مقدمة
الباب الأول: وجود العقل
1 - التصور الساذج
2 - الحكم
3 - القياس
4 - الاستقراء
الباب الثاني: نقد العقل
1 - الشك واليقين
2 - التصور والوجود
3 - العقل وإدراك الطبيعة
4 - العقل وما بعد الطبيعة
الباب الثالث: المعاني والمبادئ الأولى
1 - الوجود
2 - لواحق الوجود
3 - مبادئ الوجود
4 - أقسام الوجود
مقدمة
الباب الأول: وجود العقل
1 - التصور الساذج
2 - الحكم
3 - القياس
4 - الاستقراء
الباب الثاني: نقد العقل
1 - الشك واليقين
2 - التصور والوجود
3 - العقل وإدراك الطبيعة
4 - العقل وما بعد الطبيعة
الباب الثالث: المعاني والمبادئ الأولى
1 - الوجود
2 - لواحق الوجود
3 - مبادئ الوجود
4 - أقسام الوجود
العقل والوجود
العقل والوجود
تأليف
يوسف كرم
مقدمة
أرخنا للفلسفة اليونانية، ثم الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، وأخيرا للفلسفة الحديثة،
1
وكنا كلما صادفنا مذهبا كليا أو رأيا جزئيا عقبنا عليه بالتأييد أو التفنيد؛ إذ إننا نعتقد أن مؤرخ الفلسفة فيلسوف أيضا، وأنه لا يليق به أن يضع نفسه موضع الببغاء، فيقصر مهمته على حكاية أقوال الفلاسفة دون عناية يتدبرها والحكم فيها. بيد أن تعقيبنا كان يجيء مقتضبا لأننا كنا بسبيل التأريخ أولا. ففي هذا الكتاب نعالج المسائل لذاتها محاولين الكشف عن وجه الحق فيها. وعنوانه يؤذن بأننا نقدم دراسة العقل، كما يقدم العامل امتحان الآلة قبل الشروع في استخدامها. ولسنا نزعم أن هذا الترتيب واجب؛ فإن الناس جميعا يصدقون عقلهم وحواسهم بادئ ذي بدء، وللفيلسوف المؤمن بصدق العقل والحواس أن يجاريهم فيقتحم المنطق ويثني بالفلسفة الطبيعية مرجئا نقد المعرفة إلى مكانه المنطقي الذي هو علم ما بعد الطبيعة أعم العلوم والمختص من ثمة بالفحص عن أعم المسائل.
لكن كل مطلع على الفلسفة يعلم أن مسألة المعرفة هي المحور الذي تدور حوله مسائل الوجود، بمعنى أن حلول هذه المسائل تتعين تبعا للحل المرتضى لمسألة المعرفة، ففي تقديم هذه المسألة إظهار للأسباب الأولى التي حدت بكل فيلسوف على سائر آرائه. لما كانت المعرفة الإنسانية تتألف من مدركات تمثل الأجسام، أي مظاهرها المحسوسة مكتسبة بالحواس الظاهرة ومختزلة في المخيلة، ومن مدركات مجردة عن كل عرض محسوس ومكتسبة بما يسمى بالعقل، وكان الفلاسفة متفقين إجمالا على أن المعرفة العقلية (على تضاربهم في طبيعتها وقيمتها) أعلى من المعرفة الحسية وحاكمة عليها؛ انتهت مسألة المعرفة إلى أن تكون مسألة العقل.
فإذا أردنا أن نعرف العقل ريثما نقبل على دراسته بالتفصيل، قلنا إنه قوة في الإنسان تدرك طوائف من المعارف اللامادية. يدرك العقل أولا ماهيات الماديات، أي كنهها لا ظاهرها،
2
ويدرك ثانيا معاني عامة: كالوجود، والجوهر والعرض، والعلية والمعلولية، والغاية والوسيلة، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والحق والباطل. ويدرك ثالثا علاقات أو نسبا كثيرة: كالعلاقة بين أجزاء الشيء الواحد، وعلاقات الأشياء فيما بينها، وعلاقات المعاني التي ذكرناها الآن، والعدد والترتيب. فهذه المدركات غير مادية، فلا ينفذ الحس إليها بحال. وليست العلاقة أو النسبة موجودا واقعيا، وإنما الموجود طرفاها، فإدراكها إدراك معنى غير مادي. ويدرك العقل رابعا ما بدئ عامة في كل علم علم وفي العلوم إجمالا، وليس في التجربة شيء عام. ويردك خامسا وجود موجودات غير مادية، كالنفس والله وخصائصها الذاتية، وذلك بالاستدلال بالمحسوس على المعقول أو بالمعلول على البادي للحواس على العلة الخفية عليها. وسادسا بالاستدلال أيضا يؤلف الفنون والعلوم، مما لا مثيل له عند الحيوان الأعجم مع حصوله على المعرفة الحسية.
ولقضية العقل وجهان: أحدهما وجوده، والآخر قيمة إدراكه إذا كان موجودا. والأصل في الوجه الأول أن فريقا هاما من الفلاسفة يذهبون إلى أن الحواس الظاهرة والمخيلة هي وسائلنا الوحيدة للمعرفة، وأن ما يسمى بالعقل إن هو إلا جملة أفعال ترجع إليها. هؤلاء يدعون بالحسيين أو التجريبيين متى دار الكلام على المعرفة، وبالماديين متى دار على الوجود، وذلك لقولهم: لا وجود لغير المادة، ولا معرفة دون الإحساس، ويدعون أيضا بالاسميين أو اللفظيين لقولهم: ما المعاني إلا أصوات في الهواء، أي أسماء أو ألفاظ وحسب. وهم أميل إلى تسمية العقل بأسماء ذات دلالة واسعة غامضة قد تمتد إلى المعرفة بأسرها، فيقولون بالفرنسية:
Entendement ، وبالإنجليزية: “Mind, spirit” Understanding
مما يقابل قولنا: «الذهن» على حد تعريفه بأنه: «قوة للنفس تشمل الحواس الظاهرة والباطنة».
3
وطبيعي أنه لو صح مذهبهم لعاد البحث في مسائل الوجود إلى تحليلها للكشف عن كيفية تكوينها من الصور الخيالية والعادات النفسية، أي عادت الفلسفة كلها إلى مسألة المعرفة. وقد حدث هذا فعلا من جانبهم، وكان محتوما أن يحدث بناء على مبدئهم. لذا كان أول ما عنينا به إثبات وجود العقل بإثبات أصالة أفعاله ومغايرتها لأفعال الحواس، وكان هذا موضوع الباب الأول.
ما نكاد نضع هذه النتيجة حتى يبرز لنا الوجه الآخر لقضية العقل، ذلك أن العقل قد يكون موجودا ثم يكون أداة غير صالحة للإدراك، فهل باستطاعته الوصول إلى اليقين، أو هو مضطر لتعليق الحكم والتزام الشك؟ هذه مسألة عامة مبدئية تتخصص في ثلاث مسائل؛ الأولى: هل باستطاعة العقل أن يبرر يقينه بإدراكه؟ الثانية: هل باستطاعته أن يبرر اليقين بإدراك الحواس؟ الثالثة: هل باستطاعته أن يجاوز دائرة الوجود الطبيعي إلى ما بعد الطبيعة؟ في هذه المسائل نلقى الحسيين بأدلتهم، ونلقى بنوع خاص طائفة من الفلاسفة نسميهم بالتصوريين؛
4
لأنهم يدعون أن الإدراك أيا كان إنما يقع على التصورات الماثلة في الذهن، كما يحدث في الأحلام، لا على موضوعات متمايزة من التصورات، وأن تصديقنا بوجود الأجسام بقيمة المعاني والمبادئ العقلية إن هو إلا توهم، ومن باب أولى التصديق بالروحيات.
وقد اصطنع الحسيون هذا المبدأ التصوري، واتحدوا مع أصحابه، فأجابوا جميعا على المسائل الثلاثة بالنفي. وهذا موقف خطير للغاية يقضي على الفلسفة كعلم للوجود. ونحن ننحاز إلى وجهة الإثبات، ونبين أن قوانا العارفة آلات صالحة للإدراك صادقة بالرغم مما تقع فيه أحيانا من أخطاء، وأن هناك حقائق لا يتطرق الشك إليها: منها أولية بينة بنفسها، ومنها كسبية يتبرهن اليقين بها بالأولية، فتستطيع المضي في الفلسفة، ومعالجة المسائل الوجودية.
هذه المسائل منها عامة ومنها خاصة: المسائل العامة نجد مكانها في هذا الكتاب، وهي تدور على معنى الوجود بالإطلاق، وعلى الأمور التي تلحقه بهذا الاعتبار، فنلحق كل موجود وتدخل في تفهم حقيقته، مثل الجوهر والعرض، والقوة والفعل، والعلة الفاعلية والعلة الغائية. وتؤلف المسائل الخاصة كتابا آخر: «الطبيعة وما بعد الطبيعة» ونقسمه إلى قسمين: أحدهما يضم مسائل الوجود الطبيعي، فيفحص عن تركيب الكائن المادي إجمالا، ثم عن خصوصياته وهي الكائنات الحية نامية وحاسة وناطقة. والقسم الآخر يرتفع إلى الله علة الوجود الطبيعي، ويحاول تعرف ذاته، وفسخ الإشكالات التي أثارها الحسيون والتصوريون بشأن إمكان البرهنة على وجود الله، وإمكان إضافة صفات إلى الذات الإلهية. وبعد الفلسفة النظرية تجيء الفلسفة العملية أو فلسفة الأخلاق، نتناولها في كتاب ثالث نسميه: «الأخلاق الإنسانية»، للدلالة على أن للإنسان أخلاقا لائقة به، مغايرة للأخلاق التي توحي بها الطبيعة الحيوانية الخاضعة للذة الجسمية والمنفعة المادية. وعلى هذا الوجه نعوض مذهبا تاما يتسم باليقين والإيمان، وبدونهما لا حياة للإنسان بما هو إنسان.
وإذا سئلنا عن اسم هذا المذهب وعن مصدره، قلنا: إنه المذهب العقلي
Intellenctualisme
5
ولكن المذهب العقلي المعتدل
Modetre
يؤمن أيضا بالوجود ويقدر تعلقه عليه. ثم قلنا إن أفلاطون قد سبق إلى بعض لمحات منه، ولكن أرسطو هو زعيمه الأول الذي استخلص معانيه الأساسية ومبادئه المنطقية والميتافيزيقية وصاغ تعريفاتها واستخرج نتائجها، وإن الفلاسفة الإسلاميين، وبخاصة ابن سينا وابن رشد، قد أسهموا فيه باللسان العربي المبين. فنحن نعود إلى هؤلاء جميعا، ونؤيد شروحهم وأدلتهم، ونبين تهافت الذين حادوا عنها من الفلاسفة المحدثين. لقد تنوسيت تلك التعاليم القديمة وطال عليها النسيان، أو صارت تروى لمحض التأريخ دون اعتقاد لها بقيمة فكرية وحقيقة وجودية، لا بل مع اعتقاد أن الآراء الحديثة قد نسختها، كما نسخ العلم الحديث العلم القديم، ونسخ كل حديث كل قديم فيما يقال، فعسى أن يقتنع قارئ هذا الكتاب بأن الحق مكنون في هذا القديم الذي نبعثه.
الباب الأول
وجود العقل
الفصل الأول
التصور الساذج
(1) المعنى المجرد الكلي
نفتتح القول إذن بإثبات مغايرة الأفعال العقلية للأفعال الحسية. ومتى ثبتت هذه المغايرة ثبتت أصالة العقل، وثبت له وجود خاص، من حيث إن كل فعل فله بالضرورة فاعل معادل له. ونقصد بالأفعال العقلية على وجه التحديد الأفعال الثلاثة المعروفة في المنطق بالتصور الساذج والحكم والاستدلال (بنوعيه من قياس واستقراء). ومعلوم أن التصور الساذج - أي البسيط - سمي كذلك بالنسبة على الحكم والاستدلال؛ فإنه محض إدراك معنى ما، كالعلم والإنسان والمثلث والفضيلة، بينما هما إدراك بإثبات أو نفي يجمعهما تحت اسم التصديق. وعلى هذه الأفعال يدور هذا الباب الأول.
المعنى يمثل ماهية الشيء المدرك، أي طبيعته دون تمثيل لما تبدو فيه الماهية أو الطبيعة من الأعراض. ويحصل عليه العقل بتجريد الماهية عن المادة الشخصية وعن الأعراض الملازمة للمادة، كالمقدار واللون والصوت والرائحة والطعم والحرارة والبرودة. ولما كانت الماهية الممثلة في المعنى مجردة هكذا عن كل ما يخصص الوجود الواقعي؛ فإن العقل يتصور إمكان تحققها في ما لا نهاية له من الأفراد، ولو لم تعرض عليه التجربة سوى فرد واحد لماهية واحدة. وبهذا الاعتبار يقال للمعنى المجرد إنه كلي، ويقال لأفراده إنها جزئيات لأنها بمثابة أجزاء له. وواضح أن التجريد سابق على تصور الكلية؛ لأن المعنى إنما يطلق على كثيرين لكونه غير متضمن لشيء مما يعين ويخصص في الواقع. وهذه الملاحظة على جانب عظيم من الأهمية، وهي تقتضينا ألا نقول «المعنى الكلي» إلا حيث تكون الكلية مقصودة فعلا، وأن نقول «المعنى» أو «المعنى المجرد» حيث نقصد الماهية فقط، أي المفهوم دون الماصدق، فنرفع لبسا كان مثارا للخطأ عند كثيرين من الفلاسفة.
والتجريد على هذا النحو أساس «العلم» الذي هو وصول العقل إلى معنى الشيء، ومتى وصل العقل إلى معنى الشيء فقد عرفه بعلته، أي أدرك علة تكوينه وعلة خصائصه وعلة أفعاله. ولما كانت الماهية الممثلة في المعنى المجرد ثابتة، كان العلم بها ثابتا لا يلحظ تغير الأعراض ولا يتغير بتغيرها، فضرورة العلم لازمة من ضرورة الماهيات. وتبعا لذلك لا يكون العلم إدراك الجزء بما هو جزئي حاصل على كذا وكذا من الأعراض التي تميزه من سائر أفراد نوعه، بل يكون العلم إدراك الكلي، على حد القول المأثور عن أرسطو وأتباعه، أي إدراك الماهية المجردة التي هي كلية بالقوة من جراء تجردها، وتصير كلية بالفعل متى التفت العقل إلى جزئياتها الحقيقية والممكنة.
ويتفاوت التجريد على ثلاث درجات: في الدرجة الأولى يتناول العقل الشيء المادي كما هو ماثل في الصورة الخيالية، فيجرده عن أعراضه المحسوسة بالفعل، كمقداره وشكله ولونه وحرارته ... إلى غير ذلك مما هو خاص بشخصه لا بماهيته ونوعه، مثلما نجرد صورة زيد عن أعراضه التي من هذا القبيل فنحصل على معنى الإنسان. بعد هذا التجريد يبقى المعنى مشتملا على مادة مخصوصة داخلة في حقيقة الماهية؛ فإن الإنسان يوجد حتما في لحم وعظم، لكنها مادة معقولة إجمالا، أي مجردة عن الأعراض. وهكذا الحال في سائر الكائنات الطبيعية، نتصور كلا منها في المادة التي تخص ماهيته لكن مجردة مجملة، والكائنات المتصورة على هذا النحو هي موضوعات العلم الطبيعية.
وفي الدرجة الثانية يتناول العقل هذه الموضوعات، فيجردها عن المادة المخصوصة المجردة أو الإجمالية، فتبقى لديه المادة على العموم، وهي التي لما جردت على المادة المحسوسة شخصية وإجمالية لم تعد محسوسة، بل أضحت معقولة فقط، تتصور أبعادا وأشكالا، أي خطوطا وسطوحا وحجوما دون أي عرض من أعراض الكائنات الطبيعية، فيحصل العقل بذلك على معنى الكمية المتصلة وينشأ علم الهندسة، ثم يحصل على معنى الكمية المنفصلة أو العدد، وذلك بالتمييز بين كميات متصلة مختلفة والجمع بينها، أو بقسمة الكمية المتصلة والجمع بين الأقسام، وينشأ علم الحساب الذي هو أكثر تجردا من الهندسة لعدم تعلق الأعداد بالمكان كتعلق الأبعاد والأشكال، وأخيرا يحصل على معنى الكمية إطلاقا، وينشأ علم الجبر الذي هو أكثر تجردا من الهندسة والحساب.
وفي الدرجة الثالثة يجرد العقل الشيء عن المادة المعقولة أيضا، فلا يبقى لديه سوى معنى الموجود، وهو معنى غير متعلق بالمادة بالذات؛ إذ قد يكون الموجود جسما وقد يكون روحا. كذلك يلحظ العقل بعض معان توجد تارة في مادة وتارة في غير المادة: كالجوهر والعرض والكيفية والإضافة والقوة والفعل والكلي والجزئي والعلة المعلول والغاية والوسيلة، فيعلم العقل أنها تلحق الموجود من حيث هو موجود لا من حيث هو جسم طبيعي أو رياضي، ويحصل بذلك على موضوعات ما بعد الطبيعة.
فالتجريد واسطة الاتصال بين العقل والوجود، وفيه ضمان موضوعية العلم وحقيقته. والفلاسفة الذين ينكرون العقل ويحاولون الاكتفاء بالحس (مثال هوبس لوك وهيوم ومل وسبنسر) ولا يستطيعون تسويغ العلم الذي يدور على الماهيات المجردة والقوانين الكلية، بينما الحس لا ينال سوى الجزئيات. والفلاسفة الذين يؤمنون بالعقل وينكرون هذا التجريد (أمثال ديكارت ومالبرانش وليبنتز وسبينوزا وكنط)، لا يستطيعون تعيين العلة الحقة للمطابقة بين العقل والأشياء. (2) المذهب الحسي والمعنى
ينكر الحسيون وجود معان في أذهاننا، ويبنون هذا الإنكار على اعتبارين: أحدهما أنه لما كان كل موجود حسيا، كانت معارفنا إما إحساسات أو راجعة إلى إحساسات. والاعتبار الآخر أن المعنى الكلي تصور متناقض يلغي عجزه صدره؛ إذ إن الكلية تمنع عن المعنى التعيين، بينما كل موجود وكل تصور فهو معين حتما. هل نستطيع تصور إنسان لا هو أبيض ولا أسود ولا أصفر ولا أحمر، ولا هو طويل أو قصير، ولا هو كذا أو كذا مما يسمى بالأعراض؟ هل نستطيع أن نتصور حركة متمايزة من الجسم المتحرك ولا هي سريعة ولا بطيئة، ولا مستقيمة ولا منحنية؟ هل نستطيع أن نتصور مثلثا لا يمثل نوعا من أنواع المثلثات ويشملها جميعا؟ ويقاس على ذلك سائر المعاني التي لها التجرد والكلية.
غير أنهم يجدون أنفسهم مضطرين للإقرار بما يشبه المعنى المجرد الكلي، فيحاولون تفسيره ابتداء من الحسي، فيقولون إنه صورة تكتسب بالانتباه على الخصائص المشتركة بين الجزئيات وفصلها عن الخصائص الذاتية لكل جزئي، وهذا هو التجريد عندهم، فنحصل على صورة ناقصة تحوي بعض خصائص الشيء دون بعض. وندل على هذه الصورة بلفظ، فنخلق بينهما علاقة عرفية يكون من أثرها أنه كلما سمعنا اللفظ أو قرأناه بدت في ذهننا صور أشياء حاصلة على تلك الخصائص، وهذه هي الكلية عندهم، تتسع أكثر فأكثر بتناقص عدد الخصائص المستبقاة في الصورة على ما تشير إليه كتب المنطق حين تعين العلاقة بين المفهوم والماصدق. ومن الحسيين من يعترف للذهن بفاعلية ذاتية في المضاهاة بين الخصائص والانتباه إليها، ومنهم من يرى أن الذهن منفعل وحسب، وأن تكرار الإحساس أو شدته تبرز الخصائص المشتركة وتفرض الانتباه على الذهن، فتحدث الصورة حدوثا آليا . والحسيون المعاصرون يؤيدون تفسيرهم للتجريد بتلك «الصور المركبة» التي حصل عليها جالثون حوالي سنة 1880؛ إذ وضع في فانوس سحري بضع ميداليات تمثل كليوباترة ووجه الضوء إلى موضع واحد، فظهرت صورة هي متوسط الميداليات. وكذلك صنع بميداليات تمثل إسكندر الأكبر، وبصورة شمسية تمثل أفراد إحدى الأسر، فكانت هذه التجارب دليلا ماديا على ترسخ المشابهات وتلاشي الفوارق. (3) المعنى والصورة
نقسم ردنا على هذه الأقوال إلى قسمين: الأول مقارنة بين المعنى والصورة، والثاني مقارنة بين المعنى واللفظ. ونبدأ بالكلام على الصورة المركبة، فنقول: إن الحصول على صورة من هذا القبيل يقتضي أن تكون الصور الجزئية قليلة العدد شديدة التشابه، فإذا حذفت إحداها أو أضيفت أخرى تعدلت الصورة الناتجة عنها. فالصورة المركبة صورة متوسطة للصور الجزئية المستخدمة في إنتاجها، ولها فقط؛ وهي لا تعتبر مشتركة في الحقيقة إلا بالقياس إلى الصور الجزئية الحادثة هي عنها، وبالقياس إلى الذي يعرف هذه الصور الجزئية. أما إذا لم نعرفها، فالصورة المركبة تكون بالقياس إلينا صورة جزئية معينة بأعراض خاصة كواحدة من تلك الصور؛ إذ إنها إنما تمثل الملامح المحسوسة لطائفة من الموجودات معينة. وعلى ذلك يستحيل الحصول على صورة مركبة إذا ما تباعدت المشابهات المحسوسة بين أصناف النوع الواحد، ومن باب أولى بين أنواع الجنس الواحد: كيف نحصل على صورة متوسطة للإنسان باستخدام صور الأصناف البشرية من أبيض وأسود وأسمر وأصفر وأحمر؟ على أي شكل يظهر فيها الرأس والعينان والأنف والشفتان والقامة؟ إن كل أولئك يظهر على شكل مشوه لمميزات كل صنف. وكيف نحصل على صورة متوسطة للحيوان باستخدام صور الأنواع الحيوانية، كالإنسان والقرد والأسد والثور والفرس والحوت والخفاش والقط ... إلخ؟ وكيف نحصل على صورة متوسطة لمثلث أو اللون أو لغير ذلك من الأجناس؟
هذا فضلا عن أن الصورة المركبة أيا كانت هي صورة محسوسة، فلا يمكن أن تتكرر بالذات في كثيرين، بينما المعنى ينطبق بالذات على عدد لا يحصى من الأفراد. قال ابن سينا (في كتاب النجاة): «إن الحس لا ينال الإنسان المقول على كثيرين، وكذلك الخيال؛ فإنك أي صورة أحضرتها في التخيل أو في الحس الجسماني، لم يمكنك أن تشرك فيها سائر الصور الشخصية؛ لأن ما يرتسم في الحس أو الخيال يكون مع عوارض من الكم والكيف والأين والوضع غير ضرورية في الإنسانية ولا مساوية لها.» وقال أيضا: «ليس يمكن في الخيال البتة أن يتخيل صورة هي بحال يمكن أن يشترك فيه جميع أشخاص ذلك النوع (أي الممثل بالصورة)؛ فإن الإنسان المتخيل يكون كواحد من الناس.» وهكذا نعتقد أننا قد فرغنا من أمر الصورة المركبة وأبطلنا استشهاد الحسيين بها.
على أننا نسلم بوجود الصورة المشتركة في مخيلتنا ومخيلة الحيوان الأعجم، يأتي اشتراكها من غموضها واقتصارها على خطوط عامة قليلة التعيين، وإنما يمكن ذلك؛ لأن الخيال قوة حية لا جامدة، وأن الإدراك فعل معنوي لا مادي فيحتمل التعيين. وإذا عدنا إلى التفاوت في أنفسنا، وجدنا أن المعرفة تتدرج من العام إلى الخاص: ففي دائرة المعرفة الحسية نذكر أننا إذا رأينا شيئا عن بعد، فإننا ندرك كونه جسما قبل كونه حيوانا، وكونه حيوانا قبل كونه إنسانا، وكونه إنسانا قبل كونه هذا الشخص المعين. ويلاحظ أرسطو في مطلع كتاب السماع الطبيعي - تأييدا لهذه القضية - أن الأطفال يميزون بين الإنسان واللاإنسان قبل أن يميزوا بين إنسان وآخر، ويدعون كل رجل أبا وكل امرأة أما قبل أن يفردوا الأب والأم الحقيقيين عن باقي الرجال والنساء. وكذلك الحال في دائرة المعرفة العقلية؛ فإن العقل يدرك الماهيات في أول الأمر إدراكا إجماليا، ثم يخصص هذا الإدراك ويستكمله بتحليل الأشياء إلى عناصرها أو خواصها، أي بتجريدات متتالية.
فحين نقول إن التصور الساذج إدراك الماهية، لا نقصد أن العقل ينفذ فورا إلى صميم الأشياء ويبلغ دفعة إلى خصائصها الجوهرية. إننا لا نزعم للعقل الإنساني مثل هذه المقدرة، بل لا نخشى أن نعلن أنه لا يصل أبدا إلى ماهيات الماديات ولا يكشف عن فصولها النوعية، فلا يحدها الحد الذي يشترطه المنطق في العلم الكامل، اللهم فيما سوى الماهية الإنسانية التي نعرف أن النطق فصلها النوعي . ولعجز العقل عن حد الماديات فإنه يقنع برسمها أي بتعريفها تعريفا تجريبيا وصفيا بأعراض خارجة عن الماهية دالة عليها مميزة لها مما عداها باجتماعها لها دون غيرها. كما نشاهد في علومنا الطبيعية حيث تعرف العناصر الكيميائية بوزنها وألفتها وآثارها، وتعرف النباتات والحيوانات بالهيئة الخارجية والتكوين الداخلي ونوع الغذاء وما إلى ذلك. فليست المعاني سواء في كمال التصور، ولكنها تتفاوت: فمنها الغامض والواضح، ومنها المختلط والمميز.
الفارق الجوهري بين المعنى والصورة المشتركة، أو بين الحد والرسم، هو أن الصورة تشتمل على أعراض الشيء وأجزائه كما تبدو للحواس وحسب، وأن المعنى يتضمن علة الخصائص التي يمثلها. فحين نحد الإنسان بأنه حيوان ناطق، نحن نعلم أن الحيوانية والنطق علة جميع أفعاله وجميع خصائصه، كالحرية والأخلاق والدين واللغة والعلم والفن والاجتماع، فإن أولئك جميعا راجعة إلى النطق لازمة عنه. وحين نعدد عناصر الصورة المشتركة للإنسان، فنقول إنه جسم حي حاس غير ذي ريش ولا وبر يمشي على قدمين رأسه مرتفع إلى أعلى، نجد أننا نجمع عناصر محسوسة بعضها إلى بعض، ولا نعلم علة وجود هذه العناصر للإنسان. بل حين نعرفه بالخصائص المعقولة اللازمة عن النطق دون النطق نفسه، فلا يكون تعريفنا إلا رسما كالرسم الجامع للعناصر المحسوسة، ولا يصير حدا إلا بذكر النطق أولا باعتباره الخاصية الأساسية المقومة للماهية المعبرة عما «هو» الإنسان والمفسرة لجميع خصائصه؛ لأنها هي العلة في كون الإنسان إنسانا وكون هذه خصائصه. والأمر كذلك في الصورة المشتركة للساعة أو القاطرة أو الطائرة أو غيرها من الآلات؛ فإن الحيوان الأعجم يتصورها، ويتصورها الإنسان الجاهل حقيقتها، ولكن علة وجود أجزائها وعلة اجتماعها لا تدرك إلا في معنى الساعة وهو أنها آلة لقياس الزمان، أو في معنى القاطرة أو في معنى الطائرة، وهذه المعاني معقولة غير محسوسة.
فإذا كنا قد سلمنا أن الإنسان لا يتبين المعنى المعقول في الماديات، فقد كان مرادنا التبين الصريح، وما نزال ندعي أن الإنسان يتبين الماهيات المادية نوعا من التبين، مستشهدين بالتجربة التي ترينا الحيوان الأعجم يستظل بالشجر ، ويأكل العشب والثمر، وينتفع بغير ذلك من الأشياء، ثم لا يستعيض عما يفوته منها، ولا يحدث أي أثر إيجابي فيما حوله. بينما الإنسان يستنبت الشجر والعشب ويستخدم الأشياء وخصائصها على وجوه شتى كثير منها لم يعرض في الطبيعة. والعجماوات هي التي تقف عند الظاهر المحسوس الذي يقتصر عليه الحسيون، والإنسان ينفذ إلى ما وراء المحسوس من المعقول.
هذا فيما يختص بالماديات، أي بمعاني الدرجة الأولى من درجات التجريد. فإذا ارتقينا إلى ما فوقها قلنا بدون تحفظ ولا استدراك: إن العقل يدرك الماهيات. فمعاني الدرجة الثانية التي هي موضوعات الرياضيات معقولات صرفة من غير شك؛ فإنها بريئة عن المادة المحسوسة التي تحجب الماهية كما بينا، وهي لا تشتمل إلا على المادة المعقولة التي هي السطح والخط مجردين عن كل كيفية حسية، فيستوعب العقل خصائصها، ويبرهن على هذه الخصائص بخاصية رئيسة مأخوذة من المعاني أنفسها، أي من الماهيات الممثلة في المعاني. وما الأشكال المتخيلة ههنا بإزاء المعاني سوى صورة جزئية ليست هي المقصودة بالحد والبرهان.
ومعاني الدرجة الثالثة المجردة عن كل مادة محسوسة أو معقولة، كمعاني ما بعد الطبيعة والنفس والأخلاق والمنطق، شاهد أبلغ على إدراك العقل للماهيات؛ فإنها تتأبى على كل تخيل كما هو واضح، ومنها ما يطلع على أشياء متباينة الماهية بحيث لا يبقى أي وجه لدعوى الحسيين أن معانينا عناصر محسوسة مشتركة ينضم بعضها إلى بعض بالتشابه: ما هي العناصر المحسوسة المشتركة بين تمثال وقصيدة وقطعة موسيقية وزهرة، وغيرها كثير، حين نصفها بالجمال؟ فإن قيل إن هذا الوصف غير مستفاد منها بل من أثرها فينا، أجبنا أننا نشعر تمام الشعور أن الوصف متجه إليها، وندرك بجلاء أنه إذا لم يكن لها صفة الجمال لم يكن لها أي أثر. ثم ما هي العناصر المحسوسة المشتركة بين الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة والسخاء، وغيرها من الفضائل حين نجمعها تحت معنى الفضيلة؟ فإن سئلنا بأي حق نجمعها هكذا، أجبنا أن هناك تشابها، ولكنه تشابه معقول غير محسوس يبدو في التعريفات التي نؤلفها لهذه المعاني بأجناس وفصول معنوية، كما سنبينه كلما صادفنا معنى من تلك المعاني العامة الشاملة التي هي أصول المعرفة الإنسانية.
الخلاف إذن بيننا وبين الحسيين قائم في أنهم يأبون الاعتراف بالمعقول، ويجهدون أنفسهم في رده إلى المحسوس. ويظهر هذا الخلط في نقدهم للمعنى المجرد؛ إذ يقولون إنهم لا يستطيعون أن يتصوروه لأنه غير معين، وهم يقصدون أنهم لا يستطيعون أن يتخيلوه، ونحن نقرهم على أنه لا يتخيل من حيث إن المخيلة قوة حسية عاجزة بطبعها عن تمثيل ما ليس بمحسوس. أما إن أريد بالتصور التعقل فهو مستطاع؛ إذ إن المعنى المجرد غير المعين من جهة الأعراض المحسوسة، معين تمام التعيين بعناصره المعقولة التي تدخل في تعريفه. وإذا عد تصورا ناقصا لكونه لا يحتوي إلا على تلك العناصر، فإنه تصور تام ما دامت هي المقومة للماهية. فالتعريف الصحيح للتجريد ليس قولهم إنه انتزاع صورة جزئية من صورة جزئية أعقد، مثلما تفعل الحواس الظاهرة التي يدرك كل منها كيفية معينة من كيفيات الشيء الواحد، فإن الصورة الجزئية لا تفسر المعنى على أي وجه أخذناها، والانتباه الذي يجعلون منه وسيلة التجريد لا يعطي الصورة الواقع عليها أي قسط من التجرد، بل بالعكس يقوي جزئيتها: كانتباه البصر إلى لون شيء ما، فإنه يفسر انفصال اللون عن الشيء، ولكنه يدعه هذا اللون المعين في هذا الشيء المعين.
وإنما التعريف الصحيح للتجريد هو الذي يذكره ابن سينا نقلا عن المدرسة الأرسطوطالية، حيث يقول: «إنه انتزاع الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعن علائق المادة ولواحقها.» أو بكلمة واحدة: التجريد إحالة المحسوس معقولا. إننا نخطئ بلا مراء إذا تصورنا اللون أو الحركة أو الماهيات الجسمية مفارقة للأجسام لكونها مجردة عنها في تصورنا، أما إذا لاحظنا الحركة مثلا فيما يخصها بالذات، وهو أنها الانتقال التدريجي من مكان إلى آخر، بصرف النظر عن الموضوع المتحرك، وعن أعراض الحركة من اتجاه وسرعة وبطء، فليس في هذا التجريد كذب؛ لأن الموضوع المتحرك ومشخصاته لا تدخل في حقيقة الحركة ، وليس فيه امتناع، وإنما هو عام عادي كما يشهد الوجدان وتشهد العلوم التي إنما مدارها على أمثال هذه المجردات. ومن عجب أن يغفل الحسيون شهادة الوجدان وشهادة العلوم تشبثا بمبدئهم. (4) المعنى واللفظ
بل إن مبدأهم قد ساقهم إلى أشهد من هذا خلفا وأدعى للعجب؛ ذلك أنهم لم يؤمنوا بالمعاني وآمنوا بالألفاظ. فقد مر بنا تفسيرهم للكلية أنها استعراض صورة جزئية عند سماع الأسماء الموضوعة لها أو قراءتها. ولما جزموا بأن المعاني ألفاظ وحسب، انتهوا إلى أن مدار العلوم على ألفاظ. فإنكارهم للعقل قضى عليهم بإنكار قيمة العلم.
أجل إن اللفظ أو الاسم غير متعلق بصورة جزئية معينة؛ هذا قول صادق، وأصدق منه وأصرح أن نقول: إن الاسم كلي حين يتصور الذهن الكلية، وأنه يصير جزئيا بالإشارة إلى عين من الأعيان، كأن نقول: هذا الإنسان وهذه الشجرة. ويعود كليا حين نستعمله بصيغة الجمع فنقول: الناس والأشجار. أو بصيغة مهملة مثل: إنسان ما وشجرة ما. فما هو السبب في إمكان وضع الاسم مستقلا هكذا عن الصور الجزئية، وجميع إدراكاتنا واقعة على جزئيات فيما يقولون؟ أليس هذا دليلا قاطعا على أن المعنى والكلية سابقان على الاسم، وأنهما السبب في وضع الاسم، وأن لا قيمة للاسم إلا إذا قرن به المعنى وأدركت الكلية؟ ليس التفكير لوك ألفاظ، ولكنه إدراك الأشياء المدلول عليها بالألفاظ. ونحسب أن كل هذا من البداهة بحيث لا يحتاج إلى إلحاح.
يلزم من ذلك أن العلوم تدور على أشياء لا على ألفاظ كما يدعون. وقد اعتقد باركلي أنه يؤيد المذهب الحسي في هذه الدعوى باستشهاده بالحساب والجبر كعلمين اسميين يدوران على علامات عرفية لا على أشياء، ولكنه كان واهما، فقد نسلم جدلا باسمية هذين العلمين، فتبقى لدينا موضوعات سائر العلوم وهي تمثل أشياء واقعية، فهي تتطلب تفسيرا آخر غير الاسمية. ولكننا لا نسلم بما يقول؛ فإن لكل من الحروف المستخدمة في الجبر، ولكل من الأعداد المستخدمة في الحساب، دلالة خاصة تجعل المدلول في حكم الشيء الواقعي، فيرجع العلمان إلى حكم سائر العلوم: ففي الجبر تدل الحروف دلالة مطردة على كميات معلومة أو مجهولة، وفي الحساب تدل الأعداد على كميات معينة، وتعتبر بمثابة الأنواع الواقعية، فيختلف بزيادة وحدة أو إنقاص وحدة، كما يختلف «الحي» بزيادة «الحاس» أو حذفه، وكما يختلف «الحيوان» بإضافة «الناطق» أو حذفه على ما هو ظاهر في شجرة فورفوريوس. ولما كان العد أو الحسبان في العلمين منهجا مستقلا عن المعدودات منطبقا على أي منها، فإن العقل يصرف النظر عن المعدودات، أي عن الموضوعات المدلول عليها بالعلامات، ريثما يجدها عند التطبيق. وعلى هذا الاعتبار يستخدم الرياضيون الأعداد والحروف ويؤلفونها بعضها مع بعض في كل علم. أما إذا كانت عاطلة عن كل دلالة فكيف نفسر العد والتأليف والتطبيق؟
الإدراك العقلي سابق إذن على اللفظ مستقل عنه، ويتضح هذا الاستقلال أيضا بالمقارنة بين طوائف الألفاظ وبين الإدراك المقابل لها في العقل: فمنها الألفاظ المشككة، تلك التي تقال على كثيرين مختلفين بالماهية، فتنطبق باتفاق من جهة وافتراق من جهة أخرى، مثل قولنا: «منظر جميل، وتمثال جميل، وقصيدة جميلة، وغناء جميل»، أو قولنا: «إنسان طيب، وفاكهة طيبة، وقلم طيب»، فإن لفظي «الجمال والطيبة» ينطبقان على الموصوفات بمعنى عام، هو وجه الاتفاق الذي يذكر في تعريفها حيث نقول: إن الجمال تناسق ورونق، وإن الطيبة موافقة الشيء لماهيته أو للغاية المنشودة منه. ولكن العقل يعلم أن الجمال أو الطيبة لا يتحققان في الموصوفات على نحو واحد من حيث إن لكل منها ماهية خاصة، فليس جمال التمثال كجمال القصيدة، وليست طيبة القلم كطيبة الإنسان أو كطيبة الفاكهة. وبهذا العلم يدخل العقل في إدراكه لكل موصوف معنى ليس في اللفظ ولا يمكن أن يكون في اللفظ لتعدد الموصوفات واختلافها.
وثمة شاهد آخر على هذا التمايز بين المعنى واللفظ، هو أن لفظا موضوعا لمعنى معين بالمطابقة يوحي أيضا بمعنى متضمن فيه أو لازم عنه، مثل دلالة كل من لفظ البيت ولفظ السقف على الحائط. وليست هذه الدلالة راجعة إلى اللفظ، بل إلى العقل الذي يدرك أن ما يدل على الكل يدل على الجزء بطريق التضمن، أو أن ما يدل على جزء ما فهو يدل على جزء آخر متصل به، فيصرف العقل اللفظ الموضوع للأول بالمطابقة إلى الدلالة على الآخر بطريق الالتزام أو الاستتباع.
وشاهد ثالث يؤخذ من المترادفات؛ فإنها أسماء مختلفة متواردة على مسمى واحد، وذلك لأن الألفاظ عرفية وضعية لا دلالة لها بذاتها وأن العبرة بفهم العقل.
وشاهد رابع نجده في الألفاظ المشتركة التي يطلق الواحد منها على مسميات متباينة كل التباين: كما يطلق لفظ العين على منبع الماء والعضو المبصر والدينار، ويطلق لفظ الكلب على الحيوان المعروف وعلى الشعر، ويطلق لفظ المشتري على قابل عقد البيع وعلى الكوكب الذي في السماء ... وغيرها كثير في جميع اللغات. فههنا ليس للفظ مدلول خاص، ولكن العقل يخصص المدلول في كل حالة تبعا لإدراكه هو. وإذا قلنا إن هناك وجه شبه هو الأصل في الاشتراك، رجعت هذه الألفاظ إلى المشكلة وبقيت النتيجة التي نريد أن نبينها، وهي أن فعل العقل هو الأول وأن اللفظ أداة ليس غير.
بل إن استقلال التعقل عن اللفظ يظهر من وجود معان دون ألفاظ، وهذا ما يسميه علماء النفس المعاصرون بالفكر الضمني
، ويضربون له شتى الأمثلة: منها الشعور بالذات وبالحرية وبالتبعة، والمواقف العقلية الناجمة عن أمثال هذه الأقوال: انتظر، اسمع، انظر؟ والشعور بالانتباه والعجب والشك وبالسهولة أو الصعوبة بإزاء مهمة ما، والانتقاد الصامت لما نقرأ أو نسمع أو نرى، والشعور بالوضوح، والشعور بالاتفاق أو الاختلاف بين أمور عدة معروضة علينا، والشعور بالتردد بين فكرتين أو بين عاطفتين أو بالانتقال من الواحدة إلى الأخرى، واختمار الأفكار والعواطف في اللاشعور قبل أن يتعين ويطلق عليها اسم، والفكرة الفجائية تخطر لشخص يجيد عدة لغات ويحب اللغة التي يعبر بها عن فكرته. فكيف يزعم الزاعمون أن المعاني ألفاظ وأن التفكير تنسيق ألفاظ؟ إن هذا البحث في التصور الساذج ليدل الدلالة القاطعة على بطلان المذهب الحسي وكم سنصادف من أدلة قاطعة فيما يلي من بحوث!
الفصل الثاني
الحكم
(1) تعريف الحكم
قلنا إننا لا ندرك الأشياء بجميع خصائصها وأعراضها دفعة واحدة، ولكننا ندرك الأعراض والخصائص شيئا فشيئا باستخدام حواسنا وإعمال الفكر، فنحلل الشيء إلى معان عدة ونحن نعلم أن هذه الكثرة متحققة فيه، فنردها إليه في قول يعلن أنها له، مثل قولنا: «سقراط فاضل»، ويسمى هذا تركيبا. وقد نخطئ فنضيف إلى الشيء ما ليس له، فإذا تبينا خطأنا عدنا فاستبعدنا عن الشيء تلك الإضافة في قول يعلن أنها ليست له، مثل قولنا: «ليس سقراط كافرا»، ويسمى هذا فصلا أو تفصيلا باعتبار المقصود منه وهو الاستبعاد، ولكنه تركيب أيضا من حيث إنه تأليف بين معينين في صيغة سالبة.
هذا التركيب الموجب أو السالب مغاير للمعنى المركب المتصور دون إيجاب أو سلب، فليس تصورنا «الإنسان الشجاع» كتصورنا «هذا الإنسان شجاع»: في التصور الأول معنيان مؤلفان في ماهية واحدة، وفي التصور الثاني تقرير بأن المعنى المضاف موافق للشيء المعبر عنه بالمعنى المضاف إليه (أو غير موافق له). فالحكم يقتضي ثلاثة أفعال تمهد له: وهي تصور معنيين، والمضاهاة بينهما، وإدراك ما بينهما من نسبة توافق أو عدم توافق، فيعقب الحكم هذا الفصل الثالث توا، فإن إدراك النسبة مجرد العلم بإمكان إضافة معنى إلى آخر، وماهية الحكم الإضافة فعلا والتصديق بالنسبة.
أما أن الحكم تركيب بين معنيين، وأن التصور الساذج سابق عليه، فهذا ما يبدو واضحا وما قيل به أزمنة متطاولة. لكن بعض علماء النفس المعاصرين ارتأوا أن الحكم تصور إجمالي نحلله إلى المعاني المؤلفة له، أي إننا ندرك أولا كل موقف جملة ونعبر عنه بقضية، مثل: «أمشي» و«أعطي»، ثم ندرك جزأي القضية ونحصل على معنيين، فالمعنى الواحد يركب بحكم أو بجملة أحكام. هذا الرأي قائم على سوء فهم: فإنه إذا لم يكن تمايز جزأي الحكم سابقا عليه امتنع الحكم وامتنع التعبير عنه في قضية لعدم توافر المعاني والألفاظ التي نؤلف بينها، والتي يجب أن يكون لكل منها في ذهننا مدلول محدد مستقل عن مدلول الآخر. وإدراك موقف ما جملة هو إدراكه بوساطة ما لدينا من معان، فتعقل طرفين سابق على الجمع بينهما، وإلا كان الجمع عبثا. والأمر واضح للغاية في الحكم السالب؛ فإن المسلوب غير موجود، فلا يمكن أن يقال إننا ندركه في تصور تركيبي ثم نحلل هذا التصور إلى جزأيه، والمعنى الذي يكتسب بحكم أو بعدة أحكام مسبوق ضرورة بمعان أبسط منه تركب منها هذه الأحكام.
هذا التركيب يجيء إيجابا أو سلبا. والإيجاب متقدم عموما على السلب؛ لتقدم الوجود على اللاوجود، ولتقدم إدراك الوجود على إدراك اللاوجود، ولما هو بين من أن السلب، لاحتوائه على أداة سالبة في العقل وفي اللفظ، فهو أعقد من الإيجاب، والأعقد متأخر عن الأبسط. وإذا سلمنا أن الحكم السالب احتجاج على حكم موجب ممكن، كما يقول برجسون، وأنه من ثمة متأخر عنه، كان هذا من الوجهة النفسية فقط، أي باعتبار كيفية صدور الحكم السالب، لا من الوجهة المنطقية أو الميتافيزيقية، أي باعتبار قيمة الحكم السالب، فلا نتابع رأيه أن الحكم الموجب منصب على الموضوع، وأن الحكم السالب تعليمي واجتماعي يصدر للإنكار: إن الحكم، موجبا أو سالبا، يفترض أننا قد وضعنا مسألة وضاهينا بين معينين، وهذه المضاهاة يمكن أن تحدث في بادئ الأمر في قضية سالبة بحيث يقع السلب على الموضوع كما هو الشأن في الحكم الموجب. فمن هذه الناحية نضع الحكم السالب والحكم الموجب على قدم المساواة، ونقول إن قسم حكم إلى موجب وسالب هي قسمة جوهرية.
من قسم الحكم هذه يلزم للحال خاصية تميزه من التصور الساذج، وهي أنه يتضمن بالذات الصدق أو الكذب. أجل إن الإحساس المطابق للمحسوس صادق، وإن التصور الساذج الواقع على ماهيته هو صادق أيضا، ولكن هذا الصدق غير ظاهر فيهما صراحة، على حين أنه ظاهر في الحكم حيث يعلن العقل أن الموضوع هو كذا فيبين عن عمله بمطابقته للموضوع. إن مثل الإحساس والتصور الساذج كمثل المرآة تعكس صور الأشياء ولا تدري أنها تعكسها، على حين أن العقل في الحكم يعلم أنه يقول قولا يؤدي معنى تاما يحسن السكوت عليه، إن لم يقابل بالإنكار .
والنسبة الحكمية قد تبدو إما بالمضاهاة بين معنيين مستفادين من الحس، كقولنا: «هذا الماء ساخن»، أو بالمضاهاة بين معنى مستفاد من الحس ومعنى آخر معقول، كأن نحكم بوجود نار لا نراها بسبب الدخان الذي نراه. أو بالمضاهاة بين معنيين معقولين، كأن نحكم بوجود صفة لا نراها لشيء لا نراه بسبب أثر نراه، فنقول: «النار عظيمة» بسبب شدة تكاثف الدخان. وهذه هي الحال كلما انتقلنا من معلول نراه إلى علة لا نراها صفة لا نراها ولكنها مقتضاه لها في نظر العقل. والأحكام التي من هذا القبيل صادقة ضرورية لا ينتقص من قيمتها خفاء المعنيين على الحس، فإن العبرة هي في النسبة بينهما وفي سبب إيقاعها.
وإنا لنلفت النظر إلى هذه النقطة، فقد اختلط الأمر على بعض الفلاسفة، وفي مقدمتهم الحسيون: فإذا قلنا إن لأفعال الكائن الحي علة نسميها النفس، وإن للعالم علة نسميها الله، قالوا إنهم لا يرون النفس ولا يرون الله، ونحن لا نطلب إليهم أن يروهما، بل أن يؤمنوا بوجودهما كما يؤمنون بوجود النار ولنفس السبب الذي هو ضرورة العلة. وإذا قلنا إن العلة الأولى غير متناهية، قالوا إن العقل الإنساني لا يتصور اللانهاية، ونحن لا ندعي أننا نتصورها، بل إننا نتصور ضرورتها للعلة الأولى. وغير هذا كثير سننبه عليه كلما صادفناه.
ومن الفلاسفة، وعلى رأسهم ديكارت وسبينوزا، من جافوا منطق أرسطو حتى تجاهلوا هذا الفهم للحكم، وقرروا أن في النفس معاني، وأن الحكم هو التصديق بالمعاني. قال ديكارت: إن العقل قوة انفعالية بحتة، وبالعقل وحده لا أثبت ولا أنفي، بل أقتصر على تصور الأشياء التي أستطيع أن أثبتها أو أنفيها؛ والإرادة هي القوة الفاعلية، وهي التي تحكم أي تثبت أو تنفي أو تمتنع من الإثبات والنفي. وقال سبينوزا: ليس المعنى شيئا أخرس كالصورة المنقوشة، ولكنه قوة فاعلية؛ فإنه مصحوب بضرب من الشعور بوجود موضوعه ما لم يعارضه معنى آخر، فتصديقاتنا هي التصورات الغالبة فينا، وليس يوجد في النفس من إثبات أو نفي إلا من ينطوي عليه المعنى بما هو معنى.
لكنا لا نرى لهذه النظرية معنى ولا سندا: فليس من شأن الإرادة الإثبات أو النفي، التصديق أو الإنكار، إلا بتسويغ من العقل. فمتى كانت النسبة الحكمية بينة أثبتها العقل وصدق بها، ومتى كانت غير بينة نفاها العقل أو علق حكمه. فليس العقل منفعلا وحسب كما يقولون، وإنما هو فاعل أيضا. أجل كثيرا ما تحرض الإرادة العقل على الحكم لناحية أو لأخرى، تبعا لما يوحي به الاستعداد الشخصي من هوى، ولكنا هنا أيضا نرجع إلى تقدير العقل؛ إذ إنا نزعم أن من المعقول أو من الخير أن نفعل كذا أو كذا. ومهما يكن من أمر الإرادة، فإن الوجدان يظهرنا على أن تفكيرنا وكلامنا مؤلفان من أحكام بالمعنى الذي نقصده، أي مركبة من موضوع ومحمول ورابطة بين الاثنين، فيتعين اعتبار الحكم إطلاقا على هذا الغرار، ويتعين تفسيره، وهو لا يفسر إلا بالمعنى المجرد، فإن المحمول صفة أو معنى مجرد دائما، والموضوع معنى مجرد في كثير من الأحيان، أعني في الأحكام العلمية فإنها كلية ضرورية.
