كلمة تقديم
ما هي العقيدة الدينية؟
سمة العصر
مركز الكون
قوانين المادة
مذهب التطور
المقارنة بين الأديان
مشكلة الشر
محصل وتمهيد
عقائد العلماء
عقائد الأدباء
عقائد الفلاسفة
الفلاسفة الوجوديون
العقيدة الأخلاقية
بعد مليون سنة
تعقيب
كلمة على الغلاف
كلمة تقديم
ما هي العقيدة الدينية؟
سمة العصر
مركز الكون
قوانين المادة
مذهب التطور
المقارنة بين الأديان
مشكلة الشر
محصل وتمهيد
عقائد العلماء
عقائد الأدباء
عقائد الفلاسفة
الفلاسفة الوجوديون
العقيدة الأخلاقية
بعد مليون سنة
تعقيب
كلمة على الغلاف
عقائد المفكرين
عقائد المفكرين
تأليف
عباس محمود العقاد
كلمة تقديم
تجدد البحث في الحضارة الأوروبية الحديثة في مسألة العقيدة الدينية، وشعر كثير من المفكرين أبناء القرن العشرين بخواء النفس من جراء مبادئ الإنكار والتعطيل التي شاعت خلال القرن التاسع عشر، واجتهد بعضهم في التوفيق بين أصول العلم وأصول الإيمان، وحاول آخرون أن يتخذوا لهم ديانة خاصة يطمئنون إليها بعقولهم وضمائرهم ويجدون عندها راحة القلب والبصيرة، وأسفرت هذه البحوث عن اتجاه جديد لا يزال في مفتتح الطريق، فما هو هذا الاتجاه الجديد؟ وإلى أين تنتهي هذه الطريق؟
هل لها مرحلة أخرى ينتظرها الباحثون والمفكرون؟ وهل تستقيم الخطى بعد هذه الخطوة المترددة على منهاج واضح المعالم والغايات؟
في الصفحات التالية جواب هذا السؤال. ونرجو أن يكون جوابا شاملا لوجهات النظر المختلفة، بما يستطاع من الإيجاز في هذا الحيز المحدود.
وظاهر مما تقدم، ومن عنوان الكتاب، أننا نقصر القول على القرن العشرين، فلا نعرض لآراء المفكرين التي سلفت قبل شيوع المباحث الأخيرة في العلوم ومذاهب الأخلاق، ولا نتحدث عن العقائد الموروثة التي يتساوى فيها حكم القرن العشرين وما تقدمه من القرون، فليس للتفكير الخاص بالقرن العشرين علاقة بهذا الموضوع.
كذلك لا نتعرض لأقوال المنكرين الذين جزموا بالإنكار وأوهموا أنفسهم أنه هو الحل الأخير لمسألة الدين ومسألة الحياة والوجود على العموم، فإن الاعتقاد هو الذي نعنيه وهو الذي تجددت له أسباب في القرن العشرين لم تكن ظاهرة في القرون القريبة التي سبقته ... أما الإنكار فلا جديد عليه من علوم القرن العشرين أو من حوادثه وكشوفه أو من تقديراته وفروضه، فمن كان منكرا قبل هذا القرن فأسباب الإنكار فيما مضى هي أسباب الإنكار فيما حضر، وليس عليها من طارئ جديد يتعلل به المنكرون.
إن الإنكار نفي، والنفي لا يزداد ولا ينتظر الزيادة، وإنما تكون الزيادة في جانب الإثبات والتقرير، فما كان محاولة غامضة في زمن من الأزمان يصبح محاولة واضحة في زمن آخر، ثم يصبح محاولة ناجحة أو متفائلة بالنجاح في زمن يليه، ثم ينتقل من المحاولة الضعيفة إلى محاولة قوية، ومن المحاولة المتفرقة إلى المحاولة المجتمعة، ومن المحاولة جملة إلى الثبوت والقرار على وجه من الوجوه.
فقد انتهى إنكار المنكرين عند النفي الحاسم ووقف عنده فلا مزيد عليه.
أما العقيدة فهي التي تحاول وتجتهد، وهي التي تفتح الأبواب الجديدة بابا بعد باب، وهي التي تلتمس الطريق ولا تقف عند الغاية التي لا طريق بعدها، كما فعل المنكرون.
ومما لا شك فيه أن الحضارة الغربية ألجأت مفكريها إلى محاولات جديدة في مسألة العقيدة الدينية، ولا تزال تدفعهم في هذا الطريق وتستحدث لهم في كل فترة من الزمن وجهة يتابعونها ويترقبون ما وراءها. وقد تختلف الوجهات غاية الاختلاف بين فترة وفترة أو بين مفكر ومفكر، ولكنه اختلاف كاختلاف الإبرة المغناطيسية في السفن التي تعبر المحيط المجهول: هذه إلى اليمين وهذه إلى الشمال، وهذه مترددة وهذه عائدة بعد التردد، وكل إبرة في كل سفينة لها حركاتها ولها رجعاتها، ولكنها لا تختلف إلا لأنها تحاول جميعا أن تصل إلى قطب واحد: هو قطب الشمال، وإن تباعدت مواقع السفن وانعزل بعضها عن بعض في آفاق البحار.
مثل المفكرين الذين تختلف وجهاتهم في مسألة العقيدة الدينية، هو مثل الإبر المغناطيسية التي تختلف حركاتها في السفن السابحة لأنها تسبح في المشرق والمغرب وفي الشمال والجنوب وتتحول من جانب على الكرة الأرضية إلى جانب يقابله أو يوازيه، والمهم في هذه الحركات جميعا أن كل سفينة من السفن تحمل إبرتها وأن كل إبرة منها تنجذب إلى قطبها ، ولو لم تكن هنالك إبرة ولم يكن هنالك قطب لما اختلفت الوجهة ولا اختلفت الدلالة على الطريق.
والفرق بين السفن التي تحمل الإبرة والسفن التي لا تحملها، هو كالفرق بين الضمير الذي يطلب الإيمان والضمير الذي تعطل وانتهى إلى التعطيل، فليست السفن التي خلت من الإبرة أهدى من السفن التي تتردد فيها الإبرة ذات اليمين وذات الشمال، وليس الدليل الذي يتردد وهو يتجه إلى القطب أضل من الدليل الذي لا يتردد ولا يشعر للقطب بوجود. بل الواقع أن عكس ذلك هو الصحيح.
كذلك طلاب العقيدة حين يحومون في بحر الظلمات حول قطب واحد: تختلف الوجهات لأنها على وفاق نحو الغاية القصوى، ولو لم تختلف لما كانت هناك حركة ولا كان هنالك اتجاه.
ذلك هو أقرب الأمثلة إلى تصوير الوجهات المختلفة في طلب العقيدة الدينية، ولعلنا نتابع هذه الوجهات على بصيرة من أمرها حين نعرف معنى العقيدة الدينية كما يطلبها أولئك المفكرون، فإننا إذا عرفنا معنى هذه العقيدة عندهم عرفنا ما يطلبونه وعرفنا من أين يطلبونه، وقد نعرف من ثمة ما هي العقبات التي وقفت لهم في الطريق فلم يجدوا كل ما طلبوه.
ما هي العقيدة الدينية؟
نعم، ما هي العقيدة الدينية التي يعنيها المفكرون الغربيون حين يطلبونها أو يحسبونها مطلبا صالحا للمحاولة والاتباع من طريق إلى طريق؟
إن مفكري القرن العشرين في الحضارة الغربية هم أحق الناس بالرجوع إليهم في جواب هذا السؤال؛ لأننا نعرف من الطالب نفسه ما يطلبه ولا نعرفه ممن طلبوه قبله، وإن ظهر أنهم متحدون في الغاية والاتجاه.
وقد بحث المشتغلون بالدراسات الدينية زمنا طويلا في أصول الأديان والمقابلة بين العقائد والعبادات منذ أقدم العصور إلى هذه الأيام، وفسروا معنى العقيدة الدينية كما وضحت لهم من هذه البحوث الطوال.
ولكننا لا نعني عقيدة البحث في هذه الدراسات.
إنما نعني بالعقيدة الدينية ما يشتمل عليه وجدان المفكر في العصر الحديث، ولا نعني بها ما تشتمل عليه أوراقه ومجلداته أو متاحفه ومحفوراته ...
إنما نعني بالعقيدة الدينية طريقة حياة لا طريقة فكر ولا طريقة دراسة.
إنما نعني بها حاجة النفس كما يحسها من أحاط بتلك الدراسات ومن فرغ من العلم والمراجعة ليترقب مكان العقيدة من قرارة ضميره.
إنما نعني بها ما يملأ النفس لا ما يملأ الرءوس أو يملأ الصفحات.
وبهذا المعنى عرفت العقيدة الدينية أكثر من تعريف واحد في أقوال المفكرين العصريين، سواء منهم من وصل إلى اعتقاد واضح يطمئن إليه ومن لم يزل في الطريق، على أمل في الوصول أو على يقين بأن الطريق غير موصد في وجوه الساعين والمتطلعين. •••
بدأ القرن العشرون وعلماء النفس يستحسنون في تلخيص جوهر الديانة مذهب وليام جيمس الفيلسوف الأمريكي المخضرم بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وفحوى مذهبه أن جوهر الديانة هو الإيمان بالبقاء، وأن هذا البقاء مرهون بوجود قوة صديقة للإنسان وراء الظواهر الكونية أو المادة العمياء.
ومما هو جدير بالنظر أن هذا التلخيص من رأي فيلسوف متخصص للدراسات النفسية، وليس من رأي العلماء المتخصصين للبحث في تواريخ الأديان.
ويستحسن اليوم رأي جوليان هكسلي - عالم الأحياء المشهور - في كلامه عن الوحدة بين العقائد الدينية المترقية أو الهابطة على اختلاف طبقاتها، وقد أجمله في تقديمه لمجموعة الآراء التي أذاعتها طائفة من علماء العصر ونشروها باسم «العلم والدين» ... فقال بعد تمهيد موجز عن أثر العلم في العقيدة:
لكن هل هناك في الحق روح دينية واحدة؟ هل هناك في الحق عناصر مشتركة توجد مثلا في نحلة الصحابيين
1 (Quakerism)
ووثنية أبناء الكنغو، أو توجد في زهادة البوذية ونزعاتها الصوفية وفي شناعات الدين المكسيكي القديم؟ هنا أيضا يساعدنا النظر في الديانات المقارنة، فنعلم أن الروح الدينية لا تكون واحدة على اختلاف العصور واختلاف طبقات الثقافة، ولكنها على الدوام تحتوي بعض العناصر المشتركة، فلا يزال الشعور «بالقداسة» كامنا في قرارة كل عقيدة دينية، ولا يزال كامنا فيها كذلك شعور بالتسليم والاتكال؛ لأن الإنسان محوط بقوى لا يستطيع فهمها ولا يستطيع السيطرة عليها، ويدخل أخيرا في كل ديانة نزوع إلى التوضيح والتفسير والإدراك، إذ يعلم الإنسان أنه محوط بالخفايا ويطلب منها على الدوام أن تكون ذات معنى.
إلا أن شعور القداسة هو أعمق الأسس في عناصر كل ديانة، وهو لباب كل حاسة جديرة أن توصف بالصفة الدينية، ولولاها لما كانت للإنسان ديانة على الإطلاق ...
وقد اعتمد جوليان هكسلي في الواقع على الشعور النفساني في رأيه هذا أكثر من اعتماده على تواريخ الأديان، فإنه شعر بقداسة الدين قبل أن ينشدها ويتحقق وجودها في عقائد الأولين والآخرين. •••
والأستاذ «جوردون آلبورت» أستاذ علم النفس بجامعة هارفارد يتكلم في كتابه «الفرد وديانته»
2
عن طبيعة الاعتقاد فيقول:
إنه ينطوي على ثلاثة أطوار الأول فترة التصديق الساذج وهو أوضح ما يرى في الطفل الذي يصدق حواسه وخياله وما يسمعه بغير تمييز، فعقائده الدينية الأولى مستمدة على الأكثر مما يسمع، أي من الواقعية الكلامية، فإن الكلمات عنده والوقائع بمثابة واحدة، وبقاء هذا التصديق الساذج معه مدى الحياة أمر ظاهر ولكنه في الغالب ملازم للعقول التي توقف بها النمو دون التمام أو مقصور على المسائل التي يحيط بها الجهل المطبق أو تتسلط فيها قدوة قوية الأثر، وبعض العقائد الدينية بين الكبار مؤلف من هذا الخليط: أي من التصديق الصبياني والقدوة وما لم يمحصه التفكير.
ومن المعتاد على كل حال أن تأتي بعد هذه المرحلة مرحلة تزعزع قرارها، فإن الشكوك تطرق عقل الإنسان من جميع الأبواب المتقدمة، وهي جزء متصل من كل تفكير مفهوم، وليس في وسع الإنسان أن ينشئ له عقيدة مستقلة قائمة على الملاحظة والتفكير المفيد ما لم يواجه النقائض التي يشتمل عليها كل عرف مسموع.
والمرحلة الثالثة هي مرحلة الاعتقاد الناضج، وهي تتطور - مع المشقة - من تراوح الشكوك والتوكيدات التي يتسم بها كل تفكير مفيد ...
ثم يسأل الأستاذ: هل الإيمان والاعتقاد شيء واحد؟ فيقول: إن الكلمتين تستخدمان أحيانا بمعنى واحد، وهما في بعض المواطن تعبران عن معنيين مختلفين؛ لأن التسليم غالب على الإيمان. أما الاعتقاد فيقترن أحيانا بمعرفة بعض الأسباب، ولو من قبيل التقدير والترجيح.
قال: «ويبدو أن الإيمان أحر شعورا من الاعتقاد، فهو يجازف على علم بالمجازفة؛ لأنه يشعر بأن الثقة أقوى ونتيجة الرهان أنفس وأغلى.»
ثم استطرد إلى التفرقة بين الشعور الديني الخالص وبين الشعور الذي يمتزج بالخوالج النفسية الأخرى، فقال: إن أبسط وسيلة نبتدئ بها هي الرجوع إلى تعبيرات المتدينين. وضرب مثلا لذلك عبارتين من كلام القديس توماس كمبس (Kempis)
حيث يقول عقب الدعاء: «إن أشواقي كلها تتنهد إليك»، وحيث يقول من عظة قصيرة: «لو كان الله هو صفوة المقاصد التي نتشوق إليها لما خامرنا القلق بهذه السهولة.»
قال الأستاذ في التعقيب على العبارة الأولى ما فحواه: إن الشمول الواضح في قول القديس «أشواقي كلها» هو آية الاعتماد الديني في طبيعته، وإن النفس لا تقبل التجزؤ والتفرق وهي تتجه بأشواقها إلى معبودها، ثم قال في التعقيب على العبارة التالية: «أتراني على خطأ حين ألمح في هذه العبارة دليلا على طبيعة الاستطلاع أو الاستقراء في العقيدة الدينية؟ أليس معناها أن العقيدة إذا كانت قويمة سديدة وجد المؤمن مشكلاته محلولة مفسرة ووجد قلاقله ومخاوفه مهدأة مستقرة؟ ... إنه لخليق إذن أن يهتدي إلى كشوف من المعرفة والفضيلة ...»
يريد الأستاذ أن الإنسان يطلب المعرفة من وراء العقيدة والإيمان، وأنه ينظر إلى الإيمان كأنه برهان على أنه قد وثق بالله فاستحق أن يهديه في طريق المعرفة، ويتجلى عليه بما هو أكبر من قدرته لو اعتمد على عقله وفهمه.
فموقف المؤمن من الله كموقف التلميذ الذي يطمئن إلى علم أستاذه فلا يمتحنه ولا يتردد في قبول دروسه ومعارفه، فيكون هذا الاطمئنان برهانا على أنه تلميذ صالح للتعلم مستحق للمكافأة وحسن الجزاء. •••
ولا يظهر في هذه السنوات معهد مشتغل بالبحث في قضايا العصر الحاضر إلا كان البحث في مسألة العقيدة من أوائل بحوثه الهامة التي ينشر فيها الرسائل ويذيع فيها المحاضرات والأحاديث، ومن ذلك مكتب المسائل الجارية بلندن (The Bureau of Current Affairs)
فإنه عهد إلى الأستاذ جيسوب (Jessops)
أستاذ الفلسفة وعلم النفس بجامعة هل (Hull)
أن يكتب رسالة في موضوع الحاجة إلى الدين، فكتبها بعنوان «لم الدين؟» وعرض في الفصل الثاني منها لمقومات العقيدة الدينية فقال: «إن الفكرة الأساسية فيها تقوم على حقيقة فوق الطبيعة تخضع لها كل حقائق الطبيعة، ولا بد أن تكون أفضل من الطبيعة وأن يكون الإنسان قادرا على أن يتصل بها صلة شخصية. وواضح أن هذه الفكرة هي فكرة الإله.
