ومن هنا نرى أن الجمال من لواحق الوجود حقا، أي إن كل موجود فهو جميل. لكن هنا يقوم اعتراض قوي على هذه القضية يؤيد بالقبح المنتشر في العالم. فنلاحظ أولا أن معنى الجمال ليس مكتسبا بالتجريد البسيط الذي يصعد من آحاد متفقة بالماهية النوعية أو الجنسية إلى الكلي الذي يشملها، كمعنى الإنسان بالنسبة إلى أفراده. ولكن الجمال أحد المعاني التي تتحقق باختلاف في كثيرين مختلفين بالماهية النوعية أو الجنسية؛ فهو فوق الأنواع والأجناس، يلائم الموجود من حيث هو كذلك، فيطلق على أفراده بطريق التشكيك والتناسب لأنه يتحقق في كل موجود بحسبه، وإن قيل إن هذا لا يعني فقط أن الجمال ممكن التحقق في موجودات مختلفة بالنوع أو بالجنس، ولا يستلزم تحققه في كل موجود، قدمنا الملاحظة التالية.
إن المعقولات جميلة ضرورية؛ إذ إن ماهيتها لبساطتها تحصل لها بتمامها، فتكون على ما يجب لها. أما المحسوسات فأكثرها جميل بما يتضمن من تناسب في ذاته وفي علاقاته بغيره، وهذان النوعان من التناسب هما أساس النظام السائد في العالم، وإنه كما نعلم لنظام عجيب يشعرنا بالجمال كلما أدركنا منه طرفا. وأما باقي المحسوسات مما لا يرى فيه جمال، فلا ننسى من الجهة الواحدة. إن حكمنا على الجمال في هذا المضمار متأثر بتربيتنا ودرجة تعلمنا وميولنا وأخلاقنا ومنافعنا كما هو الحال في حكمنا على الخير والشر. وإذن فكثير من الأحكام بالجمال أو بالقبيح يجب أن يعد نسبيا ولا يعتبر صفة للموجودات أنفسها. ويجب أن نذكر من جهة أخرى أن صور المحسوسات أو ماهياتها هي كالصور المعقولة؛ بسيطة وإن لم تكن روحية، فنازعة طبعا إلى التحقق بتمامها، لكنها لا تتحقق إلا في المادة. وقد لا تكون المادة ملائمة فلا تطاوع فعل الصورة، فيجيء الشيء ناقصا أو مشوها. والمادة ضرورية، وهي في أدنى دركات الوجود، فالنقص والتشويه ضروريان. ونقول هنا ما قلناه عن الشر من أن هذا يقع بالعرض لا بالذات، وإن الأصل في الوجود الوحدة والحق والخير والجمال. هذه الصفات الأربع هي صفات الخالق متحققة فيه بالذات ومن ثمة إلى أقصى حد، ومفاضة منه على خلائقه، كل بحسب ماهيته وعلى قدرها.
20
الفصل الثالث
مبادئ الوجود
(1) تعدادها
بعد النظر في معنى الوجود والصفات الملازمة له ننظر في نسبة العقل إليه، أو أثره في العقل، فنجد هذا الأثر يتجلى في مبادئ أو قوانين تنعكس على العقل أو تتقدم فيه بمجرد تأمله، ويراها معقولة، بل مثال المعقولة، ويستضيء بها في تعقله، ويرد إليها كل يقين ، ويستند عليها في دفع كل إنكار. وقد مرت بنا دعوى السفسطائيين والشكاك أن ليس في العقل مثل هذه الأوائل، وأن العقل مضطر للمضي من برهان إلى آخر على الدوام، فكلما أردنا استخدام حد أوسط للبرهنة وجب علينا قبل ذلك أن نبرهن عليه هو بحد آخر، وهكذا دون توقف. والحقيقة أن البرهان لا يتسلسل، وأن جملة الحدود الوسطى متناهية بانتهائها إلى المبادئ التي هي قضايا أولية تبدو فيها ملائمة المحمول للموضوع ابتداء دون حد أوسط، بحيث لا يمكن تعيين سبب (أي حد أوسط) لهذه الملائمة غير الموضوع والمحمول ذاتهما والمضاهاة بينهما.
نمضي إذن من أبسط المعاني وأولها وهو معنى الوجود: فبمضاهاة الوجود بذات نرى أنه مطابق لذاته، فنحصل على أول المبادئ المسمى مبدأ الذاتية، وصيغته: «أن الموجود هو ذاته، أو هو ما هو»، وهذا المبدأ يهيمن على الأحكام والاستدلالات الموجبة. وشأنه أن يجعلنا نحرص على ألا نخلط بين الشيء وما عداه، وألا نضيف للشيء ما ليس له.
نرى أن الموجود إن لم يكن هو هو لم يوجد، فنحصل على مبدأ آخر هو مبدأ عدم التناقض، وصيغته: «يمتنع أن يوجد الشيء وأن لا يوجد في نفس الوقت ومن نفس الجهة»، ويمتنع أن يكون كذا ولا كذا في نفس الوقت ومن نفس الجهة. وهذا المبدأ في هذه الصيغة السالبة تعيين للمبدأ السابق ذي الصيغة الموجبة. غير أن كنط يعترض فيقول لك: لا حاجة للفظ «يمتنع» أو لفظ «محال»، وأن لفظ «في آن واحد» أو لفظ «في نفس الوقت» يعني الزمان والمبدأ فوق الزمان. والجواب: أن لفظ «يمتنع» أو «محال» يفيد ضرورة المبدأ، وهذه إفادة ضرورية، وإن قول «في آن واحد» أو «في نفس الوقت» لا يدل على الزمان إلا في الأمور العرضية الحادثة، مثل قولنا: «لا يمكن أن يكون الجالس ماشيا في نفس الوقت»، وفيما عدا ذلك، فهو لا يعني الزمان فقط، بل يعني على العموم امتناع اعتبار إحدى قضيتين متناقضتين صادقة وكاذبة معا. على أننا لا نرى بأسا في استبعاد ألفاظ الامتناع والوقت والجهة من منطوق المبدأ، بل بالعكس نستحسن أن نكتفي بتقابل معنى الوجود واللاوجود، فنقول: «ليس الوجود واللاوجود.» وبذا يبين فورا التباين بين الوجود واللاوجود، وأن هذا المبدأ صيغة سالبة لازمة من الصيغة الموجبة القائلة: «ما هو موجود فهو موجود»، فيخرج لنا أن «ما ليس موجودا ليس موجودا». وهذا المبدأ الثاني يهيمن على الأحكام والاستدلالات السالبة: فمبدأ الذاتية يعطينا أول مطابقة، ومبدأ عدم التناقض يعطينا أول مباينة.
هذه المعارضة بين الوجود واللاوجود تثير في العقل مبدأ ثالثا يسمى مبدأ الثالث المرفوع أو الوسط المرفوع؛ لأنه يقول: «لا وسط بين الوجود واللاوجود»، فالموجود إما موجود أو غير موجود وهو يرجع إلى مبدأ عدم التناقض في صيغة شرطية منفصلة، ونتيجة تطبيقية تارة موجبة وطورا سالبة تبعا للحال.
Unknown page