في كل ما تقدم لم نلحظ سوى الحكم البسيط أو الحملي، ولم نشر إلى الأحكام المركبة التي أهمها الأحكام الشرطية، والسبب في ذلك أن الأحكام المركبة تنحل إلى حمليات، وتخضع لقواعد الحمليات، فلا تثير مسائل جديدة. غير أن بعض الفلاسفة المعاصرين اعتقدوا أنهم استكشفوا نوعا من الأحكام المركبة لم يذكره أرسطو ولا هو يرد إلى منطقه ولكنه يؤلف منطقا على حياله، ذلك هو الحكم الإضافي أو النسبي الذي يثبت إضافة أو نسبة بين شيئين، على حين أن الحكم الحملي يسند صفة إلى موصوف. ما أكثر ما نقول: «أكبر من «ب»» أو «هذا المثل غير مساو لذاك» إلى سائر ما هنالك من نسب: كالتشابه والتخالف والتباين والتقارن والتعاقب والتساوي والعلية ... إلخ. فأكبر من «ب»، وغير مساو لذاك، قول يعبر عن نسبة لا تقوم الموضوع ولا في حد المقارنة الوارد بعده، ولكنه يجمع بين النسبة وبين الحد الثاني ويكون من الاثنين محمولا مثبتا للموضوع كأنه صفة له وجزء منه، وليس الحال كذلك. وقولنا: ««أ» و«ب» غير متساويين» يجعل من عدم المساواة محمولا مشتركا بين الحدين، وهذا واضح البطلان؛ فقد ضاهينا بين «أ» و«ب» ولم نضاه بين «أ» و«ب» من جهة وبين معنى عدم المساواة من جهة أخرى. وإذا قلنا: ««ح» متقدم على «د»» أو ««ح» و«د» متعاقبان»، كان الحدان الحقيقيان «ح» و«د» مع إدراك نسبة تعاقب بينهما، لا «ح» من جهة والمحمول «متقدم على «د»» من جهة أخرى، ولا «ح» و«د» من جهة والمحمول «متعاقبان» من جهة أخرى. وهكذا نصوغ الحكم في أمثال هذه النسب كأن الحد الثاني صفة للأول، فنرجع النسب الإضافية إلى نسبة الملائمة أو عدم الملائمة بين موضوع ومحمول.
ونحن نقول: لا يوجد منطق إضافي أو نسبي مستقل عن قوانين المنطق الحملي وقواعده، والقضايا الإضافية مركبة من موضوع ورابطة ومحمول كالقضايا الحملية: ««أ» (الموضوع) هو (الرابطة) أكبر من «ب» (المحمول)» إلا أن الرابطة تنصب على الموضوع لا كما هو في نفسه، فلا تعبر عن تقوم المحمول فيه، بل باعتبار الإضافة والنسبة بينه وبين الحد الآخر، أي في تصورنا إياه وقت عقد المقارنة، وحينئذ يتضمن الموضوع المحمول؛ إذ يكون معنى المقارنة أن «أ» بالنسبة إلى «ب» هو أكبر من «ب». كما نستطيع أن نجعل من النسبة غير المعينة موضوعا، ومن تعيينها محمولا، فنقول: نسبة «أ» إلى «ب» (وهذا هو الموضوع) هي (الرابطة) نسبة أكبر إلى أصغر (وهذا هو المحمول). وفي الحالين إسناد محمول إلى موضوع كما هو الحال في الحكم الحملي. فالعقل على حق في تصور المحمول كالصفة في القضايا الإضافية، والمنطق واحد لم يتعدد. (2) المذهب الحسي والحكم
فيما سبق من شرح كان الغرض تحليل الحكم كما يبدو في الذهن، وتعيين شأنه في المعرفة الإنسانية. لكن الحسيين ينقدون هذا الفهم للحكم، ويعرضون له تفسيرا يرده إلى الحسية والاسمية. فتمحيص أقوالهم يتيح لنا إكمال هذا الشرح بدرء الشبهات عن موقفنا وبيان فساد الموقف الحسي.
وأول ما نلقاه من أقوالهم مأخذان وجههما إليه السفسطائيون اليونان: أحدهما أن الحكم إسناد لفظ إلى لفظ مختلف عنه، مثل «الإنسان طيب»، وليس يتضمن معنى الإنسان أو معنى الطيبة شيئا من معاني الصفات التي تسند إليه. فهذا الإسناد غير سائغ، وكل ما يسوغ هو قول: «الإنسان إنسان» و«الطيب طيب» وهكذا، بحيث يجتمع اللفظان على معنى واحد. والمأخذ الآخر أن الحكم قد يسند إلى لفظ واحد ألفاظا عدة، كما لو قلنا: «سقراط عالم فاضل شجاع»، وما فيه كثير هو كثير لا واحد، ومن ثمة لا يصح الإسناد ...
وفي العصر الحديث ردد الحسيون المذهب القديم، فقال هوبس: إن الحكم تركيب ألفاظ، فالقضية الموجبة تعني أن الموضوع والمحمول اسمان لشيء واحد، وتعني القضية السالبة أن اسمين يختلفان في الدلالة. وقال كوندياك: إن الحكم انتباه مزدوج، فمتى وجد في الذهن في وقت واحد إحساسان أو صورتان أو إحساس وصورة وجد الحكم على الفور، مثل «الشمس مضيئة» و«الثلج بارد». وقال ستوارت مل: إن الحكم يرجع إلى تداعي الصور، فحين أقول: «الثور مجتر» فالمقصود هو فقط أنه كلما صادفت الظواهر المتضمنة في لفظ «الثور» استطعت أن أتوقع الظاهرة المتضمنة في لفظ «مجتر».
ليس أبعد عن حقيقة الحكم من هذه التفسيرات، فليس الحكم إسناد لفظ إلى لفظ أو معنى إلى معنى حتى يقال إن اللفظين أو المعنيين مختلفان وإن تركيبهما معا غير سائغ. إن اللفظ دال على معنى، والمعنى دال على شيء هو موضوع الإسناد، كما لو قلنا: «الإنسان فان» و«النفس باقية»، فلسنا نسند لفظ الفناء إلى لفظ الإنسان، ولا معنى الفناء إلى معنى الإنسان بما هو معنى، ولكنا نسند الفناء إلى الإنسان بما هو موجود حقيقي أو ممكن. فالحكم يوحد بين موضوع ومحمول مختلفين تعريفا موحدين وجودا لكون المحمول متحققا في الموضوع.
ويقال مثل ذلك في تعدد المحمولات؛ فإن الكثرة ههنا ليست كثرة موجودات مستقلة، ولكنها كثرة وجهات لموجود واحد. فالتوحيد في الحكم صورة للوحدة في الشيء، وكاد يكون نقد السفسطائيين صائبا لو كان قولنا: «الثلج بارد» يعني أن الثلج هو البرودة، وكان قولنا: «الإنسان طيب» يعني هو أن الإنسان هو الطيبة. ولكن المقصود أن للثلج صفة البرودة، وأن للإنسان صفة الطيبة، والبرودة والطيبة وكل محمول فهو معنى مجرد. ولولا التجريد لما أمكنت إضافة لأن الأشياء موجودة في نفسها والإضافة نسبة ذهنية.
والفارق الجوهري بين الحكم وتداعي الصورة هو أن في الحكم رابطة تعني إسناد المحمول إلى الموضوع إسنادا صريحا موعيا مسبوقا بمضاهاة، على حين أن التداعي يتم آليا دون مضاهاة ولا إسناد، فلا تدرك النسبة فيه إلا بعد حدوثه. وهو إنما يحدث بسبب ما بين الصور من تشابه أو تضاد أو تقارن، على حين يحدث الحكم بسبب حقيقة الموضوع والمحمول. فحين أقول: «الثور مجتر» أثبت نسبة معينة بين الثور وبين نحو معين من أنحاء الهضم وأنفي عنه سائر الأنحاء المعروفة في سلم الحيوان والمتواردة على ذهني بالتداعي. أجل لقد وجدت «المجتر» بالتجربة حين عرفت «الثور» وأنا أتوقع الأول عند إدراك الثاني، لكن هذا التوقع يتخذ في الحكم معنى مغايرا لمعناه في التداعي، وهو أن الاجترار صفة جوهرية في الثور وأن توقعي ضروري لابتنائه على هذا الأساس.
ولو صدق الرأي الحسي لكانت أحكامنا كلها موجبة تسند محمولا إلى موضوع لإدراكنا إياهما مجتمعين، وليس السلب موضوع إحساس. وكانت أحكامنا كلها مطابقة للظواهر المحسوسة، فلم نقل إن الأرض تدور حول الشمس، وإن الشمس أكبر من الأرض، وغير ذلك مما هو مكتسب بالبرهان العقلي ومعارض للتجربة المتمكنة فينا بالتداعي منذ أول نشأتنا. فالحكم فعل عقلي يثبت نسبة معقولة بين محمول هو دائما معنى مجرد وبين موضوع هو معنى مجرد في القضايا العلمية، وهذا يخرجه من دائرة الحس بالمرة.
الفصل الثالث
القياس
(1) تعريف الاستدلال
التركيب والتفصيل في الأحكام يتمان دفعة في البديهية منها، فما من أحد يتردد في الحكم بأن الكل أعظم من الجزء. ولكن مسائل كثيرة تعرض لنا ولا ندري أول الأمر أي حكم نتخذ فيها، ونعني بالمسألة عبارة مؤلفة من موضوع ومحمول تقتضينا الإجابة بإضافة المحمول إلى الموضوع أو بنفيه عنه، فنعمل على الاهتداء إلى واسطة نضاهي بينها وبين الحدين، فإن وافقاها حكمنا بأنهما متوافقان، كما نحكم بأن الشيئين المساويين لثالث هما متساويان، وإن وافقها أحدهما وباينها الآخر حكمنا بأنهما متباينان. ولا وجه لافتراض أن الحدين جميعا قد يباينان الواسطة؛ إذ في مثل هذه الحالة تمتنع المضاهاة، فيمتنع الاستدلال، كما تنبه على ذلك القاعدة القائلة: إن القضيتين السالبتين لا تنتجان. فالاستدلال انتقال من معلوم هو المضاهاة إلى مجهول هو نتيجتها.
وماهية هذا الانتقال هو ذلك اللزوم الذي نعبر عنه في النتيجة بقولنا: «إذن»؛ فإنه يزيد على النسبة بين الحدين في كل حكم نسبة الأحكام فيما بينها. وهذه النسبة الثانية تجعل من الاستدلال حركة متصلة من طرف إلى طرف، واتصالها يعطيها وحدتها، فإذا قلنا مثلا: «كل إنسان حجر، وكل حجر نبات، فإذن الإنسان نبات»، كنا مخطئين من حيث مادة الاستدلال. ولكنا نرى أن وضع المقدمتين يسوقنا سوقا إلى النتيجة، فالاستدلال فعل واحد مع تركيبه من عدة أفعال أو أحكام، لما بينها من ترابط وتبعية.
هذا التعريف للاستدلال بأنه تأليف معارف لأجل الاستنتاج، مرادف للتعريف الذي وضعه أرسطو وتنوقل بعده باطراد، وهو أن الاستدلال: «قول مؤلف من أقوال إذا ضعف لزم عنها بذاتها، ولا بالعرض، قول آخر غيرها اضطرارا.» وقد دعاه «سولوجسموس» أي الجامعة، لجمع النتيجة بين المعنيين اللذين لم نكن نعلم إن كانا يتوافقان أم يتخالفان، والتخالف كالتوافق جمع في مبنى القضية بين الموضوع والمحمول لكي نقول إنهما لا يتوافقان. ومن ثم دعا أرسطو جميع أنواع الاستدلال «سولوجسمي» مع عنايته بتبيان ماهية كل منها، وترجم اللفظ اليوناني إلى العربية بلفظ «قياس»، وأطلق كذلك على مختلف الاستدلالات؛ لأن الاستدلال كما عرفناه يقيس معنيين إلى ثالث، فحدث في العربية مثل ما حدث في اليونانية من اشتراك لفظ القياس بين الاستدلال عموما وبين نوع من أنواعه هو الذي نقصده ههنا، والذي يذكر في المنطق قبل الاستقراء والتمثيل وما إليهما.
غير أن كثيرين من المناطقة المحدثين يفهمون الاستدلال بمعنى أوسع من المعنى الذي حددناه، فيقولون إنه مطلق استخراج قضية من أخرى سواء كان ذلك بواسطة أو بدون واسطة. ويذكرون تقابل القضايا وعكسها وتعادلها تحت عنوان «الاستدلال المباشر»، أي الذي لا يلجأ فيه إلى حد ثالث. ونحن نرى أن هذه الحالات لا يوجد فيها استدلال؛ فإن القضية الثانية محتواة في الأولى احتواء صريحا، فليس هناك حقيقتان مختلفتان، وليس هناك من ثمة استنتاج مجهول من معلوم، بل كل ما في الأمر ترجمة عن نفس القضية بصيغة أخرى، كما لو قلنا: «بعض الإنسان كاذب» و«بعض الكاذب إنسان»، أو قلنا: «كل إنسان فهو طيب الطبع» و«بعض الطيب بالطبع إنسان»، أو قلنا: «كل إنسان فهو أناني» و«غير صحيح أن بعض الإنسان ليس أنانيا»، فكل قضيتين من هذه القضايا المتقابلة أو المنعكسة تقولان نفس المعنى لا أكثر ولا أقل. ولو كنا نكتب في المنطق لاستقصينا الحالات جميعا استيفاء للتمثيل، ولكنا هنا في غير حاجة إلى التكرار. فليس يوجد استدلال مباشر. (2) تعريف القياس
في القياس بمعناه المحدد الذي هو موضوع بحثنا الآن، يجيء الترابط بين الحدود الثلاثة على هيئات مختلفة، فلكي ندرك ماهية القياس ننظر في هذه الهيئات للوقوف على ما تشترك فيه وعلى ما هو خاص لكل منها، وبذا نمهد للرد على الحسيين. يقال عادة: إن للقياس أربعة أشكال ناتجة من طريقة تأليف الحدين مع الثالث في المقدمتين، فإن الحد الثالث أو الواسطة قد يكون إما موضوع المقدمة الكبرى ومحمول الصغرى، أو محمولا في المقدمتين، أو موضوعا فيهما، أو محمول الكبرى وموضوع الصغرى. هذا صحيح من الوجهة الصورية، غير صحيح في واقع الأمر. وليس الاختلاف في مكان الحد الثالث من الاثنين الآخرين اختلافا عرضيا كما قد يبدو، ولكنه ينطوي على دلالة ذاتية في كل شكل.
وهذه أمثلة على الأشكال الأربعة إيجابا وسلبا تعيننا في تفهم طبيعتها وطبيعة القياس على العموم:
الشكل الأول «كل صالح فهو كريم.» «وكل عالم فهو صالح.» «إذن كل عالم فهو كريم.» ••• «لا واحد من الصالح بحسود.» «وكل عالم فهو صالح.» «إذن لا واحد من العالم بحسود .»
الشكل الثاني «لا واحد من الصالح بحسود.» «وكل طماع فهو حسود.» «إذن لا واحد من الطماع بصالح.» ••• «كل صالح فهو كريم.» «ولا واحد من الطماع بكريم.» «إذن لا واحد من الطماع بصالح.»
الشكل الثالث «كل حكيم فهو حر.» «وكل حكيم إنسان.» «إذن بعض الإنسان حر.» ••• «لا واحد من الحكيم بمستذل.» «وكل حكيم إنسان.» «إذن بعض الإنسان ليس بمستذل.»
الشكل الرابع «كل إنسان فهو حيوان.» «وكل حيوان فهو حساس.» «إذن بعض الحساس إنسان.» ••• «كل إنسان فهو حيوان.» «ولا واحد من الحيوان بنبات.» «إذن لا واحد من النبات إنسان.»
فمرمى الشكل الأول أو الغاية المتوخاة منه هو، في حال الإيجاب: البرهنة على ثبوت محمول لموضوع لاشتمال الموضوع على حد مشتمل على المحمول. وفي حال السلب: البرهنة على انتفاء المحمول عن الموضوع. ومعنى البرهنة: بيان علة النتيجة، بحيث لو سئلنا: لم قلنا «كل عالم فهو كريم»؟ أجبنا: «لأن كل عالم فهو صالح، وكل صالح فهو كريم.» وهكذا نجد فيه الحدود منطوية بعضها في بعض، مترابطة ترابطا محكما، ونجد النتيجة مسبوقة بعلتها لازمة عنها. وبناء على هذا يمكن أن نعين له مبدأ من وجهة المفهوم، ومبدأ من وجهة الماصدق: فمن وجهة المفهوم مبدؤه أن «كل ما يقال على محمول يقال أيضا على الموضوع»، كما لو حكمنا على العالم بالصالح، فكل حكم يثبت للصالح ثابت للعالم بالضرورة. ومن وجهة الماصدق مبدؤه أن «ما يقال على كلي فهو يقال على جزئياته، وما ينفى عن كلي فهو منتف عن كل واحد من جزئياته».
ومرمى الشكل الثاني إدحاض دعوى والرد على خصم، لذا هو يتضمن دائما مقدمة سالبة فتجيء النتيجة دائما سالبة، وذلك بالاهتداء إلى حد مناف لموضوع النتيجة فنستنتج أنه مناف للحد الآخر. أعني أن هذا الشكل ينفي محمولا عن موضوع النتيجة بسبب أن أحدهما يشتمل على حد مناف للآخر أو أنه يثبت محمولا لأحد موضوعين وينفيه عن الآخر، فيلزم التباين بين الموضوعين. فمبدؤه مبدأ الشكل الأول، والمقدمة الكبرى فيه كلية مثل كبرى الشكل الأول، فإنها هي التي تقرر أن محمولا ما يتضمن محمولا آخر أو ينافيه، مع هذا الفارق وهو أن المبدأ المشترك لا يطبق هنا بالمشابهة، بل بالمباينة، فإن الشكل الأول يستنتج ثبوت التالي من ثبوت المقدمة، بينما الشكل الثاني يستنتج نفي المقدمة من نفي التالين فيسمى مبدؤه «المقول على المباين».
ومرمى الشكل الثالث معارض قضية كلية بمثال مخالف لها، أي إبطال صدقها صدقا مطلقا لوجود ما يخالفها، وحصر صدقها في جزء فقط من موضوعها. والدلالة بهذه الجزئية على أن وقوع المحمول للموضوع ليس ضروريا، وإنما هو اتفاقي عرضي، فتجيء النتيجة دائما جزئية (موجبة أو سالبة)، كما لو قال قائل: «كل إنسان فهو حر» وأنكرنا ذلك، فإنا نبحث عن حد أوسط تتحقق فيه الحرية، فنقع على الحكيم. ولما كان الحكيم جزءا فقط من الإنسان فإنا نقول: «إذن بعض الإنسان حر» لا كله. لذا يسمى مبدأ هذا الشكل «المقول جزئيا»، وهذا المبدأ تخصيص آخر لمبدأ «المقول على الكل» الذي هو مبدأ الشكل الأول ومبدأ القياس على العموم، وصيغته هكذا: «الحدان المشتملان على جزء مشترك (وهو الحد الأوسط) يتوافقان توافقا جزئيا، وإذا اشتمل أحدهما على جزء لا يشتمل عليه الآخر، فهما يتخلفان تخلفا جزئيا»، ويسمى أيضا: «المقول على مثال»؛ لاعتماده على المثال أو الجزء الخارج للقضية الكلية.
أما الشكل الرابع فما هو إلا الشكل الأول في هيئة مقلوبة من جراء نقل المقدمتين إحداهما إلى مكان الأخرى، وهذا لا يزيد نسبة جديدة بين الحدود. إن كل شكل إنما يتعين بنسبة الأوسط إلى الطرفين، فسواء جاء الأوسط موضوعا فمحمولا كما هو الشأن في الشكل الأول، أم جاء محمولا فموضوعا كما هو الشأن في هذا الشكل الرابع، فالحال واحد ما دام يجيء موضوعا تارة ومحمولا تارة أخرى. ثم إن قلب المقدمتين يخرج نتيجة مقلوبة كذلك، غير مألوفة، بعيدة عن طبع العقل، من حيث إنها تضيف الحد الأصغر للأكبر، على حين أن الترتيب الطبيعي إضافة الأكبر للأصغر، فيقال: «سقراط إنسان، سقراط مائت، الإنسان حساس، لا واحد من الإنسان بنبات»، ولا يقال : «بعض الإنسان سقراط، بعض المائت سقراط، بعض الحساس إنسان، لا واحد من النبات بإنسان»؛ إذ إن الأصل في الإضافة أن يضاف الجنس إلى النوع، ويضاف النوع والجنس إلى الشخص. فهذا الشكل الرابع لا يعد شكلا إلا من الوجهة الصورية البحتة، أو من الوجهة النحوية، لا من وجهة المنطق وحقيقة التفكير، فإن موضوع النتيجة فيه (أو المبتدأ النحوي) هو عند العقل محمول، ومحمولها (أو الخبر النحوي) هو عند العقل موضوع.
من هذا البيان الوجيز نرى أن القياس إطلاق مضاهاة حدين بثالث، وأن الشكل الأول أظهر صورة لهذه المضاهاة من حيث إنه يعتمد على انطواء الحدود بعضها في بعض، وأنه أقوى صورة لها من حيث إنه يبين ما للإنتاج أو اللزوم من سبب وجودي أي في واقع الأمر، وسبب منطقي أي في علمنا من حيث إن العلم ههنا هو العلم بالعلة، فهو الشكل البرهاني بمعنى الكلمة. والشكل الثاني أدنى منه، لا ينطبق فيه مبدأ المقول على الكلي إلا بشيء من التعيين والتضييق، فليس أرسطو وسطا حقا، فما هو موضوع حد ومحمول الآخر، ولكنه محمول مرتين، فهو أوسع ماصدقا من الحدين، فإن سمي وسطا فبمعنى أنه واسطة المضاهاة، ولذا كانت نتيجته أقل ظهورا. والشكل الثالث أدنى من الثاني، فإن أسماء الحدود لا تتحقق فيه هو أيضا؛ إذ إن أوسطه هو الحد الأضيق ماصدقا لمجيئه موضوعا مرتين في المقدمتين، ونتيجته جزئية ولا ينتج كلية أصلا. ومع هذا فالشكلان الثاني والثالث قياسيان صحيحان سليمان، تتضح صحتهما وسلامتهما للعيان بردهما إلى الأول على ما هو مبسوط في كتب المنطق، دون أن يكون هذا الرد ممنوعا ما دام لكل شكل مبدؤه وغايته، حتى لا يمكن في الحقيقة أن يحل واحد منها محل الآخر بالنسبة إلى الغاية المطلوبة. والشكل الرابع تقضي طبيعته برده إلى الأول بنقل مقدمتيه، فتجيء نتائجه مستقيمة؛ أو بإلحاقه بالأول كهيئة له غير مستقيمة أي مقلوبة. والواقع أن أرسطو لم يذكره، بل اعتبر قسمة القياس إلى ثلاثة أشكال قسمة حاصرة؛ كذلك أبى مناطقة العصر الوسيط أن يعدوه شكلا قياسيا، ويقال إن الطبيب الفيلسوف جالينوس (المتوفى في نهاية القرن الثاني للميلاد) هو الذي جعل منه شكلا خاصا. وعلى كل حال فقد بدا كذلك في عصر النهضة لدى المناطقة الاسميين، والاسميون قوم يقفون عند الظاهر ولا يحاولون النفوذ إلى حقائق الأشياء، فاقتصروا على اعتبار مكان الحد الأوسط من الحدين الآخرين، ولم يفطنوا إلى أن هذا المكان علامة ظاهرة فقط، وأن الأشكال القياسية أشكال للتفكير أولا.
وكلية الحد الأوسط شرط ضروري يستحيل بدونه تركيب القياس. وهذا ما تقوله القاعدة التي تحذر من إيراد الأوسط جزئيا في المقدمتين، وتحتم أن يجيء كليا في إحداهما على الأقل. وذلك لأن الحد الجزئي يمثل جزءا غير معين من جنس ما، فقد يوافق أحد الطرفين في جزء من أجزائه، ويوافق الطرف الآخر في جزء آخر، فيكون الطرفان مضاهيين بحدين مختلفين لا بحد واحد بعينه، ويكون القياس مؤلفا من أربعة حدود، فلا يكن استنتاج شيء مثلما إذا قلنا: «السنديان شجرة (ما)، والجميز شجرة (ما)»، أو قلنا: «النبات حي (نام)، والحيوان حي (حساس)» فلا نستنتج أن الجميز سنديان ولا أن الحيوان نبات. ولا يمكن الاستنتاج سلبا؛ إذ قد يتفق الجزءان في بعض الحالات، لكن يمكن الاستنتاج إذا كان الأوسط كليا في إحدى المقدمتين، فما دمنا نثبت شيئا للأوسط كله فلنا أن نثبته بعد ذلك لجزء من أجزائه. ومعنى هذه القاعدة أنه لا يمكن الاستدلال بالأقل على الأكثر، أو استنتاج الأكثر من الأقل. وهذا أيضا مبدأ القاعدة القائلة إن النتيجة تتبع أضعف المقدمتين، فالحسيون إذ ينكرون المعنى المجرد الكلي يعطلون التفكير بتاتا.
وكما قد أثار بعض المناطقة المحدثين إشكالا بصدد الحكم الإضافي، فقد أثار بعضهم إشكالا بصدد القياس الإضافي. قالوا: إن الاستدلال في الأقيسة المركبة من قضايا إضافية يختلف بالمرة عنه في الأقيسة الحملية المعبرة عن حصول محمول لموضوع، فلا يخضع لقواعد القياس، ومنها قاعدة الحدود الثلاثة، ولكن له صوره وقواعده الخاصة. مثال ذلك: «فرساي أصغر من باريس، وفونتنبلو أصغر من فرساي. إذن فونتنبلو أصغر من باريس.» فإذا قلنا: إن الحد الأكبر هو محمول الكبرى «أصغر من باريس»، وأن الحد الأصغر هو موضوع الصغرى «فونتنبلو»، فماذا يكون الحد الأوسط؟ لا يكون «فرساي» الذي هو موضوع الكبرى ولكنه في الصغرى جزء فقط من المحمول، ولا يكون «أصغر من فرساي» الذي هو محمول الصغرى والذي جزء منه فقط موضوع الكبرى. وإذن فلا يكون هناك حد أوسط مع كون الاستدلال صحيحا مشروعا.
والجواب أنه كما أن لكل شكل من أشكال القياس الحملي مبدأ يهيمن على الاستدلال فيه ولا يدخل في صلب القياس، فكذلك الأقيسة الإضافية مبدأ يهيمن على الاستدلال فيها ولا يظهر في منطوقها، مثل قولنا: «ما يتضمن شيئا فهو يتضمن ما يتضمن هذا الشيء» أو «الأعلى من شيء هو أعلى من الأدنى من ذلك الشيء»، فإذا راعينا المعنى أدركنا أن «أصغر من» ليس صفة للطرفين كالمحمول في القضايا الحملية، ولكنه «نسبة» بين الطرفين، فينتج لنا أن القياس الإضافي مركب هو أيضا من ثلاثة حدود مترابطة فيما بينها برابطة خاصة هي «نسبة». إن الحد الأوسط «فرساي» يفيد في إثبات نسبة مقدارية بين فونتنبلو وباريس. فالأقيسة الإضافية منتظمة على منطق القياس الحملي وخاضعة لقواعد المنطق الأرسطاطالي، ولا ضرورة لتأليف منطق جديد لأجلها. وهذا ما أشار إليه ابن سينا
1
بقوله: «قياس المساواة: إنه ربما عرف من أحكام المقدمات أشياء تسقط، ويبنى القياس على صورة مخالفة للقياس، مثل قولهم: («ج» مساو ل «ب»، و«ب» مساو ل «ل»، ف «ج» مساو ل «ل»)، فقد أسقط منه أن (مساوي المساوي مساو)، وعدل بالقياس عن وجهه من وجوب الشركة في جميع الأوسط إلى وقوع الشركة في بعضه»، فما أعظم ما يفيد المتأخرون من دراسة المتقدمين! (3) المذهب الحسي والقياس
هذا العرض للقياس كاف وحده لتسويغه، ولكن المذهب الحسي يقضي على رجاله بإنكاره لابتنائه على المعنى المجرد الكلي وشهادته بوجود العقل. وبالفعل منذ العصر القديم أخذ السفسطائيون والشكاك يتندرون عليه وينظمون المغالطات للهزء منه، وقد تناقلوا حجة ظنوا أنها تهدمه من أساسه، قالوا: ليكن هذا القياس : «كل الناس مائتون، وسقراط إنسان، إذن سقراط مائت.» فالمقدمة الكبرى الكلية لا تصدق إلا إذا كانت النتيجة معلومة من قبل، أي لا يقولها القائل إلا لعلمه أن سقراط مائت، فلا تعود هناك حاجة لتركيب قياس؛ أما إذا لم يعلم فلا يسوغ له قولها، ولا يعود هناك إمكان لتركيب قياس. وإذا مضى فقال: «إذن سقراط مائت»، ارتكب مصادرة على المطلوب؛ فإن المطلوب معرفة ما إذا كان سقراط مائتا، ومعرفة أن «مائت» متضمنة في المقدمة الكبرى. وقد اصطنع هذه الحجة الحسيون المحدثون واشتهر بها جون ستوارت مل، وصارت تذكر عنه كأنها من ابتكاره. وهم يفسرون الاستدلال عموما بأنه انتقال من محسوس إلى محسوس، وأنه من ثمة يرجع إلى تداعي الصور بالتشابه. ونحن نكشف عن تهافت حجتهم، ثم نبين بطلان تفسيرهم للقياس بتداعي الصور.
قوام حجتهم خلط جسيم بين القضية الكلية (مثل: «كل الناس مائتون»)، والقضية المجموعية المكتسبة بجمع الجزئيات (مثل: «كل ركاب الباخرة نجوا من الغرق»). وقد قال مل معبرا عن رأيهم: إن القضية الكلية سجل أو مذكرة مختصرة للتجربة، والتجربة جزئية محدودة كما هو معلوم، فيتصورون القياس كأن مقدمته الكبرى مجموعية، تدرج تحتها مقدمة صغرى (مثل: «وزيد من ركاب الباخرة»)، فينتج أن زيدا نجا من الغرق. هذا قياس مزعوم وتأليف ظاهري فقط، فليست المقدمة الكبرى فيه كلية بمعنى الكلمة؛ فإنما أسند محمولها إلى موضوعها بعد التحقق من المحمول في كل واحد واحد من أفراد الموضوع، فهي تحتوي على النتيجة بالفعل، وتتأخر عنها في علمنا، وليس الحد الأوسط فيها (ركاب الباخرة) تعليلا للنتيجة كالحد الأوسط في القياس الصحيح. أما القضية الكلية حقا، فهي التي موضوعها معنى مجرد، ومن ثم كلي يحتوي بالقوة (لا بالفعل) على جميع الأفراد الممكنة، وبين حديثها نسبة ذاتية، فلا يشترط أن تتأخر في علمنا عن إحصاء الأفراد، وقد تكون مستفادة من التجربة بحديها وبالنسبة بينهما، ثم تكون في ذاتها مبدأ مجردا مستقلا عن الأفراد بفضل الإدراك العقلي الذي يرينا أن المحمول من ماهية الموضوع. فالقضية القائلة: «كل الناس مائتون» تعني أن ماهية الإنسان هي بحيث إنه مائت، ويدلل عليها بأن الإنسان مركب من عناصر متباينة، وأن كل مركب هكذا فهو منحل. فإذا قلنا بعد ذلك: «وسقراط إنسان»، أي: حاصل على الماهية الإنسانية؛ خرجت لنا النتيجة من الجمع بين القضيتين، أعني من الكبرى بوساطة الصغرى، دون أن تكون هذه النتيجة مفترضة في الكبرى، بل بالعكس هي الكبرى التي تحدث النتيجة. والذي يكسب موقف الحسيين شيئا من الوجاهة هو التعبير عن الكبرى من وجهة الماصدق «كل الناس مائتون»، فإنه يشعر كأنها نتيجة تعداد، فما إن نعبر عنها من وجهة المفهوم ونقول: «كل إنسان فهو مائت» أو «الإنسان مائت»، حتى يتبدد الوهم. وخير هذين التعبيرين وأصدقهما دلالة على الإدراك العقلي هو الثاني الذي يستبعد لفظ «كل»، فيمحو كل أثر للماصدق ويبرز الماهية مجردة.
أما تداعي الصور فإنه يحاكي الاستدلال؛ إذ يجعلنا نتوقع المستقبل ونعمل كما لو كنا قد استدللنا. فالحيوان الذي ضرب بالسوط يتوقع أن يضرب متى رآه أو سمع صوته، والعامي من بني الإنسان يتوقع المطر حين يدرك ظواهر جوية معينة. ولكن الاستدلال شيء آخر بالمرة؛ إذ إنه يعطينا السبب في تعاقب الظواهر ويجعل التوقع صادرا عن فهم لحقائق الأشياء، بينما التوقع في التداعي فعل آلي ناشئ من العادة. إن الأصل في الاستدلال هو المطلوب الذي يصير نتيجة، وهو لا يصير نتيجة إلا إذا وجدنا نسبة بين حديه، ولا نجد النسبة إلا بالحد الأوسط. فبالتداعي نستعيد صورة جزئية بمناسبة صورة جزئية بناء على تعاقب واقعي، وبالقياس نستكشف علاقة ضرورية بواسطة قانون أي قضية كلية. فإذا قلنا إن التداعي يفسر سيرة الحيوان وطفل الإنسان، فيجب أن نعتبر بأن الطفل لا يلبث أن يجاوز هذه المرحلة فيدرك العلاقة الجوهرية حينما يستطيع إدراكها، ويسأل ويلحف في السؤال حينما تخفى عليه. وليس يقتصر الطفل على التأدي من العلة المنظورة إلى المعلول المرتقب، ولكنه يعود من المعلول المنظور إلى علته، منظورة كانت أو غير منظورة، فيدل بكل ذلك على انتقاله من طور التداعي إلى طور التفكير. فانظر إلى دقة هذه الأمور، ثم اعجب لقلة تدقيق الفلاسفة الحسيين. إن الإنسانية تفكر تفكيرا قياسيا، وهم في جملتها وإن كانوا لا يدرون، فليسوا ينالون منه في واقع الأمر، إنما هو ينال منهم كما تنال الصخرة من ناطحها!
الفصل الرابع
الاستقراء
(1) تعريف الاستقراء
هذا النوع الآخر من الاستدلال كثير الاستعمال كثرة وافرة في الحياة العادية والعلوم الطبيعية، نؤلفه أول الأمر بوحي التجربة، وبخاصة متى تكررت، ثم نحاول أن نستكشف النسبة بين حديه زمنا يطول أو يقصر تبعا لدرجة وضوح هذه النسبة وتقدم العلم واجتهاد العلماء، وتعريف الاستقراء أنه: «استدلال يضيف محمولا إلى موضوع كلي بسبب مشاهدة هذا المحمول في جزئيات ذلك الموضوع كلها أو بعضها».
1
وقد تكون الجزئيات أفراد نوع، أو أنواع جنس، أو أجناسا سالفة تحت جنس عال. وقد تكون استقرئت كلها؛ وهذا هو الاستقراء التام، أو لم يستقرأ سوى بعضها؛ وهذا هو الاستقراء الناقص. وقد يكون الاستقراء الناقص كافيا أو غير كاف. وستتضح هذه المعاني فيما يلي، ولنمثل أولا للاستقراءين التام والناقص:
استقراء تام «النباتات والعجماوات والأناسي كائنات نامية.» «والنباتات والعجماوات والأناسي هي كل الأجسام الحية.» «إذن كل جسم حي فهو نام.»
استقراء ناقص «الذهب والفضة والحديد والنحاس موصلة للكهرباء.» «والذهب والفضة والحديد والناس معادن.» «إذن المعدن موصل للكهرباء.»
هذا هو الاستقراء الذي نقصده، فيجب التفرقة بينه وبين ما يسمى بالمنهج الاستقرائي المفصل بقواعد فرنسيس بيكون وستوارت مل المذكورة في كتب المنطق، فإن هذا المنهج أولى به أن يسمى «البحث عن العلة» من حيث إنه يحاول حصر علة ظاهرة ما في ظاهرة أخرى معينة. فإذا أفلحت المحاولة عرفت العلة من هذا الطريق معرفة محققة. أما ما نقصده فهو الاستدلال المتأدي من جزئيات عدة إلى الكلي الذي ننسبها إليه.
يلوح لأول وهلة أن الاستقراء التام (متى تسنى تحقيقه وحصر آحاده) لا يثير إشكالا من حيث إنه يحكم على الكلي بما يشاهد في الكل، وإنه إذن مستكف بنفسه لا يفتقر إلى تبيان وتأييد. بيد أن هذا وهم ناشئ من الخلط بين الكلي المنطقي والكلي المجموعي، أي بين الكلي والكل، وذلك الخلط المألوف عند الحسيين والذي نبهنا عليه غير مرة. إننا إذا أخذنا الاستقراء التام على هذا الوجه لم نجد له سوى صورة الاستدلال لا حقيقته؛ إذ إن كل ما يعنيه هو أن أفراد كل ما مشتركون فعلا في محمول ما، فلا يفيد الانتقال من الصغرى إلى النتيجة معرفة جديدة، بل ننتقل من الآحاد إلى مجموعها، أي من الشيء إلى الشيء نفسه. أما إذا أردنا استدلالا صحيحا فيجب أن نفهم صغرى الاستقراء على أنها تذكر الجزئيات لكي تنتقل إلى الكلي الذي يمثلها، والذي هو علة حصولها على المحمول، فنصل بالنتيجة إلى معرفة جديدة هي نسبة كلية ضرورية بين الماهية المشتركة والمحمول المشاهد في الجزئيات، بغض النظر عن الجزئيات وعددها.
2
فالمسألة التي تبرز ههنا هي أن لا بد من وسيلة لإتمام الاستقراء التام نفسه، وملء الفراغ بين الجزئيات كجملة وبين الكلي الذي ترجع إليه والذي بسبب احتوائها عليه هي حاصلة على المحمول، وهذا هو المطلب الحق للعلم.
إذا كان هذا واجبا في الاستقراء التام فإنه في الاستقراء الناقص أوجب لما هو بين من أن الانتقال من البعض إلى الكلي (في الاستقراء الناقص) أقل أمانا من الانتقال من الكل إلى الكلي (في الاستقراء التام). وليس يجدي شيئا قول ابن سينا (وقد ردده الغزالي وغيره): إن الاستقراء الناقص يعتمد على أكثر الجزئيات أو على كثير منها، ما دام تمام الاستقراء نفسه لا يكفي، وما دام أكثر وكثير لا يقالان إلا مع اعتبار الكل، والكل هنا لم يستقرأ. أحر بنا أن نقول: إن الاستقراء الناقص يعتمد على «عدد كاف» من الجزئيات، تاركين للفطنة الشخصية مؤيدة بالخبرة العلمية تقدير كافية العدد تبعا لما يتبدى من اتفاق المحمول للجزئيات في أمكنة عدة وأزمنة مختلفة وظروف متباينة. وهذا التفاوت بين عدد الجزئيات وبين الكلي مدعاة أخطاء غير قليلة، يقع فيها الناس بحيث يكون «الاستقراء الناقص غير موجب للعلم الصحيح، فإنه ربما كان ما لم يستقرأ خلاف ما استقرئ، مثل التمساح».
3
في المثال المذكور، فإنه يحرك فكه الأعلى عند المضغ لا فكه الأسفل كسائر الحيوان. ومثل طير الماء أو البجع المدعو أيضا بالقنس تعريبا للفظ اليوناني،
4
فقديما كان المعتقد أن البياض عرض لازم له بناء على ما كانوا يشاهدون، ولما اكتشفت أستراليا وجد فيها بجع أسود بكل خصائص النوع. أما إذا تبدت لنا نسبة الجزئيات المستقرأة إلى الكلي، أي علة وجود المحمول في تلك الجزئيات، أضحى العدد الكافي مجرد دليل إلى تلك النسبة، غير ذي قيمة في ذات؛ إذ قد يصح الحكم على الكلي بجزئي واحد إذا تأكدنا أن المحمول صادر فعلا عن ماهية هذا الجزئي.
فأساس الاستقراء أو السبب الذي يخولنا الحق في الانتقال من الجزئيات إلى الكلي الشامل لها هو، في الاستقراء التام: أن المحمول الحاصل لكل الجزئيات هو محمول حاصل للموضوع المعادل لها، وهذا أمر بديهي. وفي استقراء الناقص هو: أن المحمول الحاصل لعدد كاف من جزئيات موضوع كلي في أحوال عدة وظروف مختلفة هو محمول حاصل لذلك الموضوع الكلي؛ وهذا أمر بديهي أيضا. فإن تكرار المحمول في الجزئيات دليل على أن المحمول خاصية لازمة عن الماهية المشتركة بين الجزئيات، والثابتة فيها وسط تغير الأعراض، والضامنة لضرورة أفعالها وضرورة القوانين الطبيعية، وإلا كان التكرار بغير علة، وهذا غير معقول. وهكذا نطوي المسافة بين الجزئيات والكلي، ويرجع الاستقراء الناقص إلى الاستقراء التام، وتبطل دعوى الحسيين أن الاستقراء الناقص استدلال سفسطائي يذهب اعتسافا من البعض المستقرأ إلى الكل، فيضع نتيجة كلية حيث لا يجيز انحصار الجزئيات سوى نتيجة جزئية، فحقيقة الاستقراء تلتئم من جزئيات مدركة بالحس ومن مبدأ يطبقه العقل. وما أدق وأبلغ ما قرره ابن سينا بهذا الصدد حيث قال (في منطق النحاة): «المجربات أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة من القياس، وذلك أنه إذا تكرر في إحساسنا وجود شيء لشيء تكرر ذلك منا في الذكر (وهذا هو الوجه الحسي)، واقترن به قياس هو أنه لو كان هذا الأمر اتفاقيا عرضيا لا عن مقتضى طبيعته لكان لا يكون في أكثر الأمر من غير اختلاف (وهذا هو الوجه العقلي)، حتى إنه إذا لم يوجد ذلك استندرت النفس الواقعة فطلبت سببا لما عرض من أنه لم يوجد.»
مما تقدم يتبين جليا تمايز الاستقراء والقياس تمايزا جوهريا، لا كذلك الخطأ الشائع بأن القياس نزول من الكلي إلى الجزئي، وأن الاستقراء صعود من الجزئي إلى الكلي، فهما كالسلم الواحد يقطع في اتجاهين مختلفين، أجل كثيرا ما ينتهي إلى نتيجة جزئية. ولكن هناك أقيسة صحيحة صادقة نتيجتها مضارعة ما صدقا للمقدمة الكبرى، كقولنا: «كل ناطق فهو ضحاك، والإنسان ناطق، فالإنسان ضحاك.» فظاهر أن «ناطق وإنسان وضحاك» حدود متعادلة؛ إذ ليس يوجد ناطق وضحاك سوى الإنسان. حقيقة القياس أنه انتقال من مبدأ إلى نتيجة بين لزوم النتيجة عن المبدأ بقياس حدين إلى ثالث، وماهيته هي في هذا الارتباط بين الحدود الثلاثة، بغض النظر عن علاقات الكلية والجزئية، فما هذه العلاقات إلا اعتبار ثانوي منطقي.
أما الاستقراء، فإنه انتقال من جزئي إلى كلي يبين ظهور النتيجة أو الكلي من التجربة الحسية، وهو إذن لا يقيس، فلا يحتوي على حد أوسط بمعنى الكلمة، أي حد كلي. ولما كان استدلالا فهو يحتوي على «واسطة» للربط بين المحمول والموضوع في النتيجة، وهذه الواسطة هي الجزئيات المستقرأة يسردها في المقدمة الكبرى لكي يثبت لها المحمول المشاهد في التجربة، ويسردها في المقدمة الصغرى لكي يعادل بينها وبين الكلي الشامل لها؛ فالواسطة وموضوع النتيجة فيه واحد.
5
وعلى ذلك فاتجاه العقل ونوع الاستدلال الذي يقوم به يختلفان في الاستقراء عنهما في القياس، ولا يمكن رد الاستقراء إلى القياس ولا رد القياس إلى الاستقراء، كأن كل ما هناك طريق واحد ينعكس قطعه. (2) المذهب الحسي والاستقراء
بعد هذا البيان لطبيعة الاستقراء والإيضاح لمبدئه، لم تعد هناك حاجة في واقع الأمر لذكر المذهب الحسي، ولا سيما أن رجاله لا يجيئون بشيء جديد في هذه المسألة. إن موقفهم فيها بسيط كل البساطة، لما كانوا ينكرون وجود المعنى المجرد في العقل، والماهية الثابتة في الأشياء ، فإنهم لا يقبلون سوى الاستقراء التام، ولا يعتبرونه إلا كمجموع، ولا يؤمنون بالمجموع إلا إلى وقت لاعتقادهم أن التجربة غير مضبوطة بمبادئ أو قوانين، وأنها «مفتوحة دائما» قد تلد كل عجيبة. وإذن فليكن الاستقراء مجرد توقع آلي أو مجرد عادة يولدها التكرار، فنعتقد أن المستقبل سيكون شبيها بالماضي، ونتدرج في اعتقادنا بقيمة الاستقراءات من أضعف احتمال إلى الأشد فالأشد كلما تكاثرت التجارب المؤيدة لها ولم تعارضها تجربة واحدة. وهكذا نعود إلى تداعي الصور الذي ذكرناه عنهم في الفصول السابقة، فإنه ابتكارهم الأوحد وتكأتهم الفذة.
أما أن تداعي الصور يولد في الحس الباطن توقعا آليا؛ فهذا أمر معلوم، وقد أشار إليه ابن سينا في النص الذي اقتبسناه منه، بعد أن أشار إليه أرسطو في نهاية «التحليلات الثانية». ولكن هناك توقعا عقليا أشار إليه أيضا، وهو يستند على مبدأ كلي يغني عن تكرار التجارب أو لا يدع لهذا التكرار من قيمة سوى قيمة الدليل الظاهري. وإنا لنسأل الفلاسفة الحسيين: أليس يتعين تفسير التكرار أو الاطراد؟ وماذا عسى أن يكون تفسيره سوى أن الطبيعة خاضعة لقوانين؟ وعلام يدل تحقق توقعنا إن لم يدل على أن بين العقل والطبيعة توافقا وانسجاما؟ وكيف يستسيغوا أن يمجدوا الصلة الجوهرية بين المحمول والموضوع في القضية الاستقرائية وأن يردوا العلية إلى مجرد علاقة تعاقب، على حين أن أساطينهم واضعي مناهج البحث العلمي - كما يدعون - يعترفون بأن الغرض من هذه المناهج عزل «المقدم الضروري الكافي» من بين سائر المقدمات، واعتباره علة لتال معين بسبب ما ظهر من اتفاقهما في الحضور والغياب ودرجة التغير. ماذا عسى أن يكون المقدم الضروري الكافي إلا أن يكون هو العلة؟ وماذا عسى أن يكون مثل هذا الاتفاق بين المقدم والتالي إلا أن يكون صلة جوهرية؟ إن الفلاسفة الحسيين ليذعنون لهذه البديهيات في قرارة أنفسهم، وإنهم ليعلمون أن الواحد منا ومنهم متى وقف على العلة التي يبحث عنها أيقن بها لفوره دون انتظار تأييد مستقبل ودون تدرج في الاحتمال. ولكن اقتناعهم بمبدئهم يصرفهم عن الإذعان الصريح المطرد ويدفع بهم إلى العناد واللجاج.
إلى هنا نقف الحديث مع الحسيين ريثما نستأنف في مواضع أخرى، فقد قصرنا غرضنا في هذا الباب على تحليل أفعال العقل وبيان أصالتها، ومن ثمة على إثبات وجود العقل، وبقي علينا الفحص عن مسائل كثيرة. وللحسيين في كل مسألة رأي، وإن تكن آراؤهم فطرية هزيلة من الطراز الذي عرفناه للآن، وقد نجمل تهافت مذهبهم بقولنا: إنه من الجهة الواحدة يزعم مشايعة التجربة ومتابعة الواقع المحسوس، ومن الجهة الأخرى ينكر كلية القوانين الطبيعية وضرورتها، فيدع العلم بلا سند.
الباب الثاني
نقد العقل
الفصل الأول
الشك واليقين
(1) مذهب الشك
إذا كان لنا عقل فهل يعقل الوجود؟ وهل يعقله على حقيقته؟ لقد تضاربت آراء الفلاسفة في الإجابة عن هذين السؤالين أشد التضارب. إن الناس في جملتهم يعلمون أنهم يخطئون أحيانا في الإدراك الحسي، ويخطئون أحيانا في الاستدلال العقلي، ولكنهم يصححون أخطاءهم ويظلون على الاعتقاد بأن حواسهم آلات حسنة لمعرفة الأشياء، وأن عقلهم آلة صالحة للتصور والاستدلال. والفلاسفة منهم يعتقدون مثل هذا بالفعل، ويحيون وفقا لهذا الاعتقاد، ولكن بعضهم حين يفلسفون ينساقون إلى نظريات تستتبع الشك في قيمة المعرفة فيشكون فيها.
كانت الفلسفة اليونانية ما تزال في مهدها لما ارتأى بارمنيدس أن العالم كائن واحد ساكن، فنتج لديه أن ما تظهرنا عليه الحواس من موجودات متكاثرة متغيرة إنما هو محض وهم. واقتنع معاصره هرقليطس بأن الأشياء في تغير متصل، فاستنتج من ذلك أتباعه من السفسطائيين أن الإحساس تغير ذاتي تابع لحالتنا البدنية ولحالة الأشياء منا، وأننا من ثمة ندرك انفعالنا بالأشياء ولا ندرك الأشياء أنفسها، وكان ديموقريطس قد ذهب إلى أن الموجودات مؤلفة من ذرات متجانسة غير مكيفة. ولما كانت حواسنا تصور لنا كيفيات في الموجودات، فقد صارت الحواس متهمة بالخداع. وتوالت المذاهب والآراء في نقد الحواس ونقد العقل، وتكونت مدرسة شكية أخذت على نفسها مهاجمة المعرفة الإنسانية والتوقف عن إثبات أي شيء.
1
وموضوع هذا الباب الثاني تمحص تلك المذاهب والآراء في ترتيبها التاريخي الذي يبين تأثر اللاحق منها بالسابق، فيساعد على فهم نشأتها وتطورها، ثم الدفاع عن موضوعية الإدراك الحسي ووجود العالم الخارجي، وأخيرا الدفاع عن موضوعية الإدراك العقلي للماديات، وعن كفاية العقل لتكوين ما بعد الطبيعة، بحيث نصل إلى آخر هذا الباب وقد فزنا بالثقة بالعقل وبالحواس، وانفتحت أمامنا الآفاق إلى كل الوجود.
ترجع الحجج التي جمعها قدماء الشكاك من اليونان وخلفوها لمن جاء بعدهم إلى الأربعة التالية:
أولا:
الأخطاء التي يقع فيها الناس، ومنها أخطاء الحواس، وأخطاء الوجدان في اليقظة والمنام، وأخطاء الذاكرة، وأخطاء الاستدلال، وهذيان المحمومين، وتخيلات المجانين. إن البرج المربع ويبدو لنا عن بعد مستديرا، والمجذاف يبدو منكسرا في الماء، ومتى سارت بنا مركبة أو سفينة بدا الطريق وبدا الشاطئ كأنه يسير. ونحن جميعا نعتقد بحقيقة ما يتراءى لنا من الصور في الأحلام، فلم لا تكون اليقظة وهما كالحلم؟ والذي نسميه مجنونا لا يعرف أنه مجنون بل يظن نفسه عاقلا، فما يدرينا أن عقلنا ليس جنونا؟ ولما كان التصديق مصاحبا لتصوراتنا جميعا، فبأية علامة نميز الحق من الباطل؟ وما الذي يضمن لنا أننا لا نخطئ دائما؟
ثانيا:
اختلاف الناس في إحساساتهم وآرائهم وعقائدهم وأخلاقهم وعاداتهم، حتى ليمتنع التوفيق فيما بينها على من يحاوله، والمذاهب الاعتقادية متعارضة يهدم بعضها بعضا، ومع ذلك فكل مقتنع برأيه متعصب له. إن هذا الاختلاف الشامل دليل ساطع على عدم وجود حقيقة بالذات، أو على عدم استطاعتنا الوصول إليها إن وجدت.