ولا بد أن نلاحظ أنها تشتمل على عناصر ثلاثة، وأن غياب عنصر منها يخرج بها في نظر العقل العصري من عداد العقائد الدينية فلا ينطبق عليها وصف الربانية، فإذا كان هناك قوة فوق الطبيعة لا سلطان لها على الطبيعة فقد يروقنا أن نراقبها وأن نعقد الجلسات لمناجاتها والتحدث عنها وننظم الأناشيد في وصفها وأن نجعلها موضوعا من موضوعات الاستطلاع والفن لا من موضوعات الديانة، إذ هي لا تعيننا على الحياة ونحن مركبون بحياتنا في وسط الطبيعة ... وإن كان هناك من الجهة الأخرى قوة فوق الطبيعة ليس فيها إلا أنها قوة فقد نرهبها ونفزع منها، ولكننا لا نعظمها ولا نتعبد لها ولا نكون دينيين في اتصالنا بها، وإنما قصاراها أنها العصا الكونية الكبرى أو العلة الأولى، ونحن نأبى أن نصف شيئا بوصف الربانية ما لم يكن أسمى وأقدر من كل شيء نعرفه في نطاق المكان والزمان. وإذا بحثنا فيه انتهى بنا البحث إلى أننا نقصد به روحا كاملا أو عقلا كاملا، فلا ننحني ساجدين لشيء دون ذلك.
وجملة القول أن الديانة تلتمس كائنا نستطيع أن نتجاوب معه تجاوب الفهم، فلا يتحقق هذا الشرط في غير كائن عاقل. ومن ثم تفيد كلمة الله في العقل العصري معنى الروح الأعلى الأكمل الذي يستجيب لقربان الإنسان، فالسمو والكمال والاستجابة هي العناصر الثلاثة التي يتم بها قوام الفكرة الدينية، والكائن الذي تجتمع له هذه الصفات أهل منا للعبادة وله أن يفرض علينا أرفع الفضائل وأن يعيننا على بلوغها، وصلاتنا له ذات معنى ...»
ثم قال بعد الكلام عن استجابة المطالب الإنسانية: إن للدين في العقل الإنساني جذرين آخرين، هما الحزن والفرح. إذ هناك حالات من العذاب النفسي نحار فيها ونعجز عن احتمالها، فتدفعنا النوازع التي لا سلطان للتعليم عليها إلى ملجأ وراء الجماعة الإنسانية، بل وراء الأكوان الطبيعية، نبغي فيه نورا يضيء لنا ظلمات الحيرة وعزاء أو قوة على احتمال آلامنا ... نبغي ذلك في ملاذ فوق هذا الكون كله قد يكون هنالك أو لا يكون، وربما كانت طبيعتنا عابثة بنا في هذه الحالة عبثا قاسيا، ولكننا هكذا نحن في طبيعتنا، وهكذا يكمن فينا باعث آخر من بواعث التدين والعبادة.
أما الفرح فمن أنواعه ودرجاته أيضا ما يرتفع بنا صعدا ولا يقف بنا عند المتعة به وحسب، بل يرتفع العقل كله علوا إلى طباق أعلى بكثير من موضوع الفرح نفسه، وباعث هذا أن الفرح العظيم يولد في نفوسنا عرفان الجميل، فنود أن نشكر أحدا ولا نرى إنسانا جديرا بمثل هذا الشكر، فنرتفع بالشكر إلى النجم البعيد!
ذلك شعور طبيعي هو كما لا يخفى أحد الأجنحة التي تعلو بالعقل إلى ما فوق الطبيعة، فإن كان وهما فإنه لوهم سعيد.
ولن تستطيع التعليلات النفسانية أن تقيم الديانة على أساس مطالبنا وحاجاتنا دون غيرها، فإننا لا نستطيع أن نفسر ظواهر الكون ولا أن نستخرج طبيعة التدين من مجرد التنقيب عن المطالب والحاجات في نفوسنا، إذ لا ريب أن الديانة تأتي إلينا من الخارج كما تنجم في نفوسنا من داخلها. ونحن نستجيب كما نطلب الجواب، وعندنا إلى جانب التجارب التي تعتلج في باطن النفس تجارب أخرى تنتزع منا وتفرض علينا من خارجنا، منها الروعة التي لا منجاة منها لأحد منا في طوال أيامه، ولا حيلة لإنسان في تلك المواقف التي تروعه وتتعاظمه حيث يواجه أطوار الطبيعة وأزمات البشرية فردية كانت أو جماعية، وتلك العوارض التي نسميها تارة بالخفية وتارة بالغيبية. كذلك تطل علينا الروعة حين نفكر في الكمال أو نحسه في نفاذ وقوة، وليست الروعة هي الخوف وإن كانت لا تخلو منه، إذ هنالك فرق بين مجرد الخوف من جلالة الطبيعة أو سر الموت وبين الشعور أمامها بالروعة. وكأنها خوف محلول في مزيج آخر من العناصر والأخلاط، ففيها خوف ودهشة وإعجاب وإحساس بضآلة وجودنا، فإن يكن ثمة شعور له سمة خاصة من سمات التدين فهو هذا الشعور لا مراء، وقد ساور الإنسان من قديم ويساوره اليوم، ولن يزال للإنسان دين على نحو من الأنحاء ما دام له شعور من هذا القبيل، فما كان غاية الأمر في هذا الشعور أنه جواب من طبائعنا للعالم المجهول، فقد يوجد هذا الجواب الشعوري في نفس الفلكي كما يوجد في سائر النفوس، ولكنما هو محور العبادة في الصميم.
إن الدنيا فيها من العظم الكفاية بغير ما فوق الطبيعة، فإذا أضيف إليها فوق الطبيعة بدا الإنسان أصغر وأصغر، وإن الزمان لمن الطول بحيث يرينا التاريخ كله مسافة جد قصيرة، فما هي حياة الإنسان إذن حين تقاس بمقياس الأبدية؟ وإن الإنسان إذا قيس بروائع الطبيعة لا يتراءى صغيرا وحسب بل حقيرا مع صغره. فما أخس ما يبدو لنفسه إذن حين يعقد المقارنة بينه وبين الكمال المطلق! إن إضافة الآفاق الربانية إلى وجودنا تهبط بالإنسان إلى منزلة مزرية، ولهذا كان اتضاع النفس وتهوين شأنها حالة من الحالات الدينية المأثورة، فلا مناص مع الإيمان بالله من القضاء على الكبرياء.
بيد أن الديانة لم تكن قط مقصورة على التمرغ والاستكانة، بل هي - مع هذا التهوين من شأن النفس - قد نفخت روح الكرامة حتى في النفوس التي لا يخولها أبناء نوعها حظا من الكرامة. إذ كان المخلوق الذي يقدر على معرفة الخالق قمينا أن يتصل به ويفقه مشيئته ويظفر بقبس من كماله ويصبح محلا لعنايته، ولا جرم يتعالى مخلوق كهذا أن يكون هملا في نظام الطبيعة، فإنه لروح على أوفى وأرفع حظ من الصلات الروحانية، ولن يكون من أجل هذا خاضعا كل الخضوع لطغيان الطبيعة، ولا تموت روحه مع الجسد حين ينقضي أمده، بل تنطلق في حياة لا عائق لها، أو كما قال أفلاطون: إن العقل الذي يسمو إلى معرفة الحقائق الأبدية لا يفنى حيث يتداعى الجسد، وفي معظم الديانات - ولا سيما المترقي منها - إيمان بخلود الإنسان ... •••
ومن علماء النفس الذين وضحوا الشعور بالعقيدة الدينية من الوجهة السيكولوجية أستاذ في جامعة «كلارك» مارس العلاج بالوسائل النفسية ومنها وسائل الإيمان، وهو الأستاذ رايموند كاتل (Cattell)
صاحب كتاب «علم النفس ومسألة الدين»
3
وفيه يقول عند الكلام على التحليل النفساني والخواطر الدينية: «إن الصلاة تتراجع - بازدياد - إلى الاكتفاء بتحسين الشخصية والمحافظة على الروح المعنوي في الفرد أو الجماعة، وبهذه المثابة لا يستطيع علم النفس أن ينكر جدواها على اعتبارها من الإيحاء الذاتي، ولكنها على هذا قد تنتحل لنفسها مزية لا ضرر فيها: وهي مزية الإرشاد إلى مزاولات عملية تزيد من قابلية النفس للاستيحاء والاستجماع. ومما تقدم القول فيه عن خلود النفس نلخص أصولها النفسانية - أي أصول الصلاة - في هذه المراجع الثلاثة: العودة إلى عادة الاسترسال مع التفكير الذي يسر ويرضي، والاستمرار في تجارب الإنسان البدائي في الأحلام والخيالات، وضرورة الاحتفاظ بالوازع الأخلاقي لمجازاة الذين عجز العدل الإنساني عن جزائهم في هذه الحياة ...»
ثم يقول في تعليل النزوع الديني المفاجئ في بعض أطوار النفس الإنسانية: «يبدو على العموم أن هذا النزوع يعلل بأن الفورات الجنسية في طور المراهقة يقابلها في هذا السن زواجر كابحة من الآداب التي تربط بالأهواء الجنسية كثيرا من إحساس الجريمة أو الخطيئة، وكلما اشتد التدافع بين التعبيرات الجنسية والأهواء الكامنة وبين الزواجر الأدبية أحاط بالنفس القلق والندم وتخلصت منهما فحلت المشكلة بالإعراض عن الشهوات والاعتزاز بالذات تساميا إلى حب بني الإنسان جميعا بديلا من الحب الجنسي، وإلى مقاربة العزة الإلهية بديلا من الاعتزاز بالذات ...»
ويقول الأستاذ كاتل بعد ذلك: إن الدراسات النفسية لم تستلزم وجود حاسة دينية خاصة، فإن هذه الحاسة الدينية مجتمعة من خوالج الخوف وأهواء الجنس وروح الجماعة وتوكيد الذات والتطلع والتسليم.
ومن جملة آراء الأستاذ في هذا الكتاب يظهر جليا أنه يقفو آثار العالم النمسوي المشهور «فرويد» أشد علماء العصر إغراقا في تكبير شأن الغرائز الجنسية وإدخالها في تفسير كل قوة نفسية تحتاج إلى تفسير. وخلاصة فلسفة فرويد هذه أن هواجس العصبيين هي بالنسبة إليهم ديانة فردية خاصة، وأن الديانات العامة هي الهواجس العصبية بالنسبة إلى نوع الإنسان، وأن الضمير هو مناط الأنانية النوعية في طوية كل فرد، كأنه الذات العليا فوق ذوات الآحاد.
على أن صاحب هذا الكتاب يقرر في أول الفصل الثالث من كتابه أن العلماء والأتقياء معا يعلمون بعد بحث يسير أن وجود دواعي الوهم مركبة في طبائع البشر لا يستلزم القول بأن وجود الإله وهم من هذه الأوهام. •••
ومن الفلاسفة وعلماء النفس من يؤمن «بالعقيدة الروحية» ويفهم من «الروح» أنها قوام حياة الإنسان الأدبية والوجدانية، ولا يرجع بها إلى مصدر وراء الطبيعة.
من هؤلاء الفيلسوف الألماني ماكس أوتو الذي عاش في الولايات المتحدة وكان رئيسا لمجمع الفلاسفة في الأقاليم الغربية، ومن كلامه الذي يلخص مذهبه ومذاهب أمثاله في الرأي فصل عن «الأشياء والأمثلة العليا» يقول فيه:
ليكن في قرارة قلوبنا أن الروح ليست اسما لشيء ولكنها اسم لحياة، وأن خلاص الروح ليس بالسلعة أو المنحة التي تشترى أو تستعطى، ولكنه تطور نبلغه ونترقى إليه، وأن تخليص روح الإنسان ليس بالعمل الموقوت الذي يتم في ساعته ولكنه سعي طويل يستغرق مدى العمر كله، وليس هو إنقاذا لكيان مبهم لا تعريف له في سبيل التأهب لحياة مقبلة، ولكنه خلق لنموذج من الشخصية من طريق الاعتراف بالقيم البينة التي تدور عليها تجارب كل يوم. إنه نضج باطني ويقظة لمعاني الحق والجمال وكرامة الحياة ... •••
وتكلم ماكس شوين (Schoen)
أحد مؤلفي المكتبة الفلسفية
4
عن العلاقة بين العقيدة الدينية والعقل في كتابه «تفكير في الدين» فقال من فصل عن الحاجة إلى التفكير في الدين:
إن الإيمان لا يعرف الهوادة ولا يقبل الاستثناء، ولكن الاعتقاد (Belief)
هوادة وتسوية عملية يتطلع صاحبها إلى ما يغنمه الداعي إليها والمستجيب لها. إنه وسيلة في الديانات للاشتراك بين الناس في معيشة واحدة وشغل واحد باسم الله. وهذا الاعتقاد الديني يتبع الخلاف بينه وبين العقل لأن العقل لا يساوم ولا يذعن، ومن دأبه أن يتغلغل في بواطن كل شيء يعرض عليه باسم الحقيقة، وإن الذين يضعون الاعتقاد موضع المناقضة للعقل ليفعلون ذلك عن خطأ منهم في فهم الاعتقاد والديانة، والعقل يبطل الخطأ.
إن منطقهم يجري على هذا القياس: ما نريد تصديقه مخالف للعقل، ولكن الأمر الذي نصدقه لا يجوز أن يكون باطلا، ولهذا ينبغي أن يصبح اعتقادا ولا يتقيد بموافقة العقل.
وعلى هذا النحو يصبح الاعتقاد مسوغا لكل هاجسة أو استحالة تحيك في نفس المعتقد.
أما الذين يرون أن الأصول الدينية تجري مع العقل ولكنها أرفع منه وأسمى، فهؤلاء يتكلمون عن الصواب أو التصويب (Rationalization)
ولا يتكلمون عن العقل. فإن الفكر إنما يعمل ليكون شيئا من شيئين، فإما أن يعمل للامتحان والنقد وإما أن يعمل للتسويغ والقبول، فإذا عمل للامتحان فهو العقل، وإذا عمل للتسويغ فهو الصواب أو الحكمة ...
ثم ينتهي المؤلف من بحثه في هذا الفصل إلى أن العقائد الشائعة كثيرا ما تخل بمعنى الدين، أو أن الديانات التي تناقض العقل هي تطبيق غير صحيح للدين الصحيح، فهناك دين واحد في الجوهر ولكنه يصبح ديانات شتى في حيز التطبيق. •••
وقد نشر الكاتب الإنجليزي أرنست مارتن (Martin)
مجموعة من الآراء لأساطين المفكرين سماها البحث عن عقيدة
5
قال في تقديمها عن معنى العقيدة العصرية:
ليس من الخير أن نقول - كما يقول كثير من الشكوكيين الأذكياء - إن الديانة نبعت من الخوف، أو إن الإيمان بما فوق الطبيعة إنما هو مجرد تعويض لما في دنيا الواقع من الجهامة والعبوس، فإذا كان هذا ولا ريب صحيحا في حالات الديانة الهمجية فليس هو بصحيح في موقف الإنسان المتحضر من المسيحية، وقد كان الهمجي يعبد أربابه وأرواحه لأنه يشعر بالرعب من الحياة والموت، ولكن المخاوف الصبيانية والخرافات المضللة قد زالت اليوم مع اتساع نصيب الإنسان من الفهم، وبقيت العقيدة ولم يكن للجماعات البدائية غنى عن السحر حيثما دعتها الحاجة إلى تنظيم مراسم العبادة، وليست كذلك جماعات الإنسان في الحضارة العصرية، فإن الإنسان العصري لا حاجة به إلى السحر وفي وسعه أن يتأمل الخير ويسعد بالسعي فيه وهو يعلم أنه ينبوع السعادة ... إن العقيدة لهي اسم آخر للشجاعة. وقد قيل بحق إن الديانة الصحيحة هي خطار - أو رهان - على الحياة كلها معلق على وجود الله ... •••
وقد تكلم اثنان من رجال العمل والسياسة عن العقيدة من حيث القيمة العملية في حياة الآحاد والجماعات.
فالمؤرخ المشهور هربرت فيشر الذي تولى وزارة التعليم زمنا في الحكومة الإنجليزية يكتب عن السيدة التي أسست جماعة العلم المسيحي التي تعالج أمراض الروح والجسم بقوة الإيمان، فيقول في كتابه (ديانتنا الجديدة):
دلت التجربة على أن الدقة في تصوير ما فوق الطبيعة قليلة الأثر في اجتذاب الناس إلى الديانة، وأن شيوع ديانة من الديانات يرجع على الأرجح إلى مبلغ ما تلبيه من مطالب النفس البشرية قبل رجوعه إلى مطابقتها لوقائع الحياة، وما كانت أسخف السخافات لتصد أناسا عن قبول دعوة تملأ في قلوبهم فراغا من حاجاتهم الروحانية، فهم يأخذون ما يطلبون وينبذون ما لا يدركون، وثمة قيمة محققة للدعوات الجريئة. وقد قال رينان إن الإنسان يولد وسطا ولا طاقة له بعمل ذي بال حتى يتعلق بحلم من الأحلام.
هذا واحد من المفكرين الذين اشتغلوا بالسياسة والإدارة ونظروا إلى الديانة من ناحية القيمة العلمية. أما الآخر فهو الشاعر الناقد اللورد فانسترت (Vansittart)
الذي قام بمهام السياسة الخارجية زمنا طويلا في الوزارة البريطانية، وقد سئل أن يقدم المجموعة التي كتبها طائفة من المفكرين عن مستقبل العقيدة فقال: إن فقدان الثقة بما فوق الطبيعة على صلة بفقدان الثقة بأنفسنا، وكلاهما لم يسعد أحدا، بل أعقب بعده خللا في ميزان الحياة، لم تصلحه مذاهب الشك واللذة.
