فالأستاذ برود يعرض براهين الإيمان وبراهين الإنكار في محاضراته عن الدين والفلسفة والمباحث النفسية
2
ويبين ما فيها جميعا من مواطن القوة والضعف، ويقول ما مؤداه إن الأدلة على العالم الآخر قد توجد من التجارب النفسية ومن القضايا المنطقية ولكنها لا تلزم المعارض، وإن الفلاسفة الأقدمين الذين اعتبروا الحقيقة الإلهية مقنعة بذاتها؛ إنما سلكوا هذا المسلك لأنهم نشأوا في الجو العقلي الذي كان يتقبل قضايا إقليدس بغير برهان، فإذا تحرج المنطقي العصري من قبول تلك البراهين الفلسفية فقد يتحرج الرياضي العصري مثل هذا التحرج من قبول أحكام إقليدس بعد أن كانت غنية عن كل برهان في رأي الرياضيين الأقدمين، ومثل هذا التغير قد عرض للبراهين المادية فسقط منها في جو العقل الحديث ما كان معدودا من المفحمات.
ويوازن برود في محاضرته عن وجود الله بين الكفتين المملوءتين بحجج المعتقدين والمتشككين، ثم يختمها بهذه المعادلة التي استقر عليها رأيه فيقول: «إن النوع الإنساني إذا استمر على اعتقاده وبحثه في التجارب الدينية فسوف يأتي الزمن الذي تختلف فيه عقائده حتى لا يعرفها من عرفها كما هي الآن، ولكن هذا الحكم يسري بقضه وقضيضه على مدركات العلم ونظرياته، ومن الهزل أن يدعى لنحلة من النحل أنها فرغت من تقرير الحقائق جميعا في هذه المسائل كافة ... ولكن الطرف المقابل لهذا الطرف يهزل كهذا الهزل - وإن لم يكن مثله تماما - حين يزعم أن تجارب الدين كلها وهم وخداع ...»
ويوازن مثل هذه الموازنة في ختام كلامه على ديانات الفاشية والشيوعية، فيذكر قصة الطفل الذي هرب من مرضعته في حديقة الحيوان فأكله الأسد ... ويتمثل بنصيحة مستر بلوك (Belloc)
مؤلف القصة، إذ يستخلص عبرتها قائلا: «صبرا على المرضعة حذرا مما هو أمر وأدهى.» •••
أما الأستاذ جود فقوة المعارضة أدل على فلسفته من قوة التأييد، ومعارضته للمادية أشد من معارضته للبراهين الإلهية، وصفوة كلامه كما أجمله في كتابه عن معنى الحياة (The meaning of life) «أن الكون لا يمكن تفسيره بمبدأ أساسي واحد دون غيره، ولا بد لتفسيره الوافي من مبدأين على الأقل ... فالمادة - على كونها حقيقة واقعة - ليست كذلك على وجه مطلق؛ لأن وقائع علم الحياة تأبى أن تفسر بمصطلحات المادية البحتة.»
وخير ما يستفاد من المادية العصرية، أو الآلية العصرية، في اعتقاد (جود) أنها تعطينا الوقت الكافي لاستملاء محاسن القيم النفسية كالخير والحق والجمال. لأن علمنا بقوانين المادة قد أغنانا عن ملابستها كما كان يلابسها آباؤنا وأجدادنا، فنحن - بحركة أصبع - نطلق من القوى الآلية ما كان آباؤنا وأجدادنا ينفقون العمر وهم يعملون برءوسهم وأيديهم وأرجلهم ، ولا يقدرون على إطلاقه، وادخار هذه الجهود لا فائدة له إن لم نكسب به قيما باقيا في ميادين الخير والحق والجمال، وعلى هذا التقدير يكون العصر المادي أو العصر الآلي مقدمة لعصور أخرى يتضاءل فيها شأن العوامل المادية والآلية جيلا بعد جيل، إن لم يصب بنو الإنسان بنكسة ليست في الحسبان.
وبينا نحن نصحح هذا الفصل ورد إلينا كتاب جود الأخير «رجعة العقيدة» (The Recovery of Belief)
وفي اسمه دلالة عليه. فقد خطا جود في هذا الكتاب خطوة كبيرة نحو الإيمان، ودان بعقيدة شبيهة بعقيدة هكسلي الصوفية، وختمه قائلا: «إنه قد يكون داعيا قويا إلى النظرة الربانية في الكون، ولكنه بالنسبة إلى تفسيرها المسيحي يقف موقف الإشارة دون البرهان.» •••
Unknown page