ثالثا:
امتناع البرهان التام، فإن البرهنة على قضية ما تستلزم الاستناد على قضية أخرى، وهذه تستلزم الاستناد على ثالثة، وهكذا إلى ما لا نهاية. فنحن مسوقون إلى التسلسل دون أن نستطيع الوقوف عند حد وإرساء العلم على أساس.
رابعا:
امتناع التدليل على صدق العقل، وهذا الدليل واجب؛ إذ من الخلف الوثوق بالعقل قبل الاستيثاق من إمكان الوثوق به، ولا نستوثق من هذا الإمكان إلا بالعقل، ولا يصح أن يكون العقل حكما في صدقه هو، أو نقع في دور لا مخرج منه.
والشكاك لا ينكرون شعورهم باليقين الأولي الحاصل لجميع الناس بالإحساسات الظاهرة والباطنة؛ إذ إن التصديق بها طبيعي لا يقاوم، وكان شأنهم معها كشأن جميع الناس في الحياة العادية. وقد روي أن إمامهم «بيرون» اضطر ذات يوم إلى الهرب من كلب، فأخذ يركض وهو يقول: «ما أصعب التخلص من الطبع!» ولكنهم يقولون: إنهم يمتحنون هذا اليقين الأولي فلا يجدون له مبررا يحيله يقينيا عقليا، وإن الموقف الحكيم في هذا الامتحان أو البحث النقدي اللاحق على التصديق الأولي إنما هو تعليق الحكم والقول «لا أدري». فالشاك يعلم مثلا أن هذا الشيء يبدو له أبيض، وهو يصرح بذلك، أي روي إحساسه، ولكنه لا يؤكد أن الشيء في ذاته أبيض، فكانت في ذهنه فجوة بين المعرفة النقدية والحياة العملية، وكانت هذه الفجوة مثار اعتراض قوي على الشكاك هو وقوعهم في التناقض. فابتدع أحد مشاهيرهم «قرنيادس» نظرية الرجحان لتسويغ الإرادات والاختيارات؛ قال: ليست التطورات سواء، وإنما هي تتفاوت درجات: فمنها ما إذا اعتبر في ذاته بدا راجحا، ومن هذا الفريق ما إذا قورن بغيره فلم ينافه ازداد رجحانا، أو بدا متسقا معه مؤيدا له فازداد رجحانا على رجحان. فالشكاك كلما أقبلوا على شئون الحياة أمكنهم أن يؤثروا رأيا على آخر بناء على رجحانه مع احتفاظهم بارتيابهم في النظر.
هذه الأقوال ما أوهنها وما أيسر تفنيدها؛ إنها تحمل في ثناياها دلائل تهافتها، وتشير بذاتها إلى أسباب فسادها. كيف يتخذ من الخطأ دليلا ضد الحقيقة، والخطأ لا يدعي كذلك إلا بالنسبة إلى الحقيقة المعلومة يقينا؟ دليل على وجود الحقيقة، فليس هو محتوما متصلا. وإذا كنا نخطئ فنحن لا نخطئ دائما، ونحن نصحح أخطاء الحواس بمعارضة حاسة أخرى، وبالتجربة السابقة، وبالعقل والبرهان، ونصحح أخطاء العقل بمعارضة معارفه بعضها ببعض، وبتقدير نتائجها. ومن ذا الذي لم تعلمه الأيام أن الأشياء تختلف عند الحس باختلاف مسافاتها منه، واختلاف أوضاعها، واختلاف وقوع الضوء عليها؟ ومن ذا الذي لا يميز بين إدراك السليم وإدراك المريض، وبين إدراك اليقظان وإدراك الحالم، وبين إدراك العالم وإدراك الجاهل؟ فكل ما يتعين على الفيلسوف وهو ينظر في مسألة الخطأ لا يعدو تعريف الخطأ وتعريف الحقيقة وتحديد الوسائل والمناهج للتمييز بينهما، لا إنكار قدرتنا على إصابة الحقيقة بتاتا لكوننا نخطئها أحيانا.
وليس اختلاف الآراء محتوما متصلا؛ فإن الناس متفقون على أمور كثيرة نظرية وعملية، مجمعون على كثير من الحقائق الواقعية والمبادئ العقلية، ولولا ذلك لامتنع التفاهم بينهم وامتنعت كل حياة اجتماعية، ولا يبدو اختلافهم إلا في الأمور المعقدة والمسائل الدقيقة. وليس الاختلاف دليلا على فساد العقول؛ فقد يكون السبب فيه اختلاف الظروف البيئية والتاريخية، أو اختلاف وجهة النظر: فمن المعقول أن يصطنع كل شعب السيرة التي تلائم أحوال معيشته، فيكون لأهل البلد البحري من الخصائص والعادات غير ما لأهل البلد البري. ومن المعقول أن ينظر كل شعب وكل فرد إلى مصلحته الخاصة، فيكون حكمه حكما حقا من هذا الوجه. وفي الأخلاق نرى اتفاقا على المبادئ العامة، ولا يبرز الخلاف إلا في تطبيقها بسبب الجهل أو الهوى: فمن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن الخير (أيا كان) مطلوب، وأن الشر (أيا كان) مهروب منه، وأن واجب الإنسان السير بمقتضى العقل، وأن العدالة ضرورية عند العقل لابتنائها على المساواة، وأنها لازمة لحياة المجتمع ... وغير ذلك من البديهيات التي إذا جحدت فإنما تجحد بالقول فقط لا بالاعتقاد الباطن. فنحن لا ندعي أن الإنسان يعلم الحقيقة بالضرورة أو أن في مقدوره أن يعلم كل حقيقة، وأن جميع أحكامه صادرة عن العقل السديد، بل نقول إنه كفء لأن يعلم علما يقينا بأن يرجع بأحكامه إلى العقل؛ يردها أو يصححها أو يقرها.
وليس البرهان التام تسلسلا إلى غير نهاية؛ هذا الزعم صادر عن تصور خاطئ هو أن البرهان وحده يولد التصديق، ولكن الحق في هذه المسألة هو أن هناك قضايا بينة بذاتها تتضح النسبة فيها بين المحمول والموضوع حالما نتصورها وبدون واسطة: من ذا الذي يستطيع أن ينكر أن الكل أعظم من الجزء؟ أو أنه يمتنع إثبات محمول ما لموضوع ما ونفيه عنه في نفس الوقت ومن نفس الجهة ؟ من ذا الذي يحس في نفسه حاجة لبرهان على قضية من هذا القبيل؟ والقضايا التي من هذا القبيل حقائق حاضرة طبعا في العقل، ومبادئ مطلقة تنتهي إليها البراهين ويسكن عندها العقل؛ لأن علة التصديق بها موجودة فيها هي. فكما أن التمييز بين النور والظلمة لا يقتضي شيئا ثالثا، بل يكفي فيه النور نفسه، فكذلك المبادئ الأولية لا يحتاج بيانها لغير نفسها.
وهذا الرد على الحجة الثالثة يفيد في إبطال الحجة الرابعة الزاعمة أن العقل لا يبرهن على صدقه إلا ويفترض نفسه صادقا، وأن هذا دور أو مصادرة على المطلوب. إن اقتضاء برهان على صدق العقل قبل كل تعقل لهو عبث محض. وإنما يلتمس البرهان على صدق العقل في التعقل نفسه، كما يستوثق من صلاح أي آلة باستعمالها. فالعقل حين يزاول فعله الأساسي الذي هو الحكم، سواء كان الحكم بديهيا أم نتيجة استدلال، يدرك مطابقته للموضوع المحكوم عليه، أي يحس ضمنا أنه يدرك أن الموضوع هو كما يحكم عليه. وحين يعود على هذا الإدراك ويدرك هذه المطابقة بالفعل يحس بالفعل أنه كفء لإدراك الحق. فليس البرهان ههنا قياسا حتى يتسلسل من مقدمة إلى أخرى، ولكنه اقتناع بديهي في مزاولة التعقل، وبخاصة، أي بشكل أيسر وأوضح، في التعقل البديهي للمبادئ الأولية.
أما مذهب الرجحان فلم يفد من التقهقر في الشك سوى الإمعان في التناقض. إن الرجحان ابتعاد عن الشك واقتراب من الحقيقة، فإذا لم يكن هناك حقيقة لم يكن هناك رجحان. أو إذا قلنا إن رأيا أرجح من رأي، كان القصد أن للأول من خصائص الحقيقة أكثر مما للثاني، وأننا نعرف خصائص الحقيقة ونستطيع البلوغ إليها. وإذا كانت قوانا الداركة خادعة بالطبع، كما يعتقد الشكاك جميعا، فكيف يسوغ لنا أن نستخدمها ونصدقها في الموازنة بين أسباب الرجحان؟ وهذه الأسباب إن كانت محض تصور كانت عديمة الجدوى في النظر وفي العلم على السواء، وإن كانت مجدية كانت جدواها دليلا ساطعا على مطابقتها لطبائع الأشياء أي على حقيقتها. لقد ظن أصحاب هذا المذهب أنهم يوفرون لأنفسهم ميزة المذهب الاعتقادي دون أن يتقيدوا بمبادئه، فكانوا بهذا الخلف المتصل الذي وقعوا فيه عبرة لمن يعتبر بعبث منهج التخير في الفلسفة وتهافت الحلول الوسطى التي يتوهم ملفقوها أنهم قطفوا من كل شجرة ثمرة ...
الردود السالفة تدفع اعتراضات الشاك. ولكنا لا نقنع بها، ولا نقبل دعواهم أنهم ناقدون معترضون وحسب، بل نريد أن نتحول نحن أيضا إلى النقد والاعتراض من زيادة في جلاء المسألة وفي إيضاح المنهج القيوم الذي يتعين أن تسير عليه الفلسفة في مشكلة المعرفة، فنبين امتناع الشكل المطلق امتناعا باتا، ووجوب البدء باليقين. أما امتناع الشك المطلق فيبدو من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
تعجيز الشاك عن الدعوة إلى مذهبه، وذلك بأن نطلب إليه أن يبرر موقفه ويبرهن على صحة قوله إنه لا يستطيع أن يعلم شيئا علما يقينيا، فإن رفض الاستجابة إلى هذا المطلب خشية التورط في الإثبات والنفي، كان لنا أن ننكر دعواه ابتداء ونؤكد إمكان العلم اليقيني تأكيدا، من حيث إن ما يثبت جزافا ينفى جزافا، وإن حاول أن ينظم برهانا فمن الضرورة أن يقدم له بمقدمات يقينية فيناقض دعواه بامتناع اليقين.
الوجه الثاني:
أن في منطوق الشك المطلق تناقضا أساسيا يرده غير مطلق، أي يقضي بيقين واحد على الأقل، وذلك أن الشاك إما أن يعلم وجوب الشك في كل شيء علما يقينيا، فيعلم علما يقينيا هذه القضية، وهي أنه ينبغي الشك في كل شيء، ويعلم من ثمة علما يقينيا أنه لا ينبغي الشك في كل شيء. وإما أن يعلم علما يقينيا أن مذهبه راجح فقط، فلديه إذن سبب مرجح يأخذ به. وإما أن يعترف بأنه لا يعلم علما يقينيا ولا راجحا، وحينئذ فهو لا يضع الشك كمذهب، ويقر بالعجز.
الوجه الثالث:
أن في الشك نفسه ثلاث بديهيات يأبى كل عقل الشك فيها، بل يصدقها العقل حالما يتعقلها. هذه البديهيات هي: وجود الذات المفكرة، وعدم جواز التناقض، وكفاية العقل لمعرفة الحقيقة. أما وجود الذات المفكرة فبين بالفكر ذاته، والذي يفكر يصدق بالفعل أنه موجود فيقول: «أنا أفكر»، ولا يبرهن على وجود الذات المفكرة ولو بقياس إضماري كقولنا: «أنا أفكر فأنا إذن موجود»؛ فإن الوجود المطلوب البرهنة عليه مثبت في المقدمة «أنا أفكر». وأما عدم جواز التناقض، فالشاك يعلمه بداهة كذلك: إنه يعلم ما الشك وما العلم وما الجهل وما اليقيني وما الإنسان وما المثلث ... إلى غير ذلك من المعاني، ويعلم أن كل لفظ وكل معنى فهو يختلف عن ضده أو نقيضه، فلا يجمع بين الألفاظ وبين المعاني على ما يتفق؛ فيقر أن اليقين غير الشك، وأن الإنسان غير المثلث، وأن من غير المستطاع الإثبات والنفي في آن واحد ومن جهة واحدة. وأما كفاية العقل لمعرفة الحقيقة، فالشاك يعلمها في علمه بكل بديهية؛ كما قلنا في الرد على الحجة الرابعة، ويعلمها في نفس الشك. فإنه حين ينتهي إلى الشك إنما يعول على نقد العقل للعقل، وطالما أقام على الشك إنما يعول على حكم العقل بوجود الشك؛ فهو يذعن دائما لحكم العقل، فيقع في الدور الذي يتهم به خصومه. فهذه الحقائق الثلاثة متضمنة في كل تفكير، ولا يمكن أن يشك فيها شاك، ولولاها لما وجد شكه، والشك فيها وضع لها في الحقيقة.
2
لقد أصاب ذلك الشاك القديم الذي قال إن فلسفته ليست عقيدة وإنما هي منحى أو اتجاه، والواقع أن الشاك المطلق يحمل نفسه على الشك حملا، ويعاند البداهة بالإرادة، ويعلق حكمه داعيا هذا التعليق حكمة على الرغم من التناقض المطبق عليه من كل صوب، ومتى قلنا التناقض عنينا الإفحام والقضاء على التفكير حتى ينحدر الشاك إلى درك النبات.
المنهج القويم في الفلسفة يبدأ إذن من اليقين الطبيعي بالبديهات. وفي الفلسفة الإسلامية «تجربة» جديرة بالذكر في هذا المضمار، هي تجربة الغزالي: فقد حكى في «المنقذ من الضلال» أنه عانى الشك في نفسه لما رأى من اختلاف الملل وكثرة الشبه، وأقواها هذه الشبهة: «أن المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكام ويكذبه حاكم العقل، فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر إذا تجلى يكذب العقل في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته ...» إلى أن قال: «فحاولت لذلك علاجا، فلم يتيسر؛ إذ لم يمكن دفعه إلا بدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب المبادئ الأولية، فإذا لم تكن مسلمة لم يكن تركيب دليل. فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة، حتى شفى الله تعالى ذلك المرض ورجعت الضرورات العقلية مقبولة موثقا بها؛ إذ إن الأوليات غير مطلوبة وإنما هي حاضرة لا يشك فيها. ولم يكن كل ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر.» يعني نور الحدس الذي به يدرك العقل الأوليات دفعة دون حاجة إلى برهان. وسواء كانت هذه الحكاية صادقة أم مركبة للتشويق والتفهيم، فإن الحل الذي تنتهي إليه هو الحل الصحيح.
ومتى أذعن العقل لنور الأوليات، أو بالأحرى: متى كفت الإرادة عن الافتتان بالشك وقهر العقل على الانصراف عن نور الأوليات، لم يعد أمامنا مانع من المضي في الفحص عن سائر المسائل لاقتناص ما يتيسر من يقين. إن دعوى الشكاك بأن الحياة لا تعطي يقينا ما لهي دعوى بينة البطلان، قادهم إليها مذهبهم الحسي الذي لا يعترف بغير المحسوسات ويستبعد ما فيها وما فيهما بينها بعضها البعض من أمور معقولة. إنهم هم الحسيون الأصليون الملتزمون منطق مذهبهم من مبدئه إلى منتهاه، ولكنهم كانوا واهمين. إن الواحد منهم ليعلم مثلا أنه إذا أكل شبع، وإذا لم يأكل ظل جائعا؛ وهو يأكل ويشرب، ويتذوق ما يأكل وما يشرب، ويتحاشى مواطن التهلكة وأسباب المرض، ويتعاطى الدواء استردادا للصحة. وفي كل ذلك حكم بأن كذا حق وكذا باطل، وأن الحق خير من الباطل، والأكل خير من الجوع، والصحة خير من المرض، والحياة خير من الموت، وهو يعلم أن القواعد الصحية مأخوذة من طبيعة الجسد الإنساني، وأن الأدوية مأخوذة من طبائع الأشياء ومما بين الأشياء وجسد الإنسان من نسبة. هذه بديهيات أخرى لا مفر من التسليم بها متى أخلص المرء لوحي عقله ولم يتشبث بالعناد. وكم ذا في الحياة من بديهيات لا يعتورها الخطأ لبساطتها وبيانها بذاتها، وإنما يخشى الخطأ في كل قضية أو واقعة لا تبدو بمثل هذا البيان، وبخاصة حين يحتاج الأمر إلى تكريب استدلال. ويؤمن الخطأ في الاستدلال بمراعاة القواعد المنطقية، والاحتراز من أسباب كثيرة خارجة عن فعل العقل ومؤثرة فيه مع ذلك: كاندفاع الهوى واضطراب الخيال والسهو وقلة البضاعة العلمية. ذلك هو المنهج القيوم في العلم والفلسفة، وذلك هو المنهج الذي يتبعه بالفعل العلم والفلسفة. وإن في قيام العلم الرياضي والعلم الطبيعي على الأقل لأقوى تفنيد للشك. (2) الشك المنهجي
في الفلسفة الحديثة محاولة شهيرة لتفنيد الشك وتأسيس العلم؛ تلك هي محاولة ديكارت،
3
وبالنظر فيها نحدد بعض النقاط السابقة ونتم هذا البحث. يتحدث ديكارت بصيغة المخاطب كأنه يروي قصة شخصية وتجربة نفسية كالغزالي، يقول: إنه بدأ كما يبدأ الشكاك، فاستبعد المحسوسات والمعقولات جميعا، وزاد على أسباب الشك المعروفة افتراض روح خبيث يعبث بعقله، فلا يدع له أدنى ثقة به. ثم لاحظ أن سببا من الأسباب أيا كان لا يمنعه أن يصدق بأنه يفكر طالما هو يشك، وبأنه موجود طالما هو يفكر، فلمعت في نفسه هذه الحقيقة الباهرة: وهي «أنا أفكر وإذن فأنا موجود»، واعتبرها أول وأشد هزيمة للشك، ثم شرع يفحص عن وجود الأشياء التي تصورها له أفكاره، فيوقن بها ويهزم الشك هزيمة نهائية، وكانت أول فكرة استرعت اهتمامه فكرة الله التي تمثل موجودا كاملا لا متناهيا، فوجد أنها صادقة لجلائها وتميزها، وأن صفة اللانهائية تحول دون الظن بأنه استنبط هذه الفكرة من نفسه وهو كائن ناقص، أو استنبطها من العالم الخارجي الناقص كذلك. فهي إذن غريزية طبعها في نفسه الموجود الكامل ذاته، فيما طبع من أفكار. وإذن فالله موجود، والعالم الخارجي موجود؛ إذ إن في النفس ميلا طبيعيا للاعتقاد بأشياء خارجية، وإن الاعتقاد الطبيعي صادر عن موجد الطبيعية الذي هو الله، وإن الله صادق، فلا بد أن يكون قد خلق أشياء مقابلة للأفكار الجليلة المتميزة التي هي وحدها صادقة من بين الأفكار، فإن جلاءها وتميزها والاعتقاد الطبيعي بها دليل على صدورها عن الله. وهكذا خرج ديكارت من الشك إلى اليقين: أراد أن يحل مسألة المعرفة كما وصفها قدماء الشكاك، فاصطنع الشك كنقطة بداية، ثم عمل على التخلص منه، ولذا دعا شكه منهجيا أو افتراضيا. فما الرأي في هذا النهج؟
هذا المنهج غير صالح أصلا، وعيبه الأساسي أنه يبدأ بالشكل الكلي الحقيقي، ومثل هذا الشك يوصد الباب مبدئيا دون أي يقين، فكيف يوضع بداية لمنهج؟ إذا كنا لا نعلم شيئا فنحن لا نعلم شيئا، وقد فرغنا من كل شيء. وما اليقين بأنا أفكر سوى يقين بواقعة جزئية لا تمت بصلة لحقيقة موضوعات الفكر؛ فإن الفكر قد يقع على الباطل كما يقع على الحق. ولا تفيد هذه الواقعة الجزئية في تمييز الحق من الباطل من بين الموضوعات، وهي تفيد حقا في هذا البحث إذا استخلصنا ما تنطوي عليه من مبدأ عقلي ومن شعور العقل بكفايته لمعرفة الحقيقة وهو يتعقل هذا المبدأ، على ما بينا آنفا (12، ك). وهذا جائز سائغ حتى مع افتراض الروح الخبيث، فإن مثل هذا الروح لأعجز من أن يخدعنا عن الأوليات؛ إذ إنه لا يمنع العقل من تصور ما يجده في ذاته من المعارف (أيا كان حظها من الحقيقة)، وأن يجرد فيها المبادئ الأولية ويصدق بهذه المبادئ بداهة وضرورة لعدم افتقارها لحد أوسط. فليس علمنا بوجود الفكر والمفكر بالأمر اليقيني الأوحد في المرحلة الأولى من مراحل المنهج. ولئن كان الأول زمانا عند رجوع العقل على نفسه لنقد معارفه، فليس هو الأول طبعا أي وجودا. قال ديكارت (في القسم الرابع من المقال في المنهج): «ليس في هذا القول (أنا أفكر وإذن فأنا موجود) ما يؤكد لي أن أقول الحق سوى أني أرى بكل وضوح أنه لأجل التفكير يلزم الوجود.» فديكارت نفسه يقر أن قول: «من يفكر فهو موجود» أو «لأجل التفكير يلزم الوجود»، أعم من الواقعة الجزئية «أنا أفكر»، ومتقدم عليها طبعا تقدم الكلي على الجزئي وتقدم الوجود على الفعل أو الحال، فهو إذن قد أخطأ في استبعاد المبادئ الأولية واصطناع الشك المطلق الحقيقي حين شرع ينقد أفكاره ليختار الحقائق من بينها. فورطه هذا الخطأ الأساسي في متناقضات عدة وهو يسير على منهجه.
من هذه المتناقضات؛ أولا: أنه يدلل على وجود الله بواسطة الوضوح ثم يتبع الوضوح لصدق الله؛ وهذا دور ظاهر. ثانيا: محاولة التدليل هذه ضرب من الطغيان والافتئات؛ إذ يمتنع تبرير المعرفة والقوى العارفة بواسطة هذه القوى أنفسها، وهذه المعرفة نفسها بعد أن شك فيها شكا حقيقيا. ثالثا: الوضوح عنده علامة ذاتية شعورية، فلا يصلح علامة للحقيقة ما لم يكن صدى للوضوح الموضوعي الذي يتجلى للعقل في القضايا البينة بذاتها والقضايا المبرهن عليها بحد أوسط. رابعا: الدليل على وجود الله مستمد من فكرة الله، فهو يؤيد في الحقيقة إلى «فكرة وجود الله» وإلى «فكرة صدق الله» لا إلى عين وجود الله وعين صدقه. خامسا: أنه استرد اليقين بصدق العقل بحجة أن العقل من صنع الله وأن الله صادق، وظل على إنكار موضوعية الكيفيات الثانوية في المادية، محتفظا بالكيفيات الأولية فقط التي هي الامتداد وتعييناته المختلفة من حركة وسكون وعدد، مع أن الحواس هي أيضا من صنع الله، وكان واجبا أن تكون صادقة في كل أو معظم ما تؤديه إلينا، ولو ببعض الشروط. الحق أننا لا نفهم كيف يقول ديكارت إن شكه منهجي، وفي كل مرحلة من مراحله عقبة كأداء تعترض تعارض الطريق إلى المرحلة التالية، ومن ثمة تفسد المنهج وصاحبه ماض على وجهه!
متى يكون الشك منهجيا؟ إن الشك إما جزئي أو كلي، وهو في الحالين إما صوري أو حقيقي. وظاهر أن الشك الجزئي يمكن أن يكون منهجيا سواء أكان حقيقيا أم صوريا، وذلك لأنه يدع ما يكفي من الحقائق للبرهنة على هذا الموضوع. فإذا كنت أشك شكا حقيقيا في وجود نفس للإنسان مثلا، وأخذت أنظر في إمكان إثباتها له؛ كان هذا الشك منهجيا، وإذا كنت أعلم أن للإنسان نفسا وأتصنع الشك، على ما يفعل المعلمون في استفهاماتهم الإنكارية؛ فهذا شك منهجي من باب أولى. أما الشك الكلي، فيمتنع أن يكون منهجيا إذا كان حقيقيا، كما ألححنا في بيان ذلك، ويمكن أن يكون منهجيا إذا كان صوريا. ومعنى هذا أننا قد نسلم أن الفحص عن الحقيقة على العموم في بداية نقد العقل يقتضي أن نشك شكا كليا، أي إن نشك في الحقيقة على العموم، فنتحاشى الموقف الاعتقادي الذي يبدو كأنه يحل مسألة المعرفة بالإيمان بالعقل ابتداء واعتسافا، ونتفق مع الشكاك ومع ديكارت في وجوب الفحص عن الحقيقة على العموم، فلا ندع لهم مأخذا علينا. بيد أن الانفصال عن الموقف الاعتقادي يجب أن يقابله انفصال عن الشك الحقيقي والتزام للوسط الذي يخولنا الحق في بحث المسألة والحكم فيها، ويجنبنا التناقض الذي وقع فيه ديكارت والمحتوم أن يقع فيه كل من يحاول الخروج من الشك الكلي الحقيقي. والوسط ههنا أن يتجاهل العقل اليقين الأولي المصاحب لتعلقه البينات والمتبرهنات، وأن يتخيل نفسه شاكا شكا حقيقيا، وينظر في إمكان هذا الشك، فتتبين له استحالته لفرط بيان المبادئ الأولية، فيصدق بها، ثم يعتمد عليها للتدليل على القضايا غير البينة بذاتها. فالشك الكلي المنهجي شكل متخيل لا فعلي ولو إلى وقت مهما قصر.
الفصل الثاني
التصور والوجود
(1) المذهب التصوري
في مطلع الفصل السابق ألقينا هذين السؤالين: هل يعقل العقل الوجود؟ وهل يعقله على حقيقته؟ وكان متعينا قبل الإجابة عنهما أن ندفع عن العقل شبهة العجز عن إدراك الحق، وأن نثبت له إجمالا القدرة على البلوغ إلى اليقين. فنعود الآن إلى السؤالين، وقد شغلت الفلسفة الحديثة كلها بالإجابة عنهما إن إيجابا أو سلبا، مع تفاوت في السلب والإيجاب. وديكارت هو الأصل الذي يرجع إليه ههنا، كما يرجع إليه في كثير من المسائل المستحدثة في الفلسفة. وقد رأيناه يشكل شكا كليا، وينعزل في فكره، ثم يحاول أن يعلم إن كان يسوغ له التصديق بموجودات مقابلة لأفكاره. ما معنى هذا؟ معناه أن الفكر لا يعرف مباشرة سوى تصوراته، وأن ليس في المعرفة وفي التصورات ما يدل على الموضوعية، أي على نسبة إلى موجودات مستقلة عن التصور، وإنما تنتهي المعرفة (دائما وبالذات) إلى التصورات أنفسها، على نحو انتهاء المخيلة إلى الصور في الأحلام، وانتهاء الحواس إلى الإحساسات الكاذبة في اليقظة، وأن لا سبيل لنا إلى العلم بوجود الأجسام وبخصائصها، ومنها جسمنا، إلا الاستنتاج العقلي المبني على مبدأ العلية. فالمنهج الديكارتي يمضي من الفكر إلى الوجود، بينما كانت الفلسفة السلفية تعتبر الوجود أصلا والفكر مرآة له، كما كان (ولا يزال ولن يزال) يعتبر الناس أجمعون.
أجل لم يكن هذا الموقف جديدا كل الجدة، ففي الفلسفة اليونانية ما يماثله بعض المماثلة أو يمهد له، فلنذكر قول بروتا غوراس إن الواحد منا مقياس الأشياء من حيث إن إحساسه هو الموجود بالنسبة إليه، فللذي يرتعش بردا أن يقول إن الهواء بارد، وللذي لا يحس بردا أن يقول ليس الهواء ببارد، وكل صادق في حكمه من حيث إنه يعبر عن انفعاله الشخصي، وإن الانفعال نسبي شخصي بالضرورة. ولنذكر أن أفلاطون أنزل النفس الإنسانية من السماء إلى الأرض حاملة المثل، كلما أدركت بالحس جزئيا ما أو طائفة من الجزئيات تذكرت المثال المقابل وتعقله هو بحيث ينصب العلم على المثل لا على الجزئيات. ولنذكر أن النفس عند أفلاطون جوهر تام حال في البدن حلول شيء تام في شيء تام، فليس لها أن تتصل بالأشياء مباشرة، وليست الأشياء عنده سوى امتداد وحركة، على ما يفصله في محاورة تيماوس، فتأثيرها في أعضاء الحواس آلي بحت، وأعضاء الحواس مادية. وليست المادة دراكة، فينتج من كل ذلك أن الإحساس فعل النفس وحدها أو انفعالها وحدها، غير أن أحدا من اليونان لم ينكر وجود العالم، ولم يضعه موضع السؤال. وقد وصف أفلاطون الجزئيات بأنها أشباح المثل، ولم يشك في وجودها. كذلك لم يشك بروتا غوراس في هذا الوجود، وغاية ما ارتآه أن الإحساس نتيجة حركتين: الواحدة من الشيء، والأخرى من الحاسة تنفعل بالأولى على حساب حالها هي، فتدرك انفعالها ولا تدرك حقيقة الشيء. أما المبدأ التصوري فمقتضاه أن المعرفة (إحساسا كانت أو تعقلا) هي كلها من العارف، حتى لو خلص لنا بالاستنتاج أن العالم موجود، ما دمنا لا نقر معرفتنا بوجود العالم على كفاية الحواس أنفسها للإدراك، بل على أمر مغاير لفعل الحواس، كصدق الله مثلا أو كمبدأ العلية. وهذا هو الفارق الأساسي بين ما ذهب إليه القدماء من نسبية
relativisme
أو عندية
subjectivisme
1
وبين ما استحدثه ديكارت من تصورية
idealisme
فضلا عن فارق آخر هام سنذكره الآن.
وديكارت أفلاطوني النزعة، بل المذهب، كان رياضيا عظيما، وكان فيلسوفا عظيما، فزاول الرياضيات وفكر في ماهياتها، فوجد أنها آية من آيات العقل الخالص، سواء اعتبرنا موضوعاتها أو تعريفاتها أو منهاجها، فالموضوعات مجردات، ومنها ما لا شبيه له في الخارج، وإنما هو من إيداع العقل؛ والتعريفات أحرى أن تكون وصفا لتكويننا للموضوعات من أن تكون تعريفات للموضوعات أنفسها؛ والمناهج عقلية مفروضة فرضا ومفصلة على قدر الموضوعات والتعريفات. لذا بانت له الرياضيات المثل الأعلى للعلم، وبان له منهجها المنهج العلمي المطلق. ومن جهة أخرى صحت عنده النظرية الآلية كتفسير للطبيعة، تلك النظرية المنحدرة عن ديموقرايطس وأفلاطون إلى علماء القرن الرابع عشر وعصر النهضة، فصارت بين أيديهم أداة خصبة للتحقيق والاستكشاف بعد أن كانت محض نظرية، وزادها خصبا تطبيق الرياضيات عليها وصوغ القوانين الطبيعية في صيغ رياضية، حتى بان العلم الطبيعي نفسه وكأنه علم عقلي كالرياضيات. ومن شأن النظرية الآلية تجريد الأجسام من الكيفيات، فصح عند ديكارت أن الكيفيات انفعالات وحسب، وأن كل ما يبدو في الفكر فهو تابع من ذات الفكر.
ولكن الفكر أشتات من تصورات جزئية يراها ديكارت غامضة مختلطة، وتصورات يراها جلية متميزة مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا ضروريا، الطائفة الأولى تضم إحساسات الحياة العادية، والطائفة الثانية تضم الموضوعات العلمية. ولقد كان من الأهمية بمكان عظيم عند ديكارت ومعاصريه صون العلم وتبريره، وقد نشط العلم نشاطا عديم النظير، ففرض نفسه على العقول بما اكتسب في النظر من دقة وسعة، وما أتاح بتطبيقه في العمل من منافع، فلم يكن يخطر لأحد ببال أن ينكر هذا العلم كما أنكر قدماء الشكاك علم عصرهم الذي لم يؤت من الثمار شيئا مذكورا. وأحس الفلاسفة التصوريون حاجة ماسة إلى منهج يمكنهم من الفصل بين الموضوعات العلمية والتصورات الواقعية، فرأوا وجوب التمييز بين فكرين: أحدهما فكر الشخص بما هو هذا الشخص المعين؛ ومن هذه الوجهة يختلف الناس ويتناقضون، والآخر فكر خالص يوحي بالموضوعات العلمية وبشروط المعرفة الكلية التي يجب أن تتفق عليها العقول جميعا؛ وهذا هو الفارق الآخر بين العندية القديمة والعندية الحديثة. وتكاثرت الكتب في المنهج، وكان منها كتابان شهيران لديكارت: أحدهما «قواعد قيادة العقل»، والآخر «مقال في المنهج». وقاده المنهج في تفسيره لموضوعات العلوم إلى أنها مؤلفة من «طبائع بسيطة»، غريزية في النفس (كغريزة المثل الأفلاطونية)، جلية متميزة لبساطتها وبيانها، مدركة إدراكا حدسيا بالعقل وحده؛ فلا يخطئ فيها العقل، وإنما هو يتخذ منها أصولا لاستنباط العالم أجمع، بل إنها من البساطة، وإن العقل من القدرة ليستنبط عوالم كثيرة بتركيبها بعضها مع بعض على جميع الأنحاء الممكنة، فلا يبقى من فائدة للحس سوى أن يميز من بينها العالم المحقق بالفعل. ومضى الفلاسفة على أثر ديكارت، وجهد كل نفسه ليتبين ويبين للناس المنهج الذي يكفل قيام العلم ويفسر أسس المعرفة، حتى صارت مسألة المعرفة مشكلة المشاكل وطغت على الفلسفة بأسرها. واشتد المد والجزر بين تصورية كلية لا تعترف بشيء غير الفكر، وتصورية جزئية تعترف بشيء غير الفكر، ولكنه الله عند البعض كعلة للأفكار الحسية والعقلية، أو الامتداد البحت عن بعض آخر كأصل للأفكار الحسية، وهذه بدورها كأصل للأفكار العقلية، على ما مر بنا عن الحسيين في الباب الأول.
وإذا أردنا أن نجمع حجج التصوريين في سبيل تأييدهم لمذهبهم وجدنا من بينها حجة أساسية والبقية تفريعات عليها. أما الحجة الأساسية، فهي أن المعرفة ظاهرة نفسية، أي فعل باطن يصدر عن العارف ويستقر فيه، بخلاف الفعل المتعدي إلى خارج المؤثر في شيء آخر والمحدث معلولا خارجا عنه. ومتى كانت هذه طبيعة المعرفة، فهي لا تقع إلا على موضوع باطن، فلا يسع العارف أن يعرف غير ذاته، لا يسعه أن يهرب إلى خارج لكي يعرف موضوعا خارجيا، فإن من التناقض أن تكون المعرفة فعلا باطنا وتدرك شيئا خارجيا. وأما التفريعات فأهمها: أن الإحساس لا يوجد إلا في الحاس، فمن التناقض وضع الإحساس في شيء غير حاس هو المادة. ثم كيف يمكن أن تجيء الأشياء إلى الذهن؟ وكيف يمكن أن تؤثر في النفس مع ما بينهما من تغاير؟ وإذا كانت الأشياء موجودة فهي واقعة فيما وراء الفكر بحيث يمتنع عليه التحقق من المطابقة بينه وبينها، على حد التعريف السائر للحقيقة؛ فإن المضاهاة بين الفكر العارف والموضوع المعروف تستلزم إمكان إدراك الموضوع عن غير طريق الفكر؛ إذ إن الموضوع إن أدرك بالفكر فقد صار فكرا ولم يعد الموضوع في ذاته. فعلى أي الوجوه قلبنا المسألة لم نجد إلا أن الفكر يظهرنا على انفعاله لا على الأشياء، وأن الحقيقة في المعرفة مطابقة المعرفة لنفسها، أي الاتساق بين التصورات في الفكر الخالص.
أول ما نأخذه على هذا المذهب معارضته الصارخة لشهادة الوجدان حتى لنقول إن لا واحد من التصوريين يعتقد به في قرارة نفسه ويعمل به في حياته. إن التصديق بموضوعات التصور فطري قاهر مشترك بين الناس جميعا، فحين نتصور الثلج مثلا وبرودته وبياضه نقصد الشيء المسمى ثلجا، وأن هذا الشيء بارد أبيض، ولا نقصد معاني الثلج والبرودة والبياض في فكرنا؛ وحين نتصور الشمس حارة مسخنة مضيئة نقصد الشيء المسمى شمسا، وأن هذا الشيء حار مسخن مضيء، ولا نقصد معاني الشمس والحرارة والتسخين والإضاءة في فكرنا؛ وحين نتصور المثلث وخصائصه نقصد ذات المثلث، وأن هذه الذات زواياها الثلاثة مساوية لقائمتين، ولا نقصد أن تصورنا للمثلث هو الذي له هذه الخاصية. وهذا يقال في سائر الموضوعات، محسوسة ومعقولة، وفي علاقاتها بعضها ببعض، مثلما إذا قلنا إن الماء يصدئ الحديد، فلسنا نعتقد أننا بهذا القول نعبر عن نسبة بين معنيين من معانينا، وإنما نعتقد أننا نعبر عن قانون موضوعي ونسبة حقيقية بين الماء والحديد. وليس يقتصر التصوريون على التصديق بالأشياء في الحياة العادية، ولكنهم في تفكيرهم ودروسهم وكتبهم لا ينفكون عن ملاحظة الأشياء ومحاولة التوفيق بين التصديق بها وبين مذهبهم، وعن تلمس العلة في توزع التصورات إلى ذاتية خاضعة لتأليفات الظروف والإرادة، وإلى موضوعية نصدق بها ونعمل بمقتضاها فيفلح العلم. إنهم يعتقدون بكثرة العقول، ويعلمون أن هذه الكثرة شرط تكون العلم وتقدمه، ويخاطبون عقولا ويناقشون عقولا، حتى ليجعلون من اتفاق العقول علامة على الحقيقة تضاف إلى اتساق التصورات فيما بينها. ما هذا المذهب المخالف للواقع المشهود إلى هذا الحد، فلا يكاد يثبت حتى ينفى، أو لا يكاد ينفى حتى يثبت، ويضطر أشياعه إلى التناقض المتوالي؟! وأي خير يرجى من الفلسفة إذا لم تبدأ من الواقع ولم تنته إليه، أي إذا لم تكن تفسيرا للواقع؟ إنها حينئذ أضغاث أحلام، لا تستحق لعاب الألسن أو مداد الأقلام.
الواقع أن المعرفة حصول الكائن العارف على شبه المعروف، أي صورته؛ هذا تعريف عام يتفق عليه الجميع، ثم ينجم الخلاف عند تفسيره. وأبسط التفسيرات وأكثرها سذاجة وبعدا عن الحق تفسير الماديين، قدماء ومحدثين؛ فإنهم يتوهمون أن الإحساس «حركة في ذرات الجسم الحاس مسببة عن حركة في الجسم المحسوس تنتقل من أعضاء الحواس إلى الدماغ بواسطة الأعصاب». وهذا يعني أن الحاس يحصل على صورة مادية للمحسوس، كانطباع صورة الشيء المرئي على الشبكية. لكنا نقول: إن هذا الانطباع شرط للرؤية، وليس هو الرؤية نفسها، وإنما الرؤية أو المعرفة على العموم تشبه القوة العارفة بالشيء المعروف تشبها معنويا. إن القبول المادي يدع القابل والمقبول كلا في كيانه، بينما المعرفة عبارة عن قول العارف لنفسه في نفسه أنه يعرف كذا. وليس الحاس العضو وحسب، ولكنه بنوع خاص قوة متحدة بالعضو، فالعضو يقبل التأثير الفيزيقي الكيميائي والقوة تقبل «معنى هذا التأثير»، فقد يقع التأثير المادي على العضو دون أن يحدث معرفة بالفعل، كما لو انطبعت صورة على عين ميت، أو رن صوت وقوة السمع معطلة بالنوم أو بالمرض أو مشغولة بشيء آخر. فالتصوريون على حق إذ يعتبرون المعرفة فعلا لا ماديا. فكون الشيء معروفا معناه أنه مقبول على نحو معنوي ومن ثمة لا مادي، وكون العارف عارفا معناه أنه حاصل على معنى المعروف وأنه من ثمة مشارك في اللامادية كي يتسنى له قبول المعروف على هذا النحو.
والتصوريون على حق حين يقولون: ليست تحدث المعرفة في الشيء المعروف؛ إذ كيف يمكن للعارف أن يخرج عن كيانه، وكيف يمكن أن يتوجه صوب الشيء وهو لم يعرفه؟ وهم على حق حين يقولون: إن المعرفة تتم في العارف، ولكنهم يخطئون إذ يعتقدون أن هذه القضية تقضي باستبعاد الشيء الخارجي. إن باطنية المعرفة لا تنافي التأثر بالشيء، فلئن كانت المعرفة باطنة من حيث هي فعل نفسي، فإنها تستلزم الشيء. يسألون: كيف يجيء الشيء إلى الذهن؟ والجواب: أنه وإن كان ماديا، وكان من هذا الوجه مغايرا للذهن، إلا أنه «فكر» هو أيضا بصورته، أي بمعناه وماهيته. فتأثيره في العارف حركة مادية تحمل صورة أو معنى. إن شهادة الوجدان صريحة قاطعة بأننا أول الأمر ندرك الشيء ذاته، ثم ندرك هذا الإدراك بانعكاسنا على نفسنا، فنعلم أنه الفعل الذي به أدركنا، لا أنه ما أدركنا. ولا حاجة لإقامة «جسر» من الذهن إلى الشيء كما يقولون، وخاصية الذهن أنه نسبي إلى الشيء لا يحدث فيه تصور إلا بوجود الشيء. وماذا يفيد التصوريون من تمييزهم بين فكر خالص وفكر شخصي؟ هل يعتقدون أنهم ينقذون به العلم حقا؟ إن العلم علم بموجودات، ولو صحت التصورية لما دارت العلوم على موجودات، بل على معان متصورة فقط. (2) وجود العالم الخارجي
ننتقل من هذه الاعتبارات العامة إلى اعتبارات خاصة بوجود العالم الخارجي وقيمة إدراكنا له، فنرى ضروبا من التناقض عجيبة، ومحاولات كثيرة هي أشبه بمحاولة تربيع الدائرة، من حيث إن التصوريين يدعون تعليل الظاهر بالباطن، وتعليل الامتداد، ويتحدثون عن «التجربة» وهم يقصدون ما يبدو في الذهن من تصورات تلوح آتية من خارج، ولا يقصدون تأثرنا بأشياء مغايرة لنا. العجب كل العجب من أساطين التصورية، ليبنتز ومالبرانش وباركلي، نسبة تصوراتنا إلى إلهام من لدن الله: كيف لم يفطنوا إلى أنهم يعزون لله عبثا وتلبيسا منافيين لحكمته وصدقه كل المنافاة؟ هل يعقل أن يريد الله أو أن يسمح أن نحيا في وهم قاهر متصل، فنصدق بوجود أشياء، ونصدر عليها أحكاما وهي غير موجودة؟! ولم خلق الله لنا الحواس (أو ما يبدو كذلك) بأجهزة تدل على أنها مرتبة لإدراك أشياء مادية، ثم فوت عليها غايتها هذه طبعا ودائما وحل هو محلها؟ ولم كان الفاقد حاسة فاقدا المدركات التي تكتسب (أو يبدو أنها تكتسب) بتلك الحاسة، فلا يحصل الأكمه مثلا على معرفة بالألوان مهما أسهبنا له في الشرح، ولا الأصم الأخرس منذ ميلاده على معرفة بالأصوات؟ وقد ذهب مالبرانش إلى حد القول إننا نرى الأشياء في الله، وهذا يستلزم أننا نعرف وجود الله وصفاته معرفة بديهية يقينية. والواقع أننا لا نحصل على هذه المعرفة إلا بالبرهان، بل إن كثيرين لا يحصلون عليها.
ومن بينهم فلاسفة مشاهير، أمثال هيوم ومل وكنط، يستعظمونها على مقدرة العقل، فلا يلجئون إلى الله لتعليل اعتقادنا بوجود الأشياء، ولكنهم لا يوفقون إلى تعليل معقول: فكل ما اهتدى إليه هيوم ومل هو أنه اعتقاد بإمكان حصولنا على عين الإحساسات كلما شئنا ذلك. وكيف يمكن أن نحل على عين الإحساسات إذا لم يكن هناك شيء؟ ومن أين يجيء الدوام للإمكان؟ إن لفظ «الإمكان الدائم» معادل للفظ «الضرورة»، وإلا لم يكن له معنى على الإطلاق، فالواجب الاعتراف بضرورة أساس واقعي للإمكانيات الدائمة للإحساسات. فالواجب الاعتراف بأن مجرد التساؤل عن موضوعية الإدراك الظاهر أو وجود العالم الخارجي يؤذن بأن المسألة قد جلت ضد التصورية من حيث إنه لا يمكن التحدث عن الوجود إلا وقد عرفناه. إننا لا نشعر بوقت أول تكون فيه التصورات باطنة، ووقت تال «نقذف» فيه بها إلى خارج فتنقلب ظاهرة، كما يقولون.
وقد تضافروا على جحد الامتداد بحجة أن الإحساس فعل نفسي بسيط، فلا يكون موضوعه ممتدا. وأدلى كل بدليل، وحاول كل تعليل حصولنا على هذه الفكرة. قال باركلي: إن المسافة خط أفقي بالنسبة إلى العين، وإنها من ثمة تلقي بنقطة واحدة على قاع العين، سواء أطالت المسافة أم قصرت، فليس الامتداد مدركا بالبصر. هذا القول كان ينهض لو كنا نرى نقطة واحدة فقط، وكنا نراها بعين واحدة جامدة ساكنة. والواقع أن العين تبصر دائما سطحا مهما يكن صغيرا، وأنها تطوف بحدود السطح المرئي، وتتابع اقترابه أو ابتعاده، وذلك بتحريك عضلاتها وتعديل انحناء عدستها، فندرك المسافة.
وارتأى كنط أن الامتداد صورة ذهنية يضيفها الذهن إلى المحسوس، بدليل أن التجربة جزئية حادثة. ونحن نتصور المكان كليا، أي لا متناهيا، ونتصوره ضروريا من وجهين: أحدهما أننا لا نستطيع تصور انعدامه مع استطاعتنا تصوره خلوا من كل شيء، والوجه الآخر أن القضايا الهندسية ضرورية، والهندسة علم المكان، فالمكان ضروري. والرد على كنط يسير، فأولا: ليس بصحيح أننا نتصور المكان لا متناهيا؛ فالعقل يحكم بتناهي المادة الموجودة بالفعل، والمخيلة هي التي تتخيل مكانا وراء مكان دون أن يتم لنا تخيل اللانهاية بالفعل. ثانيا: أن العجز عن تصور انعدام المكان يرجع كذلك إلى المخيلة؛ لأن وظيفتها إدراك الصور الخيالية، وأن من غير الممكن وجود صورة خيالية للعدم. ولكن العقل يحكم بعدم المكان حيث لا يوجد جسم، ويحكم بعدم المكان إطلاقا إذا افترضنا انعدام الطبيعة بما فيها من أجسام. ثالثا: أن ضرورة القضايا الهندسية لا تحتم صدورها عن العقل الخالص بحدودها ونسبها، كما يريد كنط، بل من السائغ جدا أن نقول - على مذهب أرسطو - إننا نكتسب بالحواس صور الأمكنة الجزئية الحادثة، ثم نجرد منها معنى المكان البحت بأقطاره الثلاثة، والمعنى المجرد كلي ضروري كما نعلم، والقضايا التي تضيف إليه محمولات ذاتية هي كذلك كلية ضرورية.
وظن هربرت سبنسر أنه يرفع التعارض الذي يبدو بين فكرة الامتداد وبساطة الإحساس، ويعلل فكرتي المكان البصري والمكان اللمسي فيقول عن تكوين فكرة المكان بالبصر: إن انفعالات الحواس تستمر وقتا قصيرا بعد حدوثها، فحين تنفعل خلايا الشبكية على التوالي وبسرعة كافية بحيث يبدأ انفعال الأخيرة منها قبل انتهاء انفعال الأولى، وتظل سلسلة الخلايا وقتا قصيرا في حال انفعال لاستمرار انفعال الواحدة في انفعال جارتها؛ تظهر هذه السلسلة من الانفعالات المتعاقبة السريعة كأنها سلسلة متقارنة، فنشعر بالمكان. ويقول عن تكون فكرة المكان باللمس: حين نمشي اليد على قطعة من الأثاث نشعر بسلسلة من الإحساسات اللمسية، وحين نمشي اليد في الاتجاه العكسي نشعر بمثل تلك الإحساسات فنشعر بالمكان؛ إذ إن هذا التشابه أو التعادل بين السلسلتين سببه تقارن آحادهما من جراء سرعة التعاقب. وبعبارة واحدة: إن الإحساس بالتجاور في المكان يفسر بالإحساس بالتقارن في الزمان، وهذا يفسر بدوره بمراجعة سريعة لسلسلة من الإحساسات (البصرية أو اللمسية) المدركة متعاقبة أول الأمر. وهذه تفسيرات واهية، فأولا: إن انفعالين مختلفين نشعر بهما في نفس الوقت، كالخوف على حياة شخص عزيز والأمل في شفائه، لا يحتلان نقطتين من المكان. وثانيا: إذا كنا نستطيع عكس السلسلة في لمس قطعة الأثاث فذلك؛ لأن هذه القطعة ممتدة باقية بجميع أجزائها وأن التقارن المكاني متحقق فيها. وثالثا: أن سبنسر يناقض نفسه مناقضة صارخة؛ إذ يتحدث عن أجزاء الشبكية وأجزاء الأثاث، أي عن المكان الذي يعتبره محض تصور، ويحاول أن يفسر وجوده في أذهاننا!
وهذا شأن جميع التصوريين: لا يستطيعون عرض مذهبهم إلا بافتراض وجود العالم الخارجي. والواقع أن هذا الوجود مفروض علينا في النظر وفي العلم، وأننا نميز في جسمنا وفي محيطنا بين يمين ويسار، وأعلى وأسفل، ونضع كل إحساس في الموضع المتأثر به، ولم نكن لنفعل ذلك لو لم يكن جسمنا ممتدا ذا أجزاء، وكانت الأشياء من حولنا ممتدة ومحسوسة كذلك؛ فإن العين لا ترى لونا إلا وهو منبسط على سطح مهما يكن صغيرا، ولا يحس اللمس شيئا إلا ويحس الامتداد، ولا نشم رائحة إلا ونحسها منتشرة في المنخرين، ولا نتذوق طعاما إلا ونحسه منتشرا على اللسان. فإذا كان الإحساس فعلا بسيطا، فليس موضوعه بسيطا أيضا.