ثم أشار إلى فقدان العقيدة في فرنسا فقال إنه ساقها إلى المسالمة والاستسلام قبل الأوان، وإلى فقدان العقيدة في ألمانيا فقال إنه ساقها إلى بديل لها من العصبية والنازية، ولولا البحر حول الجزر البريطانية لساقها فقدان العقيدة إلى مصير كهذا أو ذاك، وختم مقدمته قائلا: «لقد آن الأوان «أولا» لتعديل التشبث ببعض الأفكار والمراسم التي لا توافق المطالب العصرية، و«ثانيا» للعلم بأن العقيدة قد عرضت نفسها بعمل يديها لعوائق شتى، و«ثالثا» إن السلطان الروحاني تزداد صعوبات التوفيق بينه وبين المساوئ السياسية، مما قد بينت في غير هذا الموضع وسائل اجتنابه، و«رابعا» إن الأمل في التجديد والبقاء ينمو كلما فصلناه من الأدعياء، وقد يحسن أن نحلم ونحن مفتوحو الأعين فإنما نحن وأعمالنا مصنوعون من مادة الأحلام، ولكن لا شيء يمكن أن يقام على أساس من الهواء، و«خامسا» إن فصائلنا لا ينبغي أن تضر بوطننا، ومن ثم لا غنى لنا عن مزيد من الحيطة ومزيد من المعرفة، و«سادسا» إنه في الخيار بين الحيطة والمعرفة ستظل العقيدة قوام ما نرجوه وإن لم تكن على الدوام برهانا على ما نجهله ...» •••
تلك نماذج متفرقة من أطراف متعددة، نحسبها كافية للتعريف بمعنى العقيدة كما يفهمها مفكرو هذا العصر في الحضارة الأوروبية، وقد لاحظنا في جمعها التعويل على التجارب النفسية أو التجارب المنقولة من الحياة، ولم نعول كثيرا على روايات التاريخ ودراسات المقارنين بين الديانات كما تحفظها السجلات والمأثورات؛ لأننا في هذه العجالة إنما ننظر إلى العقيدة الحية كما يعيش بها الأحياء المثقفون في العصر الحاضر.
ويتبين من جملة الآراء المتقدمة أن العقيدة التي يصح أن توصف بالدينية هي العقيدة التي تعتمد على سند فوق الطبيعة، وأن العقيدة على أية حال قوة مطلوبة لا يستغني عنها من وجدها ولا يطيق الفراغ منها من فقدها، ولا يرفضها من اعتصم منها بمعتصم واستقر فيها على قرار.
سمة العصر
في مفتتح القرن التاسع عشر وجه نابليون بونابرت سؤالا إلى علامة الفلك في زمانه «لابلاس» عن عمل القدرة الإلهية في تنظيم الأفلاك السماوية، وكان لتوجيه هذا السؤال إلى «لابلاس» سبب خاص: وهو ظهور كتابه عن علم الحركة العلوية «أو الميكانيكا السماوية»، وفيه يشرح حركة الفلك ويعللها بالقوانين الآلية كما يدل اسم الكتاب، فقال علامة الفلك مجيبا سائله الكبير الذي كان يقول في الدين بمثل قوله: إنني لم أجد في نظام السماء ضرورة للقول بتدبير إله!
ومضى القرن التاسع عشر إلى نهايته والرأي الغالب فيه بين المشتغلين بالعلم والمؤمنين به هو هذا الرأي الذي تحدث به لابلاس إلى نابليون: إن العلم كاف كل الكفاية لتفسير جميع الأسرار!
كتب السير جيمس فتز جيمس ستيفن في سنة 1884 فصلا يعتبر يومئذ مثالا للآراء العلمية في تلك الفترة، فقال: إذا كانت الحياة الإنسانية في نشأتها قد استوفى العلم وصفها فلست أرى بعد ذلك مادة باقية للدين، إذ ما هي فائدته وما هي الحاجة إليه؟ إننا نستطيع أن نسلك سبيلنا بغيره، وإن تكن وجهة النظر التي يفتحها العلم لنا لا تعطينا ما نعبده فهي كفيلة أن تعطينا كثيرا مما نستمتع به ونتملاه.
إن بعضهم يظن - أو يقول إنه يظن - إن الحياة كما يصورها العلم لا تستحق أن نحياها، وهو في رأيي ظن باطل، فنحن في هذه الحالة خلقاء أن نحيا على أصول غير التي تعودوا أن يعتقدوها، ومن حقق النظر إلى موقفه الصحيح وكان على حظ وسط من موارد العيش فالحياة ستظل عنده جد رضية، وإن الدنيا في نظري لموطن مستطاب جدا لو أنه يدوم، وفيها ملؤها من الناس الظرفاء والأشياء العجيبة، بحيث يسع الأكثرين - على ما أحسب - أن يغضوا أبصارهم عن إدمان النظر إلى طبيعتها الزائلة، وسيبقى الحب والإخاء والطموح والمعرفة والأدب والفن وأمور السياسة والتجارة والصناعات والحرف وألوف غيرها سارية في مسراها كما كانت من قبل دون حاجة إلى إله أو حياة مقبلة، ومن كان من الناس عاجزا عن تصريف كل لحظة من لحظات يقظته في شاغل من هذه الشواغل، فهو لا محالة على حظ سيء بالغ السوء في تكوينه أو مرافق عيشه، أو هو لا محالة مخلوق جد هزيل.
ولا ننكر أن قضايا اللاهوت الكبرى نبيلة فخمة، وأننا إذ نتخيل أن الدنيا من صنع خالق على الغاية من الحكمة والغاية من القوة، وأنه على نحو خفي لا نحيط به هو كذلك على الغاية من الطيبة، وأن الأخلاق إنما هي شريعة صادرة إلى الناس من قبل هذا الخالق العظيم، وأن هذه العوالم الظاهرة إن هي إلا جزء يسير من هذه الشريعة التي يوصف بها خالقها - كل أولئك إذ نتخيله شيء عظيم.
نعم، وإن الذين يقدرون مخلصين أن ينظروا إلى الدنيا هذه النظرة لتسمو بهم عقيدتهم وترفعهم فوق صغائر الحياة، ويحق لهم أن يسوغوا هذه العقيدة أمام غيرهم حيث يرجع تسويغ العقيدة إلى جمالها وجدواها ولا يرجع إلى صحتها ودلائل ثبوتها.
أما إذا وجب أن نطرح هذه العقيدة جانبا فلا أخال أن الحياة تخسر قيمتها وأن الأخلاق على الخصوص تنقطع وتزول، وسوف تموت الديانة مع اللاهوت. ولكننا كما أسلفت قادرون على أن نعيش عيشة حسنة بغير الديانة، وإن أقمناها على أصول غير هذه الأصول قلما تخالف في لبابها أصول العيش التي يدين بها نفسه كل ذي خلاق. •••
انقضى القرن التاسع عشر وهذا هو الرأي الغالب على أصحاب الرأي فيه ممن يؤمنون بالعلم الحديث ويتوقعون له القدرة على الإحاطة في المستقبل بمجهولات الغيب التي لم يحط بها في ذلك الحين.
ونقول الرأي الغالب ولا نقول الرأي الجميع الشامل؛ لأننا لا نعلم أن عصرا من العصور قد اتفق فيه أصحاب الرأي على وجهة واحدة في مسائل العقيدة الدينية، ولكن العصور مع ذلك تختلف وتتباعد في التفكير، ويحمل كل منها طابعه وسماته في شئون العقيدة الدينية، وفي غيرها من الشئون العامة التي تتسع فيها مطارح الآراء والأهواء.
فلم يكن عصر من العصور مؤمنا كله ولا منكرا كله، ولا بد في كل عصر من مؤمنين ومنكرين، ولكنهم مع هذا يختلفون بين عصر وعصر في معنى الإيمان والإنكار وفي أسباب هذا وذاك، وفي الموضوع الذي يتناوله المؤمنون والمنكرون.
فليس القرن السابع عشر مثلا كالقرن العشرين، وليس القرن الثامن عشر كالقرن التاسع عشر، وليست القرون الحديثة كالقرون الوسطى أو القرون الأولى، وإن كان في كل منها إيمان وإنكار وشك ونفاق.
فإذا حسبنا لهذه المشابهات، أو هذه المفارقات، حسابها على جملتها، جاز أن يقال إن الحضارة الغربية تحولت منذ القرن السابع عشر من الشك في الدين، إلى الشك في العقل، إلى الشك في العلم الحديث، وإنها الآن تدخل في أبواب جديدة من الشكوك.
وربما كان الأصح أن يقال إن الحضارة الغربية بدأت بالشك في السلطة الدينية لا في الدين نفسه، وإن الدين الذي شكت فيه أو أنكرته كان هو الدين كما تشبث به الجامدون المتحجرون على التقاليد أو على العرف المقرر في عهود الجهل والطغيان.
وقد تزعزعت سلطة رجال الدين يوم تزعزعت كل سلطة، فشك الناس وأنكروا وثاروا على التقاليد وعلى العرف المحفوظ، ثم أذنوا لعقولهم أن تفكر وتقدر، واعتمدوا على العقل وحده في فهم جميع الأمور، وبخاصة ما كان فهمه مقصورا على دعوى ذوي السلطان من أصحاب الدنيا والدين.
انتقل ذوو الرأي من الإيمان بالدين إلى الإيمان بالعقل حتى انتهى بهم العقل عند حدوده، فتحولوا من الإيمان بالعقل إلى الإيمان بالعلم الحديث.
وليس الإيمان بالعقل والإيمان بالعلم شيئا واحدا كما يلوح من النظرة العاجلة؛ لأن الناس آمنوا بالعقل وحسبوا أنهم يفهمون به كل شيء من طريق المنطق والقياس، ومن طريق القضايا والبراهين ... فلما اختلطت عليهم الأمور وقصر بهم العقل دون العلم بالمحسوسات فضلا عن المغيبات - تحولوا إلى التجربة الحسية ووقفوا عليها جهود العلم الحديث، فلا علم بغير سند من الحس والتجريب.
فاليوم - في القرن العشرين - أين تسير الحضارة الغربية بين هذه الشكوك التي بدأت بالشك في الدين، ثم مضت أشواطا بعد أشواط تارة مع العقل وتارة مع العلم الحديث؟
ما هو الشك الذي يغلب على ذوي الرأي في القرن العشرين؟
نحسب أننا نجمل سمة القرن العشرين أصدق إجمال حين نقول إنها هي سمة الشك في الإنكار.
إن الأسباب التي كانت كافية للإنكار قبل ثلاثة قرون أصبحت لا تكفي للإنكار بتلك القوة الواثقة المتهجمة، بل أصبحت لا تكفي لإنكار ما كائنا ما كان سبب الإنكار من العلم المعترف به بين العلماء.
تواضعت دعوى العقل في أوائل القرن التاسع عشر، وتواضعت دعوى العلم في أوائل القرن العشرين، وكاد العلماء أن يتفقوا على أن التفسير والتعليل فوق طاقة العلم ولا سيما تفسير الغايات والأصول، وحسبه من الدعوى أنه يصف ويجمع ويقابل ويعادل، ثم يترك العلل الأولى بعد ذلك لمن يستطيعها، أو يقول إنها حتى اليوم غاية لا تستطاع.
كان من العلماء من يخال أنه قادر على الإثبات، فليس من العلماء اليوم من يزعم أنه قادر على الإنكار بسند من العلم الصحيح.
ومن قال منهم إنه ينكر على سبيل الظن والترجيح، فحكمه في ذلك حكم القائل إنه يؤمن على سبيل الظن والترجيح: كلاهما على مسافة واحدة من دعوى العلم بالتجربة، أو دعوى التعلل بالبرهان.
وبديه أن الشك في الإنكار غير الجزم بالإيمان، فليس من صحة الحكم ولا من صدق النظر أن يقال إن سمة الإيمان غالبة على القرن العشرين أو بينة الأثر فيه، ولكنه صحيح ولا ريب أن يقال إن المنكر في القرن العشرين لا يستطيع أن يستند إلى أسباب من العلم يسلم بها المفكرون، كما كانوا يسلمون بأسباب الإنكار في القرن السابع عشر، أو القرن الذي يليه إلى أوائل هذا القرن الذي نحن فيه. •••
ونحن متتبعون أكبر الأسباب التي اقترنت بمسألة العقيدة منذ القرن السادس عشر، وكان لها شأن قوي في إضعاف العقائد الموروثة على تقدير الباحثين بالإجماع، وقد نرى من تتبعها كيف قويت على إضعاف العقائد التقليدية ثم نرى كيف آل الأمر بها أخيرا حتى فقدت قوتها الأولى على زعزعة الإيمان وإثارة الشكوك، ونرى من أين طرأ عليها الضعف حتى انتقل بعضها من ترجيح التعطيل والإلحاد إلى ترجيح الاعتقاد وإعادة النظر في الموضوع.
هذه الأسباب على الإجمال خمسة ليس في أسباب التعطيل ما هو أقوى منها وأعظم فعلا في عقول المفكرين الأوروبيين، وفي عقول غيرهم ممن نظروا إلى دلالتها مثل نظرتهم، وحكموا بها على الأديان مثل حكمهم. وهم غير قليلين بين المفكرين في مختلف الأقوام.
وهذه الأسباب الخمسة هي:
أولا:
كشف كوبرنيكس لمركز الأرض من المنظومة الشمسية ومن الأجرام السماوية على العموم.
وثانيا:
ظهور القوانين الطبيعية التي سميت بالقوانين المادية أو الآلية.
وثالثا:
مذهب النشوء والارتقاء.
ورابعا:
علم المقارنة بين الأديان والعبادات.
وخامسا:
مشكلة الشر، وهي ليست من مشكلات القرن العشرين خاصة، ولكنها تخصص بالقرن العشرين لما تفاقم فيه من الحروب العالمية الجائحة، وبما نشأ فيه من الآراء عن السلطان المحدود في الحكومات، وإمكان المشابهة بينه وبين السلطان المحدود أو المطلق في حكومة الكون على أوسع نطاق.
فقد كان كشف كوبرنيكس لمركز الأرض من المنظومة الشمسية صدمة عنيفة للذين اعتقدوا أن الأرض هي مركز الكون، وأن السماوات العليا وما فيها من الكواكب والشموس تبع للأرض - مركز الكون كله ومقر الإنسان، فلما عرفوا أن الأرض لا تعدو أن تكون نجما صغيرا تابعا للشمس بين ألوف من الشموس التي تحوم في أجواز السماء فزعوا من هوان الأرض كلها وهوان الإنسان كله، وخامرهم الشك في حكمة القصد والاختيار ورجحت عندهم ظنون المصادفة والإتقان.
ثم جاء العلماء الطبيعيون فكشفوا ما سموه قوانين المادة وزعموا أنهم يفسرون بها كل شيء حتى الحياة، فكل ما في الطبيعة آلات خاضعة لتلك القوانين، تجري في حركاتها على السنن المطردة في حركات الآلات.
ثم جاء مذهب النشوء والارتقاء فألحق الإنسان بسائر الحيوان في نشأته وتطوره، وفهم بعض النشوئيين أن تطوره من المادة الحية الأولى يبطل القول بالخلق وتمييز الإنسان بين عامة المخلوقات.
أما علم المقارنة بين الأديان والعبادات فقد جمع المشابهات بين العبادات البدائية والعبادات المقررة في الديانات العليا، فاتخذ أصحاب المذاهب المادية من ذلك دليلا على تسلسل العبادات من أطوارها الأولى بين البدائيين، بغير حاجة إلى الوحي والتنزيل.
وقد أسلفنا أن المشكلة العظمى - وهي مشكلة الشر - لم تكن من مشكلات القرن العشرين خاصة لأنها أقدم المشكلات التي ساورت عقول المفكرين وعقائد المتدينين، ولكنها قويت جدا في القرن العشرين لتفاقم الشرور من الحروب والفتن وتنبه الناس إلى المحاسبة وتقرير التبعات، فحق لمن يشاء أن يحسبها إحدى المشكلات الخاصة بهذا الزمن الأخير.
وسنرى فيما يلي عند عرض هذه الأسباب، كل منها على حدة، كيف تبدل النظر إليها حديثا حتى ابتعدت الشقة بينها وبين دواعي التعطيل والإنكار واقتربت على الأقل من دواعي الشك في الإنكار، إن لم نقل من دواعي الإيمان والبحث عن مسوغات التدين والاعتقاد.
مركز الكون
نشر كوبرنيكس كتابه قبل وفاته بسنة (1542م) وتردد طويلا قبل نشره كأنه قدر بحق أنه سيغضب عليه الملأ جميعا ويعرضه للسخط والنقمة.
