والفلاسفة الإسلاميون، كابن سينا وابن رشد ومن تبعهما، يعنون بلفظ الجوهر وبصفة شاملة «الموجود لا في موضوع»، وثانيا وبصفة محدودة «محل الأعراض أو موضوعها». والمتكلمون «يخصصونه بالجوهر الفرد المتحيز الذي لا ينقسم، ويسمون المنقسم جسما لا جوهرا، وبحكم ذلك يمتنعون عن إطلاق اسم الجوهر (كما يطلقه الفلاسفة) على (الله) المبدأ الأول».
13
وابن سينا، بعد أن عرف الجوهر بأنه الموجود لا في موضوع، وينبه على أن اللفظ مشترك، يقول (في رسالة الحدود) إن هذا اللفظ: «يقال بالذات لكل شيء كان، كالإنسان أو كالبياض، وإن كان موجود، وإن كان كالبياض والحرارة والحركة، فهو جوهر.» كيف يكون ذلك وهذه أمثلة للعرض ؟ كيف يمكن الجمع في مدلول واحد بين الإنسان والبياض؟ وقال ابن رشد مثل هذا، وفسره كما يلي: «إن هذا إنما يسمى جوهرا بالإضافة لا بالإطلاق، ولم يضع واحد العرض من جهة ما هو عرض جزءا وجوهرا، بل من جهة ما ظن أنه معرف ذات الجوهر المشار إليه، فمن رأى أن كليات الشيء هي التي تعرف ماهيته، أو أنها الأبعاد الثلاثة، أو أنها أجزاء لا تتجزأ، أو أنهما المادة والصورة، رأوا أنها أحق باسم الجوهر من الشيء المشار إليه، إذا كان من المستحيل أن يكون أوائل الجوهر واسطقساؤه (أي أجزاؤه) ليس بجوهر؛ فإن الشيء الذي هو سبب لأمر ما أحرى بذلك الأمر الذي هو له سبب.»
14
وفي العصر الحديث نجد ثلاثة تعريفات مشهورة: أولها تعريف ديكارت القائل: إن الجوهر «هو الذي يوجد بحيث لا يفتقر في الوجود إلا لذاته». هذا التعريف مدعاة للبس، فقد يعني: «ما لا يفترق لموضوع أو محل لكي يوجد»، وهذا معنى مقبول. وقد يعني: «ما لا يفترق لشيء آخر كعلة لوجوده»، وهذا معنى يستتبع إما أن الجواهر موجودة بذاتها، ومن ثمة إلهية، أي يستتبع وحدة الوجود، أو أن اسم الجوهر يجب أن يقصر على الله، وحينئذ تكون الموجودات أعراضا لله، فنقع في وحدة الوجود كذلك. وفعلا استدرك ديكارت قائلا: «بدقيق العبارة الله وحده هكذا.»
15
التعريف الثاني هو الذي يؤسس عليه سبينوزا مذهبه في وحدة الوجود، ويفتتح به كتابه «الأخلاق» حيث يقول: «الجوهر هو الشيء الموجود في ذاته والمتصور بذاته، أي الشيء الذي لا يفترق تصوره إلى تصور شيء آخر.» وهذا خلط بين الوجود في الذات والوجود بالذات، وخلط بين الوجود في الذات وبالذات وبين المتصور بالذات؛ إذ قد يكون الشيء في ذاته وبذاته ولا يتصوره بذاته بل بواسطة معنى آخر أو معان أخر كما يجري لنا في حق الله.