ومن الفلاسفة والعلماء من اعتقدوا بموضوعية الامتداد، وما له من مقدار وشكل وحركة وسكون، وأنكروا موضوعية ما نتصور فيه من ألوان وأصوات وروائح وطعوم وحرارة وبرودة، واعتبروها انفعالات ذاتية تحدث بتأثير حواسنا بالأشياء . هكذا ارتأى ديمقريطس واضع المذهب الآلي، وتابعه أبيقور، ثم أساطين الفكر الحديث، أمثال هوبس وجليليو وديكارت ولوك، قائلين إن العلم التجريبي لا يدرك في الأشياء سوى الامتداد والحركة، وإن سائر المدركات الحسية ترجع إلى الحركة وسرعتها واتجاهها. وأذاع لوك تسمية الطائفة الأولى من المدركات الأولية، والطائفة الثانية بالكيفيات الثانوية، وانتشر هذا الرأي حتى صار عاما بين رجال العلم والفلسفة ومن يلف لفهم.
وأول ما نلاحظه على هذا الرأي أن أصحابه بعد أن جعلوا القاعدة الكبرى في المنهج العلمي الاقتصار على ما تسجله الآلات ويقدر بأرقام، وعرفوا أن هذين الشرطين لا يتحققان إلا في الحركة؛ ظنوا أن ما عدا الامتداد والحركة فهو غير موجود. وشتان بين المعنيين؛ فقد يكون موجودا ولا يتناوله العلم لمغايرته لموضوع العلم ووسائله. هذا غلط في الاستدلال لا يغتفر. وثمة غلط لا يقل عن السابق جسامة: نعني قسمة المدركات الحسية إلى أولية موضوعية وثانوية ذاتية، مع أنها جميعا سواء في المحسوسية، وأن الثانوية منها تدرك موضوعية كالأولية. وإذا كانت بعض المحسوسات ذاتية فإن المنطق السليم يقضي بذاتية سائر المحسوسات، أو إذا كانت بعض المحسوسات موضوعية فإن المنطق السليم يقضي بذاتية سائر المحسوسات، أو إذا كانت بعض المحسوسات موضوعية فإن المنطق السليم يقضي بموضوعية سائر المحسوسات. وإذا فكرنا أن الكيفيات الأولية معلومة لنا بالثانوية أيقنا أن لا سبيل إلى تبرير هذه القسمة: فالمقدار والشكل يدركهما اللمس بالصلابة، ويدركهما البصر باللون، وتدرك الحركة والسكون والعدد باللمس أو بالبصر أو بالسمع، كل حاسة بواسطة موضوعها الخاص الذي هو كيفية من الكيفيات الثانوية. فأولى بنا أن نعتقد أن هذه الكيفيات موضوعية، وأنها تصل إلى علمنا بالتأثير الصادر عن الأشياء؛ فإن الحركة إذ تصدر عن الشيء الخارجي تصدر مشبعة بكيفياته ووفقا لها، وإلا فليفسروا لنا اختلاف الحركة اتجاها وسرعة وليس في الامتداد البحت اقتضاء اتجاه معين مطرد وسرعة معينة مطردة. فالواجب وضع الكيفية قبل الحركة لازمة من خصائص الأشياء غير منفكة عنها.
وقد حاول بعض علماء النفس من أشياع التصورية والأولية أن يعللوا الكيفيات؛ لا بتكيف الأشياء، بل بتكيف الأعصاب الحاسة الممتدة من أعضائنا الظاهرة إلى المراكز المخية، بحيث تكون إحساساتنا حالات خاصة بأعصابنا، لا ترجمة عن العالم الخارجي. تجربتان توضحان نظريتهم المعروفة بنظرية «القوة النوعية للأعصاب»: إحداهما أن الموجات الضوئية والصدمة الآلية والتيار الكهربي إذا وقعت على العصب البصري أحدثت إحساسا ضوئيا.
والتجربة الأخرى أن التيار الكهربي إذا سلط على العصب البصري أحدث إحساسا ضوئيا، وعلى العصب السمعي أحدث إحساسا سمعيا، وعلى العصب الذوقي أحدث إحساسا ذوقيا، وعلى البشرة أحدث إحساسا لمسيا. مما يدل على أن كل حس يجاوب مجاوبة واحدة، هي كيفية الخاصة أيا كان التأثير الواقع عليه. والجواب على هذا التدليل أن الذين يحرمون استعمال حاسة أو أكثر منذ ميلادهم أو في طفولتهم الأولى لا يحسون شيئا إذا ما هيج العصب الحسي أو المركز المخي أو وقع على العضو الظاهر تأثير آلي. مما يدل على أن التجارب التي من هذا القبيل لا تتحقق إلا في الحواس المستعملة، فإن التأثير الواقع عليها إذا ما بلغ إلى المركز المخي حيث تحفظ آثار الإحساسات، هاج في كل مركز إحساسا من نوعه. فهذه القوة النوعية مكتسبة وليست أصيلة. ثم إن الحاسة الواحدة تؤدي إلينا محسوسات مختلفة النوع لا ترد إلى محسوس واحد، كاختلاف الألوان فيما بينها واختلاف الطعون واختلاف الروائح، فما هي قوتها النوعية؟ وأخيرا: لم تكون الأعصاب مكيفة ولا تكون الأشياء مكيفة؟ ما الذي يمنع من يقبل الكيف في البعض أن يقبله في الكل؟ اللهم إلا أن يكون هو العناد المذهبي يهون معه التناقض والتهافت.
على أننا لا نقصد بالموضوعية وجود الكيفيات في الأشياء كوجودها في الإحساس، وأن في الشيء الملون «إحساسا» باللون وفي الشيء الحلو «إحساسا» بالحلاوة، كما توهم باركلي. فمن الواضح أن اللون لا يرى إذا لم يكن هناك عين تراه فعلا، وأنه في البصر يختلف عنه في الشيء الخارجي من حيث إن وجوده في الشيء فيزيقي وفي البصر معنوي. وإنما نقصد أن في الشيء كيفية لا تتعلق بإدراكنا، إذا ما أثرت في العضو الحاس أحدثت إدراكا. ولا نقصد أن الحواس تمثل لنا الكيفيات دائما كما هي؛ فإن الحاسة مركبة من قوة مدركة وعضو قابل للتأثير الخارجي، فلها من جانب مادة العضو كيفيات خاصة تمنع من قبولها الكيفيات الخارجية قبولا خالصا. يضاف إلى ذلك أن بين الشيء والحاسة وسطا، وهذا ظاهر للعيان في البصر والسمع والشم، وثابت للذوق واللمس؛ فإنه هو اللحم تحت الجلد لأن عضويهما ليسا على سطح الجسم بل في الداخل. وللوسط كيفياته وتغيراته تتأثر بها الحواس، فإذا اعتبرنا هذين الوجهين، وهما: مادة العضو الحاس ومادة الوسط، وذكرنا أن المحسوسات المدركة مباشرة هي الوصلة إلى أطراف أعصاب الحواس خلال الوسط؛ أدركنا أن الإحساس نسبي إلى حد ليس بالقليل: فعضو الشم قد يكون دائما متأثرا بذرات لها رائحتها لاصقة به، فيتعدل بها إدراك الروائح المتواردة عليه. والطعوم المدركة مباشرة هي المتحللة على اللسان، أي الأمزجة الناتجة من تحلل المطعومات في اللعاب، وقد يكون اللسان متأثرا دائما ببعض بقايا الطعام وبأخلاط الجسم، فيعتدل بها إدراك الطعم. وليست حرارة الأشياء هي المدركة في ذاتها؛ لأن لجسمنا حرارته، فلا ندرك سوى الزيادة في حرارة الأشياء على حرارتنا. وعلى ذلك فنحن لا نحجم عن الإقرار بأن المعرفة الحسية في مرتبة دنيا، وأن معنى المعرفة لا يتحقق فيها إلا بنسبة وتفاوت من جراء المادة. ولكنا نقول أيضا إن العقل يصححها بالمضاهاة وبالاستدلال، وإن مسألة المعرفة هي في الحقيقة مسألة العقل لا مسألة الحواس، كما سبقت الإشارة.
فمن الشطط اتهام الحواس إطلاقا. وإذا عدنا على ما رددنا به على الشكاك زيادة في الإيضاح، قلنا: إن الحواس صادقة في إدراك الكيفيات الثانوية؛ لأن هذه الكيفيات هي موضوعاتها الخاصة، فلا تخطئ فيها إلا عرضا ونادرا. وذلك متى اعتل العضو فلم يقبل المحسوس على ما ينبغي: فالمحموم يجد العسل مرا لفساد لسانه، والمصاب باليرقان يرى الأشياء صفراء لاصفرار عينيه، والمصاب بالدلتونية
2
لا يميز بين الأحمر والأخضر وصحح الخطأ هنا بالرجوع إلى سابق التجربة وإلى شهادة الآخرين. والحواس صادقة في إدراك الكيفيات الأولية. وإلا أن هذه الكيفيات محسوسات خاصة للمس، ومحسوسات بالتبعية لسائر الحواس؛ فاللمس صادق في إدراكها ما لم يعتره مرض، وسائر الحواس قد تخطئ في إدراكها. والواقع أننا كثيرا ما نخطئ في إدراك أبعاد الأشياء وأحجامها وأوضاعها؛ لتعويلنا على حس منها وتصديقه في غير موضوعه الخاص. والسبيل إلى تصحيح الخطأ هنا مراجعة الحس المختص أو حس آخر، وبخاصة الاسترشاد بالعقل: فاللمس مثلا يصحح خطأ البصر الذي يرى العصا في الماء منكسرة لانحراف الضوء وتغير الوسط. ولولا العقل والبحث العلمي لاعتقدنا أن الشمس لا يزيد قطرها على قدم واحدة، وأنها هي المتحركة لا الأرض التي نراها منها؛ فإن البصر يمثل الشيء كما يرد عليه خلال الوسط، ويمثل تغير موضع المرئي بالنسبة إلى العين. أما أن المرئي يتحرك أو أن الرائي هو الذي يتحرك، فأمر خارج عن موضوع البصر. لذا لا تعتبر هذه الأمثلة وما يشابهها أخطاء له؛ فإن فيها جميعا يسجل ما يصل إليه. وهذا شأن جميع الحواس، وما يسمى أخطاء الحواس معظمه في الحقيقة أخطاء تأويل، فالحواس صادقة في إدراكها الخاص بالشروط التي بيناها، وما علينا إلا أن ننتبه إلى مواطن الخطأ فنتفاداه.
3
الفصل الثالث
العقل وإدراك الطبيعة
(1) النظريات التصورية
إلى هنا قصرنا حديثنا عن المذهب التصوري على مبدئه العام. والآن نعرض للنظريات الخاصة التي اصطنعها أركانه لتعليل علمنا بالطبيعة وتقدير قيمة هذا العلم، فإنهم، مع إيمانهم بباطنية المعرفة، مؤمنون بالعلم الطبيعي الدائر على الأجسام وتغيراتها، وأول اسم يذكر في هذه المسألة اسم أفلاطون. تحقق وجود معان في النفس بريئة عن المادة والتغير، إلى جانب صور المحسوسات المغمورة في المادة والمتغيرة باستمرار، وبحث عن أصل المعاني، فبدا له أنها غير مكتسبة من المحسوسات، وذلك بدليلين: أحدهما أن المعرفة شبه المعروف، فيلزم أن تكون موضوعات المعاني على نحو معرفتنا لها، والدليل الآخر أن النفس روحية مفارقة للمادة كالمعاني التي تعلقها. وليس يتأثر الروحي من المادي، حتى الحس، لكونه قوة نفسية؛ فهو لا يتأثر من المحسوسات، وإنما يقع تأثير المحسوسات على أعضاء الحواس فتكون النفس في ذاتها صورة المحسوس. وإذن ففوق المحسوسات أصول لها أو مثل شبيهة بمعانينا، عرفتها النفس في حياة سابقة في السماوات أو العالم المعقول. وكل إنسان يولد في هذه الدنيا تهبط نفسه إليه حاصلة على المعاني. فإلى المثل يتجه تعقلنا، إليها ترجع التعريفات، وعليها تدور العلوم.
ولما فكر القديس أوغسطين في هذه الأقوال تلقاها بالقبول، ما عدا قولا واحدا هو قيام المثل بأنفسها، فقد كان أفلاطون جعل منها أصول الجزئيات بضرب من مشاركة أجزاء المادة في مثال مثال، بحيث تتصور أو بحيث تصورها الأفلاطونيون كأنها خالقة، والمسيحية تقصر قوة الخلق على الله. فجمع أوغسطين المثل في العلم الإلهي، وأرجع علمنا إلى علم الله، قائلا: «إن عقلنا يرى كل حق في الحقائق الأزلية» أو الإلهية، دون أن يقول كلاما واضحا في كيفية هذه الرؤية. ولكنه تابع الأفلاطونيين في الاعتقاد بقصور المادة عن التأثير في الروح، وفي تكوين النفس لصور المحسوسات، وفي إدراك المعاني بغير اشتقاقها من الصور المحسوسة المقابلة لها، وفي هذا ما فيه من التصورية.
وظهر لدى الفلاسفة الإسلاميين مذهب في المعرفة يقارب المذهب السابق، ويبدو واضحا في قول الفارابي: «العقل الإنساني هيئة ما في مادة معدة لأن تقبل رسوم المعقولات، فهي بالقوة عقل، وسائر الأشياء التي في مادة معقولات بالقوة. والفاعل الذي ينقلها من القوة إلى الفعل هو ذات ما، جوهره عقل ما بالفعل ومفارق للمادة. وإذا حصل في القوة الناطقة عن العقل الفعال ذلك الشيء الذي منزلته منها منزلة الضوء من البصر، حصلت المحسوسات المحفوظة في القوة المتخيلة معقولات في القوة الناطقة.»
1
وهذا الجوهر «مرتبته في الأشياء المفارقة (أي عقول الأفلاك في عرف القدماء) التي ذكرت من دون السبب الأول (أي الله) المرتبة العاشرة»، يعني أنه عقل فلك القمر. لم يخرج ابن سينا عن هذا التعليم، بل يكاد يكون كلامه ترديدا لألفاظ الفارابي، فهو يقول مثلا في كتاب النجاة: «القوة النظرية تخرج من القوة إلى الفعل بإنارة جوهر هذا شأنه عليها. فإذن هنا شيء يفيد النفس ويطبع فيها من جوهره صورة المعقولات، ويسمى بالقياس إلى المعقول التي بالقوة، وتخرج منه إلى الفعل عقلا فعالا.» ويعين فعله بقوله: «هذا العقل الفعال يفيض منه قوة تسيح إلى الأشياء المتخيلة التي هي بالقوة معقولة لتجعلها معقولة بالفعل.» وكذلك ارتأى ابن رشد، فإنه يقول مثلا (في كتاب تلخيص ما بعد الطبيعة): «ماهية العقل الفاعل لهذا العقل منا تصوره هذه الأشياء التي ههنا.» ففي هذا المذهب ليست المعقولات مرئية في الله كما قال أوغسطين أو كما عزي إليه أنه قال، ولكنها نازلة من عقل مجرد في ذاته يسمونه العقل الفعال أو عقل فلك القمر، يصدر إلى العقل الإنساني ضوءا يجرد به الماهيات الحالة في المادة، أو يصدر صور هذه الماهيات، وصور الماهيات المجردة في أنفسها، فنعقلها.
ثم كان ديكارت أول من أظهر التصورية مذهبا واضح المعالم بين المبادئ والنتائج كما ذكرنا، لم يقل كأفلاطون يسبق وجود النفس، ولكنه اعتقد مثله أنها مشتملة منذ وجودها على معان غريزية أو فطرة بسيطة أولية، ومن ثمة جليلة متميزة، تؤلف منها أشياء كثيرة، ومن الأشياء عوالم كثيرة، فلا تحتاج إلى التجربة إلا لتعلم أي عالم هو موجود فعلا، فهي مستكفية بذاتها، مستغنية عن الطبيعة في إقامة العلم الطبيعي، ما دامت واثقة أن الله ضامن صدق المعاني واتساق ترتيبها. وإلى الله اتجه أيضا ليبنتز ومالبرانش وباركلي، على النحو الذي قلنا؛ لأنهم لم يجدوا وسيلة أخرى لتفسير معارفنا وتأييد ثقتنا بها. ولم يفطنوا إلى أن المبدأ التصوري الذي اعتنقوه، إن لم يمنع من تصور الله، فإنه يمنع من الاعتقاد بوجود الله، لأنه يمنع من الاعتقاد بأي وجود.
وفطن كنط إلى وهن هذا الأساس، وأخذ على عاقته أن يشيد نظرية العلم حسب مقتضيات المذهب التصوري؛ لكن لا التصورية المطلقة الجاحدة للوجود الخارجي، وإلا فاتتنا مادة العلم، بل التصورية المعتدلة تعترف بحقيقة الوجود، بدليل أن الإحساس انفعال، وأن المنفعل خاضع لتأثير شيء فعال، وإن كنا لا ندرك من الأشياء سوى انفعالنا بها. فمضى كنط من القول المأثور: إن العلم مؤلف من قضايا كلية ضرورية، والتجربة جزئية متغيرة. وساءل نفسه عن السبب في إمكان القضية العلمية، فوجد أن الكلية والضرورة إن لم تأتيا من التجربة، وهذا مسلم من العقليين والحسيين على السواء، فلا يبقى إلا أنهما آتيتان من العقل الذي يجحده الحسيون فيقضون على العلم؛ فمتى آمنا بالعلم آمنا بالعقل حتما لأنه هو الذي يحيل التجربة الجزئية الحادثة إلى قضية كلية ضرورية، وذلك بأن يضيف إلى التجربة رابطة من عنده؛ التجربة مثل قولنا: «الشمس تسطع، وهذا الحجر يسخن»، والقضية العلمية مثل قولنا: «ضوء الشمس يسخن الحجر». التجربة جمع بين إحساسين وإخبار بحال شعورية للحاس، والقضية العلمية تعبير عن علاقة ضرورية بينهما مستقلة عن الشخص الذي يحسهما، والعلاقة هنا علاقة العلية زائدة على التجربة الصرف ومعطية إياها الكلية والضرورة، بمعنى أن ضوء الشمس «علة» سخونة الحجر. وفي العقل اثنتا عشرة علاقة أو «معقولة» يؤلف بها شتى القضايا، دون أن تكون هي موضوعا للفكر كالمعاني الغريزية عند أفلاطون وديكارت وليبنتز؛ فإن وظيفة العقل هذا الربط فقط، لا الحكم على حقائق الأشياء. ويطبق العقل هذه العلاقات على الإحساسات بواسطة رسوم في المخيلة، لكن علاقة رسم هو العلامة الدالة على أنها هي التي يجب تطبيقها: فرسم الجوهر تصور البقاء في الزمان، ورسم العلية تصور التعاقب المطرد في الزمان. هكذا يتلاقى العقل والحس، ويتكون العلم الطبيعي، فيجيء موضوعيا من هذه التجربة، وكليا ضروريا من جهة العلاقة العقلية. وهكذا اعتقد كنط أنه أصاب الحق الذي يظل محجوبا عن الإنسانية إلى عهده، واهتدى إلى المذهب الوسط بين الحسية العاجزة عن تسويغ الكلية والضرورية اللازمتين للعلم، وبين التصورية المطلقة العاجزة عن توفير مادة العلم. (2) الرد على التصوريين عامة
بعد هذا العرض لأشهر النظريات التصورية في أصل المعاني وفي الصلة بين العقل والحس، نعرض النظرية التي نرى فيها الحق، فنعلن على الفور أنها نظرية التجريد الأرسطوطالية التي طالما أشرنا إليها. وهي تعارض تصور النفس الإنسانية كأنها ملك كريم هبط من السماء حاملا المعاني، أو على استعداد لقبولها من روح علوي. وتقرر أن الحس متصل بالأشياء اتصالا مباشرا، وأن العقل لا يكتسب معرفة ما إلا إذا تلقى مادتها من الحس، بحيث تكون الحياة العقلية مرتبطة بالحياة الحسية بل البدنية، مع تمايزها منهما بالطبيعة والفعل. وآية ذلك أن سوء تركيب الدماغ أو توقف نموها أو ضعف هذا النمو، يجعل من صاحبه إنسانا غبيا أو أبله أو مجنونا، وأن ما ينتاب البدن، وبخاصة الدماغ، من تعب أو مرض أو جرح أو بتر؛ يعطل الذاكرة بل الحياة الفكرية على العموم قليلا أو كثيرا، وأن إدمان التدخين أو السكر أو التخدير يؤدي إلى عواقب من هذا القبيل. ولم يكن شيء من هذا ليحدث لو كانت النفس قائمة في البدن بذاتها ولذاتها من كل وجه، فاعلة وحدها جميع أفعالها دون مشاركة ما من جانب البدن.
ولهذا الأصل العالم أثر حاسم في اكتساب المعرفة، حسية وعقلية؛ فإن هذا الاكتساب رهين بفعل أعضاء الحواس، فمن المعلوم أن من عدم حاسة ما من أول أمره عدم معارفها، كالأكمة لا يتمثل الألوان مهما توصف له. وليس يغني القول مع أفلاطون وابن سينا وديكارت أن الحواس ضرورية لتنبيه العقل إلى المعاني؛ فإن النفس عند الغريزيين جوهر قائم بذاته، فيكون في وسع العقل استثارة مدركات الحواس المعطلة، وذلك إما بالتأمل في مدركات حاسة سليمة، أو بالاتجاه إلى العقل الفعال، أو بخطاب مخاطب، ولكنه لا ينتبه بوسيلة من هذه الوسائل. بل إن تربية الصم البكم الكمه لتدل على أن تفتح فكرهم وترقيه تابعان لاكتسابهم الإشارات الحسية، وهي عندهم لمسية تقوم مقام الإشارات الممتنعة عليهم. لذا لا يجدي الاحتجاج على قول الحسيين «إن المعاني ألفاظ» بأن الصم البكم الكمه يحصلون على معان بغير وساطة الألفاظ؛ فإنهم يحصلون على معان بإشارات حسية على كل حال.
وثمة أثر آخر للارتباط بين الحياة العقلية والحياة الحسية، هو أن تعقلنا مصحوب دائما بصورة خيالية، فلا يتعقل عقلنا موضوعا ما إلا وفي ذات الوقت تتمثل المخيلة صورة ما، حتى ولو كان المعقول روحيا. فمتى كان المعقول ماهية شيء مادي تمثلت المخيلة صورة جزئي من جزئيات تلك الماهية، حقيقي أو مركب. ومتى كان المعقول مجردا أو روحيا تمثلت المخيلة صورة رمزية، أو لم تتمثل شيئا، واقتصر الأمر على صورة لفظية، أي على اسم ذلك المعقول. فإن الألفاظ تسمع وتقرأ وتلفظ فتخلف في المخيلة صورا سمعية وبصرية وعضلية تصاحب تعقل الموضوع الدالة على مصاحبة الظل للشيء. وإليك نتائج التجارب العديدة التي أجراها علماء النفس بهذا الصدد: فقد سأل بعضهم لفيفا من الأشخاص عما يخطر لخيالهم عند سماعهم لفظ «كلب» مثلا، فقال أحدهم: «كلب جيراني يركض»، وقال غيره صورا خيالية أخرى. وكان من بين الأجوبة بصدد لفظ «قانون»: كتاب قانوني، قضاة يرتدون الأحمر، سيدة رافعة ميزانا، خطوط متوازية، تعريف القانون لمونتسكيو. ومن بين الأجوبة بصدد لفظ «لانهاية»: حفرة مظلمة، كتب رياضية، العلامة الرياضية، دوائر ساطعة، شيء شبيه بالقبة، أفق يبتعد باستمرار. ومن بين الأجوبة بصدد المجردات العالية «لا شيء» يعني: لا صورة خيالية أو رمزية، بل مجرد اللفظ، كلفظ الله أو النفس حين نفكر في النفس أو في الله.
2
ولا تفسر مقارنة التخيل للتعقل على هذه الأنحاء إلا بأن عقلنا متجه أولا إلى الماديات، يستخلص ماهياتها مما يغشيها من أعراض مشخصة، وأنه يتوصل إلى الروحيات ابتداء من الماديات، بعكس ما يتصور التصوريون.
هذا الاستخلاص أو التجريد يبدو واضحا في كون الأعم متقدما على الأخص في معرفتنا، سواء منها العقلية والحسية: فالعلم بالجسم يحصل في عقلنا قبل العلم بالحيوان، والعلم بالحيوان قبل العلم بالإنسان، والعلم بالإنسان قبل العلم بشخص معين. ونحن نرى الأطفال في أول أمرهم يميزون الإنسان من اللاإنسان قبل أن يميزوا هذا الإنسان أو ذاك؛ فيسمون كل رجل أبا وكل امرأة أما، ثم يأخذون بتمييز الأشخاص بعضهم من بعض.
3
والوجه الذي يتم عليه التجريد لا يدرك بالوجدان، بل يستدل عليه بالعقل، وأول ما يثبته العقل أن ماهيات المحسوسات ليست موجودة مفارقة للمادة على نحو ما نتعقلها؛ كما ظن أفلاطون، ولكنها موجودة في مادة المحسوسات مغطاة بأعراضها، وهي بهذا الاعتبار غير معقولة، فيظل العقل محتاجا إلى موضوع يتعقله، وهو يتعقل بالفعل موضوعات كثيرة، فيلزم أن في النفس قوة تجرد الماهيات عن المادة البادية في الصور الخيالية وتجعلها معقولة بالفعل، فتنفعل بها قوة أخرى وتتعقلها، كما ينفعل الحس بموضوعه فيحسه.
ففي النفس عقلان: أحدهما المتعقل، وهو الذي نسميه العقل اختصارا، وقد سمي بالعقل المنفعل للدلالة على أنه خلو من المعقولات في الأصل ومضطر لقبولها بعد التجربة. والعقل الآخر هو المجرد، وقد سمي بالعقل الفعال بالقياس إلى المنفعل؛ لأنه هو الذي يجرد ماهيات المحسوسات ويعرضها على العقل المنفعل فيخرجه من القوة إلى الفعل. ولا سبيل إلى الاستغناء عن هذا العقل الفعال بإضافة التجريد إلى العقل المنفعل نفسه؛ لأنه ما دام منفعلا ومنتظرا القبول كي يفعل، فليس في وسعه ولا في وسع أي موجود، أن يخرج بذاته من القوة على الفعل. إنما نستغني عنه لو اعتقدنا مع أفلاطون أن المثل قائمة بأنفسها ومؤثرة في النفس كما تؤثر المحسوسات في الحواس؛ وهذا اعتقاد باطل. على أن التسليم به تسليم بوجوده فقط وبمفعوله الذي هو الماهية المجردة، ولا ينطوي على العلم بطريقة فعله، فإن هذه الطريقة خافية علينا كل الخفاء. وقد شبهه أرسطو بضوء الشمس الذي هو واحد بعينه ويبرز ألوانا وأشكالا مختلفة باختلاف الأشياء الواقع عليها. فنستطيع أن نقول إن العقل الفعال عبارة عن ضوء روحي، وإن فعله هو «إضاءة» الصورة الخيالية وإبراز الماهية الكامنة فيها. العقل الفعال علة رئيسية، والصورة الرئيسية علة مرءوسة، مثلها مثل قلم الكاتب أو ريشة المصور أو أي آلة أخرى تقبل من الفاعل قوة، فتحدث معلولا أرقى منها ما دامت في يده. والماهية المجردة روحية معقولة، فهي أرقى من الصورة الخيالية المحسوسة، وليست تكفي هذه لإحداث المعقول.
هذه النظرية فريدة بين النظريات العارضة لتفسير أصل المعاني؛ فإنها تدع للمعاني طبيعتها العقلية، وتبين كيفية الانتقال من المحسوس إلى المعقول بتجريد عقلي، فتضمن موضوعية المعقول. بينما النظريات الحسية لا ترى في المعاني سوى أنها مختصرات للمحسوسات مكتسبة بتجريد حسي ، أي بتفصيل المحسوس إلى أجزائه كما هي في الواقع. وبينما النظريات التصورية تضع المعاني في النفس وضعا، أو في عقل مفارق يفيضها على النفس، دون أن توفر للعقل أية صلة بالحس، اللهم إلا تلك الصلة التي نجدها عند أفلاطون بين المعنى الغريزي وبين الإحساس، والتي تقضي في الحقيقة على الغريزية، من حيث إنها تتضمن أننا نتعرف على المعنى في الإحساس نفسه، فنتذكر الإنسان مثلا عند رؤية زيد من الناس، فلا يبقى وجه حاجة لقيام المثل بأنفسها ومشاهدتنا لها في حياة سابقة.
كما لا يبقى وجه لدعوى التصوريين المحدثين أن المعنى محض صورة معقولة دون مقابل في الخارج؛ فإن المسألة لا تعدو أحد أمرين: فإما أننا نتعقل المعنى بمناسبة الإحساس دون أن نراه متحققا فيه، وحينئذ فلا يسوغ لنا أن نطلق المعنى على جزئياته وتكون جميع أحكامنا باطلة؛ وإما أننا نرى المعنى متحققا في الإحساس، وحينئذ فلا تعود بنا حاجة لاعتباره سابقا على التجربة أو آتيا من مصدر آخر. إن هؤلاء التصوريين اسميون في الواقع مع اعترافهم بوجود المعاني في الذهن؛ فإنهم يصلون إلى نفس النتيجة، وهي قطع الصلة بين العقل والأشياء. قلنا ضد الحسيين: إن الألفاظ دلالات على المعاني، ونقول الآن ضدهم وضد التصوريين: إن المعاني دلالات على الأشياء نطبقها عليها بقولنا مثلا: «زيد إنسان» و«عمرو إنسان». وهذا التطبيق دليل على المطابقة بين الطرفين، وتقرير للعلم؛ إذ كان العلم إدراكا لحقائق الأشياء في معانيها الكلية، وكان الحكم العلمي كليا ضروريا، لا بتطبيق العقل على الحدين مقولة جوفاء غريزية فيه دون إدراك ضرورة الارتباط بينهما، بل لكون ذلك الحكم يضيف إلى الموضوع محمولا يخص ماهية الموضوع الممثلة في الذهن بالمعنى المجرد، وهكذا تفسر نظرية التجريد أيضا الأحكام المستفادة من التجربة والمرفوعة إلى مقام القوانين الثابتة التي هي أركان العلم. (3) الرد على كنط
أما كنط الذي حرص على التوسط بين الحسيين والعقليين، فلم يوفق إلا إلى توسط ظاهري فقط، هو نتيجة جمع صناعي بين عناصر متناقضة، وما إن ينكشف تناقضها حتى ينقسم المذهب على نفسه ويتبدد شذر مذر. ونحن ندل على سبعة تناقضات: التناقض الأول قائم بين اعتقاده بالضرورة في الحكم العلمي وبين بقائه على التصورية؛ فإن الحكم إذا دققنا فيه النظر، يفضي إلى الوجود، وذلك بأنه متجه إلى موضوع حاكم عليه في ذاته، موجودا كان أو ممكن الوجود، فيقول إن الموضوع «هو» المحمول، فإن الرابطة «هو» تؤكد الموضوع وتؤكد حصول المحمول له في واقع الأمر.
التناقض الثاني بين الكلية والضرورة الباديتين في الحكم العلمي، وبين تأليف هذا الحكم من حدين مستفادين من التجربة الجزئية الحادثة: فما يجيء من التجربة ليس بين حديه نسبة ضرورية، فكيف يسوغ إيقاع مثل هذه النسبة بين حدين بريئين منها؟ إن الحكم العلمي شيء غير مفهوم في فلسفة كنط، ولا يفهم إلا بنظرية أرسطو في التجريد التي ترفع الشخص والحدوث عن الموضوع والمحمول، وإلا بقي الحكم العلمي بغير تفسير لا من جهة التجريد ولا من جهة العقل.
التناقض الثالث بين تصورية المقولات وموضوعيتها: فهي قوالب جوفاء لا يجوز أن تؤخذ موضوعات معرفة، وهي في نفس الوقت كثيرة متباينة الآحاد يحمل كل منها اسما: أفليس يلزم عن هذا أن لها تعريفات وأنها من ثمة معلومة ولو إلى حد ما؟ إن كنط يجادل في مقولة العلية وفي غيرها من المقولات، وهو يقول: إننا نتصور المكان والزمان ولو لم يشتملا على شيء. فكيف تكون المقولات، وكيف يكون المكان والزمان صورة ومادة في آن واحد؟ لقد احتاج كنط إلى الصور العقلية لكي يوفر للعلم أساسا من الكلية والضرورة، ذلك الأساس الممتنع على المذهب الحسي لإنكاره العقل، فلم يزد بها على مدركات التجربة سوى مجموعة من الألفاظ لا يمكن أن تحيل الحكم التجريبي حكما علميا.
التناقض الرابع بين اعتباره العلية مجرد مقولة لا يجوز تطبيقها إلا للربط بين ظاهرتين محسوستين؛ كما هو شأن سائر المقولات، وبين استخدامه إياها كما لو كان لها قيمة وجودية، وذلك في مواضع كثيرة جدا، أهمها اثنان: أحدهما وجوب المكان والزمان والمقولات لتعليل الكلية والضرورة في المعرفة الإنسانية كما تقدم، والآخر وجوب الأشياء لتعليل انفعالية الإحساسات، وفي الحالين لا وجوب إلا لعلة موضوعية.
التناقض الخامس بين إثبات وجود الأشياء وبين امتناع معرفتها، فإنه يقول: إننا لا نعرف سوى الظواهر، أي انفعالاتنا بالأشياء، فأية فائدة تعود إذن من الأشياء إذا كان تأثيرها لا يدل عليها؟ وما الظاهرة إن لم تكن «ظهور» الشيء؟ وبينما يقول إن الأشياء غير مدركة أصلا، نراه يحلل طبيعة العقل، ويزعم أنه يعرفه تمام المعرفة، وأن هذه المعرفة هي التي تنتج له أننا لا نستطيع معرفة الأشياء. فإن قال إنه يصل إلى معرفة طبيعة العقل بتحليل أفعال العقل، قلنا: وإذن فنحن نستطيع أن نعرف أي شيء بتحليل ما ننفعل به عنه من صفات وأفعال.
التناقض السادس بين مفهومات المقولات ومفهومات الرسوم الخيالية المقول إنها دالة عليها: ذلك بأن كنط يعين البقاء في الزمان علامة على الجوهر، في حين أن البقاء في الزمان قد يتفق للعرض أيضا، وقد لا يتفق للجوهر إذا لم يدم الجوهر سوى لحظة. وترتفع الحاجة على علامة بتعريف الجوهر بأنه الماهية المتقومة بذاتها، وتعريف العرض بأنه الماهية المتقومة بالجوهر. ويعين كنط التعاقب المطرد علامة على العلية، في حين أن التعاقب المدرك لا يدل دائما على العلية، بل قد يكون محض تعاقب. ويعين تقارن أعراض جوهرية علامة على التفاعل، في حين أن تقارن الأعراض لا يلزم حتما عن التفاعل، بل قد تكون أعراض كل جوهر لازمة عن هذا الجوهر نفسه. ويعرف الإمكان بأنه الوجود في زمان ما، والضرورة بأنها الوجود في كل زمان، على حين أن الممكن قد يكون أزليا أبديا، كالعالم في افتراض قدمه وعدم فنائه، مع افتقاره إلى موجود باعتباره ممكنا في ذاته، ومن ثمة في كل آن. فما دام الإمكان هو الوجود في زمان ما، فمن الممكن أن يتكرر هذا الوجود إلى غير نهاية ولا يقصر على قسم من الزمان. أما إذا عرفنا الممكن بأنه ما وجوده مفتقر إلى غيره، وعرفنا الضروري بأنه الموجود بذاته؛ ارتفع كل لبس، وبان السبب في دوام الضروري في كل زمان. وعلى ذلك فليس يوجد عند كنط تفسير لتطبيق المقولات على ظواهر التجربة.
التناقض السابع بين الإقرار بالعلم وإنكار الماهيات الطبيعية. وهذه مسألة الاستقراء في فلسفة كنط: فإن الأشياء مطردة الأفعال، حتى إننا نتوقع منها أفعالا معينة استنادا على قانون طبيعي، فتقع هذه الأفعال. فما السبب في عودة الظواهر طبقا للقانون، وكيف نستطيع الجزم بأن الظواهر تطرد بالنظام المعهود، وأن المستقبل يجيء على غرار الماضي والحاضر، وفلسفة كنط ترفض الماهيات وثباتها؟ إن اعتقدنا بضرورة القوانين سلمنا بالمطابقة بين العقل والوجود، وإن لم نعتقد بتلك الضرورة لم يبق لدينا ضمان للعلم. فجملة القول في النظريات التصورية أنها تخفق في إقامة الصلة بين الحس والعقل من جهة والطبيعة من جهة أخرى.
الفصل الرابع
العقل وما بعد الطبيعة
(1) تعريف ما بعد الطبيعة
خلص لنا من الفصل السابق أن عقلنا يدرك الموجودات الطبيعية أولا بالذات؛ يبدأ بها، ويعلمها في أنفسها كما هي ممثلة في الحواس وفي الذاكرة والمخيلة. والآن نريد أن نبين أن الموجودات الطبيعية ما هي إلا موضوعه الخاص به بما هو إنساني، أي باعتباره عقل نفس متحدة ببدن، وأن له موضوعا عاما باعتباره عقلا بإطلاق، يجاوز الطبيعة المحسوسة إلى أصولها وشروطها غير المحسوسة، فيمتد إلى مطلق الوجود، أي إلى كل موجود أيا كان، وإلى معنى الوجود الكامن في كل ما يتعقل وفي كل فعل من أفعال العقل، وإن لم يكن تعقله في هذا المضمار أولا بل لاحقا على تعقل الماديات. ولم يكن بالذات بل كان بالاستدلال، فيصل إلى علم ما بعد الطبيعة الذي لا بد من تعيينه أدق تعيين وتمحيص الآراء فيه، كي نحيط بمجال العقل بأكمله، ونطمئن إلى صحة أفعاله وصدق معقولاته.
فمن جهة امتداد العقل إلى كل موجود، لما كانت المعرفة تشبه العارف بالمعروف تشبها معنويا كما قلنا؛ فإنه إذا حصل شبه المعروف في النفس محسوسا كان أم مفعولا، صارت النفس هي المعروف، لأن لا ماديتها تسمح لها بقبول كل صورة، فتصير مرآة الوجود بانعكاس مختلف الموجودات على صفحتها غير أننا ندرك الروحيات بعد الماديات، ونلقى صعوبة في هذا الإدراك فلا نستطيع أن نكون عن الروحيات معاني ذاتية أو مطابقة لها، بل ندركها بطريق غير مباشر هو طريق الاستدلال، فنستدل بالمعلول على العلة، وبالعرض على الجوهر، ونتعقل الجوهر الروحي بمعان مستفادة من الماديات، ونعبر عن تعقلنا إياه بألفاظ تدل أول ما تدل على الماديات. هكذا نعرف وجود الله من حيث هو علة وجود العالم، ونعرف صفاته ضربا من المعرفة بمجاوزة صفات المخلوقات إلى كمالها الأقصى، وتنزيهه تعالى عن حدودها ونقائصها. ولو صح المذهب التصوري وكان في النفس معان غريزية أو فائضة من عقل أعلى، للزم عن ذلك أن لدينا معاني ذاتية أو مطابقة عن الموجودات الروحية، وعما يفوتنا إدراكه بالحس من الماديات، وقد لاحظنا أن كلتا النتيجتين باطلتان. وهذا موقف وسط بين الحسية والمحجمة عن مقاربة المعقولات، وبين التصورية الزاعمة أن عقلنا كفء لإدراك المعقولات والروحيات كما هي في أنفسها.
ومن جهة إدراك العقل للوجود بما هو وجود، فإن هذا المعنى أول ما يحصل في تصور العقل؛ ذلك بأن الوجود هو العنصر المشترك بين الموجودات على اختلافها، وبين معلومات العقل، كما أن اللون مثلا هو العنصر المشترك بين مدركات البصر. إن معنى الوجود أبسط المعاني وأعمها، وهو الوجه الذي يدرك به العقل كل موجود: ففي التصور الساذج يعبر العقل (تعبيرا يتفاوت وضوحا) عما هو الشيء أو ماهيته، وفي الحكم يقول العقل قولا صريحا ما هو الشيء في ذاته أو بالنسبة إلى غيره، أي يثبت العقل وجود الشيء وفقا لماهيته فيقول: «الأرض هي كروية» أو ينفي حكما يأبى قبوله، والحكم صادق إذا وافق ما هو موجود، أو ممكن الوجود، فإن الممكن ما ليس يحول دون وجوده بالفعل حائل ما ماهيته، بل تلزم له صفاته بقوة ماهيته، وفي الاستدلال إذ يقارن العقل بين المقدمتين يرى فيهما علة وجود النتيجة، وأن الأمر لا يمكن أن يكون بخلاف. وكلما أثبتنا شيئا لشيء، سواء بحكم واحد أو باستدلال، فنحن نعني أن الأمر هو كذلك في الحقيقة ويستحيل أن يكون غير ذلك. فإثبات وجوب وجود شيء لشيء، وإثبات امتناع عدم وجود شيء لشيء؛ كل أولئك إثبات مبني على ضرورة الوجود، فليتأمل في هذا من قد يجد غموضا في قولنا إلى الموضوع العام للعقل هو الوجود من حيث هو كلي أو مطلق الوجود. وليتأمل في اللاوجود المطلق والتناقض والامتناع، يجدها أمورا غير معقولة لا يقابلها معنى ذاتي في الذهن، بل يقابل اللاوجود معنى الوجود المسلوب، ويقابل التناقض معنى الاتساق المقتضي للوجود، ويقابل الامتناع معنى الضرورة أو معنى الإمكان، أعني وجوب الوجود، أو وجوب عدم وجوده، أو إمكانه.
فعلم ما بعد الطبيعة هو علم مطلق الوجود ولواحقه الذاتية، أو علم الأمور العامة كما قال المتكلمون، يعنون أعم الأمور في الوجود وفي العقل. وقد دعي بما بعد الطبيعة لأنه في الواقع يعلم لنا بعد الطبيعيات، ولأن من شأن عقلنا أن يتأدى من المحسوس إلى المعقول. لكنه الأول من حيث المرتبة، فإن أوضح العلوم وأوثقها لبساطة موضوعاته وبداهتها، ولتعلق سائر العلوم به كما يتعلق المركب بالبسيط والجزئي بالكلي. لهذا دعاه أرسطو بالفلسفة الأولى وتتبين ضرورة هذا العلم من وجهين: الوجه الأول أن ما عداه من العلوم علوم جزئية، ينظر كل منها في وجه من وجهات الوجود: فالرياضيات تنظر في الوجود الطبيعي من حيث هو كم، والطبيعيات تنظر في جوهر هذا الوجود وفي تغيراته، فلا بد من علم كلي يتناول الوجود بالإطلاق مجردا من كل تعيين، أي يتناول الوجود المشترك بين الموجودات ومبادئه وعلله. والوجه الثاني لضرورة هذا العلم أن العلوم الجزئية تسلم مقدماتها تسليما ولا تبرهن عليها لما هو معلوم من أن البرهان يستند على مقدمات أعم من النتائج، فإذا تناول صاحب علم ما مقدمات هي أعم من مقدمات علمه فقد خرج عن موضوع علمه وعن منهاجه واشتغل بعلم أعلى. ولما كان لا بد من البرهان فإن العقل يرتقي من مقدمات إلى أخرى أعم، حتى يصل إلى قضايا هي أعم المقدمات وأبسطها لاقتصارها على معنى الوجود وعلى ما يلائم الوجود بالذات. فلا بد من علم كلي يستخلص هذه المبادئ ويجلوها ويدافع عنها أو تبقى المعرفة ناقصة غير قائمة على أساس.
وإذا ما ثبت لدينا مبادئ الوجود التي هي مبادئ العقل، ورددنا على اعتراضات المفكرين وحللنا إشكالاتهم؛ انفسح أمامنا الوجود بأجمعه فأثبتنا النفس وأثبتنا الله. حتى إذا ما أتينا إلى الأخلاق ووجدناها تفتقر إلى معرفة ماهية الإنسان وأصله ومصيره، وإلى معاني الحرية والخير والفضيلة والجزاء والواجب والحق والعدل؛ فلن ننكرها كما يفعل الحسيون بدعوى أن ليست هناك ماهيات، وأن ليس لنا من موضوع معرفة سوى المحسوس، وأن العلم إنما يقرر ما هو كائن لا ما يجب أن يكون. ولن نضعها وضعا دون تعقلها كما يفعل كنط واتباعه من التصوريين، بل نتناول مبادئها من الفلسفة الأولى ونبرهن عليها بهذه المبادئ، فيبدو لنا الوجود معقولا في جميع نواحيه، وترد إلى العقل الجليل المقدس (كما يصفه أفلاطون) مكانته السامية، ويبين بكل جلاء أن ما بعد الطبيعية لا يعني ما وراء الوجود وما في عالم الخيال، وإنما هو علم صميم الوجود، وأساس العلوم وتاجها. (2) مذاهب شتى
خصوم هذا العلم إذن هم التصوريون والحسيون: فأما التصوريون فبمقتضى مبدئهم القائل: إن المعرفة مقصورة على التصورات ولا تتعداها إلى الموجودات، وأما الحسيون فبمقتضى مبدئهم القائل: إن المعرفة مقصورة على المحسوس، فضلا عن مشاركتهم في المبدأ التصوري. غير أن ديكارت ومالبرانش وسبينوزا ولبنتز وباركلي لم يفطنوا إلى مقتضى المبدأ التصوري، فظلوا على فطرة العقل، واعتقدوا بموضوعية المعاني والأحكام والاستدلالات، وخرجوا من الفكر إلى الوجود بلا تحرج، متحدثين عن النفس وعن الله وعن مسائل ما بعد الطبيعة عامة. فلما أنكر لوك وجود المعاني الغريزية، ومقدرتنا على إدراك الماهيات والجواهر، ومنها نفسنا ذاتها، ونوع علاقتها بالبدن، ومنها الله وصفاته، ولما نقد هيوم المبادئ العقلية، وبخاصة مبدأا العلية والغائية؛ تنبه التصوريون حينذاك إلى المعنى العميق لمذهبهم وضرورة الاختيار بينه وبين ما بعد الطبيعة. ووجد فلاسفة أرادوا الجمع بين الطرفين لما لهذا العلم من أهمية بالغة لحياتنا الأخلاقية والروحية، وبترك كل منهم طريقة تحقق معناه. إن محاولاتهم لحقيقة بالنظر قبل الخوض في ما بعد الطبيعة كما نراه ورد الحملات عليه في مسائله المختلفة، وإن ردودنا على هذه المحاولات لكفيلة بزيادة إيضاح ماهية هذا العلم بعد تعريفنا الموجز له. فنبدأ بمذهب كنط، ونمضي مع التاريخ إلى أوجست كونت، فإلى هربرت سبنسر، فإلى وليم جيمس، وأخيرا إلى هنري برجسون.
رأينا أن كنط يحلل الحكم إلى مادة مستفادة من التجربة، وصورة يطبقها العقل عليها، وأن الحكم لا يعد مقبولا إلا إذا اشتمل على مادة أو حدث حسي. وما بعد الطبيعة يدعي إدراك النفس والحرية والله، ويخوض بصددها في مسائل كثيرة. ولكن هذه الموضوعات خارجة عن نطاق التجربة، وليس لنا بها حدس عقلي، فتطبيق المقولات عليها تطبيق صور على صور لا على أشياء موجودة ومعلومة. هذا حكم العقل النظري على قيمة ما بعد الطبيعة، بيد أن هذه المعاني الثلاثة «حاجات» جوهرية لنا، وليست ترمي الفلسفة النقدية إلى إبطالها، بل فقط إلى بيان أن ليس باستطاعة عقلنا البرهنة عليها. فالباب مفتوح للإيمان بها إن وجدت واسطة لذلك. والواسطة موجودة، وهي الأخلاق. وتقوم الأخلاق على معنى الواجب، وليس الواجب ممكنا إلا بالحرية؛ فإنه إذا كان على الإنسان واجب كانت له القدرة على أدائه، وأداء الواجب هو السبيل إلى تحقيق سعادتنا. وليس في طاقة الإنسان أن يصير قديسا، ولكنه يستطيع أن يترقى إلى غير نهاية نحو القداسة، ولكي يمكن هذا الترقي اللامتناهي يلزم أن تدوم شخصيتنا: وذلك هو خلود النفس. ويلزم أن يؤثر في الطبيعة فاعل تتحد فيه القداسة والسعادة اتحادا تاما، أي أن يوجد الله. فالحرية والخلود والله موضوعات يؤدي إليها العقل العملي مع عجز العقل النظري عن البرهنة عليها.
هكذا اعتقد كنط أنه أنقذ ما بعد الطبيعة من إنكار المنكرين، وهو لم يفعل إلا أن اصطنع حجج العقليين في إثبات المعاني الثلاثة من الوجهة الأخلاقية. ولكنه بإنكاره الحدس العقلي قد أشبه الحسيين وأسقط حقه في الانتقال من معنى الواجب إلى معاني ما بعد الطبيعة؛ إذ من الواضح أن هذه المعاني ليست موضوع حدس حسي، فإذا لم يكن لنا حدس عقلي امتنع علينا البلوغ إليها. إن الحدس على العموم إدراك موضوع ما بحضور هذا الموضوع لدى القوة المدركة،
1
فالحدس الحسي إدراك الموضوع بسبب حضور للحس الظاهر؛ كالأشياء الخارجية، أو للوجدان؛ كأفعالنا الباطنة ووجودنا الذاتي. والحدس العقلي إدراك حقيقة المعاني والمبادئ البديهية: فإدراك المعنى المجرد حدس عقلي، ولو أن العقل غير متصل بالمحسوس مباشرة، ولكنه متصل بالصورة الخيالية الممثلة للمحسوس والتي يجرد منها المعنى. فالحدس ههنا إدراك شيء حقيقي بحضور صورة هذا الشيء لدى العقل، وكذلك إدراك الرابطة في الحكم وإدراك لزوم التالي من المقدم في الاستدلال هما نوعان من الحدس العقلي. فموضوعات ما بعد الطبيعة ندرك وجودها بحدس حسي لمعلولاتها، ثم ندركها هي، لا في أنفسها، بل بتعيين ماهيتها وخصائصها تبعا لمفاعيلها المدركة بالحس.
فليس بصحيح أن العقل النظري عجز عن بلوغ إلى ما بعد الطبيعة والخوض في مسائله، وكنط نفسه يقدم لنا الشاهد على ذلك بتدليله الذي لخصناه: فما هذا التدليل إلا نظر فيما يترتب على معنى الواجب المعلوم بالوجدان من نتائج نظرية. والأدلة التي يوردها كنط قد وردت من قبله بزمن طويل، إنه يمضي من الواجب إلى الحرية، ومن النفس إلى الخلود، ومن الخلود إلى الله، بقوة ارتباط هذه الحدود فيما بينها. فهو إذن يستدل استدلالا نظريا، ويقر بمبدأ العلية وبلزوم التالي من المقدم، وكل هذا حدس عقلي، إن جاز هنا فهو جائز في سائر المسائل على نفس النهج، وصار في مقدور العقل النظري أن يقيم ما بعد الطبيعة دون دوران من العقل النظري إلى العقل العملي. فكنط يؤيد مذهب الحدس العقلي من حيث لا يدري، ويقدم الشاهد على قوة فطرة العقل وغلبة الطبع للتطبع.