وثبتت آراؤه مع الزمن فآمن بها الفلكيون وأخذوا في تصحيح ما يحتاج منها إلى التصحيح، وهو كلامه عن دوائر الفلك ونظام الحركة في كل دائرة منها، ويومئذ بدأ العلماء والمفكرون ومعهم رجال الدين يتساءلون: ترى أي شيء في هذا الكشف الكوبرنيكي خالف قواعد الدين وخرج على سنن الإيمان؟ ولأي شيء صودر الكتاب وأجمعت شعاب الكنيسة من رومانية إلى لوثرية على تحريمه ومنع تعليمه؟
يصور الفيلسوف الأمريكي (جون ألوف بودين) دواعي هذه الثورة في كتابه ديانة المستقبل
1
فيقول:
كانت الأرض مسرح درامة التاريخ والإنسان فيها ذروة الخليقة وغايتها، وجاءت الكوميدية الإلهية من نظم دانتي ختاما لعهد مدبر، كان نظام الكون فيه كأنه عملية إخراج مسرحي لقصة الإنسان. ففي ناحية من الأرض كهف مطبق على دوائر جهنم، وعلى جبل في ناحية أخرى ترتفع دوائر الأعراف، وفوق هذا الجبل على مسافة منه وردة الفردوس التي يستوي على ورقاتها القديسون والأبرار، وكان من اليسير في ذلك العهد أن يبني الخيال أساس رموزه غير منقوضة بحقائق الواقع المقرر، ولم يكن عليه شبهة من عنت التوفيق بين مدى الأيام الستة وآماد التطور الكوني على حسب المعلومات الأخيرة. وقد كافح الناس كفاح الأبطال لملاقاة مشكلة الشر ليصبروا عليها لا ليصرفوها ويفسروها التفسير الذي يمحوها، وأحسوا الظلمات من حولهم فالتمسوا العزاء فيها باعتمادهم على قدرة الله أن يبدل النواميس الطبيعية بنعمته ويحيلها روحانية علوية، ولم تزل قوى الطبيعة تلوح لهم طيعة خاضعة لعالم الروح جارية في خدمة الأقدار التي تتلقاها مما وراء الطبيعة. كانت دنيا مكنونة في حيز ملموم تطلع الشمس لتنيرها بالنهار ثم تطلع النجوم لتنيرها بالليل ...
ثم هبت ثورة كوبرنيكس وفتحت الأعين على نظرة علمية إلى الوجود كله، فليست الأرض مركز الكون بل ذرة لا يؤبه لها في إحدى المنظومات الصغيرة. وسأل السائلون: ما هو هذا الإنسان الذي تتولاه بعنايتك؟ وما هو ابن الإنسان الذي تخصه بزورتك؟ إن الأرض وعليها الإنسان ضائعة في آفاق ليس لها نهاية، وهذه الآفاق الكونية بما وسعت محكومة كلها بالقوانين الآلية. ولم يقل «لابلاس» غير المقال الذي يردده الجميع حين قال لنابليون إنه لم يجد ضرورة لفرض إله في نظام المكنة العلوية. وإذا كانت كشوف كوبرنيكس قد أبدت لنا هذا الإنسان ضائعا في المكان لقد جاءت آراء داروين فأبدته لنا ضائعا في الزمان، فتراءى كأنه حلقة في سلسلة الحياة، أولها وآخرها محتجبان في غياهب الخفاء بدلا من قيامه على أوج الخليقة الأولى.
في دنيا العلم هذه يرى أنه لا محل للديانة المشبهة ولا للإله المشبه، ويرى أن القلب الإنساني قد ضيع نفسه مستسلما للعقل كفاحه بين يدي الله ...
هذه صورة صادقة للعالم كما بدا في أعين الناس بعد أن جاء كوبرنيكس، فأخرج الأرض من مركز الكون وأطلقها مع الشمس في أجواز الفضاء!
لكنها في أساسها صورة كاذبة لا أصل لها على الإطلاق في المعتقدات الدينية، فليس في الأديان الكتابية عقيدة توجب على الإنسان أن يؤمن بجمود الأرض في مكانها ودوران الأفلاك من حولها، وليس في الأديان الكبرى قاطبة حكم من الأحكام يعلق مقاصد الخلق على وضع من أوضاع الفلك، وما كان لغير العادة المألوفة والفهم الخاطئ دخل في تصوير العالم على تلك الصورة.
لقد كانت صورة الأرض في وسط العالم من عمل أرسطو وبطليموس، ولم يتفقا على وضعها في ذلك الموضع ولا على تقدير الحركات الفلكية التي تحيط بموضعها، مما حير كوبرنيكس وأحزنه. فحكمت العادة أيضا حكمها عليه وخيل إليه أنه يقتحم على الفلك هيكله الأقدس، وهو يبحث فيه عن مستقر يوفق بين دورة أرسطو ودورة بطليموس ... وقال للبابا إنه طرق هذا الباب وهو جد حزين.
ولم يكن المتدينون يبحثون كبحث كوبرنيكس في هذا الموضوع ولم يكن كوبرنيكس نفسه - في وسط هاتيك الأضواء جميعا - على هدى من أمره كل الهدى فيما يدع وفيما يختار ... لقد كان أمامه مذهب فيثاغوراس الذي قال إن الأرض كرة تسبح في الفضاء، فتركه ناحية ووقف مع أرسطو وبطليموس حيث سكن به المطاف، وأدار على الأرض تلك الدوائر التي تشبه دوائر شاعرنا ابن الرومي: ... بمقدار ما تنداح دائرة
في صفحة الماء يلقى فيه بالحجر!
غير أنهم جميعا ناموا على وساد الأرض كما هي في مركز الكون! فاضطربوا حين هبوا من رقدتهم تلك على غير وساد.
وإن موقف المتهجمين على الحقائق باسم الدين في ذلك الزمن لهو العبرة الخالدة لمن يعتبر، لو كان العلم عبرة صالحة لمن يجهله في زمن من الأزمان.
لقد كانوا يحتمون على العلم أن يجزم بمقام الأرض في مركز الفلك، وكانوا يحتمون أن تجمد الأرض هنالك لتحق الحكمة من خلق الأحياء على التعميم، وخلق الإنسان على التخصيص.
فلو عادوا اليوم إلى الحياة لرأوا عجبا من فعل الزمن في التباعد بين الأفكار والآراء، بل بين الدعائم والآساس، حتى لتنقلب من النقيض إلى النقيض، وحتى ليقال اليوم عن حكمة الخلق ما كان كفرا بالخلق والخالق قبل بضعة قرون.
إن القائلين بحكمة الخلق في القرن العشرين لا يجدون لذلك دليلا علميا ولا فلسفيا أدل من مكان الأرض في ركنها الذي هي فيه من المنظومة الشمسية.
لم يكن لازما عندهم أن تقر الأرض في مركز الكون كله ولا في مركز المنظومة الشمسية كلها، بل اللازم عندهم أن تكون حيث هي سيارة من سيارات، يعدون منها الآن عشرا ويتركون المئات والألوف منها بغير عداد.
ويكاد الباحثون في هذا الموضوع أن يجعلوا الأرض نمطا فريدا بين كواكب الفضاء بموقعها هذا من المنظومة الشمسية، فلولاه لما كانت أصلح كوكب لظهور الحياة عليه.
ذلك أن أسباب الحياة تتوافر في الكوكب على حجم ملائم وبعد معتدل، وتركيب تتلاقى فيه عناصر المادة على النسبة التي تنشط فيها حركة الحياة.
لا بد من الحجم الملائم لأن بقاء الجو الهوائي حول الكوكب يتوقف على ما فيه من قوة الجاذبية.
ولا بد من البعد المعتدل لأن الجرم القريب من الشمس حار لا تتماسك فيه الأجسام والجرم البعيد من الشمس بارد لا تتخلخل فيه تلك الأجسام .
ولا بد من التركيب الذي تتوافق فيه العناصر على النسبة التي تنشط بها حركة الحياة؛ لأن هذه النسبة لازمة لنشأة النبات ونشأة الحياة التي تعتمد عليه في تمثيل الغذاء.
وموقع الأرض حيث هي أصلح المواقع لتوفير هذه الشروط التي لا غنى عنها للحياة في الصورة التي نعرفها ولا نعرف لها صورة غيرها حتى الآن. •••
لقد كان الأقدمون يشرطون للإيمان بالقصد والتدبير في خلق الحياة على الأرض أن تكون الأرض مميزة بين العوالم العلوية والسفلية، وكانوا يحسبون أنها لا تكون مميزة على هذا الشرط إلا إذا قامت في مركز الكون كله وقامت الكواكب والشموس دائرة أو ثابتة من حولها، فلما تقدم على الفلك وتقدمت علوم الكيمياء والطبيعة أصبح القائلون بالخلق والتدبير اليوم يميزونها من العوالم جميعا لأنها في موضعها هذا من المنظومة الشمسية، ويحسبونها على هذا - بل لهذا - مميزة بالخصائص التي تنفرد بها ولا يشاركها فيها كوكب آخر في آفاق السموات التي أحاطت بها وسائل الكشف والرصد، وهذه الوسائل في العصر الحاضر أقوى وأنفذ مما عرف في جميع العصور.
وأول هذه الخصائص المنفردة أنها سيارة في منظومة شمسية، وليست المنظومات الشمسية في الكون بالكثرة التي يتوهمها من يتطلعون إلى السماء، ويخطر لهم أنهم يرون على آمادها الواسعة شموسا كهذه الشمس، تحيط بها سيارات كهذه الغبراء.
فالمنظومة الشمسية ظاهرة فلكية لم يتفق العلماء على تعليلها، وكل ما عللوها به يدل على ندرتها وصعوبة تكرارها.
وقد عللوا وجودها حتى اليوم بكثير من الفروض المقبولة وغير المقبولة أشهرها فروض ثلاثة يعدل بعضها بعضا، ولا تزال على افتقار إلى التعديل الأخير.
أول هذه الفروض فرض بوفون (Buffon)
العالم الفرنسي (1708-1788) الذي تخيل أن المنظومة الشمسية نشأت من اصطدام الشمس بأحد المذنبات السابحة في الفضاء، وأن الصدمة أطارت منها السيارات فطفقت تدور حولها بحكم الحركة المركزية والجاذبية، ولكن العلماء الذين تبعوه عرفوا من تركيب المذنبات ما لم يكن يعلمه في عصره، فاستبدلوا بالمذنب نجما عظيما يقارب الشمس في العظم، لأن قوام المذنبات أخف من أن يحدث ذلك الاصطدام العنيف الذي فرضه بوفون.
ثم جاء «لابلاس» فأظهر خطأ آخر في نظرية بوفون، وقال إن الأجسام التي تتطاير من الشمس عند المصادمة المزعومة ينبغي أن تدور في فلك بيضاوي، خلافا لأفلاك السيارات التي تستدير وتقترب من شكل الدائرة التامة. ووضع فرضه الثاني الذي رجحه العلماء إلى زمن قريب، وخلاصته أن السيارات طارت من الشمس على أثر انفجار شديد في باطنها، وأن هذه السيارات كانت في مبدأ الأمر حلقات غازية تجمعت على طول الزمن وتكورت على شكلها الذي نعهده اليوم. وقد ناقض العالم الإنجليزي كلارك مكسويل هذه النظرية فقال إن الغازات في هذه الحالة لا تتجمع على شكل كرة بل ينبغي أن تتحلق حلقات متفرقات.
وانتهى التعديل في الفرضين إلى فرض ثالث، خلاصته أن انشقاق السيارات إنما نشأ من مرور نجم آخر على بعد من الشمس لم يبلغ من قربه أن يصطدم بها، ولم يكن من البعد بحيث يعبرها في طريقه، فبرز من الشمس نتوء منجذب إلى ناحية النجم الآخر، ثم انفصل على شكل مخروط تتقطع رءوسه على التوالي وتدركها الجاذبية وفعل الحركة المركزية، فتنجم منها هذه السيارات. وإحداها هذه الكرة الأرضية.
قال جورج جامو (Gamow)
العالم الروسي في كتابه سيرة الأرض
2
وهو واحد من كتب كثيرة بحث فيها موضوع المنظومة الشمسية بحثا علميا على أسلوب الأدب والقصة:
ولما كان المفروض أن النجم العابر كالشمس في تكوينه فالموجة التي تبرز على الشمس عند عبوره لا بد أن تبرز موجة مثلها على سطحه، لعلها لم تنفصل وعادت إلى مكانها لسرعة مسيره في وجهته، ويتوقف مقدار البروز على حجم الكوكب، فينفصل الجزء البارز من النجم الأصغر قبل انفصاله من النجم الكبير، وإذ كنا نعلم أن أجزاء الشمس هي التي انفصلت فالذي يفهم من ذلك لزاما أن والد سيارتنا يكبر الشمس جرما، ويستبعد أن يكون قد حمل معه أحدا من أطفاله لسرعة العبور - كما تقدم - فلا حرج من القول بأن الأم - الشمس - ضمت إليها كل ذريتها ما خلا آحادا قلائل خرجوا بدادا على النظام ... •••
والأستاذ جامو مختص بهذه المباحث عاون في نشأته أكبر العلماء أمثال بوهر الدنمركي وروذرفورد الإنجليزي، واستقل بعد ذلك بدراسة الشمس والظواهر الفلكية، وترجيحه لهذا الفرض الأخير له قيمته الراجحة ولا ريب، ولكنه لا يعني أنه أكثر من فرض يقبل التعديل كرة أخرى كغيره من الفروض. •••
وكيفما كان مقطع الظن في هذه الفروض، فالواضح من تعددها واختلافها أن المنظومات الشمسية ظاهرة نادرة في السماوات لم يبلغ من تكرارها أن تتفق الأفكار على تعليلها.
وهذا هو المميز الأول للكرة الأرضية بين الأجرام السماوية.
ثم يأتي مميز آخر يميزها بين سيارات المنظومة الشمسية نفسها في موقعها وفي حجمها.
وكلما تقدم علم الكيمياء على الخصوص، وتقدم معه فهم العناصر وعوامل تركيبها، تبين للباحثين في مواطن الحياة أن الخصائص التي تلائم ظهور الحياة قد توافرت في الكرة الأرضية على نحو لم يتكرر في سيارة أخرى.
فالمريخ فيه الماء، ولكن الأودية الواسعة والأقنية المنسقة التي تبدو على سطحه لم تمتلئ بالماء، ويظن أن تلك الأقنية خطوط تفصل بين المناطق المختلفة فيه. ومنها ما يختفي عند تحقيق النظر إليه بالمكبرات الحديثة، ولا يصلح جوه للحياة كما نعهدها لشدة البرد وتقلب الأجواء عليه.
والزهرة قد يوجد فيها ثاني أكسيد الكربون، ولكن الأكسجين فيها نادر. ولم تظهر على سطح الزهرة تفصيلات تدل على بيئاتها الإقليمية مع تعاقب الأرصاد بمختلف الأضواء. إما لإحاطته بالظلام أو لخلوه من التفصيلات. وفي كلتا الحالتين لا يصلح الكوكب للحياة.
3
ومن الاعتراضات السهلة أن يقال إن شروط الحياة تختلف، أو إن الحياة قد توجد على تركيب يخالف تركيبها في الكرة الأرضية، وقيل كثيرا إن عنصر السليكون قد يحل محل الكربون في الكائنات الحية وإن عملية الفلورة (Fluorination)
4
قد تعمل عمل الأكسدة في توليد الطاقة، وهو قول لا يتفق عليه المختصون ولا يزال منهم من يستبعد تكوين الحيوان الكبير من هذا التركيب، ولكنه على فرض صحته يثبت القصد والتدبير في خلق الحياة ولا ينفيهما. لأن السليكون والفلور عنصران موجودان في الكرة الأرضية، فإذا كانت المصادفة لم تعمل هنا مرة واحدة في تجربة عرضية من تجارب الحياة الأولى، فالمصادفة لا محل لها إذن في هذه الفروض، ولا حاجة بنا إلى الظنون عن الكواكب الأخرى التي يوجد فيها هذان العنصران، إلا إذا كان الأمر مجرد تخمين واحتمال، ولا ضابط للتخمين والاحتمال على كل حال.
ومن أشهر القائلين بإمكان وجود الحياة على المريخ العالم الفلكي سبنسر جونس صاحب كتاب الحياة على العوالم الأخرى،
5
وهو على ترجيحه وجود النبات في المريخ يقول: «إن لون سطح المريخ يزودنا بدليل قاطع على وجود الأكسجين الطلق في الماضي على الأقل، ويكاد وجود الأكسجين الطلق يستلزم وجود النبات، فإذا قرنا هذا الاستدلال بالأدلة التي تجتمع لدينا من التغيرات التي تطرأ على سطحه - حسب اختلاف الزرع موسما بعد موسم - أمكننا أن نفهم من ذلك أن وجود نوع من النبات في المريخ محقق أو يكاد. وليس في وسعنا أن نقول إن الحياة الحيوانية - وبخاصة أشكالها العليا - يمكن أن توجد في المريخ؛ لأن قلة الأكسجين فيه تجعل وجودها هناك بعيد الاحتمال، وإن كان رفض هذا الاحتمال رفضا قاطعا غير مستطاع لنزارة ما نعلمه عن حقيقة الحياة. غير أن مسألة وجود هذه الأشكال العليا في الوقت الحاضر على سطح المريخ قليلة الخطر بالقياس إلى المسألة الأخرى التي تكاد تتحقق بالدليل القوي، وهي وجود حياة كائنة ما كانت هناك.»