والتعريف الثالث شائع لدى الحسيين وكنط ومن جاء بعده من التصوريين، وهو قولهم: إن «الجوهر فكرة محل أو موضوع ثابت الكيفيات متغيرة». يقولون إنه فكرة أو معنى، فلا يعتقدون بموضوعيته، مع فارق في تفسير أصل هذه الفكرة: الحسيون يفسرونه بأن الذهن يلاحظ توزع الإحساسات في مجموعات وتلازمها فيها، فيعتاد اعتبارها شيئا واحدا يدل عليه بلفظ واحد، كالإنسان والفرس والشجر، دون أن يدري لتوزيع الإحساسات وتلازمها علة ما، فيقدر له أساسا ويسميه بالجوهر. فهم يكررون هنا ما يقولونه في سائر المعاني. ويذهب كنط إلى أن المعاني، ومنها معنى الجوهر، أمور لا ينالها الحس، ولكنها غريزية في العقل نستخدمها لتنظيم التجربة، ونستدل عليها برسوم خيالية، والرسم الخيالي للجوهر: «بقاء كمية المادة»، وبتعبير آخر: تلازم الإحساسات كما يقول الحسيون. وهذا يقودنا إلى الفحص عن قيمة معنى الجوهر، فنقول:
محال أن يكون الجوهر فكرة ذاتية لا غير كما يدون؛ فإن الظواهر موجودة، وشرط الموجود موجود. محال عدم الإقرار بفاعل للفعل ومظهر للظاهرة. وإذا كان الجوهر مجرد فكرة ناشئة عن تلازم الظواهر أو بقاء كمية المادة، أفليس هذا التلازم أو هذا البقاء بحاجة إلى تعليل؟ ولكنهم لا يدرون له تعليلا، وإذا كان الجوهر عبارة عن جملة ظواهر، فأين توجد الظواهر؟ هل هي موجودة بذاتها؟ إنها إذن جواهر، أم هي موجودة في غيرها؟ إن هذه الأغيار إذن جواهر، وإلا تداعينا إلى ما لا نهاية. إنهم يخطئون في تصور الظواهر خطأ ساذجا للغاية: فإن الحواس تدرك الكيفيات لا قائمة بذاتها، بل متشخصة في موضوع؛ إذ ليس يوجد «بياض» (مجرد)، بل يوجد «أبيض» (مشخص)، أعني حصول البياض للشيء الذي يصير به أبيض. ولذا كان للإحساس مقدار كما يقرره علم النفس، فيبدو اللون ممتدا بالغا ما بلغ صغره، ويبدو الصوت كميا؛ بحيث إذا أردنا أن نعبر عن الواقع تعبيرا صادقا، لم نقل إن الحواس تدرك اللون والشكل والصوت والطعم والرائحة والحرارة، وإنما قلنا إنها تدرك المتلون والمتشكل وذا الصوت وذا الطعم وذا الرائحة والحار ... وما إلى ذلك، دون أن تميز أول الأمر العرض من الجوهر، ولكن العقل يميز؛ إذ يرى الشيء باقيا هو هو في طبيعته بينما الأعراض تتغير، فيعلم أن جوهر الشيء متمايز من أعراضه حقا .
ويخطئ الظاهريون في تصور العرض إجمالا؛ فإنهم يتخيلونه كما يرون اللون مثلا واردا على الشيء من خارج وملصوقا به، ويظنون أننا نحن الذين نفترض له موضوعا أو محلا خاليا. والحقيقة أن الجوهر أو الشيء أو الموجود يتكون ويدوم معه أعراضه يظهر بها وفيها، فنعرفه في نوعه وشخصه بها وفيها؛ إذ إنها «ظواهره» وليست حجبا تخفيه وتخدع عنه. والحقيقة أن العرض صادر عن الجوهر ومقبول فيه صدورا وقبولا ذاتيا، كما نرى الأشياء من جامدة وحية تظهر طبعا بأعراض خاصة، وحتى حين يكون العرض مقبولا من خارج، كلون الذي ينتقل من مناخ إلى آخر، أو طعم النبات والحيوان يتغير بتغير الاستنبات والمأكل والبيئة، أو كالعلم يلقنه المعلم، فإن الجوهر يتمثله ويجعله جزءا من ذاته. فليس حدوث العرض في الجوهر كوقوع لون صناعي على سطح الشيء، ولكنه فعل ذاتي للجوهر.
Unknown page