ويكاد يكون مذهب أوجست كونت مرسوما على غرار مذهب كنط؛ فإنه يبدأ بنقد العقل وبيان نسبية المعرفة، لكن لا بامتحان أفعال العقل ومعانيه ومبادئه؛ فقد يكون هذا لونا مما بعد الطبيعة، بل باستعراض تاريخ العقل كما يتخيله هو، فيقول إن العقل قد مر بأدوار ثلاثة: دور لاهوتي أو ديني، ودور ميتافيزيقي أو فلسفي، ودور واقعي أو علمي. ففي الدور اللاهوتي كان الإنسان يتوهم الظواهر حادثة بفعل كائنات عليا أو آلهة، وفي الدور الميتافيزيقي استبدل بالعلل العليا عللا خفية في باطن الأشياء، وما هي إلا معان مجردة جسمها له الخيال، فقال: العلة والجوهر والماهية والقوة والله والنفس والحرية ... إلى غير ذلك من المجردات الجوفاء. وأخيرا وصل إلى الدور الواقعي، فأدرك استحالة الحصول على معارف مطلقة من هذا القبيل، وقصر همه على تعريف الظواهر واستكشاف قوانينها. هذه الطريقة هي التي أفلحت في تكوين العلم، وهي التي يجب أن تحل محل الفلسفة، فكلما أمكن معالجة مسألة بالملاحظة والاختبار انتقلت هذه المسألة من الفلسفة إلى العلم، وكان حلها العلمي هو الحل النهائي. فالمذهب الواقعي يتوخى الواقع المحسوس، ويتجاهل النظريات الفلسفية جميعا، لا ينفدها ولا يقرها؛ لأنها ميتافيزيقية خالية من كل معنى، ويستعيض عن الميتافيزيقا بفلسفة العلوم، أي بترتيب النتائج العلمية والبلوغ إلى أقل عدد مستطاع من القوانين الكبرى. وبذا يفترق عن المادية والإلحاد؛ فإنه لا ينكر النفس والله، ومثل هذا الإنكار ميتافيزيقا أيضا. وموضوع الميتافيزيقا غير مدرك، يشبه (على حد قول «ليتري» أنبه تلاميذ كونت) بحرا تضرب أمواجه شواطئنا، ولا نملك لخوضه سفينة ولا شراعا.
فدعامة المذهب نظرية الأدوار الثلاثة، لكن أحدا لا يستطيع أن يقيم الدليل على أنها تاريخية. فإن قيل إن الدور اللاهوتي يوافق ما قبل التاريخ وأوائل العهد التاريخي، أجبنا: إن الإنسان قد عاش في تلك العصور الطويلة وهو يحارب قوى الطبيعة ويستغل ذخائرها ويخترع الصناعات للاستقواء في تلك الحرب وذلك الاستغلال، وإن كل هذا لم يكن ليتسنى بغير الملاحظة الدقيقة والوقوف على طبائع الأشياء. وإن قيل: إن الدور الميتافيزيقي يوافق العصر القديم، سألنا عن الأرصاد الفلكية، والصناعات المختلفة في المدنيات الشرقية، وطب بقراط، وهندسة إقليدس، ومخترعات أرشميدس، وطبيعيات أرسطو ومنطقياته وأسلوبه التجريبي في علوم الحياة، وفلسفة ديموقريطس وأبيقور، وكيمياء العصر الوسيط: أليست هي أدخل فيما يدعوه كونت بالروح الواقعي منها في التفسير بقوى خفية وحجج لفظية؟ وإن كونت ليعترف بأن الرياضيات واقعية منذ آلاف السنين، أي منذ الدور اللاهوتي، بل بأنها لا يمكن أن تكون إلا واقعية، فكيف يقال إن العقل لم يعرف الروح الواقعي إلا في العصر الحديث؟ وإن قيل إن الدور الواقعي يوافق العصر الحديث، أحلناهم إلى ما هو باد في الفلسفة الحديثة من الاهتمام البالغ بالأخلاق والدين، ولاحظنا أن كونت نفسه وضع «ديانة الإنسانية» في أواخر حياته لا في شبابه كما تقتضي نظريته.
الأحق أن يقال إن اللاهوت والفلسفة والتجربة مظاهر الحقيقة الشاملة، وإنها قد تقارنت في الأفراد والأمم والعصور وتكاملت مع تفاوت تبعا لمؤثرات مختلفة. وعلى فرض أن الفكر يتطور في الفرد وفي الإنسانية على هذا الترتيب الثلاثي، فليس ينال هذا من قيمة العقل في شيء، فما كان التطور التاريخي مرادفا للارتقاء ضرورة، وما كان الخطأ نافيا وجود الحقيقة وإمكان الكشف عنها. لقد قضى الناس آلاف السنين وهم يعتقدون أن الأرض ساكنة ثابتة وأن الشمس تشرق وتغرب، كما اعتقدوا أخطاء علمية لا عدد لها، فهل يعتبر هذا اعتراضا على العلم الحق وسببا للتنكر له؟ فلم تعتبر أخطاء العقل مطاعن في مقدرته وهو قمين بتصحيحها؟ ولم يتخذ من الأخطاء في الفلسفة والدين أسلحة ضدهما، وفي مقدور العقل أن يصل فيهما إلى كثير من الحقائق؟ هذا فيما يختص بالأدوار الثلاثة.
أما فيما يختص بالفلسفة؛ فإن مصدر الحملة عليها أن كونت قد أساء فهم معناها، وأنه توهم أن العلم الواقعي يكفي نفسه ولا يفتقر إلى أساس فلسفي. والواقع أن العلم الواقعي لا يذهب إلى المسائل القصوى الدائرة على المعرفة إطلاقا، فلا يبرر أفعال العقل من تصور وتصديق، ولا المبادئ الكلية الضرورية، ولا القوانين العلمية التي هي عند كونت وأضرابه أقصى ما تصل إليه المعرفة كأنها قد وضعت أنفسها وكأنه يمكن أن يكون لها أصل ومحل غير ماهيات الأشياء. وليس يغني العلم الواقعي شيئا عن الفلسفة، فليست «فلسفة العلوم» التي يريد الواقعيون أن يقيموها مقام الفلسفة بمغايرة للعلوم الطبيعية حتى تعد علما جديدا وتعلق عليها آمال جديدة؛ فإن النتائج الكبرى للعلوم هي من جنس العلوم. أما المسائل الفلسفية فمتمايزة منها موضوعا ومنهج بحث، وإذا كان منها ما يحتمل أن يبحث تجريبيا، كمسائل المادة والحياة من نامية وشعورية، فإن هذه المسائل أنفسها تقتضينا النظر فيها من وجهة فلسفية. وإن من مسائل الفلسفة ما لا يحتمل المعالجة بالتجربة مطلقا، كمسائل النفس والله والواجب والحق والعدل؛ لأن موضوعها غير محسوس ظاهرا وباطنا فلا يتناوله المنهج التجريبي؛ ولأن العلم الواقعي يقرر ما كان كائنا لا ما يجب أن يكون، وهذه المسائل من الأهمية بالنسبة لحياتنا العقلية والخلقية بحيث يستحيل إغفالها، فإنها إنسانية تنشأ في كل عقل وتهم كل إنسان. إن المذهب الذي يأبى وضعها ومحاولة حلها لهو مذهب أبتر خاطئ، فالعلم الواقعي محصور في دائرة محدودة، والفلسفة تمتد فيها وراء هذه الدوائر وتماسها في جميع نقاطها.
ونجد نفس المقاصد عند هربرت سبنسر؛ فإنه يحصر موضوع المعرفة في جملة العلوم الواقعية، ثم يقول إن هذه العلوم مفتقرة إلى بضعة معان كلية هي في ذاتها فوق متناول العلم، كمعاني المادة والحركة والمكان والزمان والجوهر والقوة والوجدان والشخصية، فالنظر في العالم المدرك يؤدي بنا إلى اللامدرك. فبين المعرفة الكاملة التي تحيط بجميع خصائص الشيء وبين الجهل المطبق الذي يرجع الشيء معه إلى لفظ أجوف، يوجد وسط هو معرفة وجود الشيء دون ماهيته. وعلى ذلك فلا محل لما بعد الطبيعة، والبحث فيه ينتهي إلى متناقضات كثيرة. فالقوة القائمة خارج الفكر والتي تدل عليها بتلك المعاني لا تشبه ما نعرفه في داخل الفكر. وليس يقابل ما بعد الطبيعة في عقلنا سوى استعداد طبيعي لتوحيد المعرفة، وهذا الاستعداد يجد رضاه في الفلسفة الواقعية التي هي عبارة عن توحيد العلوم توحيدا تاما بواسطة أعم قانون علمي وهو قانون التطور من المتجانس إلى المتنوع. بيد أن هذه اللاأدرية ليست مرادفة للإلحاد؛ فإنها تعترف بالمطلق، وتعتبره أسمى من الإنسان، وهي إذن تدع الباب مفتوحا أمام الدين. وفي الإنسان أصل عميق للعاطفة الدينية، فهي إذن مشروعة، وما إن تعين حدود المعرفة على ما ينبغي حتى يتفق العلم والدين على أن ماهية الوجود مجهولة، وينحصر كل في دائرته.
كل ما قلنا ردا على كونت يقال في الرد على سبنسر؛ فالزعيمان الحسيان يرفضان ما بعد الطبيعة كعلم معلوم، ويقبلانه كموجود مجهول، وحجتهما في الرفض أن العقل يرتطم بالمتناقضات حالما يعالج مسائله. وقد جمعا هذه المتناقضات من كتب سبينوزا وبيل وكنط وهملتون بعض اللاهوتيين، وما هي بمتناقضات في الظاهر (ف ح: 102، 103، 104، 166، ب-ه). ونحن نرى التناقض عندهما؛ إذ يقولان: إن العلم يؤدي إلى المنطق، وإن العلم مظهر المطلق، ثم يقولان: إن المطلق غير معقول، كأنما مجرد الإقرار به لا يعد إدراكا ما، وكأنما مظهر الشيء يمكن أن يكون مغايرا للشيء حتى لا ينم عنه بتاتا. وماذا يعنينا من المطلق إذا لم يكن شخصا، ولم يكن باستطاعتنا أن نرتب علاقة بيننا وبينه؟ وما الدين الذي لا يشتمل ولا يمكن أن يشتمل على عقيدة ما؟ وحجتهما في قبول ما بعد الطبيعة أن مسائله مكملة للعلم الواقعي، أو مستندة على أساس من الشعور عميق، فهي إذن مسائل صحيحة، ويجب أن يكون لها حلول صحيحة، وإلا خامرنا شك متصل أن العلم المجهول لنا في هذه الحياة قد يكون غير معقول في ذاته، فلا يتحقق الغرض المنشود منه وهو أن يكون منبع الدين. فما بهذه الطريقة يبرر ما بعد الطبيعة.
وأقل منها تبريرا له طريقة وليم جيمس زعيم البرجماتية: فقد وجد هو أيضا أن العقل النظري لم يوفق ولن يوفق إلى حسم الخلافات في المسائل الميتافيزيقية والأخلاقية. وحسمها ضروري لنا كحل الضرورة لتوقف سلوكنا على ما نختار من حلول، فصح عنده أن المبدأ المطلق هو العلم لا النظر، وأن المنهج الصائب هو الذي يلحظ النتائج العملية المنطوية في كل رأي والمتحققة عنه فعلا، فإننا حينئذ نرى المسائل تحل بغاية اليسر. وترجع المسائل إلى اثنتين رئيسيتين هما الروحانية والمادية، والروحانية تتضمن الاعتقاد بالله والخلود والحرية، ومن ثمة بإمكان تحقيق كمالنا في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى، فهي منشطة حافزة إلى العمل، بينما المادية المتضمنة الإلحاد والفناء والجبرية مثبطة للهمة صارفة عن العمل. فليست آراؤها قضايا نظرية، قابلة للجدل والبرهان، وإنما هي مخترعات نرمي بها إلى الإفادة من الوجود، مثلها مثل الآلات التي نصنعها لاستخدام القوى الطبيعية، فما بان منها نافعا كان صالحا. وإن العمل الإنساني ليذهب إلى حد تكييف العالم، فقد كانت المادية في الأصل مرنة، ثم تعينت شيئا فشيئا، وخاصة بفعل الإنسان إذ أحدث فيها «أشياء وحالات» تبعا لرغباته ومنافعه. فالإرادة الإنسانية من أهم العوامل، إن لم تكن أهمها، في تكوين العالم. فإذا اخترنا الحلول الروحية وعملنا بها حققنا عالما روحيا وقضينا على المادة.
كلا، ليس يذهب العمل الإنساني إلى هذا الحد. إذا كانت مادة العالم متجانسة في الأصل فكيف بدأ التطور؟ وكيف ظهر الإنسان وغاياته؟ إن المرونة الأولى يلزم عنها حتما جمود العالم على حال واحدة، كما يلزم عن نظرية التطور؛ إن أمكن أن يبدأ، أن الإنسان أحدث الكائنات عهدا، فلم يوجد إلا بعد أن تعين العالم، فمن التناقض أن يجعل منه أهم عامل في التطور. لا سلطان لنا على طبائع الأشياء وخصائصها، وإنما نحن نعرفها كما هي أولا، ثم نكيف الاختراع والعمل على حسابها، فنستخدم مواد معينة على أنحاء معينة لتحقيق غايات معينة. فلا يمكن الادعاء بأن الحق في النظر وليد النجاح في العمل، ويجب القول بأن النجاح مرهون بالحق أي بمطابقة أفكارنا للأشياء، وإلا كان الإخفاق محتوما. وكيف يكون نجاح قضية حسابية كهذه 2 + 2 = 4؟ إن حقية هذه القضية وأمثالها ذاتية لها، ولا معنى للقول بأن حقيتها في نجاحها.
وتقدم النظر على العمل لازم كل اللزوم في الحياة الخلقية والدينية، وذلك من وجهين: الأول تفسير نشأة مثل هذه الحياة، والثاني: تبرير فاعلية فكرتها. فمن الوجه الأول نسأل: بأي حق يميز البرجماتيون بين ميول عليا وميول سفلى، والميول جميعا سواء في كونها ظواهر شعورية، وهم ينكرون أن يكون للأشياء في أنفسها حقائق وقيم متفاوتة؟ فلم اخترعت الفضيلة وهي تضحية وحرمان؟ وإذا اقترنت الصحة بالعفة أحيانا كثيرة، واقترن المرض بالشره، فكل ما يوحي به هذا الاقتران هو أن الاعتدال وسيلة سلامة البدن، وأن حساب النفع والضر كفيل بتوفير السعادة، فنبقى في مستوى الحياة النامية أو الفسيولوجيا. أما الفضيلة فلا تنبت فكرتها إلا إذا كان للإنسان نفس روحية معدة لحياة روحية، وهذا ما يتعين البرهنة عليه، والبراجماتيون ينفرون من البرهان النظري.
ونقول من الوجه الثاني: إن التحقق من نفع الآلات الصناعية أمر ممكن يسير، وذلك بالمضاهاة بين فعلها وما نتوخاه منها. أما المعتقدات الروحية فلا سبيل إلى التحقق من نفعها إلا في الحياة الأخرى، والحياة الأخرى مقبلة لا حاضرة، فلا سبيل على تطبيق المنهج البراجماتي ههنا، وإلا وقعنا في دور منطقي ظاهر. بل قد لا توجد حياة أخرى، فتكون فكرتها أسوأ اختراع يضيع علينا متاع الدنيا ولا يعوضنا منه شيئا. إن ما بعد الطبيعة موضوع استدلال عقلي، ولا تمكن معالجته إلا بتقديم النظر على العمل.
وبرجسون أيضا ينكر كل قيمة للاستدلال العقلي، ويحاول إثبات ما بعد الطبيعة بالتجربة الصرف. كان في أول أمره على المذهب المادي، ثم تبين له أن هذا المذهب مخطئ كل الخطأ في تفسيره للحياة، سواء النامية منها والوجدانية؛ فإن الحياة تيار متصل من الظواهر المتنوعة، على حين أن المادة حاضرة كلها في كل آن، تتكرر ظواهرها هي هي. ويدل تطور الأحياء خلال العصور على أن الوجود كلمة حياة صاعدة منتشرة من أدنى الأنواع إلى أرقاها، في هذا التطور يصون الأحياء وجودهم ويعملون على ترقيهم باستغلال الطبيعة، كل على قدر استطاعته. هذه الاستطاعة ضئيلة في النبات، ثم تقوى وتتسع في الحيوان بفضل الإدراك الحسي والنقلة في المكان، وأخيرا تبلغ حدا بعيدا من التنوع والسداد بفضل الإدراك العقلي؛ ذلك بأن استغلال الطبيعة يقتضي تجزئتها للتمكن منها في تطورها الجارف، والحواس والعقل آلات لهذه التجزئة: الحواس تجزئ الأشياء إلى وجهات عدة هي الموضوعات التي تتمثلها، والعقل يجزئ إلى معان ومبادئ ثابتة. فهي جميعا آلات لتيسير الحياة لا لتصوير الوجود، ومن العبث التعويل على العقل فيما عدا العلوم الطبيعية. ولنا إلى ما بعد الطبيعة سبيل أخرى غير الاستدلال العقلي، هي التجربة نفسها كما نشاهد في الصالحين من بني الإنسان، مما يدل على أن القوة المستولية على العالم تستولي بنوع خاص على بعض الأشخاص وتدفعهم إلى خلق أعلى يستمسكون به لذاته، ويستطيبون في سبيله الحرمان والاضطهاد والموت، وتستولي بنوع أخص على المتصوفة الذين يشعرون بالألوهية شعورا، ويذوبون في محبتها لكونها هي محبة، وينشرون المحبة في الإنسانية جمعاء.
هذا التصور للوجود، وهذا النقد للعقل جعل من برجسون فيلسوفا اسميا جاري الحسية إلى الحد الأخير، فتورط في متناقضات شتى. التناقض الأول: اعتقاده أن الوجود تغير محض دون ما شيء معين ثابت من وجه متغير، من وجه: إن التغير تغير شيء بالضرورة. تناقض ثان: هو اتهامه العقل بتجزئة الوجود تجزئة مفتعلة، ودعواه أن الغاية من هذه التجزئة استغلال الوجود: كيف نشأ من التغير المحض عقل مجزئ مجمد الأجزاء؟ وكيف أفلح العقل بجموده على معانيه ومبادئه وسط الحركة الشاملة، فتحكم في الوجود؟ ولم تلك النظريات المعقدة في العلوم، وتلك الآلات المركبة في المصانع؟ أليس كل هذا التعقيد والتركيب مجاراة للأشياء أنفسها؟ وإذن فليس العقل مشوها للوجود، ولو كان متروكا لنفسه فالظن الغالب أنه كان كيفه تكييفا أكثر بساطة وأيسر تناولا. ثم إن النظرية العلمية كلية ضرورية، تتضمن توقع المستقبل، مما يدل على وجود أشياء وطبائع للأشياء وقوانين ثابتة. تناقض ثالث: لو سلمنا أن العقل عملي بالذات، لبقي أن نفهم كيف تحول التعقل النفعي إلى معرفة نزيهة يزيد اغتباطنا بها بقدر بعدها عن العمل والمنفعة، وكيف شق العقل لنفسه طيفا مغايرا لطريق التجربة، فأنشأ علوما مستقلة عن التجربة بمبادئها ومنهاجها، منتهية مع ذلك إلى التجربة. كما نشاهد في الرياضيات وفي الطبيعيات المعالجة بالرياضة، فنبرهن مثلا على مساواة زوايا المثلث لقائمتين بذلك البرهان النظري المعروف، على حين أن عقلا علميا بالذات لا يوحي بأكثر من قياس الزوايا وجمع الدرجات. وعلى ذلك فلننظر قيمته الخاصة. وقد يستخدم للعمل، ولكنه متمايز منه، بل إنه كلما طلب النظر لذاته كان العمل أكثر تنوعا وسدادا. ولا مناص من طلب النظر لذاته؛ فإن للعقل حاجة لا ينزل عنها: هي الإدراك والتعليل.
وأما إقامة ما بعد الطبيعة على التجربة البحتة، فنقول فيها إجمالا: إن التجربة البحتة ما هي إلا تسجيل الإحساس ظاهرا وباطنا، وإن التفكير، حتى في أدنى صورة ترجمة عن التجربة بمعان مجردة. وإذا لاحظنا أن العقول مختلفة في فهم المعاني المستفادة من التجربة، فنضطر للتحليل والتعريف والدفاع والهجوم، وكل أولئك إنما يتم بمعان مجردة، اقتنعنا بأن التجربة البحتة لا تلفى إلا عند العجماوات. وما كتب برجسون إلا ميتافيزيقا، فقد تحدث فيها، ليس فقط عن ديمومة شخصية ملحوظة بالوجدان، بل أيضا عن ديمومة كلية وصفها بأنها جوهر خالق دائم التغير، وعرض آراء في أصل المادة، وأصل العقل، والعلاقة بين العارف والمعروف في الإحساس والتعقل والحدس، وحلل معاني اللاوجود، والإمكان، والتغير، والزمان، والمكان، والأخلاق، والدين، وبالجملة عرض لجميع مسائل الميتافيزيقا السلفية بأسلوب الميتافيزيقيين، فكان شاهدا آخر بعد شواهد لا تحصى، على صدق قول أرسطو: إن إنكار الفلسفة هو نفسه فلسفة. وهل نعد من التجربة البحتة، أو من الاستدلال العقلي، الانتقال من تطور الأحياء إلى قوة عليا مستولية على العالم ودائمة التغير هي أيضا؟ وهل يمكن أن تكون العلة الأولى متغيرة، والمتغير متغير بغيره بالضرورة وفاقد الأولية؟ وبأي حق نعتمد على تجربة المتصوفة للاعتقاد بوجود الله، ولكل متصوف تجربته الخاصة لا يشاركه فيها غيره ولا يستطيع هو تبليغها تمام التبليغ إلى غيره، فهي تلزمه وحده. بل إن برجسون نفسه اندفع إلى القول بأن الصوفي لا يدري إن كان شعوره شعوا بالله، ولا يعنيه أن يدري، ويكفيه شعوره!
2
من هذه الأمثلة ندرك أن مسائل الفلسفة هي مسائل حقا، وأنها لا تعالج إلا بالعقل، وأن دعاة التجربة البحتة، أو العمل المنتج، لا ينكرون ذلك إلا باللفظ فقط، ويستخدمون عقولهم في عرض ومحاولة حلها. فلنستخدم نحن عقلنا لبيان أصول ما بعد الطبيعة بعد أن أثبتنا ضرورته القصوى ومكانته العليا.
الباب الثالث
المعاني والمبادئ الأولى
الفصل الأول
الوجود
(1) التعريف بالوجود
رأينا إذن أن للإنسان قوة دراكة متمايزة من الحواس بمدركات غير محسوسة، وهي المعاني المجردة، وإن تكن المعرفة الحسية هي الأولى زمنا، وهي ضرورية، بحيث نسلم للحسيين بأن ما من شيء يوجد في العقل إلا وقد سبق له وجود الحس، لكن لا بمعنى أنه مدرك من الحس، بل بمعنى أنه متضمن في موضوع الحس، كتضمن معنى الإنسان في صور أفراده، أو بمعنى أنه مستنبط من موضوع الحس، كاستنباط العلة غير المحسوسة من معلول محسوس.
ورأينا أن المعاني تترتب فيما بينها تبعا لدرجة التجريد، فتنتظم منها العلوم الطبيعية فالعلوم الرياضية، وأننا إذ نمضي في التجريد نبلغ إلى أعم المعاني إطلاقا، وهو معنى الوجود مبرأ من أي تخصيص وتعيين. وهذا المعنى إذ نتأمله نجد له لواحق ذاتية تشترك فيها الموجودات بمجرد كونها موجودات، ونجد له مبادئ تعم مبادئ الموجودات والعلوم الباحثة فيها، فيخرج لنا أن ههنا موضوعا كليا هو الوجود بما هو وجود، وأن ههنا علما كليا له الرياسة على سائر العلوم؛ ومنها أقسام الفلسفة، وأنه لذلك يسمى بالفلسفة الأولى، من حيث إن الأعم متقدم في الوجود على الأخص. وإن كل برهان فإنما يستمد أصله من هذا العلم، ففي هذا الباب ننظر في تلك المعاني الأولى، أعني الوجود ولواحقه ومبادئه، فنشرحها وندافع عنها لكي نقيم المعرفة الإنسانية على أساس متين.
قلنا في عنوان هذه الفقرة: «التعريف بالوجود»، ولم نقل: «تعريف الوجود»؛ إذ ليس للوجود حد، وليس له رسم. أما الحد فيلتئم من جنس ومن فصل نوعي، والوجود أبسط المعاني، ومن ثم أعمها، فلا جنس فوقه يعرف به، ولا فصل نوعي يعرض له من حيث إن كل ما يعرض للوجود فهو وجود. وأما الرسم فيكون بما هو أبين من المرسوم، وما من معنى أوضح وأبين من معنى الوجود حتى يرسم به، وما من شيء يدرك إلا ويدرك موجودا إما في الحقيقة أو في الذهن. فالوجود أول المعاني لبساطته القصوى، وأول ما يقع في الإدراك لعمومه الشامل. وكل ما يمكن صنعه هو شرح اللفظ فقط.
1
لفظ الوجود يقال بمعنيين، أحدهما كمصدر، كما هو ظاهر، والآخر كاسم أي «الموجود». فالمصدر أو الوجود يعني على وجه الاستقامة، أي أولا وبالذات: فعل الوجود أو الوجود بالفعل، ويعني على وجه الانحراف، أي ثانيا: ما يعنيه الاسم نفسه أي الموجود. ومعنى الاسم - أي الموجود - هو أولا: الماهية الحاصلة على الوجود، أو التي يلائمها الوجود فيمكن أن توجد، وهو ثانيا: الوجود حاصلا أو ممكنا، سواء كان الموجود ذاتا أم فعلا؛ فإن الفعل وجود، أي إيجاد من جهة الفاعل، ووجود من جهة المفعول. والشأن ههنا كشأن كل لفظ مجرد بالنسبة إلى اللفظ المشخص، وكل لفظ شخص بالنسبة إلى اللفظ المجرد. فإننا إذا قلنا «الإنسانية» عنينا أولا صورة الإنسانية، وثانيا الموضوع الحاصل عليها؛ وإذا قلنا «الإنسان» عنينا أولا الموضوع الموجود إنسانا، وثانيا صورة الإنسانية التي هو بها إنسان. ومعنيا الوجود والموجود مرتبطان أوثق ارتباط، فإن الوجود وجود ماهية ما، والوجود والماهية شيئان متمايزان من حيث إن الماهية قد لا توجد. يضاف على ما تقدم أنه «قد يدل بلفظ الموجود على النسبة التي تربط المحمول بالموضوع في الذهن، وعلى الألفاظ الدالة على هذه النسبة، سواء كان ذلك الارتباط لارتباط إيجاب أو سلب صادقا وكاذبا، بالذات أو بالعرض».
2
فإذا قلنا: «زيد عالم» أو زيد «هو» عالم عنينا أن زيدا «موجود» عالما.
وفي الفلسفة الإسلامية ألفاظ أجريت بمعنى الوجود أو الموجود مع دلالتها على معنى آخر أيضا أو أكثر من معنى: فلفظ «الشيء» يقال على كل ما يقال عليه لفظ الموجود. وقد يقال أيضا على ما هو أعم مما يقال عليه الموجود، وهو كل معنى متصور في النفس، سواء كان خارج النفس كذلك أو لم يكن، كعنزإيل وعنقاء مغرب. وبذلك يصح قولنا: هذا الشيء إما موجود وإما معدوم. وبهذا ينطلق اسم الشيء على القضية الكاذبة، ولا ينطلق عليها اسم «الموجود».
3
وعلى ذلك يقال «شيء» لكل طبيعة أو ماهية، وهذه الماهية قد تكون مستقلة بوجودها أي جوهرا، فتكون أحق باسم الموجود، كإنسان، وقد تكون موجودة في موجود أي عرضا، فيكون الأولى تسميتها «شيئا» كالفكر والإرادة في الإنسان. وقد تكون ممتنعة الوجود، كالعنقاء، أو قضية كاذبة، أو النسبة بين محمول وموضوع، أو غير ذلك من التصورات الذهنية البحت، فتسمى «شيئا» لعدم وجودها بل امتناعه واقتصار الأمر على التصور فقط.
ولفظ «الذات يقال بإطلاق على المشار إليه الذي ليس في موضوع (وهو الجوهر)، ويقال أيضا على المشار إليه الذي في موضوع وهو العرض (أي إنه في الحالين يقال على الوجود أو الموجود). وأما ذات الشيء إذا استعملت هكذا مضافة فإنما يعنى بها ماهيته أو جزء ماهيته (فنعود إلى معاني لفظ الشيء)، وقد يقال ما بالذات في مقابل ما بالعرض».
4
ولفظ «الإنية في الحقيقة في الموجودات هي معنى ذهني، وهو كون الشيء خارج النفس على ما هو عليه في النفس».
5
والإنية أيضا «شيء زائد على الماهية خارج النفس، وكأنه عرض»؛
6
أو هي «عبارة عن الوجود، وهي غير الماهية».
7
ولفظ «الهوية يقال بالترادف على المعنى الذي ينطق عليه اسم الموجود، وهي مشتقة من الهو، كما تشتق الإنسانية من الإنسان، وإنما فعل ذلك بعض المترجمين لأنهم رأوا أنها أقل تغليظا من اسم الموجود؛ إذ كان شكله شكل اسم مشتق».
8
والهوية أيضا «الأمر المتعقل من حيث امتيازه عن الأغيار».
9
نعود إلى معنى الوجود نستكمل التعريف به، فنقول إنه أول المعاني إطلاقا، خلافا لما ذهب إليه بعض الفلاسفة المحدثين
10
من أن أبسط المعاني وأولها هو معنى الإضافة أو النسبة. وتتلخص حجتهم في قولهم: إن معنى الوجود يدعو معنى اللاوجود، وكلاهما بحاجة إلى الآخر، فليس هذا ولا ذاك ببسيط. أما النسبة القائمة بين المعنيين، أي النسبة الخالصة الخالية من كل تعيين وجودي، فهي أبسط منهما، وما من معنى إلا وهو يعرب عن نسبة إلى معنى آخر. وفي معنى النسبة يتحد الاثنان، ومن هنا المراحل الثلاث التي أبان عنها هجل، وهي القضية ونقيضها والمركب منهما. فالنسبة هي التي يجب أن تكون موضوع ما بعد الطبيعة.
هذه الأقوال الرامية إلى تأييد نسبية المعرفة الإنسانية ليس أيسر من الرد عليها، فمن جهة واحدة نقول: إن معنى النسبة لاحق على المعنيين المتقابلين فيه، كمعنى الوجود واللاوجود، أو أي معنيين آخرين، من حيث إن النسبة لا تنشأ إلا بعد تعقلهما، فهي تعتمد عليهما وتتضمنهما، وإذن ليست هي المعنى الأبسط، وإنما هي أعقد منهما. ومن جهة أخرى نسلم أن معنى اللاوجود يدعو معنى الوجود، أي إنه يعقل كوجوب مسلوب. ولكن العكس غير صحيح، فإن معنى الوجود مستقل عن معنى اللاوجود، وهذا المعنى الثاني هو الذي يستند على الأول، وهو لا يحد إلا بنفي الوجود، فنقول: «لا وجود»، بينما الوجود هو ما هو، ولا يحد إلا بنفسه، فهو الذي يجب أن يكون موضوع ما بعد الطبيعة. (2) دلالة اسم الوجود
بيد أن هذا الموضوع يبدو كأنه لا يشبه سائر الموضوعات التي تنطبق على جزئياتها بنفس المعنى، فيوفر كل منها للعلم الدائر عليه الوحدة اللازمة لتقرير قضايا كلية تستوعب الجزئيات في ماصدقها. هكذا ارتأى بعض الفلاسفة وبعض المتصوفة، قالوا: لما كان الله وحده هو الوجود بالذات ومن ثمة هو الموجود بمعنى الكلمة، فما عداه لا وجود له، وإنما هو مظاهر لله وتجليات. فالتغاير بين الله والمخلوقات، وبين المخلوقات بعضها والبعض، يمنع من إطلاق اسم الوجود إلا باشتراك محض، كما يطلق اسم العين على العين الباصرة وعين الماء والدينار والجاسوس والنابه في قومه، بحيث تكون الوحدة في الاسم فقط، ويكون بين المسميات تغاير تام. وهذا التغاير يقصر علم ما بعد الطبيعة على الله وحسب، أو يقضي على هذا المسمى علما بالتشتت والعبث لعدم انطباقه على موضوع واحد، فإن «القضية التي موضوعها اسم مشترك ليس يلغى لها محمول ذاتي».
11
وجوابنا على هذا الرأي أن الوجود بالذات يستتبع فقط أن الوجود يقال على الله أولا، ولا يستتبع لا وجود ما عدا الله، ولا يمنع أن ما عدا الله موجود بالله وجودا حقا. إن الوجود يقال كمحمول ذاتي على كل موجود، سواء أكان بذاته كالله، أو بالله، ولكن في ذاته كالجوهر الحادث، أو في غيره كالعرض في الجور، أو ذهنيا له وجود في الذهن مع عدم تحققه في الخارج أو استحالة تحققه.
وليس يعني قولنا هذا أننا نذهب إلى الطرف المقابل لاشتراك اسم الوجود، فنزعم أنه يطلق بالتواطؤ، أي بالتوافق والانطباق بمعنى واحد، كما ينطبق اسم الجنس على كل نوع من أنواعه، واسم النوع على كل فرد من أفراده. العامة يظنون أن تجريد المعاني واحد في كل حال، بل هكذا ظن بارمنيدس وسبينوزا وسائر الفلاسفة الاسميين. وقد فاتهم أنه لما كان الوجود في كل موجود واقعا على الماهية والأغراض جميعا، وكانت الموجودات متغايرة؛ بعضها بالماهية والأعراض، وبعضها بالأعراض فقط، فليس يمكن تجريد معنى الوجود تجريدا تاما، بل يجب أن يكون المعنى المجرد ههنا مختلطا غير معين؛ لضرورة اشتماله ضمنا على ماهيات وأعراض متغايرة. بينما التجريد التام للجنس ممكن دون ملاحظة الأنواع؛ لتحققه هو هو في جميعها، وطروء الفصول النوعية خارج حده كطروء النطق على الحيوانية في الإنسان، وبينما التجريد التام للنوع ممكن دون ملاحظة الأفراد؛ لتحققه هو هو في جميعها، وطروء الأعراض الشخصية خارج حده كذلك. وكما أن القول باشتراك اسم الوجود يركز الوجود في الله فيفضي إلى وحدة الوجود، كذلك يفضي إليها القول بتواطؤ اسم الوجود أي تجريد الوجود معنى واحدا من كل وجه، وذلك لاستلزام هذا القول اعتبار الفوارق وبين الموجودات مظاهر موجود واحد مقابل للمعنى المتواطئ. «فلم يبق أن يدل اسم الموجود على الموجودات إلا بضرب من ضروب التشكيك»
12
الذي هو اتفاق من وجه واختلاف من وجه. والضرب الذي يعنينا في هذا المقام هو الدال على مشاركة حقيقية من كثيرين مختلفين بالماهية في صفة ما، ولكن لاختلافهم بالماهية تجيء المشاركة في الصفة مختلفة في كل نوع منهم، من حيث إن الصفة يجب أن تكون في الموجود على قدره وتبعا لماهيته، كما لو أطلقنا لفظ العارف على الله وعلى الإنسان والحيوان، فلا شك أن المعرفة هي في كل على حسب ماهيته لا على نحو واحد،
13
ويسمى هذا «تناسبا»؛ إذ إنه يعني أن المعرفة في الله هي بالنسبة إلى الذات الإلهية كالمعرفة في الإنسان بالنسبة إلى الماهية الإنسانية.
14
والكثيرون المشاركون في صفة مترتبون بحسب درجتهم في الماهية، فتقال الصفة بالذات على أولهم، وبالمشاركة على الآخرين كل تبعا لدرجته. وبناء على هذا يطلق الوجود بمعنى حق على كل موجود، لكن بالتناسب، أي مع ملاحظة أن الوجود هو في كل موجود على حسب هذا الموجود؛ وبالترتيب، أي مع ملاحظة أن الوجود يطلق أولا بالذات على الله واجب الوجود أو الموجود بذاته، ويطلق ثانيا وبالمشاركة على المخلوقات. وهكذا الحال في أسماء كثيرة، كالوحدة والحقية والخيرية والجمال والعقل والإرادة والحرية وما إليها
15
فنتفادى وحدة الوجود.
16
وهناك ضرب من التشكيك نشير إليه ولو أنه لا يتعلق بالمسألة الراهنة؛ ذلك هو الواقع في «أشياء تنسب إلى شيء واحد نسبة تقديم وتأخير، كقولنا في الأشياء المنسوبة إلى الطب طبية، وإلى الحرب حربية» (ابن رشد: تلخيص ما بعد الطبيعة). فيقال اللفظ المشكك بطريق «النسبة» لا بطريق التناسب؛ إذ إنه يدل على صفة في كثيرين، أحدهم أصيل حاصل عليها بالمطابقة، والآخرون منسوبون إليها لعلاقة ما، كقولنا: هواء صحي، وغذاء صحي، ومنزل صحي، ومنطقة صحية ... وما إلى ذلك مما هو علة أو وسيلة أو أثر للصحة التي هي للحيوان بالمطابقة وداخلة في تعريف سائر الحدود الثانوية. وظاهر أن اسم الوجود لا يقال بالنسبة على هذا الوجه، وإلا عدنا إلى القول باشتراكه، وقد أبطلنا هذا القول. (3) جهات الوجود
بعد هذا البحث في معنى الوجود ننظر في بعض معان متصلة به اتصالا وثيقا ومفيدة في تفهمه. أولها معنى اللاوجود، وهو إما سلبي أو عدمي. واللاوجود السلبي نفي شيء ليس من شأنه أن يوجد، كسلب العقل عن النبات والحيوان؛ فليس من شأنهما، أي ليس من ماهية هذا أو ذاك أن يكون حاصلا على العقل. واللاوجود العدمي نفي شيء من شأنه أن يوجد، كسلب الإبصار أو السمع عن إنسان ما حين نقول إنه أعمى أو أصم. ومع أن لفظ العدم يجيء مرادفا للفظ اللاوجود السلبي في الفلسفة الإسلامية، إلا أنه مخصص للاوجود العدمي. قال الفارابي: «العدم هو لا وجود ما من شأنه أن يوجد.»
17
وقال ابن سينا: «العدم هو أن لا يكون في ذات شيء من شأنه أن يقبله ويكون فيه.»
18
واللاوجود بالمعنيين غير معقول في ذاته كما يعقل الوجود في ذاته؛ إذ ليس له ماهية ولا خصائص ولا علاقات يعقل بها، فلا يتصور إلا كنفي وجود أو عدم وجود. فمعنى الوجود متقدم على معنى اللاوجود تقدما ذاتيا وتقدما إدراكيا.
وقد بدا لبعض الفلاسفة أن اللاوجود المطلق؛ كتصور لاوجود العالم قبل وجوده أو بعد زواله، هو معنى زائف متناقض، أو هو مجرد لفظ. قال برجسون: «لا يمكن تصور اللاوجود الكلي دون أن ندرك، ولو إدراكا مختلطا، أننا نتصوره، أي إننا نعمل وأننا نفكر، وأن شيئا ما من ثمة لا يزال باقيا. وإذن فليس يكون الذهن أبدا صورة بمعنى الكلمة للاوجود الكلي»، «وأن ما يوجد وما نتصوره هو حضور شيء أو آخر، لا غيبة شيء ما ... محال أن ننفعل بالسلب».
19
وظاهر بعد الذي قلناه أن برجسون يخلط بين تصور اللاوجود وبين صورة اللاوجود. أجل يمتنع تصور اللاوجود الكلي بحيث يشمل هذا التصور اللاوجود الحقيقي للذهن المتصور، ولكن نفي كل وجود هو نفي معنى محصل، وهذا المعنى المحصل هو الذي ننفعل به أولا، ثم نتصور عدم وجوده. وقد نبهنا على أن من الفلاسفة؛ وعلى رأسهم أفلاطون، من اعتقدوا أن لمعانينا جميعا مقابلات في الخارج مشابهة لها، ولكن معنى اللاوجود معنى معدول يكونه الذهن بنفي الوجود، على حد قول ابن رشد: «العدم وبالجملة السلب إنما يفهم بالإضافة إلى الوجود.» وقوله: «لا يوجد عدم مطلق كما يوجد وجود مطلق، بل عدم مضاف؛ إذ كان العدم عدما لشيء.»
20
والمعاني الأخرى التي نقصدها هنا لجلاء معنى الوجود هي تلك التي تذكر في المنطق باسم «الجهات» عند الكلام على القضايا الموجهة، وهي الوجوب والامتناع والإمكان والحدوث؛ ذلك بأننا في كل قضية نعقل النسبة بين المحمول والموضوع ، ونعقل جهة وجود المحمول للموضوع. فالوجوب ضرورة ذاتية أو اقتضاء ذاتي. وقد يكون المقتضى عين الوجود، مثل اقتضاء الذات الإلهية للوجود بمحض حقيقتها، من حيث إن الله موجود بذاته أو واجب الوجود، ومثل اقتضاء العلة إيجاد معلولها بعد أن تم استعدادها لإيجاده وانتفى كل عائق خارجي. وقد يكون المقتضى تمام تكوين الماهية؛ مثل وجوب اجتماع الحيوانية والنطقية للإنسان، أو لزوم خاصة جوهرية من الماهية؛ مثل الضحك والموت للإنسان، ومساواة زوايا المثلث الثلاث لقائمتين. وقد يكون المقتضى لزوم تال معين عن مقدم معين متى كان المقدم بديهيا أو مبرهنا؛ مثل: لكل متحرك محرك، والعالم متحرك فللعالم محرك. في هذه الحالات يرى العقل وجوبا في موضوع تعقله، ويجد لزاما عليه أن يقر بهذا الوجوب، أعني أنه يرى نفسه تابعا للوجود معينا به، خلافا لما يزعم الحسيون والتصوريون الذين لا يعتقدون بثبات الماهيات وثبات العلاقات فيما بينها. وعلى الوجوب وحالاته المختلفة يقاس الامتناع؛ فإن الممتنع بالذات هو ما يقتضي لذاته عدم وجوده، فلا يوجد ولا يمكن أن يوجد لمنافاة جوهرية، مثل المنافاة بين الحيوان الأعجم والكلام، فيمتنع أن يتكلم الحيوان الأعجم. ومثل المنافاة بين أن يكون العالم ناقصا متغيرا ويكون موجودا بذاته، فيمتنع أن يكون العالم موجودا بذاته.
ويفترق الإمكان عن الوجوب والامتناع معا؛ فإن الممكن ما لا يقتضي لذاته وجودا ولا عدما، فمتى «فرض غير موجود أو موجودا لم يعرض منه محال» (ابن سينا، النجاة)، أعني أنه كالممتنع غير موجود، لكن لا بسبب منافاة جوهرية، ومتى وجد وجد كالواجب، لكن لا باقتضاء ذاتي، فيجب أن يعتبر من وجهين: وجه ذاتي ووجه خارجي، الإمكان الذاتي يؤخذ من اتساق الممكن - هذا الموضوع إذا ما أوجد سمي حادثا. فمعنى الحدوث أن الموضوع الموجود بالفعل وجد بعد لا وجود، فكان من الممكن ألا يوجد، وأنه وجد بلا وجوب، فمن الممكن ألا يوجد بعد وقت.
هذه الجهات الأربعة ترجع إلى اثنتين: يرجع الممتنع إلى الواجب ويعمهما معنى الضرورة؛ «هذا ضروري الوجود، وذاك ضروري العدم»، ويرجع الحادث إلى الممكن ويعمهما معنى الإمكان أو اللاضرورة.
21
وهكذا نرى أن للوجود أحكامه، وأن معنى الوجود أول ما يقع في العقل ويظل النبراس الذي يسترشد به العقل. ومن هذا نرى أن ابن سينا، مع تعريفه معنى الوجوب والامتناع بمعنى الضرورة، كان قليل الدقة حيث يقول: «الواجب يدل على دوام الوجود، والممتنع يدل على دوام العدم، والممكن يدل على لا دوام وجود ولا عدم.» هذا القول أقرب إلى المذهب الحسي منه إلى المذهب العقلي الذي كان مذهبه؛ فإن الواجب إنما يدل على دوام الوجود لكون الوجود ذاتيا له، في حين أن دوام وجود الممكن لا يحيله واجبا، وهذا خطأ وقع فيه أرسطو لما أراد أن يستدل بقدم العالم (في عرفه) على ضرورته. وقد كان ابن سينا يعتقد بقدم العالم ويثبت مع ذلك أن العالم ممكن غير ضروري، فيدل على أنه كان يعلم الفرق بين وجوب الوجود ومجرد دوام الوجود. كذلك نقول في تعريفه للممتنع بدوام العدم، فإن مجرد دوام العدم لا يدل على الامتناع، وكم من الممكنات قد لا تكون أوجدت وقد لا توجد أبدا وهي مع ذلك ممكنات؛ إن دوام العدم للممتنع هو لكونه غير قابل للوجود. وأخيرا إن الممكن إنما يدل على لا دوام وجود ولا عدم؛ لأن الوجود لا هو من ماهيته ولا هو مناف لها. فالفرق واضح بين معاني الجهات وبين علاماتها الظاهرة.
الفصل الثاني
لواحق الوجود
(1) تعدادها
إذا تأملنا معنى الوجود وأمعنا التأمل، رأينا أن كل موجود فهو واحد نوعا من الوحدة، أي إنه غير منقسم في ذاته، ولا في العقل من جهة ما يعتبر موجودا واحدا. ورأينا أن كل موجود فهو حق نوعا من الحقيقة، أي إنه هو ما هو وليس شيئا آخر، وأنه من ثمة معقول؛ إذ إن الحق نسبة إلى العقل. ورأينا أن كل موجود فهو خير نوعا من الخيرية، أي إنه من الصلاحية بحيث يتعلق به ميل واشتهاء؛ إذ إن الخير نسبة إلى الإرادة. ورأينا أخيرا أن كل موجود فهو جميل نوعا من الجمال ، أي إن من التناسق والبهاء بحيث يروق للعقل وللميل معا.
هذه المعاني الأربعة لازمة من معنى الوجود لزوما مباشرا، تدل على خصائص للموجود بما هو موجود، وليست قاصرة على كلي آخر أخص من الموجود؛ هي وجهات له لا تتمايز منه تمايزا حقيقيا، ولا تزيد عليه شيئا حقيقيا، بل كل ما تزيده عليه اعتبار عقلي فقط. وتقال مثله بالتشكيك أي بطريق التناسب؛ إذ إن كل موجود فهو واحد بحسبه، حق بحسبه، خير بحسبه، جميل بحسبه. فهي تلائم الموجود إطلاقا، وتعلو على الأنواع والأجناس التي ينقسم إليها الوجود فتقال عليها جميعا.
وقد تكونت هذه النظرية بتأملات بارمنيدس والفيثاغوريين وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين
1
ومن أعقبه من رجال الأفلاطونية الجديدة وثنيين ومسيحيين، وكان لها صدى واضح قوي لدى الفلاسفة الإسلاميين، وسنذكر عبارات لهم تدل على مشاركتهم فيها. (2) الواحد «يقال واحد لما هو غير منقسم من الجهة التي قيل له إنه واحد»،
2
فاسم «الواحد إنما يدل على سلب وهو عدم الانقسام».
3
وإذن فليس يزيد الواحد على الموجود شيئا ثبوتيا، بل نفي القسمة فقط، وليس النفي زيادة حقيقية. بيد أنه لما كان كل سلب إنما يستند إلى إيجاب، كان للواحد معنى إيجابي هو المقصود أولا، وهو ذات الموجود؛ فإن «الوحدة هي الوجود الخاص الذي به ينحاز كل موجود عما سواه».
4
من هذا التعريف يظهر لنا أن كل موجود فهو واحد؛ ذلك بأن الموجود إما بسيط أو مركب: فالبسيط ليس منقسما ولا قابلا للقسمة؛ وإذن فهو واحد، والمركب يصير موجودا واحدا حالما يتقوم بأجزائه. فوجود كل موجود قائم بعدم الانقسام، وعدم الانقسام راجع إلى وحدته من الجهة التي يعتبر منها واجدا، وكل موجود لكي يحفظ وجوده يجب أن يحفظ وحدته. وهذا معنى قول: إن الوجود والواحد متساوقان، أو إن الواحد مساو للموجود، أي إن: «كل ما يصح عليه قولنا إنه موجود، فيصح أن يقال له واحد، حتى إن الكثرة قد يقال لها كثرة واحدة»
5
كما سنرى. ويتلخص هذا بقول ابن رشد: «إن الواحد مرادف لاسم الوجود (ولذات الموجود وماهيته)، وإنما يختلفان في الجهة فقط: وذلك أنه متى أخذت الماهية من جهة ما هي غير منقسمة كانت واحدة، وإذا أخذت من جهة ما هي ماهية فقط، سميت ذاتا وموجودا!»
6
وبذلك يتضح أن الوحدة إما جوهرية أو عرضية: الوحدة الجوهرية هي ذات الموجود وعدم انقسامها من جهة ما هي ماهية معينة، وهي تلائم الموجود البسيط أولا وبالذات؛ فإن البسيط غير منقسم ولا قابل للقسمة كما أسلفنا، وتلائم المركب الطبيعي المتقوم بأجزائه الخاصة به بالطبع؛ مثل الإنسان مع تركيبه من قوى وأعضاء مختلفة، فإنه غير منقسم من جهة كونه إنسانا، فهو من هذه الجهة واحد بالذات. والوحدة العرضية هي ارتباط كثرة من الجواهر المتمايزة فيما بينها وعدم انقسامها من جهة هذا الارتباط: فههنا كثرة بالفعل، ووحدة بالتركيب، مثل السفينة أو أي مركب صناعي؛ فهذا المركب ليس له وجود واحد، وإنما الوجود الواحد لكل جزء من أجزائه.
ومن هذا يظهر أيضا «أن الوحدة قابلة للأشد والأضعف»، وأن الواحد من ثمة مقول على ما تحت بالتشكك. فالذي لا ينقسم بوجه أصلا أولى بالواحدية مما ينقسم من بعض الوجوه، والذي ينقسم انقساما عقليا أولى مما ينقسم بالحس، والذي ينقسم بالحس انقساما بالقوة أولى بالواحدية مما ينقسم بالفعل وله وحدة جامعة، وهو أولى بالواحدية مما ينقسم بالفعل وليس له وحدة جامعة، بل وحدته بسبب الانتساب إلى المبدأ (كما في التشكيك بطريق النسبة).
7
وإنما تتفاوت الوحدة على هذا النحو لتفاوت الوجود بين الموجودات كما سبق القول، ولتغير الكثرات التي نردها إلى الوحدة: فكثرة الأجزاء واحدة بالكل المؤلف منها، وكثرة الأعراض واحدة بالجوهر الحالة فيه، وكثرة الأفراد واحدة بالنوع المشترك بينها، وكثرة الأنواع واحدة بالجنس الذي يعمها، وكثرة المعلومات واحدة بالعلة الصادرة عنها. فكل كثرة إذن ترجع إلى وحدة من نوعها، وهذا يستتبع قضيتين هامتين: إحداهما أن «كل كثرة إنما تقدر بواحد من نوعها»،
8
فينشأ العدد الذي هو الكثرة المتقدمة بواحدة. والقضية الأخرى أن هناك كثرات لا تقدر لعدم اشتراكها في وحدة ما.