وقائل هذا - سبنسر جونس - فلكي ملحوظ المكانة مسموع الرأي في هذه المسائل، ولكن جزمه بوجود النبات في المريخ يخالف تقديرات الكثيرين من نظرائه في المكانة العلمية، فإن العالم أرهنيوس (Arrhenius)
يقول إن التغييرات التي استدل بها سبنسر على مواسم النبات يمكن أن تفسر بتغيير ألوان الأملاح الماصة (Hygroscopic)
في الأجواء الممطرة، والعالم المشهور سير جيمس جينس لا يرفض هذا التفسير ويضيف إليه تفسير ليوت (Lyot)
تغييرات تلك الألوان بانعكاسها من رماد البراكين، ويقول: «إننا ولا ريب نشط كثيرا حين نقرر أن تغييرات اللون على سطح المريخ دليل قاطع على وجود الأكسجين الطلق ولو في الماضي، وأن الأكسجين الطلق يستلزم وجود النبات. وأبسط من هذا على التحقيق أن يقال إن الأكسجين الطلق الذي جاء من الشمس قد استوعبته الصخور، كله أو معظمه، ولا موجب هنا لفرض وجود النبات.»
ونحن لا نريد في هذه العجالة أن نستغرق كثيرا من الصفحات في هذه الخلافات التي لا نهاية لها، فما من شرط من شروط الحياة على كوكب آخر قد خلا من خلافات كهذه بين أكبر المختصين بالبحث في هذه الأمور، ولهذا نكتفي بسرد أمثلة من الخصائص التي تلائم ظهور الحياة ولم يثبت وجودها على كوكب آخر كما ثبت وجودها على الكرة الأرضية، فهي إما معدومة في الكواكب الأخرى أو موجودة بالمقدار الذي لا يكفي ولا يفيد، أو هي متفرقة لم يتم لها التوافق والتركيب الذي هو أهم من مجرد وجودها هنا وهناك بالنسبة إلى البنية الحية.
فمن هذه الخصائص وجود الماء الغزير، وانحلال الملح الصالح فيه دون الأملاح السامة، ووجود النبات الذي يمثل الطعام للأحياء على اليابسة، ووجود الكربون وأكسيده الثاني على حالة لا يمحوها الجو المحيط بالكوكب، وقيام هذا الجو على حالة من الكثافة والانجذاب إلى الكوكب بحيث لا يكظم ما تحته ولا يطير شعاعا في الفضاء، وليس يتحقق ذلك إذا كان الكوكب عظيما كالمشتري وزحل، فإن الكربون في هذه الحالة يوجد على شكل غاز الميثان (Methane)
فلا يصلح مصدرا للكربون الذي يلائم المادة الحية، وليس يتحقق كذلك إذا كان الكوكب صغيرا كعطارد والقمر فإن ثاني أكسيد الكربون لا يوجد في هذه الحالة وقد ينعدم الجو على الإطلاق.
6
وينبغي أن تبدأ الملاءمة للحياة من الأدوار الأولى حيث تتكون الخلية التي تدخل في بنية الأحياء العليا أو كما جاء في كتاب سيرة الأرض
7
لمؤلفه جورج جامو إذ يقول:
من النقط الهامة التي ينبغي أن تدخل في الحساب عند كل بحث في طبيعة الحياة والنبات أن الخلية الأولى تتألف مما يسمى بالمحلول الغروي (Colloidal solution)
أي من مواد عضوية مختلفة في الماء. وهذه المحلولات الغروية - عضوية أو غير عضوية - مستحلب دقيق جدا من ذريرات مشحونة بالكهرباء تتماسك على بعد بفعل تلك الشحنة ، وتبقى في الماء طويلا لأن الماء الصرف موصل رديء، فإذا أخذنا محلولا غرويا من الذهب مثلا وأضفنا إليه بعض الملح حتى تزيد قابلية الماء للتوصيل فقدت الذريرات شحنتها وأسرعت إلى التلاصق والانضمام ... ويمكننا أن نحدث هذا التلاصق أيضا بضم محلولين كل منهما له شحنة مضادة لشحنة الآخر ... أما المحلول الغروي من المواد العضوية فمن خاصته أن خلايا الكربون المركب على ألفة كيماوية مع الماء ... وأن نتيجة قيامه في الماء على الأبعاد المطلوبة ... تحول دون فقدان الشحنة الكهربية ...
إن كل خاصة من هذه الخواص متوافرة في الكرة الأرضية بالمقدار اللازم على النحو اللازم، والذين ينكرون القصد والتدبير في خلق الحياة لم يثبتوا وجود كوكب واحد تتوافر فيه هذه الخواص كتوافرها في الكرة الأرضية، ومن قال منهم إن الحياة غير مقصورة على الأرض حتما إنما يذهب إلى هذا القول على سبيل الاحتمال وامتناع الاستحالة بغير دليل قاطع عليها، فيجوز عندهم أن توجد الحياة في كوكب آخر متى اجتمعت فيه أسبابها وخصائصها، ومن العجيب أن يتوسع هؤلاء الباحثون في احتمال وجود الحياة ويرفضون القول باستحالتها في صورة غير الصورة الأرضية، ثم يضيق بهم مجال الاحتمال عن الحياة الروحية دون غيرها ... فلماذا يتسع الفرض لكل حياة وافقت حياة الأرض أو لم توافقها ثم يستحيل وجود الحياة في صورة روحية ...؟
إن الذي يأبى حصر الحياة في الأرض ليس من حقه، ولا من مقتضى رأيه وحكمه، أن يحصرها في صورتها الحاضرة حيثما كان موضعها من عالم الوجود الفسيح.
بيد أننا كتبنا هذا الفصل عن مركز الكون لغرض واحد لا يتسع المقام لغيره في هذا السياق.
كتبناه لنبين الفرق بين النظر إلى كشوف كوبرنيكس في القرن السادس عشر والنظر إليها في القرن العشرين.
ففي القرن السادس عشر كان قيام الأرض في مركز الكون على ظنهم هو الدليل الوحيد على حكمة القصد والتدبير.
وفي القرن العشرين يتحول النظر من النقيض إلى النقيض، فيلتمس المفكرون حكمة القصد والتدبير في موضعها هذا الذي هي فيه، أو في اعتبارها سيارة من سيارات شتى في المنظومة الشمسية.
ومن الحجر على الغيب أن نحسب أن هؤلاء المفكرين في القرن العشرين قد جاؤوا اليوم بفصل الخطاب وقد أوصدوا الباب غدا على التعقيب والتعديل، فإنما يعنينا هنا أن مذهب كوبرنيكس قد أصبح في القرن العشرين، وهو أقرب المذاهب إلى براهين المؤمنين.
قوانين المادة
نشأت المذاهب المادية قبل العلوم التجريبية الحديثة، وكانت فضيلة المذاهب المادية عن الماديين أنها تقوم على الوقائع والحقائق ولا تقوم على الظنون والأوهام، وكانت المادة عندهم حقيقة الحقائق الثابتة التي لا يعتريها الشك ولا يلم بها الباطل، لأنها محسوسة ملموسة محصورة في مكان محدود: يخبط أحدهم على المائدة بيده أو يضرب على الأرض بقدمه ويقول لمن يجادله: هذه هي الحقيقة التي ألمسها بيدي وقدمي أو أراها بعيني وأسمعها بأذني، وليست ما تخبطون فيه من الظنون والأوهام.
ثم شاعت العلوم التجريبية في القرون الأخيرة، وشاعت معها قوانين الحركة والحرارة والضوء وسائر القوانين التي سميت بالقوانين الطبيعية: هذه هي قوانين الكون التي تسيطر على حركاته وسكناته وتفسر كل ظاهرة من ظواهره، وتسري على الأفلاك العلوية كما تسري على المعادن الأرضية، ولا يشذ عنها حكم واحد من الأحكام التي تشمل المادة في جميع صورها وأشكالها، ومنها مادة الأجسام الحية أو مادة الحياة.
حقائق ملموسة محسوسة، وليست فروضا نخوض بها أو تخوض بنا فيما وراء المادة ... حيث لا يوجد شيء من الأشياء يقوم عليه دليل.
وحدثت في السنوات الخمس الأخيرة من القرن التاسع عشر حوادث «علمية» غيرت كل صورة من صور المادة عرفها الأقدمون.
فقد عرف الكيميون قبل ذلك أن عناصر المادة أكثر من أربعة، وأنها ليست محصورة في النار والتراب والهواء والماء.
وعرفوا أن ذرة «الهيدروجين» أخف العناصر ليست هي أصغر جسم من أجسام المادة ينتهي إليه التقدير.
عرفوا الكهرب الذي تحسب ذرة الهيدروجين جبلا ضخما بالقياس إليه، ثم تقدموا في معرفة الكهرب والذرة حتى أفلتت المادة كلها من بين أيديهم، ولم يبق منها غير حسبة رياضية!
حسبة رياضية كانوا «يحسبونها» مثلا في الدقة والضبط والعصمة من الخلل، فإذا هي في النهاية حسبة لا يضبطها الحساب إلا على وجه التقريب.
أفلت من المادة كل شيء ثابت أو كانوا يحسبونه مضرب المثل في الثبوت و«الحقيقة»!
فاللون من الشعاع والشعاع هزات في الأثير.
والوزن جاذبية، والجاذبية فرض من الفروض.
والجرم نفسه متوقف على الشحنة الكهربية وعلى سرعة الجسم في الحركة ونصيبه من الحرارة.
والحرارة ما هي؟ حركة!
والحركة في أي شيء؟ في الأثير!
والأثير ما هو؟ فضاء أو كالفضاء، وكل وصف أطلقته على الفضاء فهو بعد ذلك مطابق لأوصاف الأثير.
حتى الصلابة التي تصدم الحس أصبحت درجة من درجات القوة تقاس بالحساب، ويعلم الحاسب أنه حساب قابل للخطأ والاختلال.
فهذه الصخرة القوية صلبة جامدة، يضربها الضارب بيده فترده فيقول: نعم، هذه هي الحقيقة التي لا مراء فيها!
فماذا لو كانت يده أقوى ألف مرة أو ألف ألف مرة من يد الإنسان القوي بالعضل والعصب؟
إن حقيقة الصخرة تفقد تحت يده برهانها فلا يحسه، أو يحسه ولا يتحدث عنه كما يتحدث عن الحقائق التي تصدم المنكرين!
وتقدم العلم بالكهرب والذرة مرة أخرى، فإذا المادة كلها كهارب وذرات، وإذا بالذرات تنفلق فتنطلق شعاعا كشعاع النور.
هل هذا الشعاع موجات؟ هل هو جزيئات؟
قل هذا أو قل ذاك، فهذا وذاك في ميزان «التجربة» سواء.
وعاد العلماء التجريبيون إلى القوانين الطبيعية التي تحكم الحرارة والحركة والضوء وكل ما في عالم المادة من كهارب وذرات، فوجدوا لها قانونا واحدا وهو الخطأ والاحتمال.
أما القائمون بهذه التجربة فقد كانوا ثلاثة من أقطاب العلوم الطبيعية في مطلع القرن العشرين.
كانوا ثلاثة من الأقطاب العالميين بأكثر من معنى واحد من معاني العالمية؛ لأن أحدهم ماكس بلانك
1
بولوني، والثاني ورنر هيزنبرج
2
ألماني، والثالث أروين شرودنجر نمسوي،
3
والأولان منهم صاحبا جائزة نوبل في العلوم الطبيعية عن سنة 1918 وعن سنة 1932، والثالث مكمل النظريات التي اشتهر بها الأولان، وحجة لا تعلو عليه حجة في مسائل الذرة والإشعاع ومسائل الطبيعيات على العموم.
فالأستاذ بلانك هو صاحب نظرية المقدار أو الكوانتم .
وخلاصتها أن الإشعاع قفزات لا تعرف القفزة التالية من القفزة الأولى إلا بالتقدير والترجيح، وأن صحة التقدير لا تتفق إلا لأن أجزاء الكهارب تحسب بملايين الملايين، فلا يظهر الخطأ فيها إلا بمقدار يسير.
والأستاذ هيزنبرج هو صاحب نظرية الخطأ أو الاحتمال في قوانين الطبيعة، وخلاصة براهينه الكثيرة في هذا الباب أن الموضع والسرعة لكهرب معين لا يمكن تحقيقهما في لحظة معينة على وجه اليقين، وأن موقع الكهرب بعد ثانية يتراوح اختلافه إلى مدى أربعة سنتيمترات،
4
ثم يقل مدى هذا الخطأ في الثانية التي تليها وأن التجربتين في أية قاعدة من قواعد العلم الطبيعي لا تأتيان بنتيجة واحدة بالغا ما بلغ المجرب من الدقة وبالغا ما بلغ المسبار من الإتقان.
والأستاذ شرودنجر هو المجرب المحقق الذي أسفرت تجاربه كلها عن نتيجة واحدة تؤيد نظرية إكسنر (Exner) ، وهي أن تقدير ما سيحدث تطبيقا للقوانين المادية ممكن، ولكنه غير محتوم، وإذا دققنا في التعبير فليس هو بالاحتمال الذي يوصف بأنه جد قريب، ومن مقررات شرودنجر في محاضراته عن الحياة
5
ومحاضراته عن العلم ومزاج الإنسان أن القوانين التي تنطبق على الذرات في الطبيعة لا تنطبق على الذرات في البنية الحية، وأن الصورة (Form)
وهي قوام المادة، فلا يصح أن يقال إن هذه الذرة الصغيرة من المادة هي نفسها التي رصدناها قبل لحظة ونرصدها بعد لحظة تالية. إذ ليس لهذه الذرات ذاتية ثابتة تبقى في جميع هذه الأرصاد، وكل ما يثبت منها هو الشكل أو الصورة التي تتكرر في رصد بعد رصد بغير ذاتية ثابتة (Sameness) .
6
هذه النظريات لم يشتهر بها العلماء الثلاثة، بلانك وهيزنبرج وشرودنجر لأنهم ينفردون بتقريرها وتأييدها، فإنها نظريات عامة يقررها معهم علماء الطبيعة جميعا ولا يخالفونهم في مبادئها، ولكنهم اشتهروا بالنظريات التي تدور على نقص القوانين الطبيعية لأنهم استطردوا في مباحثها حتى شملوا بها المباحث العقلية والدينية كالقضاء والقدر وحرية الإرادة، وورد ذكرهم كثيرا في مساجلات العلماء والفلاسفة الذين يطبقون العلوم الطبيعية على الفلسفة والأخلاق.
فلا اختلاف على نقص القوانين الطبيعية، أي على أخذها بالتقريب دون الضبط المحكم الذي يمتنع فيه الخطأ كل الامتناع، وإنما الاختلاف على النتائج التي يرتبونها على هذه النظريات والملاحظات. فما هي نتيجة العلم بأن القوانين الطبيعية لا تفسر لنا حركات الكون وسكناته إلا على وجه التقريب؟
هل نتيجة ذلك أن نسقط حساب الأسباب والعلل ونلغي القوانين الطبيعية؟
إن بلانك نفسه لا يقول بذلك ويقرر في كتابه (إلى أين يذهب العلم؟)
7
أن الأسباب الطبيعية عاملة في كل حال وأنا لو حققنا موضع كل كهرب وسرعته ووزنه أمكننا أن نعرف حركته التالية بغير خلل في الحساب، فإذا كانت مراقبة الملايين من الكهارب تعطينا نتيجة تقريبية فالنقص ناشئ من جهلنا بحالة كل كهرب على صدق لا من خلل القوانين الطبيعية.
ولا يرى المعقبون على رأي بلانك في هذه المسألة أنه قد حسم بها خلافا ذا بال. إذ لا خلاف على أن المقدمات جميعها تؤدي إلى جميع نتائجها، وإنما الخلاف في إمكان الحصر والاستقصاء، ويتساوى بعد ذلك عالم المادة وعالم الروح، فإن العلم بكل المقدمات في عالم الروح يؤدي كذلك إلى العلم بجميع النتائج على وجه التحقيق.
ولم يفت بلانك أن يستدرك ذلك في كتابه المتقدم ذكره، فقال معقبا على الآراء الحديثة في السببية وحرية الإرادة:
الواقع أنه في هذا العالم الواسع الذي لا يحده القياس - ونعني به عالم العقل والمادة - توجد نقطة واحدة، نقطة لا ينطبق عليها العلم ولا ينطبق عليها أسلوب من أساليب البحث، وستظل كذلك لا من الوجهة العملية وحسب، بل من الوجهة المنطقية كذلك: تلك النقطة هي الذات الفردية، فإنها لصغيرة في رحاب الوجود، ولكنها في ذاتها عالم كامل يحيط بحياتنا العاطفية كما يحيط بمشيئتنا وفكرتنا، وهذا الكون الذاتي هو مصدر لأعمق أحزاننا وأرفع أفراحنا، ولا سبيل عليه للقوى الخارجية، ولا نحن قادرون على إطراح سلطاننا عليه وتبعاتنا نحوه إلا حين نطرح الحياة نفسها.
