالمخ ملايين من الخلايا التي تتصل بالمراكز الحسية؛ ولذلك يحدث إذا نزعنا جزءا منه أن نجد أن الشخص قد عاد عقب النزع وهو لا يحس أي نقص في ذكائه؛ لأن الشبكة التي قطع جزء منها بالنزع لم تنقطع، بل ما زالت متصلة بملايين الخلايا إلى المراكز الحسية. وأحيانا يؤدي النزع إلى فقدان مهارة صغيرة معينة، ولكن الذكاء العام لا يفقد. وتفسير هذا أن المهارة الصغيرة المعينة مثل الخياطة أو الكتابة أو الرسم أو ركوب البسكليت كانت تتحيز مركزا حسيا معينا، فلما تلف هذا المركز فقدنا المهارة التي كانت متوقفة عليه، ولكن المخ - بملايين الخلايا التي فيه - لم يضره هذا الفقدان؛ فالذكاء العام لا يزال كما هو؛ ومن هنا قيمة المخ الكبير؛ لأنه في الأغلب يحوي تلافيف كثيرة تزيد الفسحة التي تنمو فيها الخلايا فيزيد الذكاء، ولكن ضخامة الرأس ليست مقياسا مؤكدا لصحة؛ لأن الرأس الكبير قد يعود إلى ثخانة القحف العظمي، وقد تكون ضخامة في المخ مع قلة في التلافيف.
على أننا يجب ألا ننسى أن ثلثي البلد يتسمون برءوس صغيرة، وأحيانا صغيرة جدا. وموكب التطور العام من الحيوانات الدنيا إلى الإنسان يحملنا على الاعتقاد بأن زيادة الذكاء قد رافقت زيادة المخ؛ لأن الإنسان أكبر الأحياء مخا من حيث المقدار المئوي. ولكن هناك الإنسان النياندرتالي الذي انقرض وقحفه يدل على أن مخه كان أكبر من مخنا؛ فإن قحفه كان يبلغ في تجويفه 1700 سنتيمتر مكعب، أما نحن فلا نزيد على 1350 سنتيمتر مكعب. ومن العجب أن نتغلب نحن على هذا الإنسان مع ذكائه هذا، وربما يكون التعليل الصحيح أنه لنقص عضوي لم يستطع الكلام، واللغة تزيد الذكاء أو تجعله بالأحرى أداة للخدمة؛ فإذا كان قد حرمها فإن ذكاءه لذلك لم ينفعه.
والدماغ طبقات أسفلها يقوم بأبسط الأعمال الغريزية، وأعلاها - وهو المخ - يقوم بالوجدان وما به من تذكر وتخيل. وقد نزع جولتز مخ كلب، فكانت العواطف لا تزال حية فيه؛ يحب ويكره، ويغضب ويشتهي الجنس الآخر. ولكن التعبير عن هذه العواطف أصبح طليقا، بل صارخا ليس له ضابط؛ فإذا حطت ذبابة على أنفه نبح نباحا عاليا، وإذا نقل من مكانه كي يأكل نبح أيضا، مع أن هذا النقل كان يجري كل يوم؛ ومن هنا نفهم أن التعلم يحدث بطريق المخ، وأن المخ أيضا هو مكان الوجدان الذي يضبط العواطف.
قلنا: إن ضخامة المخ تدل - في ضوء التطور - على زيادة الذكاء، ولكن ليس هناك برهان حاسم جازم على هذا الرأي. وربما يكون للذكاء أصل في توزع الشرايين ومرونتها في خلايا المخ؛ أي إن القدرة على الذكاء تحتاج إلى شبكة من الشرايين الصغيرة العديدة التي تغذي المخ بالدم؛ فإذا كانت هذه الشبكة حسنة انتظم غذاء المخ وزادت القدرة على التفكير، والعكس يحدث العكس.
الغرائز والعواطف
Unknown page