وتتبين القضية الأولى بملاحظة أن أجزاء الكثرة لكي تتقدر بواحد منها يجب أن تكون متجانسة نوعا من التجانس، من حيث إن التقدير يتم بتكرار وحدة بعينها؛ وهذا هو السبب الفلسفي في رد الكسور إلى توحيد المقامات. فالعدد يحدث في العقل بتكرار الوحدة، ولا تتكرر الوحدة تمام التكرار إلا في أجزاء الجسم المتصل المتجانس الماهية والمنقسم إلى وحدات من نفس الماهية، كما إذا اتخذنا من المتر وحدة مقياسية وطبقناه على قطعة من الخشب أو من القماش فوجدنا أن هذه القطعة تساوي سبعة أمتار طولا وثلاثة عرضا. فالمتجانس أو «المتصل ليس ينقسم إلى أجزاء محدودة العدد بالطبع»،
9
وليست وحدته المقياسية واحدة بالطبع، ولكنه قابل لأي قسمة بأي وحدة. أما غير المتجانس، كالحيوان مثلا، فإنه ينقسم إلى أجزاء محدودة العدد بالطبع هي وظائفه وأعضاؤه، ولما كانت هذه الأجزاء متباينة الماهية فإنها لا تقدر ولا تؤلف عددا إلا إذا أدرجت تحت أقسام أعم، كما أن ثلاث تفاحات وخمس برتقالات لا تجمع إلا إذا أدرجت تحت معنى شامل لها كمعنى الثمرة أو الفاكهة. على أن غير المتجانس متحقق في مادة متصلة، فمن الممكن غض النظر عن ماهيته واعتبار مادته فقط، وحينئذ يعود حكمه حكم المتصل ويمكن قسمته مثله، فيقطع النبات والحيوان اتفاقا بدل أن يشرح تشريحا علميا.
وتتبين القضية الثانية بالنظر في الكثرة المتباينة الآحاد العادمة وحدة شاملة لها؛ فإن مثل هذه الكثرة لا تقدر ولا تجمع في عدد: وهذا شأن الأشياء المجموعة بالتشكيك. فلا يقال مثلا: إن الله والإنسان اثنان، أو إن الفرس والفارس اثنان؛ إذ ليس الوجود متواطئا متساويا حتى يصلح أساسا لوحدة تامة تتكرر بعينها. فالجمع ههنا لا يعني إلا أنه يوجد مرتين موجود غير منقسم في ذاته منقسم من غيره، دون التعبير بحال عن مساواة يرجعان إليها. وإذا عددنا آحاد مثل هذه الكثرة المتباينة نتج لنا عدد زائف من حيث إن واحدا من آحادها لا يمكن أن يعتبر وحدة تقديرية ومقياسا مشتركا.
والواحد الذي هو مبدأ العدد، أي الذي يتألف العدد بتكراره، ولا يطلق بدقيق الإطلاق إلا على الماديات المتجانسات، فهو يزيد شيئا ثبوتيا على جوهر الموجود الذي يطلق عليه، كما يزيد الأبيض على الإنسان؛ فإن وصف الشيء بأنه واحد من كثرة، أو دخول الشيء في عدد، لهو أمر عارض له من جانب العقل الذي يعد. ويلوح أن ابن سينا قد خلط بينهما، فاعتقد أن الواحد المساوق للموجود يزيد شيئا ثبوتيا على جوهر الموجود كالواحد الذي هو مبدأ العدد. ومن أقواله بهذا المعنى أن الواحد «شرط زائد على الذات» وأن «طبيعة الواحد (هي) من الأعراض اللازمة للأشياء. وليس الواحد مقوما لماهية شيء من الأشياء، بل تكون الماهية شيئا، إما إنسانا وإما فرسا أو عقلا (مفارقا) أو نفسا، ثم يكون ذلك موصوفا بأنه واحد وموجود»، وأن «الواحدية ليست ذات شيء ولا مقومة لذاته، بل صفة لازمة لذاته»، وأن «الواحدية من اللزوم».
10
وقد غلطه ابن رشد في ذلك؛ قال: «ظن ابن سينا أن الواحد بالعدد (أي المساوق للموجود) إنما يدل على عرض في الجوهر، وأنه ليس يمكن أن يدل على جوهر شيء»،
11
على حين أن «جوهر كل واحد من الأشياء هو واحد بالذات لا لأمر زائد عليه»،
12
وأن «الواحدة ليست تفهم في الموجود معنى زائدا على ذاته خارج النفس في الوجود، مثل ما يفهم من قولنا موجود أبيض، وإنما يفهم منه حالة عدمية وهي عدم الانقسام».
13
وسنرى الفائدة العملية لهذه التعريفات والتدقيقات عند الكلام على وحدانية الله ومساوقة الخلق للخالق في الوجود في كتاب آخر بإذن الله. (3) الحق
الصفة الثانية من صفات الموجود هي الحق. «والحق هنا اسم فاعل في صيغة المصدر، كالعدل (في قولنا إنسان عدل)، والمراد به ذو الحقيقة. وهو بمعنى المصدر يدل بالاشتراك على معان»
14
ترجع إلى اثنين، أحدهما ما به الموجود هو هو. فكل موجود حق بحسب حصوله على ماهيته، كما نقول: «هذا ذهب حق»، حين يكون الشيء حاصلا على خصائص الذهب، والمعنى الآخر هو المطابقة بين المعرفة والشيء المعروف. قال الفارابي: «حقيقة الشيء هو الوجود الذي يخصه، وأيضا فإن الحق قد يقال على المعقول الذي صادف به العقل الموجود حتى يطابقه. وذلك الموجود من جهة ما هو معقول يقال له إنه حق، ومن جهة ذاته من غير أن يضاف إلى ما يعقله يقال إنه موجود.»
15
وقال ابن سينا: «حقيقة كل شيء خصوصية وجوده الذي يثبت له. وقد يقال أيضا حق لما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا.»
16
وقياسا على هذا التعريف للحق في الموجود وفي المعرفة يعرف الباطل بأنه ما من شأنه أن يظهر على غير حاله بسبب مشابهته لشيء آخر في الأعراض الخارجية، فيؤخذ على أنه ذلك الشيء الآخر،
17
كما يؤخذ القصدير على أنه فضة أو تؤخذ المرارة على أنها عسل، ولكن القصدير في ذاته قصدير حق، والمرارة في ذاتها مرارة حقة: فالموجود يقال له باطل أو كاذب لا من حيث ما هو هو، بل من حيث ما ليس هو وما يظن أنه هو. وعلى ذلك فليس في الوجود باطل، بل الباطل في معرفتنا فقط، أما الحق فهو في الوجود وفي المعرفة كما تقدم.
فمن جهة الوجود ليس وصفه بالحقيقة فضولا، فقد وجد فلاسفة أنكروا هذه الحقيقة التي تعني أن لكل موجود ماهية متسقة ثابتة، واستبدلوا الصيرورة المستمرة التي تعني أن كل موجود فهو متلقى أضداد تصطرع فيه، وتتوافق، وتعود إلى الاصطراع، دون أن يقر لها قرار، حتى قال هرقليطس: «إن كل موجود فهو موجود وغير موجود.» فيمتنع وصفه بصفات ثابتة، ونضطر إلى تعليق الحكم عليه والعدول عن العلم. وبمثل هذا قال هجل، وقال برجسون، وقديما كشف أرسطو عن غلط هذا المذهب، فنبه على أن الأضداد لا توجد في الموجود معا أي كلها بالفعل، فلا يتفق لموجود ما أن يكون أبيض وأسود في آن واحد ومن جهة واحدة، وإنما يوجد ضد بالفعل وضد بالقوة، فيكون الموجود حاصلا على الأول، وقابلا للثاني، كما نبه على أن الأشياء لا تتغير من كل وجه، بل تتغير العوارض ويبقى الجوهر، وإنما يتناول العلم الجوهر لا العوارض. ثم إن القول بالوجود واللاوجود في آن واحد يلزم عنه في الحقيقة أن الأشياء ساكنة لا أنها متحركة؛ إذ لا يبقى هناك شيء تتحول إليه ما دامت جميع المحمولات حاصلة لجميع الموضوعات.
18
ومن جهة المعرفة يحد الحق إجمالا بأنه المطابقة بين المعرفة والأشياء على أن هذه المطابقة تختلف، فقد تكون مطابقة المعرفة للأشياء متى كانت الأشياء أصولا وأشبهتها المعرفة، وقد تكون مطابقة الأشياء للمعرفة متى كانت المعرفة أصلا وأشبهتها الأشياء المكونة عنها، سواء في ذلك الأشياء الطبيعية والمصنوعات الإنسانية، فإن المصنوعات توصف بالحقيقة حين تجيء شبيهة بتصور العقل وصنع الفن. لكن النسبة بين عقلنا والأشياء الطبيعية نسبة عرضية، على حين أن النسبة بين عقل الصانع الإنساني ومصنوعاته نسبة جوهرية أو بالذات من حيث إن وجود هذه المصنوعات متعلق بالعقل. فإذا قلنا إن الموجودات الطبيعية حقة من جراء حصولها على ماهياتها أو مطابقتها لمعانينا، لم يعتبر هذا القول تفسيرا نهائيا لحقيقتها؛ إذ إن الأشياء لم تصنع أنفسها وتتلبس بماهياتها، وليس الإنسان مقياسها، وإنما هو قابل لصورها وحسب، فلا بد أن نرجعها إلى عقل أعلى هو قانونها وخالقها كما أن العقل الإنساني قانون مصنوعاته وموجدها. ومن هذه الوجهة العليا نقول إن الحق موجود حقيقة في العقل فقط: موجود أولا في العقل الإلهي مصدر الحق، وثانيا في العقل الإنساني صورته، وبينهما الأشياء صورة علم الله ومصدر علم الإنسان، فتلحقها الحقية من الناحيتين: من ناحية العلم الإلهي؛ وهذه نسبة ذاتية، ومن ناحية العلم الإنساني المكون عنها بالتجربة والاستدلال؛ وهذه نسبة عرضية إن وجدت لم تزد عليها شيئا، وإن عدمت لم تنقص منها شيئا. وبذا يتضح قولنا: إن كل موجود فهو حق، أو إن الحق مساوق للوجود، فإن كل موجود فهو مطابق للعقل الإلهي، وكل موجود له ماهيته، وكل موجود فهو كفء لأن يولد الحق في كل عقل حالما يعلم. (4) الخير
الصفة الثالثة هي الخير. وقد تناقل الفلاسفة تعريفا للخير أورده أرسطو في مفتتح كتاب «الأخلاق النيقوماخية»، ناسبا إياه إلى بعض القدماء دون تخصيص، قال: «الخير هو المقصود من الكل». وهذه ترجمة حرية نقرؤها في «تهذيب الأخلاق» لابن مسكويه (طبعة القاهرة ص90)، بينما نقرأ في «النجاة» لابن سينا: «الخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده» (ص229). وليس هذا تعريفا بمعنى الكلمة، أي حدا علميا، وإنما هو رسم يدل على الخير بقصد القاصد إليه، لا بخاصية جوهريته فيه. أجل ليس بعد المعاني والمبادئ الأولى معان ومبادئ أبين منها تفيد في بيانها، فلا يبقى إلا أن تبين بآثارها كما تبين العلة الخفية بمعلولاتها، والخير من المعاني الأولى، وأثره تحريك النزوع، فيرسم بهذا التحريك. ولا معنى لدعوى منكري الماهيات من حسيين وتصوريين أن ليس للأشياء خيرية بالذات مقصودة بالذات، وإنما نحن نسمي الشيء المقصود خيرا لكونه مقصودا منا، أي إن النزوع الإنساني إلى شيء ما هو الذي يضفي عليه الخيرية: لا معنى لهذه الدعوى من حيث إن المقصود لا يقصد إن لم تكن له خيرية، أو أن القاصد لا يقصد إلا ما ترى فيه خيرا حقيقيا أو مظنونا.
وهذا الرسم يفضي بنا إلى حد إذا لاحظنا أن القاصد إنما يقصد إلى شيء بسبب كمال في هذا الشيء مفقود عند القاصد ومطلوب منه «ليتم به وجوده» كما يقول ابن سينا. فالخير كمال في الوجود، أو هو الموجود باعتباره أساسا لنسبة ملائمة بينه وبين النزوع، وهذه النسبة ذهنية صرف لأن ميل القاصد لا يغير من المقصود شيئا، بينما الكمال خاصية للموجود، فبالكمال يحد الخير. وهنا يجب الاحتراز من بعض المزالق، فقد يقال: إن من الناس من يقصدون إلى الشر، فلا يعرف الخير بالمقصودية. والجواب أنهم يقصدون إلى الشر لا باعتباره شرا، بل باعتباره خيرا. فإراداتهم قاصدة بالذات إلى الخير، لكن قد يكون كذلك في الظن فقط لا في حقيقة الشيء، فتقع الإرادة على الشر عرضا.
وقد يظن أن تعريف الخير بالمقصودية لا يتفق مع قولنا «الكل» أو «كل شيء»؛ لأن القصد لا يحدث إلا بعد إدراك، فهذا التعريف يقصر الخير على الموجودات المدركة. والجواب أن هذا التعريف يشمل أيضا الموجودات عادمة الإدراك؛ فإن لها هي أيضا نسبة إلى أفعال معينة نراها تفعلها، وإلى أشياء معينة نراها تتوجه إليها، وفي الحالين النتيجة خير لها أي كمال يتم به وجودها، وتحقيق للنظم العام، وإذا كانت لا تدركه ولا تتوجه إليه بالإرادة، هذا دليل على أنها موجهة من مدرك أعلى ركب فيها هذا النزوع الطبيعي، لا على أنها خارجة عن الخيرية الكلية؛ فالقصد وما يفترضه من إدراك متوافران ههنا على هذا الوجه.
وقد يظن أن إطلاق التعريف على «الكل» من شأنه أن يحصر الخير في الله وحده وينفيه عن سائر الموجودات؛ لأن الله وحده غاية الكل، ويلوح أن ابن مسكويه إنما ردد هذا المعنى حيث قال: «الخير الذي يقصده الكل هو طبيعة تقصد ولها ذات، وهو الخير العام للناس من حيث هم ناس، فهم أجمعهم مشتركون فيها.» والجواب أن هذا التأويل سائغ من جهة أن الله هو الخير بالذات وعلة الخير في الموجودات، وأن النزوع إلى أي خير جزئي هو من ثمة نزوع إلى الخير الأعظم، بحيث يكون هناك خير واحد ينزع إليه الكل. بيد أن هذا التأويل لا يستلزم سلب الخيرية عن المخلوقات، وليس موضوع التعريف خيرا معينا، بل هو الخير إجمالا أو بالجملة كما يقول ابن سينا.
ومما تقدم يتضح أن الخير والوجود متساوقان، أعني أن كل خير موجود وكل موجود خير، وتزداد هذه القضية اتضاحا بملاحظة الأدلة الآتية. الدليل الأول: أن كل موجود فهو كامل نوعا من الكمال؛ لأنه منظم في نفسه حاصل على ماهية متسقة العناصر قابلة للوجود، لذا هو يجب أول ما يجب وجوده الخاص، فيعمل على نمائه ويحميه من كل عدوان، فكل موجود بمجرد كونه موجودا هو موضوع محبة من ذاته لذاته، أي إنه خير. الدليل الثاني: أن كل موجود فله إلى آخرين نسبة مطردة طبيعية بها يلتئم النظام العام، وهذه النسبة غاية له وغاية للآخرين، والغاية خير، كما أن تحقيق النظام خير. الدليل الثالث: أن كل موجود فهو فاعل، وهو إنما يفعل ويحقق النسبة التي يقوم عليها خيره والنظام، لا اتفاقا ولا قسرا من خارج، بل بميل طبيعي باطن فيبين عن قوى فاعلية يؤثر بها في غيره إلى جانب قوى انفعالية تتأثر من الغير، وهذه القوى بما يلحقها من انفعالات أو يصدر عنها من أفعال هي خير من حيث إنها وسائل لتحقيق خيره وخير الموجودات المتصلة به. فجملة القول: أن الخير والموجود متحدان ذاتا، غير أن الخير يزيد على معنى الموجود نسبة ملائمة بين الخير والنزوع؛ تلك الملائمة التي أساسها كمال الموجود. لذا يجيء ترتيب الخير بعد الحق الذي لا يزيد على الموجود شيئا.
وينقسم الخير إلى مأثور لأجل ذاته، ومأثور لأجل غيره، ولذيذ: فالمأثور لأجل ذاته قد يكون غاية قصوى أو يتخذ واسطة ووسيلة إلى غاية أبعد منه، وهو مأثور لأجل ذاته على كل حال؛ لأنه يختم حركة النزوع. والمأثور لأجل غيره هو الذي يختم حركة النزوع نسبيا، أي باعتباره نافعا ومفيدا في سبيل خير آخر. واللذة هي الرضا والاطمئنان عند الحصول على خير مقصود، أو هي الشعور بالموافقة والملائمة بين قوانا وموضوعاتها. ولما كان الخير مساوقا للموجود، فإنه يطلق على أقسامه كما يطلق الموجود على أقسامه، أي بطريق التناسب والتقديم والتأخير، لا بطريق التواطؤ الذي يصدق بالسواء. فالخير يصدق أولا على المأثور لأجل ذاته لأن له في ذاته ما لأجله يؤثر، ويصدق ثانيا على اللذيذ لأن ليس له من سبب القصد إلا اللذة، وقد يكون ضارا وغير جدير بالإيثار، ويصدق ثالثا على النافع أو المفيد لأن ليس له في ذاته ما لأجله يؤثر، بل إنما يؤثر كوسيلة إلى خير آخر، كتعاطي الدواء الكريه لأجل الصحة.
هذه القسمة هي باعتبار مفهوم الخير، أما باعتبار اتحاده ذاتا مع الموجود فإنه ينقسم إلى المقولات العشر التي تستوعب كل الموجودات، وينقسم أيضا إلى خير طبيعي وخير خلقي، وأيضا إلى خيرات النفس وهي العلوم والفضائل، وخيرات البدن من صحة وجمال، وخيرات خارجية وهي الأهل والمال والجاه، وإلى غير ذلك تبعا للوجهة الملحوظة. (5) الشر
والخير يتميز بضده الذي هو الشر. والكلام هنا على الشر الطبيعي لا الشر الخلقي ، كما كان الكلام على الخير الطبيعي المساوق للموجود. فنقول: إن طبيعة الشر تظهر أولا بعض الظهور باستعراض أنواعه، وهي تقابل أنواع الخير. فمن الشرور ما ليس يؤثر باعتباره شرا، وقد يؤثر لوجه خير فيه: كالضار المقابل للنافع أو المفيد؛ فإنه ليس يطلب من جهة كونه ضارا. وقد يطلب كوسيلة إلى غاية ارتضيناها: مثل السم أو الحريق أو الغرق عند الذي عقد العزم على الانتحار، وكالمؤلم المقابل للذيذ؛ فإنه هو أيضا ليس يطلب من جهة كونه مؤلما. وقد يطلب في سبيل الوطن أو الدين أو غاية أخرى. ففي هذه الأقسام الثلاثة يظهر الشر كأنه غير مؤثر لذاته، أي من جهة كونه شرا. وهذا اسم سالب يؤذن بأن الشر نقص وحرمان كمال ما مثل الجهل والضعف وتشويه الخلقة، وأنه لذلك يثير في النفس عزوفا وإباء، على حين أن الخير وجود وكمال يثير في النفس الرغبة لملاءمته وموافقته للنزوع الطبيعي.
وهذا الرسم السالب يؤذن باستحالة التأدي إلى حد موجب كما تأدينا في تعريف الخير؛ فإن «الشر لا ذات له»، ولكننا نخلع عليه شبه ذات بنسبته إلى الذات التي تنتقص به أو تفسد: كتصورنا العمى عدم الرؤية، وتصورنا الصمم عدم السمع ... وعلى هذا النسق نتصور كل شيء على أنه عدم خير. ولا عبرة بهيئة الألفاظ المستعملة في اللغات؛ إذ إن كثيرا من هذه الألفاظ ما له هيئة محصلة، ومعناه معدول: كالألفاظ المذكورة الآن. «فالشر بالذات هو العدم، ولا كل عدم، بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته»، أو «يقال شر لنقصان كل شيء عن كمالهن وفقدانه ما من شأنه أن يكون له».
وبناء على هذا التعريف يجب استبعاد ما أسماه ليبنتز بالشر الميتافيزيقي وأراد به فقدان كل مخلوق كمالات كثيرة بسبب تناهي طبيعته، مثل ألا يكون للإنسان جناحان، وغير ذلك مما يسهل تأليفه من الأمثلة. ولكن إذا سلمنا بهذا النوع من الشر لزم أن يحصل كل مخلوق على كل الكمالات فيجمع العالم في واحد، وإلا كان العالم مجموعة شرور ميتافيزيقية. والحقيقة أن هذا ليس فقدان ما من شأنه أن يوجد، وإنما هو محض نفي؛ فإن لكل موجود ماهيته وطبيعته، فشره فقدانه شيئا مستحقا ومقتضى لماهيته وطبيعته. وإذا لم يكن للشر ذات وقوام فإن له دائما موضوعا يحل فيه؛ إن جاز هذا التعبير، أو يبتلى به، وهذا الموضوع هو موجود، وهو خير بما فيه من وجود ولو أنه منقوص بالشر، بحيث نستطيع أن نقول بدقيق القول إن الشرء لا يجيء إلا في الخير.
هذه القضايا الجلية تدعونا إلى أن نطهر عقلنا من تصورات المخيلة، ووساوس الحواس والمنفعة الذاتية؛ فإن المخيلة تضللنا في مثل هذه المسائل تضليلا شديدا، فهي توهمنا أن ما يعبر عنه بلفظ شكله محصل هو محصل كذلك من حيث المعنى، وقد يكون معناه معدولا. والمنفعة الذاتية توهمنا أن ما لا يوافقنا هو شر بذاته، كحكم القاضي العادل، فإنه خير في ذاته، ويعتبره المحكوم عليه شرا، أو كالسم في الأفعى والعقرب نظنه شرا بالذات، ولو كان كذلك لقتلها أولا. فقد كان أنبادوقليس واهما حين وضع الكراهية مبدأ للشر في العالم إلى جانب المحبة مبدأ الخير، وكان المانوية واهمين مثل وهمه في اعتقادهم بإله شرير بالذات صانع للشر إلى جانب إله الخير، وواهمون أيضا أولئك الذين يؤولون انتحار المنتحرين كأنه طلب للاوجود، ويرون فيه الدلالة على أن اللاوجود خير وغاية تطلب، خلافا لما قلناه من أن الوجود هو وحده غاية مطلوبة. والتأويل الصحيح أن المنتحر يرى في الشر النازل به فقدان خير لا يطيق هو فقدانه، فبالعرض وبسبب الخير المفقود كان اللاوجود مطلوبا. وواهمون أولئك الذين يريدون أن يثبتوا الوجود للشر بثبوت الألم الناشئ عنه؛ أجل إن الألم ثبوتي في الشخص الذي يتألم، ولكنه يدع الشر كما هو نقصا وعدما، الألم هو الشعور بالنقص والعدم، فلا يمكن الخلط بينهما، ولا الاعتقاد بثبوت هذا الشر الذي هو الألم إلا من الوجهة النفسية. وعلى ذلك فلا معنى لاقتضاء علة للشر تكون علته بذاتها وطبقا لطبيعتها؛ فإن العدم غير مفتقر إلى علته، وكل ما هنالك أن الشر أصلا أو ظرفا هو فعل علة وجودية، ومن ثمة خيرة، قاصدة إلى خير، ويحدث الشر عنها عرضا واتفاقا. والنتيجة الأخيرة أن «الوجود خيرية، وكان الوجود خيرية الوجود».
19 (6) الجمال
الصفة الرابعة هي الجمال، وأول ما ندرك الجمال، وأكثر ما ندركه يقع في المحسوسات؛ فإنها أيسر معلوماتنا اكتسابا، تملأ الأبصار والأسماع. وإنما يتحقق فيها الجمال بثلاثة عناصر أو شروط، وهي: التمام والتناسب والبهاء؛ تمام الأجزاء ضروري لقوام الشيء، والشيء الناقص قبيح لمجرد نقصه، وكل جزء تام من أجزائه قد يكون جميلا وغاية في الجمال في بابه، مثل يد تمثال مهشم. وليس يكفي التمام المادي في شيء أو في جزء منه، بل يتعين أن ينضاف إليه التمام المعنوي، وهو التناسب والتطابق بين الأجزاء؛ فإن المختلط والمهوش غير معقول وغير مستساغ من الحس، على حين أن التناسب جلي متميز، وإن الحس والعقل يغتبطان بالمتناسب ويسكنان إليها. ويختلف التناسب بحسب الأشياء والغايات طبعا، ولكنه واجب، وواجب بحيث تشرق منه صورة معقولة في أجزاء المادة، سواء الصورة الطبيعية والصورة الفنية، وسواء كانت فكرة أو عاطفة، دون إعنات العقل واضطراره للتفكير والتجريد. ومتى جاء الإشراف في أشكال محكمة، أو في ألوان متسقة لامعة، أو في أصوات منسجمة قوية أو عذبة، كان البهاء الذي يجذب الحس والعقل ويخرجه عن طوره.
فنستطيع أن نجمل هذه العناصر الثلاثة بقولنا: «الجمال إشراق صورة في أجزاء مادية متناسبة»، أو بعبارة أخصر: «الجمال بهاء التناسب»، وما علينا إلا أن نذكر موقفنا من الشيء المحروم جزءا أو أكثر، أو عديم تناسب الأجزاء، أو عديم البهاء؛ فإننا نصدف عنه ونصفه بالقبح، فصفات الجمال مضادة لهذه، مثيرة لشعور مضاد. وإلى هذا يرجع تعريف ابن سينا حيث يقول في (النجاة): «جمال كل شيء وبهاؤه هو أن يكون على ما يجب له.» وما يجب لأي شيء أجزاؤه وتناسبها فيما بينها كشرطين لوجوده، وبهاء الأجزاء في تناسبها كشرط لجماله.
وإذا كان المحسوس أول ما يتفق لنا أن نرى فيه الجمال؛ فإنه هو يخرج بنا من دائرته الضيقة ويسلمنا إلى المعقول المترامي الآفاق. ذلك بأن النسبة ليست شيئا محسوسا، ولكنها ربط معنوي بين شيئين أو أكثر، فلا تدركها حاسة من الحواس، وإنما العقل هو الذي يدركها، فالجمال المحسوس مدرك من مدركات العقل، وقد يظن أن البصر والسمع يدركانه. ونحن نقول بالفعل: «مناظر جميلة، وأصوات جميلة»، ولا نقول: «طعوم جميلة أو روائح جميلة»، بيد أن هذا محض ظن: فإن البصر ينفعل انفعالا فيزيقيا بزهو الألوان، كما ينفعل الأطفال والحيوانات باللون الأحمر وما إليه من ألوان شديدة التأثير. والانفعال الفيزيقي بوقع الأصوات أشد ظهورا؛ فإن تأثيرها يدفع بنا وبالحيوان دفعا تلقائيا إلى الحماسة أو الطرب أو الحزن، ثم ينبت في العقل معنى الجمال بالرجوع على الألوان والأشكال والأصوات وتأمل ما بينها من نسب. فالبصر والسمع يخدمان العقل بأن يقدما إليه المادة، والعقل هو الذي ينفذ إلى ما وراء المادة من نسبة ومعنى، كما أن العقل هو الذي يدبر المخيلة المبدعة في الفن، فيبتكر المعنى المراد التعبير عنه بالمصنوع الفني، ثم يستدعي من بين الصور المختزنة في المخيلة تلك التي تفيد في التعبير دون سائرها، ولولا هذا التدبير لذهبت المخيلة كل مذهب على ما تفعل في أضغاث الأحلام وهذيان الحمى، فجمال المحسوس جمال معقول.
وللمعقولات أنفسها جمالها يفوق الجمال المحسوس: فإننا إذا ارتقينا من المحسوسات بما هي كذلك بلغنا إلى الرياضيات التي تسقط من اعتبارها الألوان والنسب الواقعة بين الأشياء، وتقبل على نسب مطلة بين عناصر معقولة صرف فنلقى في تأملها وفي ابتكار تأليفاتها متعة روحية غير متعلقة بمادة أصلا. وإذا ارتقينا من الرياضيات بلغنا إلى الحكمة التي هي علم الوجود بمبادئه العليا، أي قوانينه الكبرى، وبخاصة المبدأ الأعظم، والعلة الأولى والقانون الأوحد. فحينئذ يجد العقل من سمو تعقله طرازا من الجمال الخالص الصافي يفعمه بهاء ونشوة، فيغتبط بالمعقول والتعقل معا، ويدرك أن الترتيب الطبيعي في تعريف الجمال هو البدء بمطلق الجمال، ثم النزول إلى جمال النسب المعقولة، وأخيرا إلى جمال النسب المحسوسة. فيعرف مطلق الجمال تعريفا مطلقا خلوا من ذكر التمام والتناسب كالذي أوردناه عن ابن سينا، ثم يخصصه في الدرجتين التاليتين بما يلاءم كلا منهما، فيذكر التمام والتناسب تارة على أنهما تمام عناصر معقولة وتناسب بينها، وطورا على أنهما تمام عناصر محسوسة وتناسب بينها.
ولما كان الجمال إدراكا والتذاذا معا، كان مشاركا في معنى الحق والخير معا، ولذا يجيء بعدهما في تسلسل لواحق الوجود ابتداء من الوجود عينه. فالجمال إدراك حق ما، لكنه يزيد على الحق أنه معجب لاذ، وقد يصير الحق كذلك فيعتبر جميلا. والجمال يصير نزوعا كالخير، ولكنه نزوع العقل الذي يدركه، أو البصر أو السمع اللذين يتأثران به؛ فإن هذه القوة طالبة له، لكنها لا تطلب امتلاكه في ذاته ووجوده كما يطلب الخير، بل يتجه نزوعها إلى تأمله فقط، وقد يطلب بعد ذلك في ذاته ووجوده فيصير خيرا مطلوبا. فالجمال بمثابة نوع من الخير قد يصير خيرا؛ فبين الجمال من جهة، والحق والخير من جهة أخرى، اتفاق، وبينه وبينهما اختلاف: لكن الاتفاق بين الجمال والحق أقوى منه بين الجمال والخير، والاختلاف بين الجمال والحق أضعف منه بين الجمال والخير. والمعاني الثلاثة متساوقة لا تختلف إلا بالاعتبار. وقد فطن الفلاسفة، بل فطن الناس عامة إلى ما بينها من قرابة، فوصفوا الحق والخير بالجمال، نعني الخير الخلقي - أو الفضيلة - الذي هو الخير الحق، مثل أفلاطون في قوله: «إن تحمل الظلم أجمل من ارتكابه.» والشواهد عنده وعند سائر الفلاسفة والشعراء والكتاب والمشرعين أكثر من أن تحصى، ونحن بالعربية ندعو الفضيلة أو الإحسان أو المعروف بالجميل، وندعو الرذيلة بالقبيح، كأنما الأخلاق جزء من علم الجمال.
ومن هنا نرى أن الجمال من لواحق الوجود حقا، أي إن كل موجود فهو جميل. لكن هنا يقوم اعتراض قوي على هذه القضية يؤيد بالقبح المنتشر في العالم. فنلاحظ أولا أن معنى الجمال ليس مكتسبا بالتجريد البسيط الذي يصعد من آحاد متفقة بالماهية النوعية أو الجنسية إلى الكلي الذي يشملها، كمعنى الإنسان بالنسبة إلى أفراده. ولكن الجمال أحد المعاني التي تتحقق باختلاف في كثيرين مختلفين بالماهية النوعية أو الجنسية؛ فهو فوق الأنواع والأجناس، يلائم الموجود من حيث هو كذلك، فيطلق على أفراده بطريق التشكيك والتناسب لأنه يتحقق في كل موجود بحسبه، وإن قيل إن هذا لا يعني فقط أن الجمال ممكن التحقق في موجودات مختلفة بالنوع أو بالجنس، ولا يستلزم تحققه في كل موجود، قدمنا الملاحظة التالية.
إن المعقولات جميلة ضرورية؛ إذ إن ماهيتها لبساطتها تحصل لها بتمامها، فتكون على ما يجب لها. أما المحسوسات فأكثرها جميل بما يتضمن من تناسب في ذاته وفي علاقاته بغيره، وهذان النوعان من التناسب هما أساس النظام السائد في العالم، وإنه كما نعلم لنظام عجيب يشعرنا بالجمال كلما أدركنا منه طرفا. وأما باقي المحسوسات مما لا يرى فيه جمال، فلا ننسى من الجهة الواحدة. إن حكمنا على الجمال في هذا المضمار متأثر بتربيتنا ودرجة تعلمنا وميولنا وأخلاقنا ومنافعنا كما هو الحال في حكمنا على الخير والشر. وإذن فكثير من الأحكام بالجمال أو بالقبيح يجب أن يعد نسبيا ولا يعتبر صفة للموجودات أنفسها. ويجب أن نذكر من جهة أخرى أن صور المحسوسات أو ماهياتها هي كالصور المعقولة؛ بسيطة وإن لم تكن روحية، فنازعة طبعا إلى التحقق بتمامها، لكنها لا تتحقق إلا في المادة. وقد لا تكون المادة ملائمة فلا تطاوع فعل الصورة، فيجيء الشيء ناقصا أو مشوها. والمادة ضرورية، وهي في أدنى دركات الوجود، فالنقص والتشويه ضروريان. ونقول هنا ما قلناه عن الشر من أن هذا يقع بالعرض لا بالذات، وإن الأصل في الوجود الوحدة والحق والخير والجمال. هذه الصفات الأربع هي صفات الخالق متحققة فيه بالذات ومن ثمة إلى أقصى حد، ومفاضة منه على خلائقه، كل بحسب ماهيته وعلى قدرها.
20
الفصل الثالث
مبادئ الوجود
(1) تعدادها
بعد النظر في معنى الوجود والصفات الملازمة له ننظر في نسبة العقل إليه، أو أثره في العقل، فنجد هذا الأثر يتجلى في مبادئ أو قوانين تنعكس على العقل أو تتقدم فيه بمجرد تأمله، ويراها معقولة، بل مثال المعقولة، ويستضيء بها في تعقله، ويرد إليها كل يقين ، ويستند عليها في دفع كل إنكار. وقد مرت بنا دعوى السفسطائيين والشكاك أن ليس في العقل مثل هذه الأوائل، وأن العقل مضطر للمضي من برهان إلى آخر على الدوام، فكلما أردنا استخدام حد أوسط للبرهنة وجب علينا قبل ذلك أن نبرهن عليه هو بحد آخر، وهكذا دون توقف. والحقيقة أن البرهان لا يتسلسل، وأن جملة الحدود الوسطى متناهية بانتهائها إلى المبادئ التي هي قضايا أولية تبدو فيها ملائمة المحمول للموضوع ابتداء دون حد أوسط، بحيث لا يمكن تعيين سبب (أي حد أوسط) لهذه الملائمة غير الموضوع والمحمول ذاتهما والمضاهاة بينهما.
نمضي إذن من أبسط المعاني وأولها وهو معنى الوجود: فبمضاهاة الوجود بذات نرى أنه مطابق لذاته، فنحصل على أول المبادئ المسمى مبدأ الذاتية، وصيغته: «أن الموجود هو ذاته، أو هو ما هو»، وهذا المبدأ يهيمن على الأحكام والاستدلالات الموجبة. وشأنه أن يجعلنا نحرص على ألا نخلط بين الشيء وما عداه، وألا نضيف للشيء ما ليس له.
نرى أن الموجود إن لم يكن هو هو لم يوجد، فنحصل على مبدأ آخر هو مبدأ عدم التناقض، وصيغته: «يمتنع أن يوجد الشيء وأن لا يوجد في نفس الوقت ومن نفس الجهة»، ويمتنع أن يكون كذا ولا كذا في نفس الوقت ومن نفس الجهة. وهذا المبدأ في هذه الصيغة السالبة تعيين للمبدأ السابق ذي الصيغة الموجبة. غير أن كنط يعترض فيقول لك: لا حاجة للفظ «يمتنع» أو لفظ «محال»، وأن لفظ «في آن واحد» أو لفظ «في نفس الوقت» يعني الزمان والمبدأ فوق الزمان. والجواب: أن لفظ «يمتنع» أو «محال» يفيد ضرورة المبدأ، وهذه إفادة ضرورية، وإن قول «في آن واحد» أو «في نفس الوقت» لا يدل على الزمان إلا في الأمور العرضية الحادثة، مثل قولنا: «لا يمكن أن يكون الجالس ماشيا في نفس الوقت»، وفيما عدا ذلك، فهو لا يعني الزمان فقط، بل يعني على العموم امتناع اعتبار إحدى قضيتين متناقضتين صادقة وكاذبة معا. على أننا لا نرى بأسا في استبعاد ألفاظ الامتناع والوقت والجهة من منطوق المبدأ، بل بالعكس نستحسن أن نكتفي بتقابل معنى الوجود واللاوجود، فنقول: «ليس الوجود واللاوجود.» وبذا يبين فورا التباين بين الوجود واللاوجود، وأن هذا المبدأ صيغة سالبة لازمة من الصيغة الموجبة القائلة: «ما هو موجود فهو موجود»، فيخرج لنا أن «ما ليس موجودا ليس موجودا». وهذا المبدأ الثاني يهيمن على الأحكام والاستدلالات السالبة: فمبدأ الذاتية يعطينا أول مطابقة، ومبدأ عدم التناقض يعطينا أول مباينة.
هذه المعارضة بين الوجود واللاوجود تثير في العقل مبدأ ثالثا يسمى مبدأ الثالث المرفوع أو الوسط المرفوع؛ لأنه يقول: «لا وسط بين الوجود واللاوجود»، فالموجود إما موجود أو غير موجود وهو يرجع إلى مبدأ عدم التناقض في صيغة شرطية منفصلة، ونتيجة تطبيقية تارة موجبة وطورا سالبة تبعا للحال.
وثمة مبدأ رابع يبرز من النظر في شرط وجود الموجود، وصيغته: أن «كل ما يوجد فله ما به يوجد»، أي: «فلوجوده سبب»، وهذا مبدأ السبب الكافي يتفرع إلى فرعين: أولهما السبب الذاتي، والثاني السبب الخارجي. فالذاتي هو ماهية الموجود نفسه أو تكوينه الذي متى يحلل يكشف عن عناصره وائتلافها، فيكشف عن إمكانه ويجعله معقولا. والسبب الخارجي هو العلة الموجودة للموجود، أو المغيرة إياه من حال إلى حال: وهذا المبدأ العلية بالمعنى الدقيق، وصيغته: أن «كل ما يظهر للوجود فلوجوده علة». وهو يطبق على الموجود بالفعل، بينما السبب الذاتي يتناول الممكن أيضا.
وخامسا وأخيرا حين نتأمل في العلة الموجدة هذه نرى أنها إذا أوجدت معلولها توخت غاية، وإلا لما كانت خرجت عن سكونها. وهذا مبدأ الغائية، وصيغته: «كل ما يفعل فهو يفعل لغاية» أو «كل فعل لازم عن غاية». (2) قيمة المبادئ
هذه المبادئ بينة بذاتها: فإن موضوعها هو الوجود أول المعاني وأبينها على الإطلاق، ومحمولها هو الوجود كذلك. وهي كلية: فإنها تنطبق على كل وجود سواء في الذهن وفي الخارج، وهي حاصلة في العقول جميعا تطبقها صراحة أو ضمنا وتتصرح المعرفة الضمنية بالإنكار والتناقض؛ فإنك إذا سألك الطفل: من أوجد هذا الشيء؟ فأجبته: إن الشيء أوجد نفسه، لأثرت فيه الدهشة وعدم التصديق ونبهت فيه مبدأ العلية. في صادقة ضرورية يمتنع تصور نقائضها، ويمتنع البرهان عليها برهانا مستقيما لعدم وجود حد أوسط أبين منها نبرهن به، وهي لبيانها غير مفتقرة لبرهان. وإذا أنكرها منكر فيقام ضده برهان الخلف أو التناقض الذي يقضي بتعطيل الفكر. فهي تفرض نفسها على العقل، لا كقوة قاهرة أو كضرورة ناشئة من تركيب العقل، بل كنور يسطع. ونحن نبين هنا ماهية مبدأ الذاتية، وماهية مبدأ عدم التناقض، ولما كان ما يقال عن هذا المبدأ الثاني ينسحب على مبدأ الثالث المرفوع فلا نعيد القول، ونرجئ الكلام على مبدأ العلية الفاعلية ومبدأ الغائية إلى مكانها من هذا الباب، فنقول:
يرى البعض أن مبدأ الذاتية ليس مبدأ، وذلك لأنه عبارة عن تكرار الموضوع بالمحمول، فلا يعد حكما لأن الحكم يقتضي اختلاف حديه مفهوما وإن اتحدا ذاتا، وبهذا الاختلاف يزيد المحمول في علمنا بالموضوع، وبدونه يجيء مبدأ الذاتية من قبيل تفسير الماء بالماء، كما يرى في قول بارمنيدس: «الوجود هو الوجود، واللاوجود هو اللاوجود.» قد يبدو هذا صحيحا لأول وهلة، ولكن إذا اعتبرنا قصد العقل في صوغ المبدأ وفي تطبيقه اتضح لنا أنه حكم ومبدأ حقا، وقصد بارمنيدس توكيد الوجود ووجوب التمييز بينه وبين اللاوجود ضد هرقليطس الذي كان يخلط بينهما بقوله بالتغير المتصل حيث تختلط الأضداد وتمحى الفوارق، ولو كان مبدأ الذاتية مجرد تكرار لما أنكره منكر، وإنما هو معرفة تثبت أو تنفى. وقصد العقل في قولنا مثلا: «المادة هي المادة والروح هي الروح»، أن كل موجود فهو ماهية معينة، وأن لكل من المادة والروح خصائص تعينها فلا نخلط بينهما، كما يفعل الماديون إذ يردون الروح إلى المادة، أو التصوريون إذ يردون المادة إلى الروح. وكذلك حين نقول: «الخير هو الخير والشر هو الشر» لبيان تغايرهما ووجوب تمييز أحدهما من الآخر. أو نقول: «الله هو الله» أو «لا إله إلا الله»، نريد أن الله هو ما هو وليس ما يظنه الذين يضلون في حقيقته . وغير ذلك كثير جدا. وكم ذا يثور من المناقشات من جراء الخلط بين الأشياء أو بين المعاني، أي لعدم مراعاة مبدأ الذاتية. ليس المحمول فيه تكرارا للموضوع إلا لفظا وظاهرا، وإنما هو في الحقيقة يشير إلى تعريف الموضوع بما يخصه من خصائص ويعصم من الغلط فيه.
ومبدأ عدم التناقض أثيرت ضده أيضا إشكالات: فقديما قيل إن هرقليطس زعم أن أي شيء فهو موجود وغير موجود في نفس الوقت. ولعله لم يرد إنكار هذا المبدأ، وإنما أراد أننا لا نكاد نثبت شيئا حتى يكون قد تغير أو زال من الوجود، بحيث إن اللحظة التي نثبته فيها تحويه ولا تحويه، فيكون ولا يكون، لكن لا في آن واحد بالذات. وهذا معنى مقبول، على أن هجل قصد إلى إنكار المبدأ، فقال: إن معنى الوجود أعم معنى، ولذا فهو أقر معنى من حيث خلوه من كل تعيين، وما كان خلوا من كل تعيين فهو لا وجود. أو إذا وضعنا هذه الحجة في شكل قياسي صارت هكذا: مطلق الوجود غير معين، وغير المعين لا وجود مطلق، وإذن فمطلق الوجود لا وجود مطلق. ولكن من اليسير أن نرى أن الحد الأوسط، وهو قوله: «غير معين»، مأخوذ بمعنيين: ففي المقدمة الكبرى يدل فقط على غض النظر على التعيين، أي على تجريد معنى الوجود من الموجودات المعينة في الواقع، والتي لا توجد إلا معينة، وفي الصغرى يدل على نفي الموجود نفسه الذي هو محل التعيين.
1
فلم يزعزع هجل مبدأ عدم التناقض، ولكنه هو الذي ناقض نفسه وبنى مذهبه بالجملة على هذا التناقض الأول.
وقد ادعى ستوارت مل أن من ألف التحليل والتجريد لا يتعذر عليه، أن يروض ذهنه على تصور نقائض المبادئ الأولى، وأن يصدق أن الأمور قد تجري في كوكب آخر صدفة وعلى غير قانون. ولكنها دعوى وحسب، فنحن لا يتعذر علينا أن نتصور نقيض قانون علمي، ويمتنع أن نتصور نقيض مبدأ أول، فهذا الامتناع لا يرجع إلى عادة فكرية، بل إلى الرباط الضروري بين حدي كل من المبادئ الأولى، وهو رباط لازم من معنى الوجود وعائد إليه، كما بينا كيف يمكن أن يقوم في الوجود ما يتنافى في الذهن. إن الذهن يأبى إباء فطريا حاسما أن يصدق بإمكان التناقض؛ وذلك لأنه يرى بداهة أن الموجود يفقد في هذه الحالة ما يجعله يوجد، أعني مطابقته لذاته، فلا يوجد. فالمبادئ الأولى قائمة، لا لأننا نتصورها، ولكننا نتصورها؛ لأنها ماثلة في كل شيء.
هذا وقد نشب خلاف على ترتيب المبادئ الأولى: هل تعود الأولوية إلى مبدأ عدم التناقض كما ارتأى أرسطو
2
وتابعه المشاءون جميعا، أم إلى مبدأ الذاتية كما يرتئي المحدثون محتجين بأنه أبسط، وأن البسيط متقدم على المركب، وبأنه موجب وأن الموجب متقدم على السالب؟ ونلاحظ أولا أن مبدأ عدم التناقض هو عين مبدأ الذاتية؛ فإننا إذا قلنا: «ما هو موجود فهو موجود» عنينا أن «ما هو موجود فليس يمكن ألا يكون موجودا». ونلاحظ ثانيا أن الأولوية تعود إلى مبدأ الذاتية إذا نظرنا إلى المبادئ من جهة ما هي قضايا تترتب تبعا للبساطة أو التركيب وللإيجاب أو السلب، وتعود إلى مبدأ عدم التناقض إذا نظرنا إلى المبادئ من جهة ما هي مبادئ: ذلك بأن المبادئ الأخرى تتبرهن به وهو لا يتبرهن بغيره، فمن ينكر الذاتية يقال له: إن هذا الإنكار يعني الوجود واللاوجود في آن واحد، كما ذكرنا آنفا، وإن هذا تناقض، ومن ينكر مبدأ العلية يقال له: إن هذا يعني أن ما يظهر للوجود فهو يوجد ذاته، وإن هذا تناقض، ومن يشك في مبدأ عدم التناقض ويفترض أنه قد يكون كاذبا، يعلم أن الكذب غير الصدق، فيسلم بالمبدأ الذي يدعي أنه يشك فيه. وديكارت الذي يريدنا على أن نبدأ بالشك في المبادئ، ولو إلى أجل، فاته أنه إذا كان ممكنا أن شيئا بعينه يوجد ولا يوجد في نفس الآن ومن نفس الجهة، فقد صار ممكنا التفكير وعدم الوجود. يضاف إلى هذه الميزة ميزة أخرى هي أنه إذا كان سالبا فهو موجب أيضا بالإيجاب الذي يلزم عن السلب : ذلك أنه يسلب اللاوجود عن الوجود من حيث إنه يقول: «ليس الوجود لاوجودا.» فينفي النفي. ونفي النفي إثبات، أي إن سلب قضية ما يستتبع إيجاب القضية المناقضة لها. فمبدأ عدم التناقض يعطينا الصيغة الكلية لليقين سواء بالنسبة للأحكام السالبة وللأحكام الموجبة؛ فهو أعم المبادئ ومن ثمة أولها.
ولكن الفلاسفة الحسيين لا يحفلون بالتناقض، وهم يفسرون المبادئ بحيث تفيد في تنظيم المعرفة دون أن يقروا لها بكلية ولا ضرورة. إنها في نظرهم مجموعات تجارب يقوى اعتقادنا بها كلما ازداد التكرار. فمبدأ الذاتية ينشأ من أن الطبيعة لم تعرض علينا شيئا أبيض وأسود أو حارا وباردا في مكان واحد وزمان واحد. وما مبدأ العلية إلا تعميم ما نشاهده من علاقات بين الجزئيات، كالعلاقة بين النار والحرق أو بين اللسع والألم أو بين الغيم والمطر، فينشأ في الذهن ميل للاعتقاد بأن نفس السوابق يتبعها دائما نفس اللواحق. هكذا يلخص ستوارت مل الرأي الحسي.
غير أن هربرت سبنسر، وهو حسي كذلك، يأخذ على رجال المذهب قولهم: إن المعاني والمبادئ تتكون بالتجربة الفردية. ويلاحظ أنها لازمة لهذه التجربة نفسها، فيجب أن تسبقها في الذهن. وأنه لو صح قولهم لكان الفرس مثلا يقبل عين التربية التي يقبلها الإنسان ما دام كلاهما «لوحا مصقولا» في أول التجربة. ثم يعرض سبنسر نظرية جديدة، وهي أن تأثير الطبيعة في الإنسان تأثيرا متصلا قد كيف دماغه ولاءم بين الظواهر الوجدانية والظواهر الطبيعية، فتكونت المعاني والمبادئ الأولى شيئا فشيئا كما تكونت بالتطور أعضاء النبات والحيوان، وتوارثها النوع الإنساني جيلا فجيلا. ولما كان الناس قد عاشوا في بيئة متشابهة فقد تولدت نفس المعاني والمبادئ عندهم جميعا، وهذا أصل كليتها. ولما كان الذهن قد تكيف هذا التكيف الخاص فقد صار عاجزا عن تصور نقائضها؛ وهذا أصل ضررتها، فهي أولية بالنسبة لكل واحد واحد من بني الإنسان، فتنظم بها التجربة الفردية، ولكنها مكتسبة بالنسبة للنوع الإنساني في جملته.
لقد وهم سبنسر كما وهم زملاؤه في الحسية، وليست نظريته بأفضل من نظريتهم، والاثنتان تلتقيان: في حسبان المبادئ الأولى تتكون بالتدرج سواء في الفرد أو في النوع، ولكنها ليست مركبة حتى تكتسب جزءا جزءا وتورث جزءا جزءا، بل الظاهر لأول وهلة أنها بسيطة بينة بذاتها كما أوضحنا، فإما أن تدرك بداهة أي دفعة واحدة، وإما أن لا تدرك أصلا، وتبعا لهذا يسقط القول بأن الاعتقاد بها يقوى بتزايد التداعي؛ فإن الطفل يراعيها في تفكيره، وإذا حاولنا أن نغلطه فيها فإنه لا يغلط. ثم إن المبادئ ضرورية لتنظيم التجربة، أي للربط بين ظواهرها بهذه المبادئ بإقرار الحسيين جميعا، وهم يدعون أنها مستفادة من التجربة، فيقعون في دور لا مخرج لهم منه. كيف يمكن للأفراد في بدء تجربتهم، وكيف أمكن لأوائل الناس أن يفكروا بدونها ثم يكتسبوها للتفكير بوساطتها؟ إن الصعوبة واحدة في الحالتين، ولا يفيدنا شيئا أن نرجع القهقرى إلى نشأة الإنسان.