ثم قال:
وتذكر أن لابلاس كان يرى أنه لو وجد عقل سام بمعزل عن جميع العوامل في هذا الكون أمكنه أن يتبع العلاقات السببية في جميع حوادث الإنسان والطبيعة إلى أدقها وأخفاها. وإنما بمثل هذا السمو يتسنى للإنسان أن يصل إلى العزلة والاستقلال وأن ينفصل الباحث من موضوع بحثه عند البحث في سريرة نفسه، ولا بد من هذا الفصل كما رأينا لتطبيق مقاييس السببية والاستقرار. وكلما اقتربنا من الحوادث تعذر النفاذ إلى أسبابها، وكذلك كلما اقتربنا من الحوادث التي تدور عليها تجاربنا الشخصية زادت صعوبة الدرس في ضوء تلك الحوادث، إذ كان الذي يتولى الملاحظة هو نفسه موضوع الملاحظة، ومن المستحيل في هذه الحالة تمييز العلاقات السببية لأن الأسباب والمسببات هنا لا فاصل بينها ... وما من عين تستطيع أن ترى نفسها، ولكنه بمقدار ما يختلف الإنسان اليوم عما كان عليه منذ سنوات، يستطاع بعض الاستطاعة أن توضع تجاربه أمامه موضع التعليل والتفسير، وإنما أذكر هذا كأنه تمثيل للمبدأ في عمومه.
ولقد يخطر لكثير من القراء أن يسألوا: إن صح هذا أفلا تكون حرية الفرد وهما ظاهرا مرجعه إلى عيب في أساليب فهمنا؟
فنقول إن عرض المسألة على هذا النحو خطأ فيما أراه. وقد نصور هذا الخطأ حين نقول إنه يشبه الظن، بأن الإنسان يعجز عن اللحاق بظله لنقص في سرعته! إذ إن الحقيقة التي ترينا أن الإنسان في بعض حالاته الراهنة لن يخضع لقانون السببية هي حقيقة قائمة على أساس من المنطق، كالقضية التي تقول لنا إن الجزء أصغر من كله، وإن استحالة حكم المرء على تأملاته، طبقا لعلاقات السببية، لهي استحالة مؤكدة ولو على فرض العقل السامي الذي ذكره «لابلاس»، فإن ذلك العقل السامي، على استطاعته أن يرقب البواعث والنتائج في عقول أعظم العباقرة، لا مناص له من التخلي عن هذه المراقبة حين ينظر في تأملات ذاته.
أما «شرودنجر» فرأيه كهذا الرأي في التفرقة بين عوامل المادة الحية وغير الحية، وهو يقول في ختام رسالته «ما هي الحياة»:
أود أن أوضح في هذا الفصل الأخير بالإيجاز أن كل ما علمناه من بناء المادة الحية يوجب علينا أن نكون على استعداد لأن نراها عاملة على مثال لا يمكن إخضاعه لقوانين الطبيعة العادية، وليس ذلك على اعتبار أن التركيب هنا يخالف كل تركيب درسناه في معامل العلوم الطبيعية.
وختم «شرودنجر» رسالته بالتساؤل عن الشخصية والروح، فقرر أن «الوعي» ظاهرة مفردة لا تقبل الجمع، وأن كل ما يمكن الجزم به هو أن الشخصية لا تتكرر وأنها قوام مستقل عن كل قوام. •••
ونعود هنا فنقول - كما قلنا في ختام الفصل السابق - إننا لا نسرد هذه الآراء لأننا نحسبها مقطع القول في القوانين الطبيعية، فإن العلماء لا يقطعون بقول فيها اليوم إلا قطعوا بغيره غدا، وقلما يقطعون بالقول حيث يلتزمون أمانة العلم ويقفون عند حدوده.
ولكننا نسرد تلك الآراء لغرض واحد، وهو أن القوانين الطبيعية لا تتخذ في القرن العشرين حجة للتعطيل والإنكار، بل هي أقرب إلى التشكيك في التعطيل والإنكار، إن لم نقل إنها أقرب إلى مباحث العقيدة والإيمان.
إن المادة اليوم لا تصد المفكرين عن عالم الحقائق المجردة، ولا هم يتخذون من صلابتها وجسامتها شرطا للحقيقة الثابتة، فإن الحقيقة المادية نفسها لا تثبت اليوم بمجرد الصلابة والجسامة، ولا تزال ترتد إلى أصولها حتى تؤول إلى عدد من الهزات في ميدان مجهول هو ميدان الأثير وميدان الفضاء.
فالمادة في القرن العشرين قد اقتربت من عالم الفكر المجرد بل دخلته وأصبحت في تقدير الثقات «عملية رياضية» أو نسبة من النسب التي تقاس بمعادلات الحساب.
وقد جاز لعالم كبير كالسير جيمس جينس (Jeans)
أن يعتبرها كذلك وأن يقول كما قال في ختام كتابه الكون العجيب:
إن المعرفة الجديدة تضطرنا إلى تنقيح خواطرنا العجلى التي أوحت إلينا أننا وقعنا في كون لا يحفل بالحياة أو لعله يعمل على مناصبتها العداء. ويلوح لنا أن الثنائية العتيقة التي تقول بالعقل والمادة ويرجع إليها افتراض العداوة المزعومة آخذة في الزوال، لا لأن المادة تدخل بأية حال من الأحوال في ظلال وأشباح، أو لأن العقل تحول إلى وظيفة مادية، بل لأن المادة الجوهرية تحيل نفسها إلى شيء من خلق العقل ومظهر من مظاهره. ونحن نستكشف أن الكون يبدي الدليل على قدرة مدبرة أو مسيطرة لديها العقل الذي يماثل ما نفهمه بعقولنا ...
وجاز كذلك لعالم آخر كبير كالسير آرثر إدنجتون (Eddington)
أن يقول في ختام كتابه عن كيان الدنيا الطبيعية: إن نظرات المتصوفة لا تهمل، وإن ملكات الإنسان التي يمازجها الشعور الديني هي من وقائع الكون إذا كان الإنسان قد استبقاها بفعل الانتخاب الطبيعي، وهو من أهم العوامل الكونية.
وفي ختام كتابه فلسفة العلم الطبيعي يقول:
نحن حتى في العلم ندرك أن المعرفة ليست بالأمر الوحيد الذي نعتد به، ونسمح لأنفسنا أن نتحدث عن روح العلم ... وإن أعمق من كل قضية من قضايا النكران لهي العقيدة التي هي قوة خالقة أهم مما تخلقه ... وفي عصر العقل تظل العقيدة راجحة لأن العقل بعض مادة العقيدة.
وتقابل التفكير الديني والتفكير العلمي في الغرب في مجال التقريب بين القوانين الطبيعية والأفكار الدينية، فإذا كان علماء الطبيعة قد أدخلوا المادة في عداد المعادلات الرياضية، فالعلماء اللاهوتيون قد عبروا تلك الفجوة الواسعة التي فصلت بين الطبيعة والروح مئات السنين، ولم تزل إلى زمن قريب تفصل بينهما كأنهما عدوان لدودان لا يتصالحان. وقد عرض الدكتور ماثيو مطران كنيسة سان بول لهذا البحث في كتابه «مقالات في البناء»
8
فقال:
إذا كنا نفهم من الطبيعة أنها تعني الكون كله في اشتماله على نظام الوجود قاطبة فلست إخال أحدا يزعم أن هناك شيئا مناقضا أو خارجا عن ذلك النظام، ومتى نظرنا إلى الطبيعة تلك النظرة فليس بعث سيدنا نفسه - أي السيد المسيح - بالخارق للنظم، وبدلا من المناقضة يعد هذا البحث - كما قال القديس بطرس - إحدى الموافقات لسنن الوجود.
ولم يعهد مثل هذا التقارب بين الطبيعيين واللاهوتيين في القرن التاسع عشر، فكأنما انقضى ذلك القرن وبين العقيدة وقوانين الطبيعية والمادة حاجز قاطع أو حصن رادع. فلما أقبل القرن العشرون هبط الحاجز وانفتح باب الحصن، وقامت في مكانهما قنطرة تتصل من ناحية وتنفصل من ناحية، ولكنها صالحة لأن يعبر عليها، مع الجهد، كل من يشاء العبور.
مذهب التطور
اقترن مذهب التطور في النصف الأخير من القرن التاسع عشر باسمين عظيمين، هما اسم الفرد رسل ولاس واسم شارل داروين، وذاعت شهرة داروين بالمذهب حتى كاد أن ينسب إليه ويعرف به، فيقال مذهب داروين كما يقال مذهب التطور أو مذهب النشوء والارتقاء، وقد عدل أخيرا عن تسمية المذهب بالنشوء والارتقاء وبقيت الداروينية غالبة عليه.
ولقد هوجم المذهب كثيرا باسم الدين، وجعله بعضهم مرادفا للإلحاد والمادية، ومع هذا لم يكن والاس ولا داروين ملحدين معطلين، وكان والاس شديد الإيمان بالله، خامرته الشكوك في الديانة التقليدية ولم تخامره في الإيمان بالله وبحكمته، ومن كلامه ما يستدل به على تصديق المعجزات وخلود الإنسان.
أما داروين فلم يزعم قط أن ثبوت التطور ينفي وجود الله، ولم يقل قط إن التطور يفسر خلق الحياة، وغاية ما ذهب إليه أن التطور يفسر تعدد الأنواع الحيوانية والنباتية، وفي ختام كتابه عن أصل الأنواع يقول إن الأنواع ترجع في أصولها إلى بضعة أنواع تفرعت على جرثومة الحياة التي أنشأها الخلاق.
وقد قال والاس في كتابه عالم الحياة (The World of Life)
متحدثا عن عقيدة داروين: «إنه على ما يظهر قد صار إلى نتيجة واحدة»، وهي أن الكون لا يمكن أن يكون قد وجد بغير علة عاقلة، ولكن إدراك هذه العلة على أي وجه كامل يعلو على إدراك العقل البشري.
ثم عقب والاس قائلا: «وإنني لأولي هذه النظرة كل عطفي وشعوري، ولكنني مع هذا أرى أننا مستطيعون أن نلمح قبسا من القدرة التي تعمل في الطبيعة، يساعدنا على تذليل الصعوبة البالغة التي تحول دون العلم بحقيقة الخالق الأبدي الذي لا أول له ولا آخر.»
ولما سئل داروين عن عقيدته الدينية (سنة 1879) قال في خطاب إلى مستر فوردايس (Fordyce)
صاحب كتاب ملامح من الشكوكية:
إن آرائي الخاصة مسألة لا خطر لها ولا تعني أحدا غيري، ولكنك سألتني، فأسمح لنفسي أن أقول إنني متردد، ولكنني في أقصى خطرات هذا التردد لم أكن قط ملحدا بالمعنى الذي يفهم فيه الإلحاد على أنه إنكار لوجود الله، وأحسب أن وصف اللاأدري يصدق علي في أكثر الأوقات - لا في جميعها - كلما تقدمت بي الأيام.
وقد كتب قبل ذلك (سنة 1873) إلى طالب هولندي سأله السؤال نفسه فقال: «... إن استحالة تصور هذا الكون العظيم العجيب وفيه نفوسنا الشاعرة قائما على مجرد المصادفة - هي في نظري أقوى البراهين على وجود الله، ولكنني لم أستطع قط أن أقرر قيمة هذا البرهان.»
وسأله طالب ألماني (سنة 1879): هل يتفق مذهب التطور والإيمان بوجود الله، فأوصى أحد أعوانه أن يكتب إليه ما فحواه أنهما يتفقان، ولكن الناس يختلفون في فهم المقصود بالإله.
وعاد الطالب يسأل ويطلب التفصيل، فكتب إليه داروين نفسه في هذه المرة وقال له: إنه لا يرى دليلا على الوحي، وإن الإيمان بالبعث متروك لكل من يشاء أن يتخذ له فيه معتقدا بين المحتملات المتضاربة.
وآخر ما عندنا من آرائه في هذا الموضوع خطاب أرسله إلى جراهام صاحب كتاب عقيدة العلم
1
كتبه سنة 1881، وقال فيه: «إنك عبرت عن عقيدتي الباطنة ... إن الكون لم ينجم عن مصادفة؛ ثم عاد يتساءل: ما قيمة هذه العقيدة في إثبات حقيقتها؟» •••
والمهم في هذا الصدد أن صاحبي مذهب التطور، كما ذاع في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، لم يستندا إليه في إنكار العقيدة الدينية، ولم يزعما أنه يفسر سر الحياة أو سر الكون، وأحدهما - وهو والاس - كان مؤمنا بالله وبحكمته في مخلوقاته، والآخر - وهو داروين - كان يأبى أن يوصف بالإلحاد، ويحسب نفسه أحيانا «ربانيا» أي منكرا للمصادفة ومرجحا لعقيدة الربوبية، ويؤكد إلى آخر أيامه أن الاستدلال بمذهب التطور على إنكار الإله خطأ كبير وادعاء لا سند له من العلم ولا من التفكير الأمين.
وقد مضى على آخر ما كتبه داروين في مسألة العقيدة ثلاث وخمسون سنة وشاع مذهب التطور في كل بيئة علمية، وأراد العالم اللاهوتي دروبرج (Drawbridge)
سنة 1932 أن يعيد الأسئلة التي وجهت إلى داروين في حياته ويوجهها هذه المرة إلى علماء الجمعية الملكية، وهم أكبر العلماء المشهود لهم بالمكانة الملحوظة في بلادهم وغير بلادهم، ومنهم مختصون بالكيميا ومختصون بالطبيعيات ومختصون بالرياضيات ومختصون بعلم الحياة أو بعلم الحيوان، فسألهم: هل ترون أن تصديق مذهب التطور يوافق التصديق بوجود الله؟
فأجاب بالإيجاب مائة واثنان وأربعون من المائتين الذين أرسلوا ردودهم، وأجاب اثنان وخمسون مترددين، وأجاب ستة بالنفي قائلين إن الاعتقادين لا يتفقان.
وإذا قوبلت وجهة النظر العلمية بوجهة النظر الدينية في القرن العشرين لم تختلف الوجهتان في هذا المعنى.
ولا نريد بذلك أن المتدينين يقررون صحة مذهب التطور على علاته، ولكننا نريد أنهم يقررون أن تصديقه لا يناقض التصديق بوجود الله، فلا يلزم عندهم أن يكفر بالدين كل من قال بتسلسل الأنواع الحية من أصل واحد أو بضعة أصول، ومنهم من يعتبر العوامل الطبيعية التي فعلت فعلها في هذا التسلسل آية من آيات التدبير والتنظيم.
وقد جاء في الموسوعة الكاثوليكية في مادة الخلق (Creation)
أن حقائق العلم وحقائق الوحي في هذا الموضوع لا تتناقضان.
وقال اللاهوتيون أصحاب كتاب العلم وما فوق الطبيعة
Science and the Super Natural : إن العلل الثانوية التي تبدو في أعمال الطبيعة لا تبطل العلة الأولى التي تنتهي إليها جميع العلل وتقف عندها جميع المقاصد والغايات.
وقال اللاهوتي اليسوعي الأب نابرباور (Kna berbauer)
فيما روته عنه الموسوعة الكاثوليكية: «إن أصول الاعتقاد التي اشتمل عليها سفر التكوين تبقى ثابتة غير ممسوسة؛ ولو فسرنا الأحوال التي نشأت فيها الأنواع المختلفة وفاقا لقواعد التطور.»
ونخلص مما تقدم، إلى بيان الفرق بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين في موقف العلم من الدين حول مذهب التطور، أو مذهب داروين والآراء الداروينية على اختلافها.
فالنشوئيون في القرن العشرين لا يستندون إلى التطور في إنكار الدين وإثبات التعطيل والإلحاد، ومن كان منهم معطلا منكرا فليس له سند مسلم من مذهب داروين، ولا من كلام داروين نفسه عن عقائده وترجيحاته.
والدينيون في القرن العشرين لا يقيمون أصول الدين حجة على بطلان مذهب التطور، ولا يقولون بالتناقض بين الإيمان والعلم في هذا الباب.
وإذا رجعنا إلى مكان مذهب التطور من العلم لم نجد من يحسبه علما قاطعا مفروغا من أصوله وفروعه، وأكبر أنصاره لا يدعي له أكثر من أنه صحيح في بعض ملاحظاته ومقارناته، ويجوز بعد ذلك أن يكون التطور قد حصل في جهات متعددة لا في جهة واحدة، وأن يكون ملازما للارتقاء حينا ومقارنا للنكسة حينا آخر، وإن كانت شواهد الارتقاء أكثر من ظواهر النكسات.
وخفت اليوم تلك الدفعة الأولى من جانب النشوئيين وجانب الدينيين، فتقاربت شقة العلم وشقة العقيدة في أمر الخلق والتطور، وجاء القرن العشرون بعد القرن التاسع عشر بنظرة جديدة في هذه المسألة التي أوشكت أن تغطي على مسألة دوران الأرض ومسألة القوانين الطبيعية في دعواها الأولى حيال العقائد الدينية، فإن لم يكن مذهب التطور آية من آيات العقيدة فليس هو على التحقيق برهانا على بطلانها، وثبت اليوم أن الذين حاربوا الدين باسم التطور والذين حاربوا التطور باسم الدين كلهم في الخطأ والادعاء سواء.
وربما كان لسخف الكبرياء نصيب كنصيب الجهل في مقاومة القول بالتطور، فإن الأكثرين أنفوا أن يكون آباؤهم وأجدادهم قردة، وظنوا أن تصديق التطور يوجب هذا النسب لا محالة على كل فرد من أفراد السلالة الآدمية.
