ولكن الإنسان وجداني، يدري بوجوده، يقف ويتأمل ويوازن بين الاعتبارات، والدنيا مصورة في ذهنه تصويرا موضوعيا؛ أي كما هي تقريبا في الواقع غير متأثر بانفعالاته أو متأثر قليلا.
وعندما نتأمل أنفسنا نجد أننا نختلف في الوجدان عما نكون عليه في العاطفة، ويكاد هذا الاختلاف يساوي الفرق بين اليقظة والنوم. والواقع أن كثيرا من الحيوانات - كالديدان والزواحف والحشرات - يعيش كما لو كان في حال النوم البشري؛ ينساق بغرائزه وعواطفه وانعكاساته؛ لأن هذا هو كل ما يملك؛ إذ ليس له وجدان.
وغاية الفلسفة والدين والعلم أن ينقلنا كل منها من العاطفة والنظر الذاتي التسليمي للدنيا إلى الوجدان بالنظر الموضوعي الانتقادي. ويمكن أن نقيس رقي المجتمع بقدر ما في زعمائه وأشخاصه ومذاهبه من وجدان. والرجل الحكيم هو الذي يرفض السلوك العاطفي الذاتي ويعمد إلى السلوك الوجداني الموضوعي. والمقياس السديد للسلامة النفسية هو الوجدان؛ إذ على قدر اعتمادنا في السلوك والتصرف على الوجدان بالنظر الموضوعي تكون سلامتنا، وعلى قدر بعدنا من الوجدان وانسياقنا وراء العواطف يكون المرض النفسي.
والوجدان يؤدي إلى الذكاء، وهو «الغريزة العالمية» التي تحملنا على ترك إحساسنا الخاص والتخلص من انفعالاتنا حتى نرى الدنيا رؤية موضوعية؛ أي: كما هي في حقيقتها وليس كما يصورها لنا غضبنا أو هوانا أو طمعنا أو خوفنا؛ أي: ليس كما تصورها لنا انفعالاتنا. بل يكاد الوجدان في البشر يكون عاطفة جديدة؛ لأننا بالوجدان نحس قيما ونتخذ مقاييس عالمية - بل كونية - نتساءل عن أصل العالم والنجوم والحيوان والنبات وأصل الكون ومنتهاه، ونبحث الحضارة الصينية وأجزاء الذرة وقيمة الفلسفة والدين والغاية من الوجود، وأصل الفضيلة، وننتقد الطبيعة ونصوغ المستقبل. أليس الوجدان هو الذي يحمل غاندي على أن يجمع بين الثورة والقداسة؟ ففي حين يرى الطبيعة حمراء بين الناب والمخلب كلها قسوة وبطش وتقتيل، يعمد هو بوجدانه - أي بإحساسه الأفيانوسي - إلى الدعوة إلى حب الإنجليز، حتى وهو يرى بنادقهم مسلطة على الهنود.
ومع ذلك هذا هو وجداننا الآن في أسمى إنسان نعرفه في عصرنا. ولكنا لا نعرف ما سوف يكون هذا الوجدان بعد الألوف من السنين!
ووجداننا كما ورثناه من الطبيعة شيء عظيم في ذاته؛ أي إنه اختراع جديد يفصل ما بيننا وبين الحيوان، ولكنه أعظم بالمجتمع والثقافة.
انظر إلى فكرة الموت التي يعرفها البشر ولا يعرفها الحيوان؛ فإن هذه الفكرة الوجدانية قد جمعت حولها مركبات: اختراع الآلهة ومبادئ الدين، والفضائل والرذائل، وفكرة الحياة الفاضلة، كما أنها حركت الكثير من الصناعات والحرف، وزاد الوجدان بذلك زيادة عظمى.
وانظر إلى اكتشاف الزراعة التي أوجدت الحكومة وعلوم الهندسة والفلك وشتى المعارف الأخرى.
وكذلك لا ننسى قيمة اللغة في الوجدان، وكذلك النظريات الاجتماعية التي تعد كل منها محاولة لتفهم المجتمع تفهما وجدانيا، وأذكر مثلا قولنا: «ليس عند هذا العامل وجدان طبقي»؛ أي إن فهمه لحالته الاقتصادية مقصور على نفسه، ولم يتعمم إلى آلاف العمال في هذا العالم، وقس على هذا.
وغاية الوجدان كما نبصرها الآن في ضوء تكونه وتطوره الماضيين أن يكون حاسة كونية نعرف بها الأشياء في هذا الكون كما هي في حقيقتها.
Unknown page