أما التصوريون فيعترفون بضرورة المبادئ وكليتها، ولكنهم يجعلونها قوانين ذاتية للفكر، طبقا لمذهبهم، فلا يصلون بينها وبين الوجود. يقول ليبنتز: «المبادئ الكلية تدخل في أفكارنا، وهي روحها ورباطها، وهي ضرورية لها ضرورة العضلات والأوتار للمشي ولو أننا لا نفكر فيها. مثلها في النفس مثل عروق غير مرئية في الرخام على هيئة هرقل أو أبولون. وكما أنه لكي تظهر هذه الهيئة للعيان يلزم أن يسقط النحات أجزاء الرخام التي تحجبها، فكذلك لكي ندرك بالفعل المبادئ الأولى يتعين أن تبرزها التجربة، فالتجربة لا تعطينا بل تكشف عنها فقط.» ويوغل كنط في التصورية إلى أبعد من هذا الحد؛ فإنه يعتبر معنى الوجود نفسه صورة من الصور الذاتية للفكر، فيعتبر المبادئ مجرد قوانين منطقية، ويعرف مبدأ عدم التناقض مثلا هكذا: «المحمول المنافي لموضوعه لا يمكن أن يوافق هذا الموضوع»، أو «ما من موضوع يمكن أن يحصل على محمول ينافيه»، بدل التعريف بالوجود واللاوجود كما أوردناه.
رأي ليبنتز يكاد يكون الحق من جهة اشتراك العقل والتجربة في إدراك المبادئ لولا أن المبادئ عنده غريزية في النفس وأن التجربة ذاتية، لا موضوعية. أي إنها جملة الصور الجزئية التي تظهر في الذهن ، لا جملة الموجودات المدركة بالحواس، وأن التطابق بين قوانين الفكر وقوانين الأشياء سببه سبق التناسق من لدن الله؛ إذ لا تفاعل بين المونادات، بل تقابل بين حوادثها، ويبقى الفكر محصورا في نفسه. بيد أن ليبنتز يعتقد بموضوعية الأحكام بحيث يكون الحق والباطل في العقل حقا وباطلا في الوجود أيضا، بينما يرى كنط أن الوجود خارج متناول الفكر فلا يجوز الحديث عنه والحكم عليه، وأن كل ما يجوز للفكر هو أن يعرف نفسه وحسب، وبذلك يرد كنط الوجود العيني إلى الوجود الذهني على ما بينهما من تعارض: فالوجود العيني موجود بالفعل أو ممكن الوجود، والوجود الذهني موجود في الذهن فقط، غير موجود في الخارج ولا ممكن الوجود؛ فإما أن العقل يعقل المبادئ إذ يطبقها، وحينئذ فلا حاجة لجعلها سابقة على التجربة، وإما أنه لا يعقلها، وحينئذ فلا يسوغ له تطبيقها. وقد نقول إن المبادئ غريزية، لكن بمعنى أنها تعلم بغاية السهولة والسرعة حالما تعلم حدودها، مثل علمنا بأن الكل أعظم من الجزء، أو أن الجزء أصغر من الكل، تو علمنا بالطرفين. فبدقيق العبارة الغريزي في العقل ليس المبادئ، بل الملكة التي يدرك بها العقل المبادئ ويطبقها على الوجود، أما حدودها فمستفادة من التجربة ظاهرة أو باطنة.
الفصل الرابع
أقسام الوجود
(1) تعدادها
بعد لواحق الوجود ومبادئه تأتي بضعة أمور عامة على أعظم جانب من الأهمية لذاتها ولما يترتب عليها من أثر في سائر المسائل الفلسفية. ونحن نحصرها في خمسة أقسام، هي: الفعل والقوة، الجوهر والعرض، الماهية والوجود، العلة والمعلول، الغاية والوسيلة.
1
ونسميها بأقسام الوجود؛ لأن منها ما يتحقق في بعض الموجودات دون بعض، أو في بعض الموجدات تارة وفي بعض آخر تارة أخرى على التوالي: فمن الموجودات ما هو بالفعل من وجه أو وجوه ثم يعود إلى القوة، ومنها ما هو بالقوة من وجه أو وجوه ثم يخرج إلى الفعل، ومنها جواهر، ومنها أعراض. والموجودات المتحققة ماهيات مع وجود، بينما الممكنات ماهيات وحسب، ثم يحصل الوجود لما يتحقق منها. والموجودات متفاعلة: فمنها علل، ومنها معلولات. وهي مترتبة: فمنها غايات، ومنها وسائل. فهذه الأمور عامة في عموم الوجود، وليس بعد من «لواحق الوجود بما هو موجود إلا ما كان مشتركا لجميع الأجناس الموجودة».
2
هذا فضلا عن أن الله ينفرد عن سائر الموجودات بأنه فعل محض لا تخالطه قوة، وجوهر لا تحل فيه أعراض، ووجود لا تحده ماهية، وعلة قصوى لا معلول بحال، وغاية أخيرة لا وسيلة على الإطلاق، فها نحن أولاء نشرحها حتى تتضح من جميع نواحيها. (2) الفعل والقوة
أما الفعل فأمره ظاهر حتى ليس يمكن تعريفه لبساطته وظهوره؛ فإنه من المعاني الأوائل المعلومة بداهة. وأصل اللفظ قوله عن حدث العمل أو فعل العمل. ولما كان الفعل كمالا ما، فقد أطلق اللفظ أيضا على كمال الفعل أو تمامه بعد الحركة التي هي فعل غير تام لا يوجد إلا بالتدريج. والقول بالتغير الدائم أو التطور الخالق، كما يقول هرقليطس وهجل وبرجسون، لا ينافي الفعل: فما دام هناك تغير أو خلق فهذا يعني أن هناك انتقالا من شيء إلى شيء، أو من حال لشيء إلى حال آخر، أي إن هناك فوارق، والفعل لازم قبل حدوث الفارق ولأجل حدوثه. ويطلق اسم الفعل بطريق التناسب، كما يطلق اسم الوجود نفسه وأسماء لواحقه؛ لأنه متباين بتباين الموجودات وأفعاله، وله مع ذلك وحدة نسبية كالوحدة التي لاسم الوجود وأسماء لواحقه.
وأما القوة فأمرها خفي يقتضي إمعان النظر، وقد أنكرها بعض الفلاسفة وغلط فيها آخرون. الأصل في استكشاف القوة والتمييز بينها وبين الفعل هو التغير الذي تظهرنا عليه التجربة ظاهرة وباطنة؛ فإننا إذ نرى الأشياء تتغير فتوجد بعد لاوجود، أو يوجد لها حال لم يكن لها، نميز بين ما حدث بالفعل وما لم يحدث ويمكن أن يحدث. فإذا رأينا مثلا حبة قمح تزرع فتنبت حبوبا مثلها، خطر لنا حتما أن الحبوب النابتة إنما نبتت بقوة ما في الحبوب المزروعة، وأن ليس لحبة فول قوة على إنبات قمح، ولكن لها قوة على إنبات فول، وأن ليس لقطعة حديد أو خشب أو طباشير قوة على إنبات شيء. وإذا رأينا إنسانا ما يقرأ ويكتب، ويترك القراءة والكتابة ويعود إليهما متى شاء؛ أدركنا أن له قوة عليهما لم تكن له قبل تعلمهما، وليست لغيره ممن لا يزالون أميين. وهذه خطوة أولى لتعرف القوة بما هي، أو لتعرف وجودها على الأقل.
ونستطيع أن نتقدم خطوة أخرى لنعرفها بما ليست هي، فنقول: أولا تبعا لما تقدم إنها ليست مجرد الإمكان المنطقي لما لا يتضمن تناقضا، فإذا قلنا إن القوة وجود غير متحقق وممكن التحقق، أردنا أنها شيء ما في طبيعة الموجود المتغير زائد على مجرد الإمكان وأقرب منه إلى التحقق. ثانيا: ليست القوة هي الفعل كما يذهب إليه منكروها، فقد وجد بين الفلاسفة القدماء من ادعوا أن القوة لا توجد إلا متى وجد الفعل، وأن الذي لا يبني ليس له قوة البناء، ولكنها للذي يبني في الوقت الذي يبني.
3
ويكاد يجمع الفلاسفة المحدثون على إنكار القوة كذلك: فديكارت اعتبر الأجسام امتدادا وحسب، وعلل فعلها بحركة من خارج دون حاجة إلى قوى فيها، واعتبر النفس جامعة للأفعال الوجدانية وفاعلة على الدوام دون حاجة إلى قوى، وهو ينبه على «أن الفكر عين الجوهر المفكر أو النفس، وأن الامتداد عين الجوهر الممتد أو الجسم»،
4 «وأن القوة العارفة ما هي إلا قوة واحدة بعينها تسمى بسبب تعدد وظائفها: عقلا خالصا أو مخيلة أو ذاكرة أو بصرا أو سمعا» ... إلخ، كل ما في الأمر «أسماء نلتزم التمايز بينها،
5
لا أشياء موجودة حقا». وهذا ما يدعيه لوك، فهو أيضا ينبه على «أن القوى تجريدات، لا موجودات متمايزة». «وأننا لا نشعر بالقدرة إلا حين نفعل، وما الفعل الحر إلا الفعل نفسه، فإذا لم نقدر على الفعل لم نكن أحرارا؛ إذ لا معنى للاعتقاد بالقدرة دون الفعل، وما اعتقادنا بالحرية إلا اعتقاد بإمكان تكرار فعل سابق لمجرد كون هذا الفعل قد سبق».
6
ثالثا: ليست القوة فعلا كامنا كما صوره ليبنتز فقد قال: إن من الأفعال التام الظاهر، ومنها الناقص الكامن، ولا حاجة إلى القوة التي ليست بفعل، إنما القوة توتر متجه إلى الفعل بذاته ومعطل أو معوق، مثله مثل مشدود إلى جسم ثقيل أو قوس مشدودة، فلا يفعل بتحريك محرك مغاير كما هو حال الجسم في رأي أرسطو وديكارت، بل بتوتره وتلقائيته التي تجعل منه وسطا بين القوة والفعل كما عرفهما أرسطو.
والأدلة على نفينا هذه الآراء واضحة لأقل تدبر حتى لنعجب كيف غابت عن هؤلاء الفلاسفة، إلا أن يكونوا قد انساقوا إليها بموجب مبدأ خاطئ قبلوه فلزمتهم نتائجه. والمبدأ الخاطئ ههنا أن العقل لا يقبل إلا المعاني الجلية المتميزة كالمعاني الرياضية، والقوة غامضة محجوبة عن الحس والعقل، وإذن فهي غير مقبولة، ويجب أن تفسر بطريقة ما. ولكن الطرق التي ابتدعت لا تفسر شيئا، فالرأي الأول يترك الموجودات وأفعالها لمطلق الإمكان، أي للفوضى والمصادفة؛ فإن مطلق الإمكان يتناول إمكانات لا تحصى. والواقع أن لكل موجود إمكانات معينة محدودة، حتى إمكانات الحرية، فليس في مقدور الحرية الإنسانية أن تغير طبيعة الإنسان أو طبائع الأشياء، ولا أن تفعل كل ما نريده أو نتمناه، فإذا كانت إمكانات كل موجود معينة محدودة، كان هذا دليلا على أن كل موجود إنما يفعل (أو ينفعل) بقوى فيه معينة محدودة.
والرأي الثاني يقبل الفعل دون شرطه فيجعل الفعل مستحيلا، وذلك بأن اكتساب فن من الفنون أو علم من العلوم يقتضي قوة له، فإننا إذا رسمنا حروف الهجاء أو أرقام الأعداد ونطقنا بها أمام طفل وقرد، تعلمها الطفل ولم يتعلمها القرد مهما كررنا المحاولة. وإن استئناف مزاولة الفن أو العلم المكتسب يقتضي بقاء القوة عليه وبقاء المكتسب منه، بينما المزاولة والاكتساب واستئناف المزاولة أمور ممتنعة على فائدة القوة؛ كالقرد في المثال السابق، وعلى الحاصل على القوة دون اكتساب؛ كالأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب. ولو تأمل أصحاب هذا الرأي لوجدوا أن ما لا قوة له فهو لا يفعل، اللهم إلا بتحريك خارجي، وهذا التحريك في مذهبهم المنكر للقوة والكيفية هو نقله، أي تحريك مادي آلي، فكيف وأين تبدأ الحركة؟ وكيف ندرك معنى من المعاني حين يصل إلى سمعنا ذبذبة مادية إلا أن نكون قد حفظنا العلاقة بين هذه الذبذبة وبين المعنى، فكانت لنا قوة على هذا الحفظ وعلى استئناف الإدراك؟ وكيف يحدث الماء مثلا حدوثا مطردا بتفاعل الأوكسجين والهيدروجين إذا كان هذا التفاعل حركة آلية صرفا ولم يكن في كل من العنصرين قوة مرتبة إلى قوة الآخر متجهة إلى هذا التركيب، معينة بمقدار بحيث لو زاد المقداران المتفاعلان على المقدار المعين بقي الزائد خارج التركيب. وليست تقتضي المادة لذاتها أو الحركة لذاتها تركيبا معينا ولا مقدارا معينا؟ والعلوم الطبيعية حافلة بأمثلة من هذا القبيل ومن الإسراف، بل من التناقض الصريح إرجاع أفعال متباينة إلى مصدر واحد بالذات تفاديا من قبول القوة - كما صنع ديكارت، والمنطق يقضي بإرجاع كل منها إلى مصدر خاص.
والرأي الثالث ابتدعه ليبنتز لكي يوفق بين التجربة التي ترينا أشياء وأفعالا تكون بعد أن لم تكن، وبين مذهبه العقلي المطلق القاضي بالتصور الجلي المتميز ليس غير، فاستبعد القوة كوسط بين الوجود الظاهر وبين مطلق اللاوجود، أو التي هي وجود غير معين ومن ثمة غير متصور طالما لم تتعين بالفعل. واستعاض عنها بفعل ناقص يتجه إلى التمام، أو وجود كامن يتجه إلى الظهور، فيكون وسطا ممكن التصور. ولكن هل نستطيع أن نتصور أفعالنا جميعا كامنة فينا منذ ميلادنا وتظهر بالتوالي؟ وهل نقول إن الكائن عن آخر كان فيه على هيئة مصغرة؟ وهل كانت الحبوب النابتة موجودة في الحبة المزروعة بعددها ومقوماتها لكن في كمية متضائلة؟ هل كان العلم كامنا في الطفل قبل أن نعلمه إياه؟ إذا سايرنا أفلاطون وأجبنا بالإيجاب، بقي أن النفس في مذهب أفلاطون تعلمت في حياة سابقة بكل معنى التعلم، فكانت بالقوة إليه وإلى مزاولة العلم بعد ذلك؛ إذ إن الفكر الكامن شيء ومزاولته شيء آخر.
نتقدم خطوة أخرى في تعريف القوة بالنظر في أنواعها؛ فإنها تنقسم إلى فعلية وانفعالية، وإلى طبيعة ونطقية، وإلى قريبة وبعيدة. القوة الفعلية أو الفاعلية هي قدرة الموجود على إحداث تغيير في موجود آخر ، أو في نفسه بما هو آخر، أي بما هو حاصل على قوة انفعالية إلى جانب قوته الفعلية: كالطبيب الذي يداوي نفسه، فإنه يفعل ذلك بعلمه الطبي الذي هو قوته الفعلية، فيؤثر في مرضه الذي هو آخر بالنسبة إليها ويقبل الدواء. وبعبارة أخرى: إن الموجود الذي يغير ما بنفسه هو مغير ومتغير من وجهتين متمايزتين لا من جهة واحدة. والقوة الانفعالية أو المنفعلة هي قدرة في الموجود على قبول فعل موجود آخر، أو فعل منه هو بما هو آخر، وذلك كالداء بالنسبة إلى المداوي وإلى الدواء في المثال السابق، أو كعقل الطفل بالنسبة إلى المعلوم والمتعلم.
والقوة الطبيعية هي التي في طبيعة الموجود، سواء أكان فاعلا أم منفعلا، وهي محدودة نحو شيء واحد أو وظيفة واحدة: كالنار تسخن، أو العقل يعقل، أو المخيلة تتخيل. والقوة النطقية أو العقلية هي التي في النفس الناطقة بما هي ناطقة، وتتناول العلوم والفنون، وليست محدودة نحو طرف واحد، بل قد تفعل طرفا أو الآخر بحسب الاختيار: فعلم الطب يشتمل على معرفة الصحة والمرض، فهو في النفس قوة الصحة والمرض جميعا، ولو أن معرفة أحد الضدين هي المقصودة فيه بالذات، ومعرفة الضد الآخر بالعرض، فهو يعلم الصحة لكي يحدثها ويصونها، ويعلم المرض ليزيله لا ليحدثه، والإرادة تجرح أحد الضدين. وعلم الأخلاق يشتمل على معرفة الخير والشر، فهو في النفس قوة الاثنين، إلا أن المقصود فيه فعل الخير واجتناب الشر، وقد ترجح الإرادة فعل الشر.
والقوة القريبة هي المهيأة لكل التهيؤ للخروج إلى الفعل حالما تفعل علتها أو يترفع المانع لها، وهي القوة في الحقيقة. أما القوة البعيدة فهي التي لا تخرج إلى الفعل إلا بعد مرورها بالمراحل التي تفصل بينها وبين التهيؤ الأخير، فإذا قلنا إن الكائن الحي هو بالقوة في العناصر الكيميائية، أو إن هذا الطفل فيلسوف أو شاعر بالقوة؛ فإننا نقول ذلك بضرب من التجوز يعود إلى الإمكان المنطقي، وقد بينا أن ليس أي شيء كان هو بالقوة أي شيء كان.
في ضوء هذه الإيضاحات نفهم تعريف ابن سينا للقوة بأنها: «ما به يجوز من الشيء فعل أو انفعال.»
7
وتعريف ابن رشد بأنها: «الاستعداد الذي في الشيء والإمكان الذي فيه لأن يوجد بالفعل.»
8
فالعبارتان تعرفان القوة، لا في ذاتها، وهي غير مدركة بما هي كذلك، بل الفعل، وهي إنما تعترف به؛ إذ إنها نسبة إليه، أي كافية له، أو قدرة عليه واستطاعة له. والعبارتان تثبتان القوة على أنها وجود حقيقي وإن لم تكن فعلا. وقول ابن سينا: «ما به يجوز من الشيء فعل أو انفعال» يضارع قول ابن رشد «الاستعداد الذي في الشيء والإمكان الذي فيه» لا مجرد الإمكان أو القوة البعيدة، بل الاستعداد الوجودي الذي بدونه لا يجوز من الشيء فعل أو انفعال. فأصل اللفظ الدلالة على ما ليس موجودا بالفعل لكنه يقدر أن يوجد أو يقوى على الوجود بالفعل. فلا ينبغي أن يصدنا خفاء القوة في ذاتها عن وضعها في الوجود كقسيمة للفعل، من حيث إنها نسبة حقيقية إلى الفعل لولاها لا يوجد الفعل، وإنها كالفعل تقال بطريق التناسب لتباينها بتباين الموجودات وأفعالها، مع الوحدة الدال عليها اسمها والمعرفة ههنا.
ففي المسألة ثلاثة مذاهب: مذهب يقول بالقوة وحسب، كما نراه عند هرقليطس وهجل وبرجسون، فيتصور الوجود غير معقول وصيرورة صرف. ومذهب يؤمن بالفعل وحسب، فيجمع الكل في واحد، ويعتبر الصيرورة وهما، كما نرى عند بارمنيدس، أو شبه وهم، كما نرى عند سبينوزا. قال بارمنيدس: «الوجود موجود، فلا يحدث عنه وجود»، ظانا أن الوجود هو بالفعل حتما، وأنه متجانس على ما يشبه أن يبدو في ذهننا، فلا كثرة ولا صيرورة، غير عارف أن الوجود قد يكون أيضا بالقوة، أو أن القوة نوع من الوجود، وأن الصيرورة خروجها إلى الفعل، وغير عارف أن وحدة معنى الوجود في الذهن هي ثمرة تجريد عقلي من موجودات متعددة يقال عليها بالتشكيك لتغايرها، فالكثرة ممكنة، وهي الأصل الذي يواجهنا بادئ ذي بدء. أما سبينوزا فقد قبل الكثرة، لكن على أنها كثرة صفات وأحوال لجوهر كلي واحد ، وقبل الصيرورة ، لكن على أنها صيرورة آلية تتدافع فيها الأحوال أي الجزئيات، ويفعل كل منها بما يتلقى من دفع لا بقوة مركوزة فيه. وهذا نوع من التوسط بين بارمنيدس وهرقليطس، مع ميل إلى الأول أشد، من حيث إن الأصل عنده أيضا الوحدة والثبات، وإنه لا يبقى معهما للكثرة والصيرورة إلا ظل من وجود مستند على الجوهر الأوحد.
الوسط الحق هو المذهب الثالث: مذهب أرسطو؛ يجمع بين القوة والفعل، ويرى أن القوة، وإن كانت غير معقولة في ذاتها، فهي معقولة بالقياس إلى الذي يخرج إليه؛ فإن الفعل كمال القوة ومن أجله وجدت، وهو محققها، فما من متغير إلا وله مغير، أو ما من متحرك إلا وله محرك، وعلى ذلك يخطئ الذين يفسرون الكون بتطور المادة، واضعين في الأصل القوة والاختلاط زمنا غير متناه. ولو صح زعمهم لما أمكن أن تخرج الأشياء من القوة إلى الفعل، ومن الاختلاط إلى النظام. وبفضل هذه البديهيات يتفق العقل مع الوجود، ويصعد إلى فاعل أول. (3) الجوهر والعرض
من الموجودات ما هو منفصل عما سواه، قائم بذات متقوم في ذاته، معين تعيينا أوليا بماهية باقية ما بقي هو، مثلما نرى في زيد هذا أنه إنسان. ومنها ما هو حال في المتقوم في ذاته، معين له تعيينا ثانويا يجعل منه شخصا مشارا إليه، كالمقدار واللون وسائر ما ينضاف على الماهية في الأشخاص. وهذا التعيين الثانوي قد يكون «مفارقا» زائلا، وهو في الغالب كذلك. وقد يكون «لازما» ثابتا، كالبياض في ققنس العالم القديم، أو السواد في ققنس العالم الجديد (10ج)، دون أن يمنع لزومه وثباته من اعتباره ثانويا متمايزا من الماهية جائز المفارقة.
فالموجود الذي من النوع الأول محل وموضوع للذي من النوع الثاني، وليس هو في محل أو موضوع. وظاهر أن المتقوم في ذاته المقوم لغيره أشرف من هذا المتقوم به. وبهذا الاعتبار اصطلح في العربية على تسمية المتقوم في ذاته «جوهرا» وعلى تسمية المتقوم في غيره «عرضا». قال الغزالي: «الجوهر اسم وضعه واضع اللغة لحجر يعرفه الصيرفي ، ونقله المتكلم (صاحب علم الكلام) إلى معنى هو أحد أقسام الموجودات.»
9
وقال ابن رشد: «هذا الاسم عند المتفلسفين منقول من الجهر عند الجمهور، وهي الحجارة التي يغالون في أثمانها، ووجه الشبه بين هذين الاسمين أن هذه لما كانت إنما سميت جواهر بالإضافة إلى سائر المقتنيات لشرفها ونفاستها عندهم، وكانت أيضا مقولة الجوهر أشرف المقولات، سميت جوهرا.»
10
واصطلح على اسم العرض للدلالة على ما يعرض للجوهر، أو «أنه منقول مما يدل به عند الجمهور، وهو الشيء السريع الزوال».
11
وهكذا ندرك مبدأ الجوهرية على أنه تعيين لمبدأ الذاتية: «الموجود واحد بعينه تحت أحواله المتعددة المتغيرة.» ومن هذه الوجهة لا يخرج الموجود عن هذين القسمين، فإنه إما جوهر وإما عرض.
للجوهر إذن تعريفان، فهو: الموجود المتقوم في ذاته، وهو موضوع الأعراض أي محلها وحاملها، الأول بمثابة الحد، والثاني بمثابة الاسم. فالأول مفضل، وقول: «المتقوم في ذاته» خير من قول: «الموجود لا في موضوع»، على كثرة ورود هذا التعبير عن ابن سينا وابن رشد، وبيانه بأن الجوهر «يقال لكل موجود لذاته لا يحتاج في الوجود إلى ذات أخرى تقارنها حتى يقوم بالفعل».
12
أجل إن القولين يرجعان إلى واحد، فالمتقوم في ذاته هو الموجود لا في موضوع، غير أنه يجمل صوغ التعريف في صورة موجبة كلما أمكن ذلك لما هو معلوم من أن التعريف السالب يقول ما ليس الشيء هو ويدع ماهيته خافية، بينما التعريف الموجب يقول ما الشيء هو ويؤدي إلى الذهن معنى ثبوتيا ربما لا يؤديه السلب إلا بشيء من العناء، فالإيجاب متقدم على السلب. ثم إن قبول الأعراض ليس شرطا للجوهرية بإطلاق، هو وظيفة ثانوية للجواهر الحادثة، ويخرج منه الله الذي هو جوهر محض غير قابل لعرض ما، على حين أن التعريف الأول شامل ينطق على كل جوهر.
أما العرض فتعريفه مقابل للتعريف الثاني للجوهر، فإنه «ماهية موجودة في آخر وجودها في موضوع أو محل»، فهو «وجود مقبول لا غير» (نجاة 204). فينبغي أن يفهم حلوله في موضوع بمعنى اتحاده به وتقومه فيه ، لا كحلول الجزء في الكل، أو الجسم في المكان، أو المعلول في العلة! فليس للعرض من حقيقة إلا بالجوهر: كالشكل واللون والحركة فإنها لا توجد إلا في موضوع، وسنزيد هذا بيانا فيما يلي. ولنزد الآن في بيان معنى الجوهر بإيراد الاختلاف في استعمال اللفظ، فنقول:
كان أفلاطون يرى أن المثل هي الموجودات الحقة، وأن الأجسام الطبيعية أشباح لها، فثبت عنده أن المثل هي الحقيقة باسم الجوهر، وأن الجزئيات إن أطلق عليها هذا الاسم فبالتبعية وبصفة ثانوية، قال: «لا تسم الماء المحسوس ماء، وإنما قل إنه شيء شبيه بالماء.» وافترق عنه أرسطو؛ إذ ثبت لديه أن المثل لما كانت كليات فيستحيل أن يحصل لها وجود، وأن الموجود حقا هي الجزئيات، سواء أكانت مادية محسوسة أو روحية معقولة: كالنفوس الإنسانية والعقول العلوية، فكان يسميها جميعا جواهر أول، ويسمي المعاني الكلية الماثلة في عقلنا جواهر ثواني، وينبه على أن اسم الجوهر إنما يطلق على الجواهر الأول والجواهر الثواني لا بالتواطؤ بل بطريق التناسب من حيث إن قوام الجزئي هو بذاته لا بالكلي، وقوام الكلي هو بالجزئي، فالجزئي أولي بالجوهرية. وإذا تأملنا في هذين النوعين من الجوهر وجدنا أن الجوهر الأول هو ما ليس في موضوع ولا يحمل على موضوع، كزيد مثلا. بينما الجوهر الثاني وإن كان ليس في موضوع فهو يحمل على موضوع، كإنسان في قولنا: «زيد إنسان.»
والفلاسفة الإسلاميون، كابن سينا وابن رشد ومن تبعهما، يعنون بلفظ الجوهر وبصفة شاملة «الموجود لا في موضوع»، وثانيا وبصفة محدودة «محل الأعراض أو موضوعها». والمتكلمون «يخصصونه بالجوهر الفرد المتحيز الذي لا ينقسم، ويسمون المنقسم جسما لا جوهرا، وبحكم ذلك يمتنعون عن إطلاق اسم الجوهر (كما يطلقه الفلاسفة) على (الله) المبدأ الأول».
13
وابن سينا، بعد أن عرف الجوهر بأنه الموجود لا في موضوع، وينبه على أن اللفظ مشترك، يقول (في رسالة الحدود) إن هذا اللفظ: «يقال بالذات لكل شيء كان، كالإنسان أو كالبياض، وإن كان موجود، وإن كان كالبياض والحرارة والحركة، فهو جوهر.» كيف يكون ذلك وهذه أمثلة للعرض ؟ كيف يمكن الجمع في مدلول واحد بين الإنسان والبياض؟ وقال ابن رشد مثل هذا، وفسره كما يلي: «إن هذا إنما يسمى جوهرا بالإضافة لا بالإطلاق، ولم يضع واحد العرض من جهة ما هو عرض جزءا وجوهرا، بل من جهة ما ظن أنه معرف ذات الجوهر المشار إليه، فمن رأى أن كليات الشيء هي التي تعرف ماهيته، أو أنها الأبعاد الثلاثة، أو أنها أجزاء لا تتجزأ، أو أنهما المادة والصورة، رأوا أنها أحق باسم الجوهر من الشيء المشار إليه، إذا كان من المستحيل أن يكون أوائل الجوهر واسطقساؤه (أي أجزاؤه) ليس بجوهر؛ فإن الشيء الذي هو سبب لأمر ما أحرى بذلك الأمر الذي هو له سبب.»
14
وفي العصر الحديث نجد ثلاثة تعريفات مشهورة: أولها تعريف ديكارت القائل: إن الجوهر «هو الذي يوجد بحيث لا يفتقر في الوجود إلا لذاته». هذا التعريف مدعاة للبس، فقد يعني: «ما لا يفترق لموضوع أو محل لكي يوجد»، وهذا معنى مقبول. وقد يعني: «ما لا يفترق لشيء آخر كعلة لوجوده»، وهذا معنى يستتبع إما أن الجواهر موجودة بذاتها، ومن ثمة إلهية، أي يستتبع وحدة الوجود، أو أن اسم الجوهر يجب أن يقصر على الله، وحينئذ تكون الموجودات أعراضا لله، فنقع في وحدة الوجود كذلك. وفعلا استدرك ديكارت قائلا: «بدقيق العبارة الله وحده هكذا.»
15
التعريف الثاني هو الذي يؤسس عليه سبينوزا مذهبه في وحدة الوجود، ويفتتح به كتابه «الأخلاق» حيث يقول: «الجوهر هو الشيء الموجود في ذاته والمتصور بذاته، أي الشيء الذي لا يفترق تصوره إلى تصور شيء آخر.» وهذا خلط بين الوجود في الذات والوجود بالذات، وخلط بين الوجود في الذات وبالذات وبين المتصور بالذات؛ إذ قد يكون الشيء في ذاته وبذاته ولا يتصوره بذاته بل بواسطة معنى آخر أو معان أخر كما يجري لنا في حق الله.
والتعريف الثالث شائع لدى الحسيين وكنط ومن جاء بعده من التصوريين، وهو قولهم: إن «الجوهر فكرة محل أو موضوع ثابت الكيفيات متغيرة». يقولون إنه فكرة أو معنى، فلا يعتقدون بموضوعيته، مع فارق في تفسير أصل هذه الفكرة: الحسيون يفسرونه بأن الذهن يلاحظ توزع الإحساسات في مجموعات وتلازمها فيها، فيعتاد اعتبارها شيئا واحدا يدل عليه بلفظ واحد، كالإنسان والفرس والشجر، دون أن يدري لتوزيع الإحساسات وتلازمها علة ما، فيقدر له أساسا ويسميه بالجوهر. فهم يكررون هنا ما يقولونه في سائر المعاني. ويذهب كنط إلى أن المعاني، ومنها معنى الجوهر، أمور لا ينالها الحس، ولكنها غريزية في العقل نستخدمها لتنظيم التجربة، ونستدل عليها برسوم خيالية، والرسم الخيالي للجوهر: «بقاء كمية المادة»، وبتعبير آخر: تلازم الإحساسات كما يقول الحسيون. وهذا يقودنا إلى الفحص عن قيمة معنى الجوهر، فنقول:
محال أن يكون الجوهر فكرة ذاتية لا غير كما يدون؛ فإن الظواهر موجودة، وشرط الموجود موجود. محال عدم الإقرار بفاعل للفعل ومظهر للظاهرة. وإذا كان الجوهر مجرد فكرة ناشئة عن تلازم الظواهر أو بقاء كمية المادة، أفليس هذا التلازم أو هذا البقاء بحاجة إلى تعليل؟ ولكنهم لا يدرون له تعليلا، وإذا كان الجوهر عبارة عن جملة ظواهر، فأين توجد الظواهر؟ هل هي موجودة بذاتها؟ إنها إذن جواهر، أم هي موجودة في غيرها؟ إن هذه الأغيار إذن جواهر، وإلا تداعينا إلى ما لا نهاية. إنهم يخطئون في تصور الظواهر خطأ ساذجا للغاية: فإن الحواس تدرك الكيفيات لا قائمة بذاتها، بل متشخصة في موضوع؛ إذ ليس يوجد «بياض» (مجرد)، بل يوجد «أبيض» (مشخص)، أعني حصول البياض للشيء الذي يصير به أبيض. ولذا كان للإحساس مقدار كما يقرره علم النفس، فيبدو اللون ممتدا بالغا ما بلغ صغره، ويبدو الصوت كميا؛ بحيث إذا أردنا أن نعبر عن الواقع تعبيرا صادقا، لم نقل إن الحواس تدرك اللون والشكل والصوت والطعم والرائحة والحرارة، وإنما قلنا إنها تدرك المتلون والمتشكل وذا الصوت وذا الطعم وذا الرائحة والحار ... وما إلى ذلك، دون أن تميز أول الأمر العرض من الجوهر، ولكن العقل يميز؛ إذ يرى الشيء باقيا هو هو في طبيعته بينما الأعراض تتغير، فيعلم أن جوهر الشيء متمايز من أعراضه حقا .
ويخطئ الظاهريون في تصور العرض إجمالا؛ فإنهم يتخيلونه كما يرون اللون مثلا واردا على الشيء من خارج وملصوقا به، ويظنون أننا نحن الذين نفترض له موضوعا أو محلا خاليا. والحقيقة أن الجوهر أو الشيء أو الموجود يتكون ويدوم معه أعراضه يظهر بها وفيها، فنعرفه في نوعه وشخصه بها وفيها؛ إذ إنها «ظواهره» وليست حجبا تخفيه وتخدع عنه. والحقيقة أن العرض صادر عن الجوهر ومقبول فيه صدورا وقبولا ذاتيا، كما نرى الأشياء من جامدة وحية تظهر طبعا بأعراض خاصة، وحتى حين يكون العرض مقبولا من خارج، كلون الذي ينتقل من مناخ إلى آخر، أو طعم النبات والحيوان يتغير بتغير الاستنبات والمأكل والبيئة، أو كالعلم يلقنه المعلم، فإن الجوهر يتمثله ويجعله جزءا من ذاته. فليس حدوث العرض في الجوهر كوقوع لون صناعي على سطح الشيء، ولكنه فعل ذاتي للجوهر.
هذا الذي تحسه الحواس ويعقله العقل، يتأيد ويتضح إلى أبعد حد بالولوج إلى «الأنا» الذي هو الجوهر المدرك بالوجدان: فليس من ينكر أننا نضيف ظواهرنا الوجدانية إلى ذات ثابتة هي «الأنا» حتى في الحالات المسماة بأمراض الشخصية. فالتغيرات النفسية تبدو لنا لا كأنها مطلق ظواهر بل على أنها ظواهرنا نحن تتعاقب مع بقاء شخصيتنا، فندرك الأنا تارة حاسا وطورا عاقلا أو مريدا أو منفعلا أو متخيلا أو متذكرا. فاعجب للظاهريين يدعون أنهم لا يقرون إلا بالتجربة ثم يكابرون في شهادة الوجدان هذه: لم تكون شهادته أقل صدقا في إدراك بقاء الشخصية منها في إدراك تعاقب الظواهر؟ إن الشواهد على بقاء الشخصية كثيرة واضحة كل الوضوح: فالعادة، سواء أكانت جسمية أم ذهنية، تكتسب بتكرار الفعل، ولا يفيد التكرار إلا إذا حدث في ذات بعينها، والذكر والتذكر يدلان على أن هناك ذاتا بعينها تستعيد الماضي وتصل بينه وبين الحاضر، وإلى الذكر والتذكر يرجع تداعي الصور الذي يعولون عليه أكبر التعويل، كما يرجع الشعور بالتبعية. إن الظاهرية عبارة عن إلغاء الحياة الوجدانية؛ فإن هذه الحياة قائمة على الثبات والاستقرار، ولولاهما لما أمكن أن توجد ظواهر متنوعة متغيرة.
ولنا على الظاهريين شاهد من أنفسهم: فقد حاروا في تفسير «الوهم والجوهر» كما يقولون، فتساءل ديفيد هيوم: إذا كانت الإحساسات والأفكار منفصلة مستقلة، فكيف يمكن أن يوجد بينها مبدأ ارتباط؟ ثم قال: إن هذه مسألة مستعصية على فهمه. وقال ستوارت مل: إن سلسلة الظواهر الباطنة تعرف ذاتها ماضية ومستقبلة، فنضطر للاعتقاد بأن النفس أو الأنا شيء آخر غير السلسلة، فنقع في تناقض. فهم ينكرون الجواهر ويجوهرون الظواهر، فيجتمع لهم جواهر كثيرة لأنهم لم يريدوا أن يعتقدوا بجواهر قليلة! (4) الماهية والوجود
الموجود الحادث أو المخلوق، كما أنه مركب من فعل وقوة، ومن جوهر وعرض، فهو مركب من ماهية ووجود. وهذا التركيب الأخير أعمق وأدق على التصور. وله تاريخ إن تتبعناه وقفنا على منشأ النظرية المقصودة به، ومراحل تكوينها، ووجوه إنكارها، فاتضحت أكثر من اتضاحها بالتفسير والتدليل، أو جاء التفسير والتدليل في سياق العرض التاريخي فكانا أقرب تناولا. نقول إذن:
لعل أفلاطون أول من التفت إلى النسبة بين الوجود والماهية، دون أن يبين المسألة لذاتها، ودون أن يتبين ما يستتبعه. ذلك بأن الجسميات عنده «مشاركات» في المثل، فوجودها ليس لها بذاتها، وإلا لكانت دائمة ثابتة كالمثل، من حيث إن الماهيات بمعزل عن الزمان والتغير، والمثل أنفسها إن اعتبرناها موجودات مطلقة بناء على بعض النصوص، كان وجودها لها بذاتها غير متمايز من ماهياتها تمايز وجود الجسميات من المثل؛ وإن جعلناها مصنوعة من مثل الخير بناء على نصوص أخرى، رجع حكمها إلى حكم الجسميات فوجد فيها ذلك التمايز لأن وجودها منحة من مثال الخير وتحقيق لماهياتها. والآلهة المنوعون من الإله الصانع للكون، وجودهم متمايز من ماهيتهم كذلك؛ لأنه وجود ممنوح، وفي الإله الصانع للكون الوجود ذاتي للماهية. هذه الحالات مستخلصة اجتهادا من مواقف أفلاطون، وهي تعود إلى اثنتين: حالة الموجود بذاته، وليس فيه تمايز بين وجوده وماهيته، وحالة المصنوع، وفيه ذلك التمايز.
بيد أن أفلاطون لم يلتفت إلى نتيجة بالغة الأهمية، وهي أنه إذا كان الثبات الدائم موجودا بذاته، فيتعين أن تكون المادة المتغيرة موجودة بغيرها، وهو يعتبرها موجودة بذاتها منذ الأزل، ويعتبر علامة تبعيتها للإله الصانع أنه نظمها بعد اضطراب وفوضى، لا أنه خلقها أيضا. واليونان على العموم لم يعرفوا فكرة الخلق، فالإله الصانع لا يمنح مطلق الوجود، بل يطبع في المادة الموجودة بذاتها أشباها أو أشباحا للمثل.
وقد تقدمت المسألة مدى فسيحا بفضل أرسطو؛ إذ كان أول من وضعها وضعا صريحا، وأول من ميز بين الوجود والماهية، ولكن في الذهن وفي المنهج العلمي فقط، ثم انساق إلى عين النتائج لاتفاقه مع أستاذه في غيبة فكرة الخلق وفيما تستتبعه هذه الغيبة من إثبات أزلية العالم. فمن الناحية التمييز بين الماهية والوجود، يجعل منهما مطلبين مختلفين للعلم: مطلب ما؛ أي: ما الشيء الذي هو موضوع العلم، ومطلب هل؛ أي: هل الموضوع موجود؟ ويعلن أن الوجود لا يدخل في تعريف الماهية، وأننا ندرك ما الإنسان أو ما المثلث، دون حاجة إلى إدراك وجودهما بالفعل. وينبه على أن العلم بوجود الموضوع يجب أن يقدم على تعريف الموضوع، أي على العلم بماهيته إذ كان الموضوع غير موجود، كالغول أو العنقاء، لم يبق هناك من معنى لتعريفه، أو جاء التعريف منصبا على الاسم فقط كما نعينه تعيينا عرفيا، لا على شيء موجود أو ممكن الوجود. هذا إذن تمييز حاسم،
16
بيد أنه لا يعدد الوجهة المنطقية.
فإذا ما قبلنا على الوجهة الميتافيزيقية أو الوجودية، ألفينا أرسطو يوحد بين الماهية والوجود في وجود جميع مراتب الموجودات، وهذه المراتب عنده ثلاث: المرتبة العليا تشمل الآلهة محركي الأفلاك، وهؤلاء عقول مفارقة للمادة أي أرواح بسيطة بريئة من كل تركيب، فهم موجودون بذواتهم أزلا أبدا، فلا تمايز فيهم بين ماهيتهم ووجودهم. والمرتبة التالية تضم الأفلاك، وهذه مركبة من نفس ناطقة ومن الجرم الذي نراه: النفس الناطقة روحية، وحكمها حكم المحركين، وجرم الفلك عنصر واحد هو الأثير لا يكون ولا يفسد، فهو ثابت، أزلا أبدا، وإذن فالأفلاك موجودة بذاتها، فلا تمايز فيها بين ماهية ووجود.
هل نجد هذا التمايز في المرتبة الأخيرة المحتوية على الأجسام الكائنة الفاسدة تحت فلك القمر، وهي مركبة من صورة ومادة وأعراض، ومنحلة من هذا التركيب بعد وقت، فيبدو أن الوجود فيها متمايز من الماهية؟ لكن لا، فإنها كانت موجودة بأنواعها منذ الأزل، لم يخلق هذه الأنواع خالق ولم يصنعها صانع، بل يتكون أفرادها بتأثير الحركات السماوية والأرضية: المادة غير متكونة ولا مندثرة، وإذن فهي موجودة بذاتها، والصورة «مطوية في قوة المادة» متى ظهرت كانت منبع وجود، وكان اتحادها بالمادة اتحاد فعل بقوة، وكانت هذه الأجسام كأنها موجودة بذاتها من جراء أن العنصرين المركبة منهما موجودان بذاتهما، فلا تمايز فيها بين ماهية ووجود، على حين أنه يمكن إثبات هذا التمايز تبعا لفلسفة أفلاطون بالرغم من قيام المادة بذاتها، وذلك لوجود الصور عن المثل، أو عن صنع الإله الصانع طبقا للمثل، وقد أبطل أرسطو وجود المثل فأبطل تبعية الأجسام التي تحت فلك القمر، أو هو لم يدع لها سوى تبعية للحركات السماوية والأرضية تخرج بها من القوة إلى الفعل، أو تتطور بها.
هل نقول إن تمايزا بين الماهية والوجود يظهر في الصورة العرضية من حيث إنها طائرة على الجوهر مفارقة له أو قابلة للمفارقة؟ كلا، فإن اتحادها بالجوهر كاتحاد الصورة الجوهرية بالمادة، فيظل الجوهر واحدا تمام الوحدة، وإن تمايز العرض من الجوهر ففي الذهن فقط لا في الوجود الواقعي.
ومنذ القرن الثاني للميلاد حمل المفكرون المسيحيون على مقدمات الفلاسفة اليونان ونتائجها. فقد قرأوا في مفتتح سفر التكوين الذي هو مفتتح التوراة: «في بدء خلق الله السماوات والأرض»، فعرفوا أن الله خالق الأشياء، أي موجدها مادة وصورة، وموجدها بعد أن لم تكن موجودة. وقرأوا في سفر الخروج (الفصل الثالث، الآية 14) أن موسى التمس من الله أن يفصح له عن اسمه كي يبلغه إلى بني إسرائيل فقال الله: «أنا الموجود، كذا قل لبني إسرائيل: الموجود أرسلني إليكم.» وقرأوا في سفر ملاخي (الفصل الثالث، الآية 6): «قال رب الجنود (السموية): أنا هو الرب ولا أتغير.» وقرأوا في آيات أخرى كثيرة عن الله وصفاته، فعلموا أن الله واحد ليس غير، وأنه هو الموجود الوحيد القيوم الذي وجدوه بذاته، وما عداه فوجوده به، وأنه ثابت لا يطرأ عليه تحول، وما عداه هو الذي يعتريه التحول، فكان الثبات أخص صفات الله في نظرهم، وكانت الصيرورة أخص صفة للمخلوقات. ولقد ألحوا في تأييد هذه المعاني وفي نقد الآراء اليونانية، وكان القديس أوغسطين (354-430) أبرعهم تأييدا وأشدهم نقدا.
وجاء بويس (470-525) فتعمق المسألة لتحديد وجه التمايز بين الله والمخلوقات، فرآه في بساطة الله وتركيب المخلوقات، وبين ذلك تبينا غدا معه هذا التمايز مرعيا في علم اللاهوت من عبده، قال: «الجوهر الإلهي صورة من مادة، ومن ثمة هو واحد (غير مركب في ذاته)، وهو ما هو أي عين ماهيته، وسائر الموجودات ليست هي ما هي أي عين ماهيتها؛ لأنها مركبة، كتركيب الإنسان مثلا من نفس وجسم، فليس الإنسان أحد هذين الجزأين دون الآخر، وإذن فمن وجه ليس هو ما هو.» في هذا النص الملخص لرأيه لا يظهر أن الوجود مقصود كجزء من مركب، وإنما المقصود الماهية المركبة في ذاتها المتمايزة (باعتبارها ماهية تامة) من أي جزء من أجزائها. فقوله: إن الجوهر المخلوق ليس هو ما هو، يعني أنه لا يتوحد مع الصورة التي تجعله ما هو، وأنه معروض لأعراض تزيد في تركيبه، وليس الوجود مذكورا بين هذه الأعراض. والوحدة التي يثبتها الله هي توحد الجوهر الإلهي مع الصورة أو الماهية الإلهية. والتمايز الذي يضعه في المخلوق تمايز بين الجوهر والصورة.
ثم كانت للمفكرين الإسلاميين جولات في هذا المضمار، فقد قرأوا أيضا أن الله خالق وأنه هو القيوم. ففهم المتكلمون منهم أن العالم حادث أوجد بعد عدم، واستنتج فريق منهم أن وجود المخلوق غير ماهيته»؛ قالوا: «إن وجود السواد زائد على كونه سوادا، وإنه يجوز خلو تلك الماهية من صفة الوجود، وإن المعدومات الممكنة قبل دخولها في الوجود ذوات وأعيان وحقائق، وإن تأثير الفاعل ليس في جعلها ذوات، بل في جعل تلك الذوات موجودا.»
17
وفهم الفلاسفة منهم أن الخلق لا يستلزم أزلية العالم ، وأزلية العالم لا تغني عن علة أزلية؛ إذ إنه ممكن، وإن الوجود الممكن علة لا محالة. فقال ابن سينا: كل وجود فإما واجب وإما ممكن، ووجود كل ممكن الوجود هو من غيره، وليس لكل ممكن علة ممكنة بلا نهاية، بل إن الممكنات تنتهي إلى علة واجبة الوجود؛ فوجود الممكن في الأعيان أو في الأذهان معنى مضاف إلى حقيقته.
18
وقد غلا ابن سينا في التمييز بين الماهية والوجود حتى جعل من الوجود في الموجود الممكن عرضا للماهية.
وقد عارض ابن رشد هذه النظرية معارضة شديدة. إنه لم يعن بمعالجة المسألة بأطرافها دفعة واحدة، ولكنه عرض لها كلما سنحت له الفرصة، وفي كل مرة يعنف صاحبها تعنيفا أليما. قال: «العدم ليس فيه إمكان أصلا.»
19
فاستبعد تلك الفكرة الغريبة التي خطرت لبعض المتكلمين من أن للممكن والمعدوم ضربا من الوجود هو وسط بين مطلق اللاوجود ومطلق الوجود، وذلك لتفسير الخلق «من العدم» على اعتبار أن حرف «من» يفيد أخذا من شيء وأن المأخوذ منه موجود على نحو ما. قال: «الوجود عند ابن سينا عرض لاحق للماهية ... وقد غلط في هذا غلطا كثيرا؛ إذ يسأل عن ذلك العرض، إذا قيل فيه إنه موجود، هل يدل على عرض موجود في ذلك العرض، فتوجد أعراض لا نهاية لها، وذلك يستحيل.»
20 «ولكن هذا شأن هذا الرجل في كثير مما يأتي به من عند نفسه»،
21 «فإن دل (الوجود) على معنى زائد على الذات، فعلى أنه معنى ذهني ليس له خارج النفس وجود إلا بالقوة»،
22
فإن «الوجود في البسيط هو نفس الماهية»،
23 «وإن معطي الوحدانية، التي هي شرط في وجود الشيء المركب، هو معطي وجود الأجزاء التي وقع منها التركيب؛ لأن التركيب هو علة لها»،
24
وإن «معطي رباط الأشياء المرتبطة بعضها مع بعض هو معطي الوجود»،
25
وإن «التركيب ليس هو مثل الوجود، بل مثل التحريك، أعني صفة انفعالية زائدة على ذات الأشياء التي قبلت التركيب، والوجود هو صفة هي الذات بعينها، ومن قال غير هذا فقد أخطأ».
26
ولما ترجم الغربيون إلى اللاتينية كتاب الشفاء لابن سينا، في أواخر القرن الثاني عشر، وشروح ابن رشد على كتب أرسطو، في أوائل القرن التالي، واطلع فيها اللاهوتيون على منطوق المسألة ومختلف الآراء، راقتهم نظرية ابن سينا واتخذوها أصلا يبنون عليه ويفرعون منه، مع تفاوت في التعمق والإحكام. فكان القديس توما الإكويني أبعدهم غورا وأسدهم رأيا كما كان شأنه في سائر المسائل، رأى في قسمة الموجود إلى واجب وممكن رجوعا إلى التعريف الوارد في التوراة، وبيانا للفارق الأول الحاسم بين الله والمخلوقات؛ لقيام هذا الفارق على أول المعاني وأشملها، وهو معنى الوجود، الله هو العلية الأولى، والعلة الأولى موجودة بذاتها ضرورة، فلا تغاير في الله بين ماهية ووجود، بينما المخلوقات ممكنات فقط، ليس الوجود متضمنا في ماهياتها، وإذا أضيف إليها فالإضافة خارجة عن الماهية لا ذاتية لها. وآية إمكانها بادية فيها: فإنها متغيرة قابلة للأعراض، والتغير انتقال من القوة إلى الفعل، وما يخالطه شيء بالقوة فليس يوجد بذاته؛ لأن الموجود بذاته حاصل على كل وجوده فلا يتغير، ولو كان وجودها من ماهياتها لوجدت دائما وعلى حال واحدة كالماهية. وقبل الأعراض لازم من التغير، ونسبة القابل إلى المقبول كنسبة القوة إلى العقل.