ولا مسوغ لهذا السخف اليوم إن كان للسخف مسوغ في حين من الأحيان، فليس باللازم في مذهب التطور أن ينتمي كل إنسان حديث إلى قرد عريق، وما من نشوئي إلا وهو يلتمس حلقة بين النوعين، ويجعل للإنسان نسبا مستقلا في أصله عن غيره من الأنواع العليا بين الحيوان.
المقارنة بين الأديان
لما كشفت أمريكا الوسطى ووجد الأسبان فيها أقواما يتعبدون على أديان لا يعرفونها؛ خف القساوسة والمبشرون إلى البلاد المكشوفة ليبحثوا في أديانهم ويحولوا أقوامها إلى العقيدة المسيحية، فأدهشهم بعد قليل أن يروا لهم شعائر كشعائر الأديان المعهودة في الدنيا القديمة، وأنهم سمعوا منهم كلاما عن التكفير والخلاص ومناسك الإيمان على شيء من الشبه بنظائره في الديانة المسيحية، وحاروا في تعليل تلك المشابهة، فخطر لبعضهم أنها بقية من بشارة قديمة نسيت واندثرت وتخلفت منها موروثاتها الممسوخة، وخطر لغيرهم أن الشيطان يزيف لهم الباطل بالحق والحق بالباطل ليخدعهم عن الدين القيم ويمزج لهم الخبيث بالطيب فيصرفهم عن الطيب كله.
وكان هذا التفسير كافيا لفهم أسرار المشابهة بين الأديان في الدنيا القديمة والأديان في الدنيا الحديثة التي رجح عندهم أنها كشفت لأول مرة، وظل هذا التفسير كافيا من أوائل القرن السادس عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر، ثم اتسعت كشوف الرحالين وتتابعت أخبار القبائل والسلالات التي تتشابه بينها شعائر الأديان والعبادات، وتقدم علم الأجناس البشرية ومعه علم المقارنة بين أديانها وعقائدها، فثبت أن التشابه بينها في هذه الأطوار الدينية أعم وأوسع مما خطر لرجال الدين من الأسبان عند كشف القارة الأمريكية، بل ثبت هذا التشابه بين السلالات التي لا صلة بينها ولم يعرف أنها اتصلت قبل القرن الثامن عشر بأزمنة متطاولة، فاحتاج الأمر إلى تفسير غير ذلك التفسير عند المتدينين والمعتقدين. أما المنكرون الذين كانوا قد برزوا وتكاثروا في أواخر القرن الثامن عشر، فقد كانوا يقررون أن الأديان كلها من وضع البشر، فاتخذوا من هذه المشابهات دليلا على صحة ما قرروه.
وقد كانت الصدمة قوية لأنصار الدين، لأن القرن الثامن عشر على الخصوص قيض لهم مشاكل كثيرة لم يفرغوا منها، وأثار في نفوس الأجيال الجديدة شكوكا تعالجها الكنائس واحدة بعد واحدة، ولا تنتهي من علاجها. فلما أسفرت المقابلة بين الأديان والعبادات عن تلك المشابهة المتكررة كانت ضربة قوية محرجة بعد ضربات مثلها في القوة والإحراج، كادت أن تخذل عوامل الإيمان والاعتقاد أمام عوامل الشك والإنكار.
ولم يحرج بهذه الشكوك جميع المعتقدين والمؤمنين، فإن الأوروبيين الذين خرجوا على سلطان الكنيسة الرومانية قد ظهر منهم أناس يؤمنون بالله ولا يؤمنون بالكتب ولا بالشعائر الكنسية، وتسمت منهم طائفة بالربانيين (Deists)
من كلمة ديوس بمعنى الرب أو الإله، وسموا دينهم بدين الطبيعة تمييزا له من دين الكنيسة، واشتهر من هؤلاء في البلاد الإنجليزية لورد هربرت شربري (Cherbury)
المتوفى قبيل منتصف القرن السابع عشر، فدعا إلى دين (طبيعي) يقوم على أركان خمسة: هي الإيمان بالله والعبادة والفضيلة والتوبة واليوم الآخر، ثم تلاه أنتوني كولنس (Collins)
الذي يعتبره الكثيرون أستاذا لفولتير وبنيامين فرنكلين في حرية الفكر، ويحسبون كتابه «محاضرة في الحرية الفكرية» (Discourse on freethinking)
إنجيل هذه النحلة. ثم تلاه تندال (Tindal)
فألف كتابه الذي جعل عنوانه أن «المسيحية قديمة كقدم الخليقة» ليثبت به أن الإيمان سابق للكنائس والمذاهب (1730).
وبعد ظهور الربانيين بقليل ظهرت طائفة أخرى تسمت باسم الإلهيين (Theists)
ولا خلاف بين الاسمين في اللغة لأن كلمة ثيوس (Theos)
مرادفة لكلمة ديوس (Deus)
بمعنى الإله، وإنما الخلاف بينهما في الإيمان بعلاقة الإنسان بالله. فالآخرون يقولون بعمل الله المتواصل في تدبير الكون، والأولون يقولون بأن الله قد أحكم خلق الكون ووكله إلى شريعته وقدره، ومنهم من يؤمن بإله كإله أرسطو يتحرك الكون نحوه بباعث الشوق إلى الكمال ولا يقبل كمال الله أن يتصل بالكون غير هذا الاتصال.
وظهر غير هاتين الطائفتين دعاة ومفكرون لا ينتمون إلى طائفة ولا يعترفون بالأديان ولكنهم يدينون بالإله والفضيلة ويسمون أنفسهم أحرار الفكر أو أحرار العقيدة.
فهؤلاء الربانيون والإلهيون لم تحرجهم المشابهة بين الأديان والعبادات؛ لأنهم آمنوا بأن الله يوحي هدايته إلى الإنسان من كل طريق وأن الناس يتشابهون في التعقل وطلب الهداية وإن تفاوتوا في ارتقاء العقول.
وتبين بعد الأخذ والرد في مقارنات الأديان أنها لم تحرج من رجال الكنيسة أنفسهم غير المتحرجين المتشددين في تحرجهم؛ لأن الفقهاء المتبصرين منهم سلموا أن الإنسان يهتدي إلى الله بالوحي وبغير الوحي، وإن كان الوحي أهدى وأفضل. وكثر فيهم من يقول كما قال صاحب «مقالات في البناء» المتقدم ذكره أن الشعور الديني قد يكون طبيعيا وقد يرجع إلى ما فوق الطبيعة، ومناط الفرق بينهما هو الإيمان بإله خالق مخلص، وهو الله.
وانجلى النزاع الذي أثارته المقارنة بين الأديان عن هذا الموقف في أوائل القرن العشرين.
فالمتدينون المتحرجون يقبلونه على أنه أثبت وجود أديان لم تكن متلقاة من طريق الوحي الإلهي، ولكنه لم ينف وجود أديان أخرى موحاة من الله.
بل ذهب أناس من المتدينين المتحرجين إلى القول بأن العبادات جميعا وحي من الله، ولكنه وحي قديم شابته الخرافات من فعل السحرة والكهان، فانحرفت الأمم البدائية في جهالاتها عن طريق ذلك الوحي القديم.
أما غير هؤلاء المتدينين المتحرجين فالمقارنة بين الأديان والعبادات قد زودت فئة كبيرة منهم بالحجة القوية على ضرورة التدين وأنه بديهة مركبة في طبيعة البشر، ولولا ذلك لما أجمعوا على التدين متفرقين في أرجاء الأرض مع اختلاف الأزمان وتفاوت الحضارات وتباعد الثقافات وطبقات التفكير.
ويصدق على المقارنة بين الأديان ما صدق على دوران الأرض والقوانين الطبيعية ومذهب التطور في مسألة العقيدة، وقد رأينا أنها شككت العقول زمنا في أصول الاعتقاد ثم أصبحت في القرن العشرين سندا لمن يؤثرون الاعتقاد ويشككون في الإنكار.
مشكلة الشر
وهي مشكلة المشاكل في جميع العصور، وليس البحث فيها مقصورا على القرن العشرين، ولا نظن أن عصرا من العصور يأتي غدا دون أن تعرض فيه هذه المشكلة على وجه من الوجوه، وأن يدور فيه السؤال والجواب على محور قديم جديد.
والقرن العشرون لم يطرأ فيه طارئ من الشر لم يكن معروفا قبلا إلى أبعد العصور التي تعيها ذاكرة الإنسان، إلا أن يكون ذلك الطارئ من قبل الضخامة والكثرة لا من قبل الشر في جوهره وطبيعته. فالناس قد عرفوا الحروب والفتن، وعرفوا الأوبئة والعوارض المتكررة، وعرفوا المظالم وضروب العدوان، وقد ثقل منها ما ثقل في القرن العشرين وخف منها ما خف، إن كان هناك اختلاف في أثقال الشر وجرائره. أما أن القرن العشرين قد عرف نوعا من الشر لم يكن معهودا فيما مضى، فذلك ما لم يزعمه أحد ممن يتحدثون عن شروره، ومنها الحروب العالمية والأسلحة الجائحة، وهي جديدة في قوة فتكها، ولكن الفتك في ذاته ليس بالشيء الجديد.
إن القرن العشرين قد أضاف إلى هذه المشكلة أسبابه وأساليبه، ولم يضف إليها شرا جديدا، بل أضاف إليها أسبابا للسؤال وأساليب للجواب، ولا يزال الباب مفتوحا للسائل والمجيب.
ومن آفات القرن العشرين أن أسباب الشكوى فيه أكثر وأعظم من جهتين لا من جهة واحدة.
فهي أكثر وأعظم لأن حروبه الطاحنة شملت الكرة الأرضية وعمت أقوياءها وضعفاءها، وكادت أن تتلاحق من أوله إلى ما بعد منتصفه، ويخشى في كل سنة أن تستأنف الحروب العالمية طغيانها وفتكها، بغير أمل في السلام والأمان.
وهي أكثر وأعظم لأن النفوس فيه تدعي الحقوق وتلح في المحاسبة، فلم يكن مستغربا فيما مضى أن يداس حق إنسان أو جماعات من الناس، ولم يكن هنالك محاسبة لأصحاب السلطان على الشرور والمظالم، فلما علم الناس في القرن العشرين أن لهم حقوقا وأن لهم أن يحاسبوا المعتدين على تلك الحقوق؛ تعاظمت شكواهم من كل كبيرة وصغيرة، وتعودوا الشكوى من شرور الحياة كما تعودوا الشكوى من شرور ذوي السلطان.
ولقد كان الناس قديما يسألون: من أين يأتي الشر إلى العالم والله خالقه رحيم قدير؟
وكانوا يسلمون الجواب ولا يلحون في الحساب، وكان هذا دأبهم في محاسبة الحاكمين من بني آدم، فلا جرم يقبلون من الحاكم الخالق ما يقبلونه من الحاكم المخلوق.
فلما أقبل القرن العشرون بحروبه وأسلحته، أقبل بدعاواه وحقوقه ولجاجته في المحاسبة والاعتراض. فإذا بمشكلة الشر تتفاقم فيه من جانبين كما أسلفنا: جانب الضخامة في الشرور، وجانب اللجاجة في المحاسبة والادعاء.
وهذا هو الجديد على المشكلة في القرن العشرين، فالسائلون فيه أكثر سؤالا والمجيبون فيه ليسوا بأقدر على الجواب من سابقيهم في القرون الغابرة، سواء بين الأوروبيين أو غير الأوروبيين.
وقد أجيب السؤال كثيرا على ألسنة المفكرين من أمم الغرب منذ نهضوا للسؤال واستشرفوا للجواب، أو منذ استقلوا بالفهم والبحث ولم يقنعوا بالتقليد والترديد.
فمن الحلول التي اختارها بعض المفكرين لعلاج مشكلة الشر أن الشر وهم يزول، ولا بقاء له مع الخير.
ومنها أن الشر لا وجود له بذاته، وإنما هو غياب الخير أو نقصه. فليس الظلام شيئا غير احتجاب النور، وليس الشر شيئا غير انقطاع الخير.
ومنها أن الشر تربية نافعة لبني آدم، وأن تجارب الأيام قد بينت للناس أن الشدة أنفع لهم من الرخاء في كثير من الأحيان.
ومنها أن الشر ضرورة ناجمة من التقاء الخيرات الكثيرة، فوجود النور مثلا ممكن، ولكنه لا بد من النور والظلام والشروق والغروب حين توجد الكواكب وتوجد معها المدارات والأفلاك، ويوجد الليل والنهار والشتاء والصيف والجدب والخصب، أو توجد مع النور خيرات غير النور.
ومنها أن الشر خير يوضع في غير موضعه. ومن يعترض على أسباب الشر كمن يعترض على خلق الماء اعتراضا على فيضان الأنهار، أو كمن يعترض على خلق الجرثومة الحية التي تتألف منها الأجسام اعتراضا على جراثيم الوباء.
ومنها أن حرية الإرادة نعمة إلهية، وأن حرية الإرادة لا تكون إلا في عالم يحدث فيه الخير والشر، وينقاد فيه الإنسان إلى العمل الصالح غير مكره عليه.
ومنها أن الشر هو تمام الخير الذي يوجد معه وينعدم بانعدامه، فلا معنى للرحمة بغير الألم، ولا معنى للشجاعة بغير الخطر، ولا معنى للكرم بغير الحاجة، ولا معنى للصفح بغير الإساءة، ولا معنى للنجدة بغير الظلم، ولا معنى للهمة والسعي بغير الحذر من مكروه والشوق إلى مأمول.
ومنها أن الفروق بين الأشياء لازمة، ولولاها لم يوجد شيء مستقل عن شيء، ومع وجود الفروق لا مناص من الشكوى، ومن الطلب والفوات. •••
هل جرى في القرن العشرين من جديد في هذه الحلول أو هذه المعاذير؟
كلا من حيث الجوهر، ونعم من حيث التطبيقات والتفصيلات.
فالحروب الكبرى في عصر الدراسات والمقارنات قد نبهت أذهان المفكرين إلى البحث في عواقبها وما فيها من المنفعة والضرر، وقد وسعت ميادين بحوثهم حتى شملت كل ما وعاه التاريخ من الحروب الغابرة والحاضرة، ورصدت كل ما يعزى إليها من المضار والمنافع، سواء منها ما يجمع عليه الباحثون وما يختلفون فيه.
وزبدة هذه الدراسات والمقارنات أن الحروب أفادت كما أضرت ووصلت كما قطعت، وقد يكون النفع فيها أكبر من الضرر والصلة فيها أبقى من القطيعة.
فأنفع المخترعات والمعارف العلمية قد جاء عرضا في طريق التنافس على صنع السلاح الفعال، ولولا حروب القرن العشرين لما بلغت الطيارة مبلغها من الإتقان، ولما تضافرت الجهود على فلق الذرة واستكناه أسرار المادة وخفايا الطبيعة.
وقد تعاقبت شكوى الحكماء وأنصار السلم من حروب الفرس واليونان وحروب الصليبيين وحروب العثمانيين وحروب الاستعمار ، ولولاها لبقيت كل أمة في عزلتها أو لبقيت القارة الأمريكية كلها حيث كانت مجهولة على سطح الكرة الأرضية.
وإذا كانت للحروب فائدة تقترن بالضرر، وهو كثرة الموت فيها، فهذا الضرر مفروغ منه؛ لأن حياة الكائن المحدود تنتهي بالموت لا محالة، ولا فرق بين موت الألوف معا وموت الآحاد متفرقين، فهو ضرر واقع على كل حال. ولكن منافع الحروب ليست بالمنافع الواقعة في جميع الأحوال.
في هذه المعاذير شيء من الجدة ينسب إلى القرن العشرين.
وقد ينسب إلى القرن العشرين أيضا شيء من الجدة في فهم المسئولية المطلقة والمسئولية المقيدة، يمتزج أحيانا بفهم القضاء والقدر وحرية الإرادة، وهما في الصميم من مشكلة الشر كما تعرض للعقول في العصر الحديث.
فالناس في هذا العصر قد تعودوا الكلام على مسئولية المحكومين كما تعودوا الكلام على مسئولية الحاكمين، فالحكومة مسئولة والأمة مسئولة، والراعي مسئول والرعايا مسئولون.
هذا خاطر أوشك أن يزحف من الوعي الظاهر إلى الوعي الباطن، فعود العقول أن تحمل على المخلوقات بعض المسئولية ولا تلقي المسئولية المطلقة على القدر.
وهذا الخاطر من شأنه كذلك أن يكفكف من شهوة المحاسبة ولجاجة الشكوى، فلا تجري المحاسبة في مجرى واحد، ولا يزال العقل الحائر يبحث عن المحكومين المسئولين كما يبحث عن الحكومة المسئولة.
وكل أولئك خليق أن يحسب من جديد القرن العشرين في التفصيلات والتطبيقات، وليس هو بالجديد كل الجدة في جوهره الأصيل، وهو كالشر قديم.
ومن التفصيلات الجديدة - غير ما تقدم - أسلوب المفكرين العشرينيين في عرض القضايا العقلية على نمط علمي يخاطب الناس خطاب إنسان لإنسان، ويجتنب غاية الاجتناب خطاب السلطة والكهانة.