وعلى ذلك يقر الإكويني ابن سينا على إثبات التمايز الحقيقي بين الماهية والوجود في المخلوق، ويجد أنه كان قليل التوفيق في جعله الوجود عرضا للماهية، وفي تصوره الإمكان كأنه قوة فعلية كأولئك الفريق من المتكلمين. فيقر ابن رشد على نقيض هاتين الدعوتين، ويلاحظ أن الإمكان لا يعتبر وسطا بين العقل والقوة، وإنما هو قابلية صرف للوجود، ووجوده متعلق بالإرادة الإلهية. وقد يجوز القول بمعنى واسع إن الوجود عرض للماهية من حيث إنه غير داخل في حدها، إلا أن إضافة الوجود إلى الماهية تختلف عن إضافة العرض إلى الجوهر: العرض وجه معين للجوهر، بينما الوجود تحقيق الجوهر ماهيته وملابساتها، وفي الموجود المتحقق بالفعل، ليس الوجود والماهية شيئين تامين متجاورين؛ إذ ليست الماهية موجودة دون الوجود، وليس الوجود شيئا ما دون الماهية، وإنما الوجود فعلية الماهية، أي كونها بالفعل. فنسبة الوجود إلى الماهية نسبة فعل إلى قوة، فاجتماعهما في المخلوق اتحاد تام يجعل منه كائنا ذا وحدة تامة من حيث إن كلا منهما ضروري للآخر متمم له. وهذا تطبيق لنظرية الفعل والقوة بين أهميتها الجلية.
ذلك رأي القديس توما الإكويني في المسألة، فيه شيء من أوائل المفكرين المسيحيين، وشيء من ابن سينا، وشيء منه هو. إن فكرة الخلق هي التي أثارتها ووجهت إلى هذا الحل. لذا لم تخطر للفلاسفة القدماء، أو لم تخطر إلا للذين منهم اعتقدوا بالحدوث في الموجودات وبالقدر الذي تصوروه منه فيها، كما رأينا أفلاطون يتبع الآلهة والماديات لصنع الإله الصانع من مادة موجودة بدونه. ولذا لا يثيرها أصحاب وحدة الوجود إلا قالوا: إن تمايز الوجود والماهية هو في الذهن فقط، من حيث إنهم لا يميزون بين خالق ومخلوق إلا تمييزا ذهنيا، وإنهم يؤلهون الوجود أجمع فيمحون الحدوث ويحلون الوجوب في كل ماهية. ولذا أيضا لا يثيرها أصحاب المذهب الحسي أو الاسمي، من حيث إن التمييز الحقيق بين الماهية والوجود أعمق من أن يظهر للحواس، ولا ينفذ إليه إلا العقل الذي ينكرونه. فهذه المسألة تطبيق فلسفي لعقيدة الخلق، وبيان لتركيب المخلوق وتبعيته في مقابلة بساطة الخالق واستقلاله. هي إحدى المسائل العقلية التي كان العقل غافلا عنها، فنزل بها الوحي، فعالجها العقل بتطبيق نظرية الفعل والقوة من جهة الوجود، فحصل على تركيب في المخلوق هو أعمق وأسبق كل تركيب، ودخلت المسألة هكذا في عداد المسائل العقلية، واستغنت عن شهادة الوحي في إثارتها وفي تأييدها.
هذا وقد خاض فيها بعض الفلاسفة المعاصرين من الوجوديين الملحدين الماديين، ولكن مع العبث بلفظ الماهية بنقله من معناه المتعارف إلى معنى الشخصية، فخلطوا خلطا غريبا. يقول «جان بور سارتر»: إن الاعتقاد بإله خالق هو الذي يوحي بفكرة الماهية النوعية وفكرة سبقها على الوجود، من حيث إن الخلق تحقيق شيء معلوم أولا. أما الذي لا يؤمن بالله ولا بالماهيات النوعية (مثله هو) فإنه يسلم بهذا السبق للموجودات الخاضعة خضوعا تاما للإنية الطبيعية والتي نجدها معينة في كيانها وأفعالها، ولا يسلم به بالنسبة للإنسان، فإن في الإنسان، وفيه وحده، عدم تعيين يتعين بفعل حريته فيكون الشخصية الخاصة بكل فرد من الأفراد والتي هي ماهيته. وبهذا المعنى يكون الوجود سابقا على الماهية، أي إن الإنسان يوجد ثم يصير جبانا أو جسورا، أمينا أو خائنا، عالما أو جاهلا ... إلى آخر ما يتعين به كل فرد. تلك هي الماهية حتى اطرحنا جانبا الماهية النوعية المشتركة بين كثيرين والمستلزمة عقلا يعلمها وإرادة توجدها، وظاهر أن هذا ليس هو المقصود بمسألتنا الميتافيزيقية. (5) العلة الفاعلية
القسمة السابقة إلى ماهية ووجود تقودنا رأسا إلى قسمة الوجود إلى علة ومعلول: ذلك بأنه متى انقسم الوجود إلى واجب بذاته ووجوده عين ماهيته، وإلى ممكن بذاته مركب من ماهية ووجود مفتقر إلى موجد؛ كان لكل موجود علة وجود إما ذاتية وإما خارجية. والإيجاد أو التحقيق أشهر معنى للعلية، ولكنه ليس المعنى الأوحد، ولا المعنى الأول أو الأعم. فالمعنى الأول والأعم أن العلة أو السبب (والاسمان مترادفان) «ما يلزم عنه شيء ما». وبهذا المعنى الأعم تنقسم العلة إلى منطقية ووجودية.
العلة المنطقية تبدو واضحة في القياس والاستقراء حيث المقدمتان علة النتيجة: متى اجتمعتا في العقل لزمت عنهما النتيجة، أي صدرت عنهما ضرورة، فكانت معلولة لهما تبدو كذلك في ارتباط خصائص الموجود بماهيته وتفسير الماهية للخصائص. مثل مساواة زوايا المثلث القائمتين، فإنها لازمة عن ماهية المثلث، وبهذه الماهية يبرهن عليها؛ ومثل العلم والفن والدين فإنها لازمة عن وجود العقل في الإنسان وتفسر به.
والعلة الوجودية: «كل ما يشارك في إيجاد الشيء إما في ذاته أو في وجوده»، فمن حيث ذاته نطلب تعليله بمادته وصورته، وهذا واضح في الصناعيات؛ إذ إننا نفسرها بالمادة المركبة منها، مع الخواص الطبيعية لهذه المادة، وبالصورة أي بهيئة أجزاء المادة، وتركيبها بعضها مع بعض، وتفاعلها بفضل هيئتها وتركيبها. بل هذا واضح نفس الوضوح في الموجودات الطبيعية المركبة، كأجساد الأحياء تفسرها الفسيولوجيا بالمادة والصورة على النحو المتقدم. فالمادة والصورة علتا طبيعة الشيء تجعلانه على ما هو عليه، ومن حيث وجوده نطلب العلة التي حققته، وهذه هي العلة الفاعلية تدل عليها، بقولنا: «كل ما يظهر للوجود فلظهوره علة»، وهذا أدق من قول القائلين: «لكل معلول علة»؛ فإن لفظ «المعلول» يتضمن معنى العلة، وهذا دور منطقي أو مصادرة على المطلوب. ويستقيم القصد إذا عنينا بلفظ «المعلول» ما ليس له بذاته علية ذاته، أي الممكن الذي شأن المعلولية. وأخيرا العلة الفاعلية لا تفعل إلا إذا حملت على الفعل بغاية تحققها، فالغاية علة من حيث إنه لولاها لما فعل الفاعل.
هذه أربعة أنحاء من العلية: تختلف فيما بينها اختلافا كليا، ولو أن كل علة هي علة المعلول بأكمله، ولكن على وجه خاص يستحيل معه أن تقوم إحداها مقام الأخرى، ويتفق في صفة مشتركة تجعل كل واحدة منها علة، وهذه الصفة هي «التأثير»، ولكن على نحو خاص بكل منها: فالعلة الغائية تؤثر في العلة الفاعلية بالجذب أو الإغراء، والعلة الفاعلية تؤثر بالفعل والإيجاد، والعلتان المادية والصورية تكونان الماهية أو الطبيعية. وعلى ذلك فاسم العلة من الأسماء التي تقال بطريق التناسب، أي باتفاق من وجه واختلاف من وجه. ولما كانت المادة والصورة متعلقتين بالماديات، كان محل الكلام عنهما في الفلسفة الطبيعية التي نعرض لها في الكتاب التالي. أما الفاعل والغاية فيمتدان إلى كل موجود، فيرجعان إلى هذا المحل، الذي يضم المعاني المتعلقة بمطلق الوجود، ولقد كان كلاهما هدفا لحملات عنيفة التقت فيها المذاهب والأدلة في العقل وفي الوجود، فالخوض فيهما تلخيص لهذا الكتاب برمته.
هذا المبدأ البديهي الذي نطبقه عفوا وبلا انقطاع، ونبني عليه جميع شئوننا من مادية ومعنوية، قد حمل عليه جمع من الفلاسفة الحسيين والتصوريين، وبذلوا أقصى ما يستطاع بذله من دقة التحليل وبراعة النقاش في سبيل إبطال قيمته وتفسير منشئه. وها نحن أولاء نستعرض حججهم ونرد عليها، وفي هذا الرد نجلو معنى العلية الفاعلية ونوطد الثقة بموضوعيته. الحجة الأولى: تاريخيا ومنطقيا، تلك التي قدمها أناسيداموس، أحد أقطاب قدماء الشكاك، قال: الجسم لا يحدث جسما؛ إذ يستحيل أن يحدث شيء لم يكن موجودا وأن يصير اثنين بعد أن كان واحدا. ولا يحدث اللاجسمي لاجسميا؛ وذلك لنفس السبب، ولسبب آخر هو أن الفعل والانفعال يقتضيان المماسة، واللاجسمي منزه عنها. ولا يحدث الجسم لاجسميا ولا اللاجسمي يحدث جسما؛ لأنهما متغايران، لا الجسم يحتوي طبيعة اللاجسمي، ولا اللاجسمي يحتوي طبيعة الجسم، فالعلية ممتنعة. هذه الحجة ترجع إلى قدماء الطبيعيين وبارمنيدس وبروتاغوراس وسائر الذين لم يميزوا بين الفعل والقوة، فلم يفطنوا إلى إمكان إحداث جسم جسما، وأن يحدث لاجسمي لاجسميا؛ لتكافؤ الطرفين ولإمكان احتواء العلة على المعلول احتواء بالقوة. وإذا سلمنا أن الجسم لا يحدث لاجسميا، فلسنا نسلم أن اللاجسمي لا يحدث جسميا؛ فإن الأعلى إذا لم يحتو على الأدنى بالفعل، فقد يحتوي عليه بالقوة، وقد يحدثه دون حاجة إلى مماسة. وعلى كل حال تكفي كلمة واحدة لاستبعاد هذه الحجة: وهي أنها تنفي التغير من الوجود، والتغير واقع ولا يفسر إلا بالعلية.
وقد جمع هيوم الحجج، كما جمعها من قبله مالبرانش؛ قال: إن مبدأ العلية لا يستنبط استنباطا مستقيما من مبدأ عدم التناقض، وإذن فهو ليس أوليا. وهذه حجة مقدمها حق وتاليها باطل؛ وذلك لأن مبدأ العلية يستند على مبدأ عدم التناقض استنادا غير مستقيم أو بالرد إلى الخلف من جهة أن إنكاره زعم بأن شيئا يوجد دون أن يكون له ما به يوجد؛ وهذا تناقض صريح.
ولكن هيوم يعتبر هذه الحجة قاطعة، فيرتب عليها حجة أخرى هي أن ربط مبدأ العلية بمبدأ عدم التناقض مصادرة على المطلوب. وذلك أن أنصار العلية يقولون: إن الشيء الذي يظهر للوجود إنما يظهر عن علة، وإلا كان علة نفسه؛ وهذا محال، أو كان معلولا للعدم، وهذا محال أيضا. وهم لا يفطنون إلى أن هذا التدليل على العلية يعتمد على العلية نفسها، أي إنه يفترض المطلوب الذي هو ضرورة العلة؛ إذ يجب التدليل على هذه الضرورة قبل الاحتجاج ببطلان وضع العلية في الشيء الذي يظهر للوجود أو في العدم. وجوابنا أن لا وجه للظن بأن في هذه القسمة التي يعول عليها برهان الخلف مصادرة على المطلوب؛ إذ إن النظر ههنا واقع على عين الوجود، أي على موجود يظهر للوجود، فهو بهذا الاعتبار لا يظهر بنفسه، ولا يفعل العدم، فيبقى أنه يظهر بفعل موجود آخر هو علته. وهذه القسمة أولية إطلاقا لأولية معنى الوجودي واللاوجود المركب منهما مبدأ عدم التناقض الذي هو مبدأ أول بلا منازع.
وتفاديا لشبهة المصادرة هذه ندلل على مبدأ العلية على الوجه الآتي: إن إنكار هذا المبدأ يعدل إثبات أن الحدث، وهو الموجود بذاته، يمكن أن يكون غير محدث، وغير المحدث موجود بذاته، فيخرج لنا أن الموجود الحادث غير المحدث هو موجود بذاته ولا بذاته في آن واحد، وهذا خلف.
ويرتب هيوم نتيجة أخرى على استحالة استنباط مبدأ العلية من مبدأ عدم التناقض استنباطا مستقيما، فيقول: وإذن فمعنيا العلة والمعلول متغايران، ويستحيل أن نعلم العلة من المعلول أو المعلول من العلة علما مبدئيا أي قياسيا، إنما هي التجربة التي تعرض علينا الظواهر متعاقبة. ومتى كان معنيا العلة والمعلوم متغايرين، فمن السهل علينا أن نتصور شيئا أيا كان كأنه غير موجود الآن وكأنه موجود في اللحظة التالية، دون أن نرفق به معنى متميزا لعلة أو مبدأ محدث، فيكون الفصل بين معنى العلة ومعنى بداية الوجود أمرا ممكنا. والجواب أن ههنا خلطا بين حالتين مختلفتين: إحداهما مجرد تخيل شيء ما غير موجود ثم تخيله موجودا، والحالة الأخرى مقارنة بين وجوده الآن وبين عدم وجوده في اللحظة السابقة. فما إن نعتقد هذه المقارنة حتى نرى أن خروجه من اللاوجود إلى الوجود فعل علة بالضرورة.
قد تأثر كنط بنقد هيوم تأثرا قويا، فسلم بأن النسبة بين المعلول والعلة خارجة عن مفهومهما، وأن التجربة هي التي تعرض علينا الحدين مرتبطين. ولما كانت التجربة جزئية متغيرة، فهي لا تصلح أساسا للضرورة والكلية اللتين يدعيهما العلم. غير أن كنط كان مقتنعا أشد اقتناع بقيمة العلم، مصرا كل الإصرار على إنقاذه من تشكك الحسيين، وكان عارفا تمام المعرفة أن العلية دعامة القوانين العلمية، وأنه لو كان منشؤها عادة متكونة بتكرار التجربة كما يقولون، لكان بالإمكان، وقد علمنا ذلك، أن نرجع عن اعتقادنا بضرورتها، والواقع أن الاعتقاد بضرورتها مستمر غير منقطع. يبقى أن هذه النسبة آتية من العقل، لا عقل مدرك كما تصوره أفلاطون وديكارت وليبنتز، ويرفضه الحسيون بحق، بل عقل موقوف عند حده، مبرأ من دعوى إدراك الوجود، وظيفته تأليف الأحكام الضرورية.
هذه الأحكام نوعان: أحكام تحليلية، وأخرى تركيبية. الأحكام التحليلية هي التي محمولها مستفاد من تحليل معنى الموضوع، مثل قولنا: «قبلية»؛ لأنها تؤلف «قبل» التجربة أي بدون معونتها، ولكنها أحكام تفسيرية فقط، لا يزيدنا المحمول فيها علما بالموضوع، ولا تفيد في إقامة العلم، والعلم واقع على التجربة.
والأحكام التركيبية تؤلف بين حدين متغايرين مستفادين من التجربة مع نسبة بينهما تبدو ضرورية، فحيث يؤدي إلينا الحس أن «الشمس تسطع وهذا الحجر يسخن»، يؤدي إلينا العقل أن «ضوء الشمس يسخن الحجر»، أي إن العقل يزيد نسبة العلية على الظاهرتين المحسوستين يربط بها بينهما برباط ضروري، فتسمى هذه الأحكام «بعدية»؛ لأنها تثبت المحمول للموضوع أو تنفيه عنه تبعا للتجربة.
27
وعلى هذا الوجه يبرره الحكم العلمي، فلا إنكار للعلم كما ينكر الحسيون، ولا دعوى النفاذ إلى بواطن الأشياء كما يدعي العقليون المسرفون، ولكن توسط بين الفريقين، يحق شيئا عند كل منهما ويبطل شيئا، ويجمع بين ما يحق في مذهب واحد.
ونحن نقول: ذاك وسط ظاهري لا حقيقي، وتلك تعريفات خاطئة وتحديدات ناقصة. فأولا ليس بصحيح أن الحكم التحليلي هو الذي محموله مفهوم موضوعه وحسب، وإنما هو بنوع خاص ذلك الذي يستخرج محموله بتحليل موضوعه في ذاته أو جوهره، من حيث إنه قد يكون للموضوع خواص لازمة له كلزوم المحمول المذكور في مفهومه أو تعريفه، فتكون النسبة بينها وبينه ضرورية أيضا. مثال ذلك ما نراه في الإنسان من علم ودين وأخلاق وفن وضحك وصناعة وحضارة، فإن كل أولئك للإنسان بسبب كونه ناطقا، فتضاف إليه إضافة ضرورية ولو لم تظهر في «النطق» الذي هو حد الإنسان، ولم نفكر فيها وقت تفكيرنا في حد الإنسان.
ثانيا: إن الحكم التحليلي نوعان، لا نوع واحد فقط كما اعتقد كنط وسائر الفلاسفة المحدثين؛ فإن هناك نوعا آخر من التحليل والأولية هو عكس النوع السابق وله عين القوة، ونعني به تضمن المحمول للموضوع، كالفرد والزوج فإنهما قسما العدد ويتضامنانه. وقد نبه أرسطو على النوعين، ودعاهما بالحمل الذاتي أي الإضافة الذاتية.
28
وقال ابن سينا: «الحمل الذاتي يقال على وجهين، فإنه إما أن يكون المحمول مأخوذا في حد الموضوع، مثل الحيوان في حد الإنسان، وإما أن يكون المحمول مأخذوذا في حده الموضوع أو جنسه، مثل الفطوسة التي يؤخذ في حدها الأنف، والمثلث الذي يؤخذ في حده السطح.» وقال ابن رشد: «ما بالذات يكون في القضايا الحملية على وجهين؛ أحدهما أن يكون المحمول مأخوذا في جوهر الموضوع، مثل النطق المأخوذ في جوهر الإنسان، والثاني أن يكون الموضوع مأخوذا في جوهر المحمول، مثل وجود الزوايا المساوية لقائمتين في المثلث.»
29
ففي كل من النوعين يلزم التوحيد بين الحدين؛ لأن النسبة بينهما ذاتية. وترجع العلية إلى النوع الثاني، ولئن لم تكن النسبة بين المعلول والعلة داخلة في مفهوم العلة أو في مفهوم المعلول، كما يريد هيوم وكنط، إلا أنها لاحقة ضرورة لوجود المعلول، من حيث إنه معلول لآخر ويستحيل وجوده من دون أن يكون معلولا، كما يستحيل وجود إنسان غير ضحاك أو وجود مثلث لا تكون زواياه مساوية لقائمتين، فهناك نسبة ضرورية بين ممكن الوجود وبين وجوده الفعلي متى وجد، وهذه النسبة تحليلية، ورفضها رفض لمبدأ عدم التناقض كما تقدم. هي نسبته من المعلول إلى علته أو من الخاصية إلى الماهية، بعكس النسبة من العلة إلى المعلول أو من الماهية إلى الخاصية، والنسبتان ضروريتان لا فرق بينهما في الضرورة. هكذا يحل الإشكال الذي استعصى حله على الكثيرين، وتثبت للعلية قيمتها المطلقة.
وكثيرون، من بينهم كنط، اعتقدوا أن مبدأ العلية، إن سلمنا به، يقضي بالرجوع من علة إلى علة دون الانتهاء إلى علة أولى تكون التفسير الأخير للعلية. وفي هذا الاعتقاد إيهام للمبدأ يعدل الإنكار؛ إذ إن عدم الوقوف عند حد في سلسلة العلل معناه عدم الوصول إلى علة بمعنى الكلمة، أعني علة غير معلولة، وترك السلسلة معلقة. وهذا مناف لمبدأ العلية؛ فإنه في الحقيقة يقتضي علة غير معلولة تكون بداية مطلقة للعلية، ولا صعوبة في تصور مثل هذه العلة، بل إن كل علة فهي بهذه المثابة: أجل إن العلة التي تقبل فعل علة أخرى لكي تصير فاعلة هي علة ناقصة تحدونا إلى التماس علة لعليتها، لكنها من جهة ما هي علة وفاعلة لا تقبل فعل علة أخرى ولا تتغير، وإنما هي تفعل بما لديها من قوة على الفعل، كالساخن حين يسخن والمعلم حين يعلم، فإن الفعل تحقيق في المنفعل للقوة الفاعلية التي في الفاعل، وكل ما هنالك أن للعلة الأولى من القوة وما يغنيها عن كل قوة سواها. فالتسلسل إنكار للعلية لا تطبيق لها كما يحسبون، ومعنى المبدأ أن لكل ظاهرة علة، لا أن لكل علة علة.
بعد رد هذه المحاولات لتجريح مبدأ العلية، نسأل: كيف نحصل على هذا المبدأ؟ إن خصومه مجمعون على أنه غير آت من التجربة، سواء الظاهرة والباطنة. وقد كان هيوم أدقهم تحليلا وأكثرهم إسهابا بهذا الصدد، قال: إن التجربة تؤدي إلينا ظواهر متعاقبة، ولا يشعرنا التعاقب بقوة فيما يسمى علة يحدث بها ما يسمى معلولا. ونحن نعلم أن حركة أعضائنا تعقب أمر إرادتنا، ولا ندرك علاقة ضرورية بين الحركة والأمر، ولا نشعر بأننا نستخدم الأعضاء المتوسطة بين أمر الإرادة والفعل، ولا نفهم كيف يمكن لفعل ذهني كالأمر أن يحرك عضوا ماديا. فللتعبير عن الواقع لا ينبغي القول إن هناك أحداثا، بل يجب الاقتصار على القول إن ظاهرة قد ظهرت. وأما أنها معلول أو ليست معلولا، فهذه مسألة أخرى. وما معنى العلة سوى عادة ذهنية يولدها جريان الظواهر، من خارجية وداخلية، وتحملنا على توقع ظاهرة معينة كلما أدركنا ظاهرة أخرى معينة ارتبطت بها في تجربتنا الماضية، وما يزعم لها من ضرورة ناشئ من أن العادة تجعل الفكر غير قادر على عدم تصور اللاحق وعدم توقعه إذا ما تصور السابق. بل ذهب جون ستوارت مل إلى أن الإنسان المثقف المعتاد التجريد يستطيع أن يعود ذهنه تصور أحداث تحدث بدون علة، وأن الذين يعتقدون بالمصادفة والقدر والمعجزة والحرية هم أناس يعتقدون فعلا بعدم ضرورة العلة.
ولنا على هذه الأقوال ملاحظات:
فأولا:
أن معنى العلة يبدو أوليا في العقل سابقا على تكوين التجربة، ونحن نرى الأطفال يسألون عن العلل وهم موقنون بأن هناك عللا، بحيث يبدو الاعتقاد بالعلية واحدا عند جميع الناس وفي جميع الأعمار، مع أن المذهب الحسي يقضي بأن تكون قوة العادة معادلة لمبلغ التجربة.
ثانيا:
أننا في إبان تكوين التجربة لا نضع علاقة العلية بين كل سابق وكل لاحق كيفما اتفق، ولكنا نسمي «عللا» بعض أشياء معينة، ونسمي «معلولات» أشياء أخرى معينة، ولا نجد من أنفسنا القدرة على عكس هاتين التسميتين: فلم هذا إلا أن يكون مفهوم العلية متحققا في الطائفة الأولى، ومفهوم المعلولية متحققا في الطائفة الثانية.
ثالثا:
محال أن يفلح إنسان في تصور أحداث تحدث بدون علة: فالمصادفة نفي للقانون وليست نفيا للعلية؛ إذ إنها لا تعني أن الأحداث تخرج من العدم، بل تعني فقط أن الأحداث تحدث بفعل علل غير مطردة ولا منسقة فيما بينها. وليست المعجزة نفيا للعلية، ولكنها معلولة لإرادة الخالق التي تقف فعل قانون طبيعي لغرض روحي أعلى. والحرية هي نفسها علة الاختيار والتنفيذ. وأخيرا القدر إما أن يتصور قدرا إلهيا فيرجع إلى العلة الإلهية، أو يتصور قوة عمياء فيكون قوة وعلة على كل حال. وإذن فقد كان مل واهما حين اعتقد أن العلة غير المطردة ليست علة، والحقيقة أنها رباط بين شيئين تكررا أو لم يتكررا. كما أنهم جميعا كانوا واهمين حين اعتقدوا أنهم يفسرون القوانين الطبيعية بالتداعي والعادة، بينما لا يفسر التداعي بغير اطراد الظواهر، فهو معلول لا علة، والمسألة باقية: ما علة اطراد الظواهر؟
رابعا :
وهؤلاء الفلاسفة يعترفون بالعلية مرغمين؛ إذ يستخدمونها دون أن يشعروا، فيدلون على أن الطبع يعود حتما مهما يبذل من جهد في التطبع: إنهم يفسرون معنى العلة بتكرار التجربة، وهذا يعني أن التكرار علة توجد فينا توقع اللاحق بعد إدراك السابق، فيفسرون العلة بالعلية. وهذا كنط يقر بأننا نحس أنفسنا منفعلين في الإحساس، وأنه يلزم عن ذلك أن نعتقد بأشياء خارجة، فيطبق مبدأ العلية، وهو القائل الملح في القول «إن العلة مقولة جوفاء لا يجوز استخدامها إلا في داخل الفكر.» وهذا مل رأى أن العلم مؤلف من قوانين تجمع بين سوابق بعينها ولواحق بعينها، فاتخذ من طرائقه الأربع المعروفة وسائل لفصل «السابق الضروري» كما يقول، من بين سائر السوابق ووضعه موضع العلة، فأقر بوجوب التفرقة بين محضر التلازم أو التقدم وبين العلية، واضطر إلى أن يصف بالضروري السابق المتوقف عليه اللاحق، فوصل إلى هذه النتيجة العجيبة وهي أن لا رباط ضروري بين اللواحق والسوابق، وهذا ما يريده المذهب الحسي. ولكن هناك سوابق ضرورية، وهذا ما يقتضيه العلم وتشهد به التجربة، فهذه السوابق غير ضرورية وضرورية في نفس الوقت! فهل من شواهد أبلغ من هذه على أن المبادئ الأولية مقارنة للعقل، وأنها إن أنكرت بالقول لا تنكر بالفكر، وأن منكريها مناقضون أنفسهم حتما، وأن أهون الرد عليهم بيان هذا التناقض؟
وبعد تفنيد إنكار المفكرين وتفسيراتهم المتهافتة نعود إلى سؤالنا: كيف نحصل على معنى العلة؟ فنقول: إن التجربة الظاهرة في حد ذاتها لا تبين مباشرة إلا عن تعاقب الظواهر، ولا تؤدي إلينا التبعية العلية، فإن هذه التبعية أمر غير محسوس محجوب عن الحواس. وفي هذا نتفق مع الحسيين، ثم نفترق عنهم للفور فنقرر أن العقل هو الذي يدرك معنى العلة حالما تتأدى إليه مدركات الحواس: ذلك بأنه يرى أشياء (جواهر وأعراضا) تظهر للوجود بعد أن لم تكن موجودة، فيحكم بأن ما يوجد بعد أن لم يكن موجودا إنما يقبل الوجود من غيره لا من نفسه. وهكذا يدرك معنى العلة في ضوء معنى الوجود ، من حيث إنه يدرك ابتداء أن ما يحدث فلا بد له من علة تحدثه.
وليس علمنا بالعلة مقصورا على هذا الاستدلال الجاف: فإن التجربة الباطنة تمدنا بشعور قوي بها كلما أظهرتنا على أفعال تصدر عنها وتقر فينا، كالتعقل والتخيل والإرادة، وأفعال أخرى تصدر عنا وتتعدى إلى غيرنا، كاللمس والتحريك والضرب والقطع، وطائفة ثالثة من الأفعال تصدر عن غيرنا وتتعدى إلينا. وفي كل هذا نشعر بأنفسنا فاعلين ومنفعلين، نعلم، ليس فقط أن المعلول يحدث (بعد) الفعل، بل أيضا وبخاصة أنه يحدث (عن) الفعل، وأنه متصور ومطلوب قبل الفعل، بينما التوقع الناشئ التداعي يعني مجرد انتظار اللاحق بعد إدراك السابق. ولذا كان الفعل والمفعول فعلنا ومفعولنا، وكنا مسئولين عنهما بإقرار من ضميرنا، والحسيون في جملتنا، إلا أن يتحدوا الضمائر جميعا فيدعوا أن شعر المعري أو شعر المتنبي ليس لأحد، وأن أقوالهم هم، ملفوظة ومكتوبة، في العلية وغيرها من المسائل، ليست ولا لأحد! وهذه هي فعلا النتيجة المحتومة لمذهبهم إن كانوا صادقين.
ولهذا المذهب وجه آخر: فقد اتخذ وسيلة لتأييد ركنين دينيين: الركن الأول أن الله لما كان الموجود بذاته فهو الفاعل الأوحد، وليست المخلوقات بفاعلة. والركن الثاني: إمكان المعجزات، على حين أن الترابط الضروري بين المسببات والأسباب يقضي على هذا الإمكان. وقد استغل الغزالي هذين المعنيين ضد الفلاسفة؛ قال: «إن استمرار العادة (بالأسباب والمسببات) مرة بعد أخرى يرسخ في أذهاننا جريانها على وفق العادة الماضية، وإن «من جعل مجاري العادات لازمة لزوما ضروريا أحال جميع المعجزات.» «والاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا ما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر:
30
مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والشفاء وشرب الدواء. وإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه يخلقها على التساوق، لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفرق، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وإدامة الحياة مع جز الرقبة ... ونحن نجوز ملاقاة القطن للناس دون الاحتراق، ونجوز انقلاب القطن رمادا محترقا دون ملاقاة النار، وهم (أي الفلاسفة) ينكرون جوازه، وليس له دليل إلا مشاهدة محصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده لا على الحصول به ... ونجوز أن يلقى نبي في النار ولا يحترق، إما بتغيير صفة النار، أو بتغيير صفة النبي ... فإنا نرى من يطلي نفسه بالطلق ثم يقعد في تنور موقدة ولا يتأثر به.»
31
هذا كلام صريح كل الصراحة، لم يقل هيوم أو غيره من المحدثين أصرح منه.
كذلك أراد مالبرانش أن يقيم فلسفة دينية تثبت تبعية المخلوقات للخالق تبعية مطلقة، كما يقتضي معنى المخلوق بالنسبة إلى معنى الخالق، وتناهض الفلسفات التي تضع المخلوقات بإزاء الخالق متقومة بذاتها فاعلة بقوى فيها، وأهمها فلسفة أرسطو وأتباعه من المدرسيين، فشايع ديكارت في إنكار الصور الجوهرية وما تنطوي عليه من القوى الفاعلية في المخلوقات، فلم يبق لها عنده علية، وشايع ديكارت في استقلال كل من النفس والجسد بذاته، وما ينتج عن هذا الاستقلال من استحالة التفاعل بينهما، كما شايعه في الآلية الكونية التي تقصر التفاعل على مجرد صدام خارجي بين أجزاء المادة، بل أربى عليه بأن سلب المادة كل قوة على مثل هذا الصدام، فعاد إلى حجة أناسيداموس وقال مثله: لا علاقة علية من جسم إلى روح، ولا من روح إلى جسم، ولا من جسم إلى جسم، ولا من روح إلى روح، وحشد الحجج المعروفة.
إنا لنعجب لهؤلاء المفكرين كيف لم يتنبهوا إلى الإشكالات التي يثيرها مذهبهم هذا، وهي كثيرة خطيرة: أولها دور منطقي أو مصادرة على المطلوب تقطع عليهم الطريق إلى الله فتقضي على المذهب من أساسه، تليها إشكالات في حق الذات الإلهية، فأخرى في حق الموجودات. أجل يلزمهم الدور أو المصادرة حين يتحدثون عن الله وهم عاجزون عن البرهنة على وجود الله: ذلك بأن علم الإنسان بالله يكتسب بتطبيق مبدأ العلية للصعود من المخلوقات إلى الخالق، ولكن مبدأ العلية مجرح في نظرهم، غير ذي موضوع في المخلوقات وغير ذي قيمة، وإذن فليس يجوز تطبيقه للبلوغ إلى الله. فإن قالوا: إن الوحي وما يستند عليه من معجزات ينبئنا بوجود الله، سألناهم: ألسنا نعرف الوحي من بلاغ السلف للخلف، أي من طريق العلية، فكيف نأخذ بالعلية في هذه النقطة وننبذها في سائر النقاط؟ فسواء أرادوا أن يعتمدوا على العقل أو على النقل فلا مخرج لهم من هذين المأزقين.
ولا مخرج لهم من الإشكالات التي في حق الذات الإلهية: فإنه إذا كان الله هو الفاعل الأوحد الخالق في العباد أفعالهم، فإليه تعود الأفعال الشريرة، فلا يتصف بالقداسة والكمال. وإذا كانت الأفعال الشريرة عائدة إليه، فكيف ينهانا عنها ونحن لا نملك عملا؟ هذا تناقض ينتزع من الله صفة الحكمة. وكيف يتوعدنا بالعقاب عليها، ويعاقب فعلا كما يؤكد الشرع؟ هذا تناقض آخر ينتزع من الله صفة الطيبة وصفة العدل. كذلك نقول في الأفعال الخيرة: كيف يأمرنا بها وليس في وسعنا أن نأتيها بأنفسنا؟ وكيف يعدنا بالثواب عليها، وثبت فعلا كما يؤكد الشرع، ولا فضل لنا فيها؟ فماذا يبقى لله من صفات الألوهية، بل من صفة التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والعدل والظلم؟
وإذا اتجهنا إلى المخلوقات وجدنا فيها شواهد أخرى على تهافتهم: إنها جميعا تبدو ناقصة نازعة إلى الاستكمال، وإذا لم يكن استكمال الموجود بفعل منه فلم يوجد؟ وبخاصة متى كان عاقلا مريدا مندوبا لاستكمال خلقي وديني. ثم إن لكل موجود طبيعة تبدو في أفعاله المطردة، ونحن نسمي هذه الأفعال طبيعية بسبب اطرادها، فإن اطراد الفعل يدل على أنه صادر عن قوة قارة في الموجود، ولكل موجود هيئة أي تركيب من أجزاء أو أعضاء، ولكل جزء أو عضو هيئة وتركيب: فلم هذا التركيب العجيب المتناسق مع خصائص الأشياء بحيث نرى العين مثلا تدرك الضوء واللون ولا تدرك غير ذلك. ونرى الأذن تدرك الصوت ولا تدرك غير ذلك ... وهلم جرا. وإذا ما تلف عضو أو اضطرب جزء منه، انعدم الفعل أو اضطرب بنفس المقدار. فكيف لا نعتبر العضو أو جزأه علة؟ وما وجه الضرورة لتركيبات مختلفة تصدر عنها أفعال مختلفة؟ ولم يحد الله أي شيء من أي شيء بأي شيء أو بدون شيء؟
لقد ظنوا أن في اختصاص الله بالعلية وسلبها عن المخلوقات تمجيدا لله، والأمر على العكس؛ فإن عالما فعالا لأشد إظهارا للقدرة الإلهية وأعظم تمجيدا لله من عالم ساكن ميت مسرح أشباح وأوهام، أليس يقدر الصانع بقدر صنعه؟ فظنوا أن علية المخلوقات قوة إلهية خالقة. والأمر ينحصر في الإخراج من القوة إلى الفعل دون إيجاد من عدم. فكما أن وجود المخلوقات مشاركة في الوجود الإلهي الذي هو وجود بالذات، كذلك علية المخلوقات مشاركة في العلية الإلهية التي هي علية بالذات. فنحن بإزاء علية أولى مستكفية بذاتها، وعلية ثانية قابلة، منها الوجود والقدرة على الفعل. وإن العقل ليقر بالعلية الثانية بداهة، كما هو مشاهد، ويتأيد إقراره البديهي بالأسباب التي ذكرناها. ولابن رشد كلمتان جامعتان حاسمتان لا نرى خيرا منهما لاختتام هذا البحث: «أما الأشعرية فقد أنكروا الأسباب والمسببات، وهذا نظر خارج عن الإنسان بما هو إنسان.» وقال: «العقل إدراك الموجودات بأسبابها، وبذا يفترق من سائر القوى المدركة، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل.»
32
ومن قبله اعتقد الفلاسفة الإسلاميون بالعقل وعلية المخلوقات، وناضل عنهما المعتزلة أروع نضال. (6) العلية الغائية
والعقل هو أيضا الذي يستشف العلية الغائية من وراء الظواهر المحسوسة، ويرى بين الغائية والفاعلية علاقة السابق واللاحق، فإذا رفعنا الغايات رفعنا العقل، وفاتنا التفسير النهائي للأشياء المستند على قضيتين كبريين: أولاهما أن كل فاعل فهو يفعل لغاية، والثانية أن كل مفعول فقد كان غاية قبل أن يفعل، والاثنتان متعادلتان ينظر في كل منهما إلى وجهة. وإنما قدمنا الكلام على العلية الفاعلية لظهورها ولنفعها في الفحص عن العلية الغائية، التي وإن كانت أولية مثلها، إلا أنها أدق على الفهم.
وخصوم الغائية هم الحسيون كافة، ينضم إليهم بعض العقليين، فالحسيون يجحدون العقل ومدركاته، فلا يعتقدون بترتيب سابق، بل يدعون أن كل ما يتكون من أشياء ويحدث من أفعال فهو نهاية ونتيجة لعوالم مادية آلية، ولا تحقيق لغاية. ويفسرون الطبيعة بقولهم إن ذرات المادة تحركت منذ القدم بجميع الحركات الممكنة، وائتلفت بجميع الهيئات، وانتهت إلى الهيئات الراهنة. وإننا نحن الذين نفترض الغايات افتراضا لما نشعر به من توخينا الغاية في أفعالنا، فنتصور الطبيعة على مثالنا، ونقول مثلا: إن للطير جناحين (لكي) يطير، بينما التجربة لا تدل على أكثر من أن الطير يطير؛ (لأن) له جناحين، والجناحان تكونا اتفاقا. هكذا يقولون، والمحدثون منهم آخذون عن القدماء بدون تغيير، أعني عن ديموقريطس، إمام المذهب المادي وتابعيه أبيقور ولوكريس.
وأشياعهم من العقليين يخضعون الطبيعة للآلية كي يفرضوا على العلم الطبيعي أن يكون هندسة وميكانيكا، ومن ثمة ضروريا ومعقولا في عرفهم، فيضعون في المادة قوانين ذاتية تنظمها، ولا يدعونها للمصادقة، وبينما يقف بعضهم عند هذا الحد، مثل سبينوزا، يذهب بعض آخر، مثل أفلاطون وديكارت، إلى إخضاع هذه الآلية لصانع أو خالق، فينتهون إلى سيطرة الغائية على الآلية في جملة الكون. فلنشرع في تعريف العلية الغائية وفي إثباتها. «العلة الغائية هي التي لأجلها الشيء (أو الفعل، وهي) علة بماهيتها ومعناها لعلية العلة الفاعلية، ومعلولة لها في وجودها.» هذه العبارة لابن سينا
33
إيجاز للمذهب العقلي الصحيح الصادر عن أرسطو وعن أفلاطون من قبله، وهي تشير إلى دليل أول بقولها: إن الغائية علة لعلية العلة الفاعلية: ذلك بأنه لولا الغاية لاستوى الفعل وعدمه عند الفاعل، فاستحال عليه الميل إلى أحدهما، واستمر على السكون، فالفعل كما كان فعلا، دليل على أن الفاعل قد ارتضى غاية ارتضيت له غاية، وأن فعله كان لأجل تحقيق هذا الغاية. وبتعيين الغاية يتعين الفعل، فإن الفاعل يبذل فعلا معينا ليحدث مفعولا معينا، والفعل المعين هو الذي يتجه إلى غايته، أي الذي ينتهي بذاته إلى حد مناسب له. ولولا هذا الحد أو الغاية لكان أي فعل يحدث أي مفعول اتفاقا ومصادفة، وهذا ممتنع لامتناع تحرك الفاعل إذا لم تعين وجهة فعله. فالفاعل، كما أنه يحتوي على علة البدء بالفعل، يحتوي كذلك على علة اتجاه الفعل. فالعلة الفاعلية مبدأ الحركة، والعلة الغائية مبدأ قصد الحركة، وهي نهايتها متى صدر الفعل.
هذا بالنسبة إلى الفعل في كل فاعل. فإذا ما نظرنا إلى الفاعل في ذاته، كماهية أو طبيعة، وجدناه كلا منظما، مطرد الاتجاه إلى تحقيق غايات معينة بوسائل معينة هي الخصائص والميول والغرائز والأعضاء. وتعيين الفعل ووسائله أو شروطه، دليل على أن الفعل الصادر عن قوة ما أو ميل أو غريزة أو عضو، هو من جهة أخرى علة هذه القوة، أي الغاية التي وجدت القوة لأجلها، فهو صادر عنها وهي مهيأة له: فلولا الطيران مثلا لما فهم تركيب الجناحين، فالطيران علة الجناحين على نحو ما، أي علتهما الغائية أو ما لأجله الجناحان. وكذلك يقال في الرؤية للعين، وفي السمع للأذن، وفي كل قوة على العموم، فإنها مهيأة لفعلها.
وعلاوة على ترتيب كل موجود على خياله، نشاهد ترتيبا للموجودات فيما بينها: فالحركات السماوية آية في الانسجام، والألفة الكيميائية آية أخرى، فكأن العناصر الطبيعية يختار كل منها أليفا، وبمقدار محدد، فتوجد عنها نفس المركبات. والأرض بينها وبين الشمس مسافة تتيح للحياة الوجود والنمو، والتربة تركيبها ضامن لغذاء النبات والحيوان، وتركيب الهواء يجعل بعضه صالحا للنبات وبعضا آخر صالحا للحيوان، فيشهق هذا ما يزفر ذاك، بحيث لولا النبات ما عاش الحيوان. وثمة أمثلة عديدة لا تحصى إلا بإحصاء العلوم، فإن كل علم عبارة عن ترتيب ما، وبين العلوم ترتيب وترابط، والذين يستهينون بالترتيب محتجين بما يبدو من إخلال به، يسلمونه من حيث لا يريدون؛ إذ ليس يعتبر النقص كذلك إلا بالقياس إلى غاية.
وإذا أخذنا بتمييز كنط بين غاية باطنة في الموجود وغاية ظاهرة خارجة عنه، لم نعط هذا التمييز سوى قيمة اعتبارية: فالنبات والحيوان غايتهما الباطنة من الاعتداء حفظ حياتهما، والأغذية غايتهما الظاهرة، فالغايتان متحدتان. ولا يوجد مثل هذا التقابل إلا باعتبار النسبة من الأعلى إلى الأدنى، أما الأدنى نفسه فهو غاية ظاهرة للأعلى وليس له غاية باطنة تقابله، ففي كل ترتيب الأدنى مرتب للأعلى وحسب. وقد يتعذر تعيين الغاية الظاهرة لموجود ما، ولكن ترتيب هذا الموجود في ذاته دليل كاف على أنه أوجد لنفع وفائدة. وكم من المنافع والفوائد ظلت خافية أزمانا متطاولة ثم بانت للباحثين. فمن المعقول أن نقيس الحاضر إلى الماضي وننتظر استكمال علمنا بالوجود.
فلا محيص من الفرق بين الغائية والمصادفة فرقا حاسما: والواقع أننا نرى البذرة تخرج نباتا من نوعها فندرك أن هذا طبيعي، ونرى المطر والبرد يهلكان النبات فلا نحكم بأن المقصود بهما هذا الإهلاك، بل ندرك أن الأمر يحدث مصادفة. وكلما أردنا نعلل فعلا ما من أفعال أي موجود كان، وجدناه يقتضي غاية بالضرورة، كما أنه يقتضي فاعلا. ليس مبدأ الغاية محض تطبيق تجربتنا الباطنة على التجربة الظاهرة، ولكنه مبدأ مطلق مهيمن على كل موجود وكل فعل. ولا نستثني الإنسان؛ فأفعاله البدنية تعلل بتركيب بدنه، كما تعلل أفعال سائر الموجودات بتركيبها، فتؤدي أعضاؤه وظائفها، أي غاياتها دون أن يريد أو يحس، كالقلب والمعدة وما إليهما. وأفعاله المعنوية وغاياته المقصودة تنتهي إلى غاية أخيرة مركوزة فيه طبعا، هي طلب السعادة؛ إذ إنه يفعل كل ما يفعل ابتغاء أن يصير سعيدا، ولولا هذه الغاية لما خرج من القوة إلى أي فعل، بحيث تعود الغايات المباشرة في الإنسان، أي المعلومة المقصودة، إلى غاية غير مباشرة، وتعود جميع الغايات غايات مباشرة لعلة تصورتها وأرادتها وأوجدتها. فإذا سأل الحسيون، وهم يسألون فعلا: كيف تفعل الغاية وهي معدومة في الحال رهينة بالاستقبال؟ أجبناهم أنها موجودة حالا في قوة الماهية أو الطبيعة، فعالة بها.
وشتان بين هذا التفسير الصادر عن فطرة العقل، وبين التفسير الحسي المعتمد على المصادفة كل الاعتماد: فأولا يفترض الحسيون أن جميع التأليفات الممكنة بين أجزاء المادة قد حدثت تارة أو طورا، وأن كل موجود فهو نتيجة لمحاولات كثيرة، بيد أننا نستطيع أن نفترض أن أبسط التأليفات هي التي تكررت بلا انقطاع لبساطتها وسهولة ائتلافها، وأن التأليفات المعقدة لم تحدث قط أو حدثت نادرا لتعقدها وصعوبة اجتماعها، فكيف نفسر وجود الكائنات المعقدة؟ وثانيا: هم يكلون إلى البيئة غير الحية غير الحاسة غير العاقلة، تكيف المادة حتى تصير حية حاسة عاقلة. والفرق هائل والمسافة سحيقة بين كل درجة من هذه الدرجات والتي تليها، فلا تعبر. وثالثا: هم يتصورون هذا التكييف حركة نحو الأحسن الأكمل، والحركة في ذاتها ممكنة أيضا نحو الأسوأ، فلم حدثت في سبيل التقدم؟ إذا أردنا جعلها معقولة فيجب أن نفترض في السديم الأول اتجاها غائبا؛ إذ إن المادة لا تنتظم من تلقاء ذاتها، وهي بذاتها لا تقتضي تركيبا معينا، فكيف ائتلفت أجزاء الجناحين والأذن والعين وما إلى ذلك من أعضاء عجيبة مدهشة؟
أفليس يلزم القول بسبق الغايات من حيث إن الغاية تنطوي على وحدة نظامية تعين الأجزاء وتعين ائتلافها؟ إن الغاية علة حقا، بل هي علة العلل ما دامت هي التي تبعث الفاعل على الفعل، فيؤثر الفاعل في المادة أو في الصورة أو في كلتيهما. فقولنا: «إن كذا هو من أجل كذا» تعليل حقيقي له مثل ما للعلة الفاعلية من قيمة وجودية وعقلية. يعارض الحسيون الغاية بالنتيجة، وليس بين هذين المعنيين تعارض، بل من الممكن أن تكون النتيجة غاية في نفس الوقت: إذا قيل إن الساعة تقيس الزمان (لأن) أجزاءها منسقة فيما بينها، فليس للقائل أن يستنتج أن هذه الأجزاء لم تنسق (لأجل) قياس الزمان، وإذا قيل إن الطير يطير (لأن) له جناحين، وأنه حي يرزق (لكونه) محكم التركيب، فليس يمحو هذا القول السؤال عمن ركبه وأحكم تركيبه، ولم كان له جناحان، يعترف الحسيون بأن المصنوعات الإنسانية مسبوقة بصورها في أذهان صناعها وبالغاية منها. فإذا ما عرضوا للموجودات الطبيعية التي هي أيضا جميلة منسقة من الوسائل والغايات، أبوا إلا أن يعتبروها نتائج علل آلية: في أي منطق يجوز تقرير نوعين من العلية متضادين كل التضاد لتفسير شيئين متشابهين تمام التشابه، فتكون طائراتنا غائية وأجنحة الطير آلية؟
هذا هو المذهب العقلي السليم، نادى به إنكساغوراس حين قال: «هو العقل الذي رتب الكل، وهو علة الأشياء جميعا.» وسمع سقراط قارئا يقرأ هذه العبارة، فغشيته نشوة عظيمة، وراح يفكر أن جلوسه بالسجن ، مثلا، لا يعلل بحركات عظامه وعضلاته، بل باستصوابه أن يتحمل القصاص الذي استصوبت المحكمة فرضه عليه، وإلا لكانت عظامه وعضلاته حملته إلى بلد آخر. وثبت لديه أن تسميتها عللا منتهى الضلال، وأن العلة الحقة عاقلة تلحظ معلولها قبل وقوعه وترتب الوسائل إليه، فإن شيئا لا يفعل إلا إذا قصد إلى غاية، أو قصد به إلى غاية بتركيب سببها في طبيعته. والغاية لا تتمثل إلا في العقل. أما المادة فشرط للفعل، أو علة ثانوية خلو من العقل، يستخدمها العقل وسيلة وموضوعا، فليس يعلل العالم بالعناصر كعلل أصيلة، بل بعلة عليا عاقلة تسخر العناصر لغايات. واقتنع أفلاطون بهذا الرأي، وراح يبشر به في إيمان وحماسة لا مزيد عليهما، واتخذ منه أساسا أقام فوقه مذهبا كان أول فلسفة عقلية تامة المعالم، واقتنع بالرأي أرسطو، وأشاد بالعقل أيما إشادة: رفعه فوق سائر القوى الداركة، وقال: إنه أشرف جزء في الإنسان، وإن فعله ألذ فعل لأنه تصور الأمور الجميلة الإلهية، بل هو السعادة القصوى، والإنسان لا يحيا على هذا النحو بما هو إنسان، بل باعتبار أن فيه شيئا إلهيا. وهذه القضية النظرية تستتبع نتيجة عملية يعبر عنها الفيلسوف بقوله: «فلا ينبغي اتباع الذين يحثوننا على أن نفكر أفكارا إنسانية لكوننا أناسي، وأفكارا فانية لكوننا فانين، بل يجب أن نعمل كل ما في الوسع لكي نحيا وفقا لهذا الجزء الذي هو أشرف قوانا، فلئن كان صغير المقدار فإنه يعلو على سائر الأجزاء علوا كبيرا قوة وكرامة.»
34
فما أشد الأسف لانحراف الفلاسفة عن هذا الطريق الملكي، وسلوكهم طرقا ملتوية مظلمة لا منفذ لها إلا إلى الإخفاق في تفسير الوجود وفي تدبير الحياة. وهذا الكتاب شاهد على أنهم كثير، وأن الفلسفة لتبدو في معظمها - إن لم نقل في كلها - مشبعة بالشك والإنكار، حتى لقد يظن بنا الكثيرون لأول وهلة قسطا كبيرا من التفاؤل أو السذاجة لمعارضة الشك ومناصرة اليقين، لكنا نأمل أن يقتنعوا بأدلتنا، فيستنير وجه الفلسفة في نظرهم، ويحل الإيمان في قلوبهم، ويفرحوا بالعقل أعظم فرح.
Unknown page