وتوضيح هذا النمط بالنماذج المنقولة أقرب من توضيحه بالوصف والإشارة، فإن النماذج تحيط بنمط الفكر وأنماط المفكرين في وقت واحد، والمضاهاة هي أوجز السبل إلى التفرقة بينها وبين أنماط التفكير قبل القرن العشرين.
قال الأستاذ لويس (Lewis)
صاحب كتاب مشكلة الألم (The problem of pain) :
إن القدرة على كل شيء معناها القدرة على ما هو في أساسه ممكن وليس معناها القدرة على ما هو في أساسه مستحيل . إنك تستطيع أن تنسب المعجزات إلى القادر على كل شيء، ولكنك لا تستطيع أن تنسب إليه الهراء ... فإذا بدا لك أن تقول إن الله قادر على أن يمنح الإنسان حرية الإرادة ويحرمه إياها في وقت واحد، فإنك لم تفلح في إسناد صفة قط إلى الله، ووحي الكلمات التي لا معنى لها لن يصبح له معنى لمجرد قولك معه: هل يستطيع الإله؟ ويبقى صحيحا أن كل شيء ممكن في قدرة الله، لأن الاستحالات معدومات وليست بالأشياء الموجودة أو التي تقبل الوجود.
وقال الأستاذ سيدني دارك من كتابه الدين في إنجلترا الغد (Religion in the England of Tomorrow) :
نحن نعيش بين العجائب والخفايا، وبغير العجائب والخفايا تصبح الحياة ثقيلة جد مملولة، الحق أن قيمة الدين العليا في عصر لا يفرط في المغالاة بعلمه المكتسب هي أنه قائم على العجائب والخفايا ...
وقد كتب جورج سانتسبري (Saintabaury) :
إن حر الفكر المعهود لا يسود كتابا واحدا ولا صفحة واحدة دون أن يقرر - أو يبدو أنه يقرر - أن ما فوق الطبيعة ينبغي أن يخضع لمقاييس الطبيعة، وهذا هو التناقض الذي يرفضه كل ذي عقيدة.
وقال الأستاذ مالكولم جرانت في كتابه «حجة جديدة في الكلام عن الله والخلود
A New Argument for God and Survival »:
نبدأ بفكرة الإله الرحيم فيتحدانا الكون الناقص، ولدينا أمام هذا التحدي ثلاثة مسالك مفتوحة: إنكار وجود الله كما فعل المغلظون في الإنكار، أو ننكر قدرته المطلقة على أحوال الطبيعة كما فعل ميل، أو ننكر صحة الشر كما فعلت مسز إدي.
هذه المسالك الثلاثة لا تقنع، فليس أمامنا إذن إلا أن نقول مع هيوم إن الله بمعزل عن سعادة الإنسان وشقائه، أو نعرف أسبابا مقنعة للإيمان بأن الشقاء الذي في الكون واعتقاد وجود الله لا يتناقضان.
والآن نرى أن الآلام والنقائص والشرور بعض السمات الملازمة للوجود، ولكن جوابنا للذين يحسبونها مانعة لوجود إله كامل أنهم يتجاهلون قيمة الشر، ويبالغون في قيمة السعادة التي تخلو من الألم، ومذهبهم هو مذهب القائلين بأن الرضى هو المثل الأعلى. ... ومن الخطأ أن نعلق كل قيمة الوجود على مقدار المتعة فيه ... فإن إنسانا لا خلاق له ... قد يجد من المتعة ما لا يجده نيوتن أو فنيلون، وما كانت المتعة تأتي على الدوام في قطار الصفات المتفق بين الناس على أنها قيم غالية. أما دواعي الشقاء فنحن نضعها في مقدارها حين نقول إنها غير قابلة للزيادة. فإذا وقع مليون إنسان وأصيبوا من الوقعة فذاك من حيث شأن الشقاء كوقوع إنسان واحد، وربما هالنا اتساع مدى الكارثة ولكننا لا ينبغي أن ننسى أن في الإنسان قوة تعمل على محوها كقوة الرغبة البالغة في الحياة وتلبية أحكام الحاضر الراهن، ولا حاجة إلى أكثر من رضى لحظة حاضرة لصد الطوفانات التي تتجمع من الأحزان السابقة، وإن عارضا طفيفا كيوم ربيع مشرق لينحي المأساة إلى الوراء بعيدا عنا، ولا يكلفنا أكثر مما فيها من المناقضة الساخرة.
ولست أريد أن أهون من شرور الوجود، وإنما أريد أن أقول إن الطبيعة تعمل لمحوها ومسحها، تاركة للإنسان من بعدها موازنة من الرضى والقناعة ...
إن تقدير قيمة الوجود إنما يقوم على قيمة الإنسان، وإذا كانت وطأة الحياة وما فيها من الشر تنزعان إلى تنمية الفكر والخلق، فالشر والألم لا يغضان من صفة الكرم في الله. إن القسطاس هنا هو القيمة المعنوية وليس المنفعة. وعلينا أن نتبين كرم الله من التدبير الذي نتبعه وراء الشر والألم، لا من الشرور والآلام في ذواتها. ... ولقد يكون سهلا - ومن ثم لا يساوي شيئا كثيرا - أن يخلق كون سعيد يحوي أناسا على أرفع حظ من الذكاء، وفي الشطرنج يدور اللعب على أخذ الملك وهي محاولة تتعب اللاعب الماهر، ولكنني أنا وأنت نستطيع أن نأخذ الملك - ولو كنا نلعب أمام «كبابلنكا» نفسه - إذا أغضينا عن قواعد اللعب وخطفنا الملك خطفة واحدة. ... ويلزمنا أن ننتهي إلى أن الكون - بالنظر إلى الله وإلينا - يشتمل على قيم تستند كثيرا إلى وجود المصاعب، ولا توجد هذه المصاعب إلا إذا أجرى الله عمله على قوانين تتحقق بها مشيئته.
ويلزم بعد هذا أن نعرض لمسألة هامة في هذا الصدد، وهي علاقة خلود الإنسان بالموضوع كله، فإن لم تكن للإنسان حياة أخرى فقد يتعذر الإيمان بإله يعنى بسعادة خلائقه، وما أكثر الذين يعفون من الشقاء المرهق ولكنهم يقصرون في الذكاء أو الخلق أو الخلقة أو الأغراض التي كانوا يحرصون على تحصيلها لو كانت حياتهم مقصورة على أمدها القصير في الدنيا ...
وقال إيونج (Ewing)
مدرس الأخلاق بكامبردج في كتابه عن «مسائل الفلسفة الأساسية
Fundamental Questions of Philosophy »:
يعترض علينا بأن وجود إله قادر كريم يناقض وجود الشر في العالم، ولكن هذا الاعتراض على أسوأ احتمالاته لا يمكن أن يبطل وجود الله؛ لأننا قد نتصور الله محدودا تحده العقبات التي تحول دون القضاء على الشرور، غير أن تصور الله كذلك على جميع الصور، التي عرضت حتى الآن، ليس بالمقبول في العقول المتدينة ولا تسلمه تلك العقول إلا إذا استحال القول بغيره، بل هو في الواقع يصطدم بالبديهة الدينية، فلا غرابة إذا اشتدت المحاولات في سبيل حل يوافق الإيمان بقدرة الله على كل شيء، ومن هذه المحاولات أن يعتبر الشر وهما غير صحيح، ولكنها محاولة لا تطاق إذا اعتمد أصحابها الجد فيما يقولون. لأنها تناقض أحكامنا على ما نحسه ونتفقده من شعورنا أو تناقض أحكامنا في الأخلاق، فإذا نحن قلنا إننا في الحقيقة لا نحس الألم الذي ندعي أننا نحسه ولا نقترف الإثم الذي نظن أننا اقترفناه، فنحن ننقض أحكام الوجدان والذاكرة. وإذا نحن قلنا إننا أحسسنا الألم واقترفنا الإثم ولكنهما ليسا من الشر في الواقع، فنحن ننقض أوثق مقررات الأخلاق.
وأشيع من ذلك وأقل نكرا حل القائلين إنه لا بد من شر كثير ليتحقق خير كثير، وربما لاح أن هذا القول يستتبع الحد من قدرة الله، لولا أننا نعلم أن الفلاسفة حين وصفوا الله بالقدرة المطلقة لم يقصدوا أن قدرته تتعلق بالنقائض، أو تجعل مجموع الاثنين خمسة، أو تخلق كائنا هو إنسان وليس بإنسان في وقت واحد. ولا ريب أننا إذا عنينا بقدرة الله المطلقة هذا المثال من القدرة وجب أن نسلم أن مشكلة الشر لا تحل على صورة من الصور ، إذ لا يسعنا في هذه الحالة أن ندعي أن خلق الشر سائغ لتحصيل الخير الأعظم، وفي وسع الله على هذا الفهم أن يمحو الشر ولو كان وجوب الخير متوقفا عليه. إلا أنه واضح أن هذا الفهم ينقض بعضه بعضا، وأن ما يفهم من قدرة الله لا يعني هذا. وإنما يعني أنه قادر على غير المتناقضات وأنه لا يحده شيء من غير إرادته.
وقد قيل إن الإنسان إذا وجب أن يكون كائنا ذا فضيلة فهذه الفضيلة تستلزم ألا يكون مسخرا ... فإذا كان الله لا يمنع الناس أن يذنبوا إلا بسلب إرادتهم؛ فقد بطل خير ما فيهم. ... وعلينا إذ نتناول الكلام على الشرور أن نرجع إلى القول بأن وقوع الشرور - لا مجرد إنكارها - يسوغه أنه ضرورة لا محيد عنها لوجود الخيرات، وهذا القول بالنسبة إلى القدري هو الحل الوحيد لجميع الشرور.
وإنها لحقيقة واقعة أن ثمة خيرات ... لا تأتي بغير محصول الشر، فكيف تتسنى الفضيلة مثلا بغير المغريات والعوائق، ومن ثم بغير الشر ولو في صورة الألم والعرقلة؟ وكيف توجد شجاعة بغير ألم أو مشقة أو خطر؟ وكيف يوجد الحب في أرفع حالاته التي نعرفها ما لم يكن هنالك داعية للعطف والإشفاق والتضحية ... لا بد من شر نغلبه كي نحصل على فضيلة الغلبة عليه، وربما كان هناك ضروب أخرى من الحب والفضيلة كالتي نتخيل أن الكائنات العليا التي تعلو على طوق الإنسان متصفة بها ولا تنطوي على شر من الشرور، ولكنها - إذا صح تخيلنا - نوع آخر غير حبنا وفضيلتنا، وكلما تعددت أنواع الفضائل كان ذلك أفضل وأجمل. ... ومن اللازم أن نضيف إلى ما تقدم - نظرا لتفاقم الشر وانتشاره في العالم - أن حلا كهذا لمشكلة الشر لا يمكن أن يقبل أقل قبول ما لم يكن للإنسان بقاء بعد موت جسده، وأننا إذا وقفنا عند هذه الحياة وحدها؛ فمن غير المعقول أن تكون الدنيا خلقة إله كامل قادر على كل شيء. وإن هذا لحجة قوية تؤيد الحياة الأخرى إذا سلمنا مذهب الربانيين، ولست أرى وجها ما للاعتراض من الوجهة المنطقية على تقدير تلك الحياة الأخرى، وحجة تضاف إلى هذه الحجة أننا متى تصورنا الله لطيفا رحيما تصورناه لا محالة محبا (للشخصيات) التي يخلقها، وإذا أحبها فكيف يسمح بفنائها؟
إن الشرور التي في هذا العالم لا ريب مفزعة بفرط كثرتها وانتشارها، ولكننا لا نستطيع أن نعرف حقا مقدار الشرور التي لا بد منها لتحصيل الخير الأعظم، فإن أعظم فضائل الأخلاق إنما تتحقق عند مفاضلة أعظم الآفات. ... وهناك قضايا غير قضية الشر تتصل بالبحث عن الله مما قد تصدى الإلهيون والفلاسفة قديما للنظر فيه، فينبغي لهذا النظر أن نشجعه ونحض عليه لا أن نبخسه ونصد عنه. إذ ليس من أعمال الإنسان ما هو أنبل من تحصيل العلم بحقيقة الحقائق جهد المستطاع، إلا أن الإلهي الذي ينظر هذا النظر مطلوب منه أن يذكر على الدوام أن الله أعظم كثيرا جدا من كل صورة نحن قادرون على إدراكها ...
وعلى هذا النحو معظم الحلول التي يرجحها أوساط المفكرين في القرن العشرين، ونريد بأوساط المفكرين أولئك الذين يدرسون ويتأملون ويقابلون بين الآراء ثم يجتهدون في تنسيق حل يستريحون إليه بتفكيرهم وشعورهم، فهم آحاد مستقلون يتخيرون الآراء ولا ينخرطون في سلك مذهب يتشيعون له مقلدين أو متعصبين.
وليس في هذه النماذج التي أجملناها شيء مبتكر لم يسمع قبل القرن العشرين، وما كان لنا أن نترقب شيئا مبتكرا كل الابتكار في مشكلة عريقة كمشكلة الشر التي خامرت كل فكر، وساورت كل نفس، وتعلقت بكل معتقد، فغاية ما يستحدثه المفكرون في أمثال هذه المشكلات أن يعرضوها على مناهج عصورهم وأن يصبغوها بصبغة عقولهم، وهذا الذي صنعه مفكرو القرن العشرين إذ عرضوا لها من ناحيتها الفلسفية، فإنهم أطلقوها من صبغة الأوامر الحتمية (Dogma)
التي اتسمت بها فلسفة الدين في القرون الماضية، وأنهم تخاطبوا بها كما يتخاطب الإنسان والإنسان بمعزل عن البيعة والصومعة، وأنهم راجعوا من سبقهم فانتفعوا بفرصة المراجعة والانتقاء.
وجديد المسألة من الوجهة الشعورية في هذا العصر هو كما أسلفنا يدور على وجهة الشعور لا على أصل الشعور. فقد كانت شرور الحروب العالمية أوسع الشرور ميدانا وأشدها إثارة للسخط والتساؤل، مع تعود الناس في هذا العصر أن يتساءلوا عن كل أمر جلل وأن يطلبوا الإقناع الذي لا تحكم فيه.
ولم ينصرف هذا السخط دفعة واحدة إلى التمرد والإنكار، فليس من طبيعة العالم الإنساني أن يصرفه السخط إلى ناحية واحدة، وبخاصة حين يحيط السخط بأعماق الضمير وآفاق النظر، وتراث العصور الماضية ورجاء العصور المقبلة. وقد استخلص الباحثون من استقراء أحوال الحروب أنها تضر وتنفع وتقطع وتصل، وأن أضرارها لا تزيد شيئا على طبيعة الشر وأن منافعها تأتي بأشياء لم تأت من غيرها.
هذا «رد فعل» الحروب في بحث العقول.
أما «رد فعلها» في جانب الشعور فلم يذهب في وجهة واحدة فيما هو من شئون العقيدة، إلا أن تكون تلك الوجهة الواحدة هي الإجماع - أو ما يقرب من الإجماع - على الشعور بالحاجة إلى ثقة الإيمان.
فمن المجمع عليه بين الناس أن ثقة الإيمان مطلوبة، وأن أشد الطلب لها إنما يكون عند تفاقم الشعور بالمصيبة.
وقد اتفق أبناء القرن العشرين على القلق الذي يلجئ النفس البشرية إلى طلب الإيمان.
لكنهم افترقوا في إمكان الإيمان في هذا الزمان.
فمنهم من يرى أنه مطلوب غير ممكن، ثم يعوض العقيدة الدينية بما يشبهها من العقائد الشاملة، فيهبط بها إلى الأرض غير متطلع إلى السماء.
ومنهم من يرى أن الإيمان ممكن لأنه مطلوب، وما دام مطلوبا فلا منصرف عنه ولا بد من الوصول إليه، وبرهانه على صدق الإيمان أنه حاجة من حاجات الطبيعة، وأن الطبيعة لا تعطيه خالصا قويا إلا إذا ارتفع إلى ما فوق الطبيعة، وجاوز الأرض إلى السماء، أو جاوز الواقع المشهود إلى الغيب المحجوب.
وإخالنا نجمل مشكلة الشر في القرن العشرين إجمالا كافيا حين نقول إن القرن العشرين قد تركها حيث هي من الوجهة الفكرية الفلسفية. أما من الوجهة الشعورية فقد كان الشعور بأن شرور العالم لا تطاق صدمة من جانب ودفعة من جانب آخر. ولم تضطرب النفس الإنسانية قط بالشعور الذي لا يطاق إلا التمست لها ملاذا فوق طاقتها وقاربت بذلك ملاذ الإيمان.
وبعد، فليفرض من شاء أن مشكلة الشر عقدة باقية، فماذا نريد؟ أنريد كونا كهذا الكون الهائل لا عقدة فيه ولا ينطوي على سر مجهول وراء حجاب.
إن كان هذا مرادنا فليس بالعجيب ألا نجاب إليه ...
محصل وتمهيد
محصل الفصول المتقدمة أن أسباب الإنكار في القرون الماضية فقدت قوتها في القرن العشرين.
وأسباب الإنكار الكبرى منذ القرن السادس عشر أو السابع عشر هي مسألة دوران الأرض، ومسألة القوانين المادية، ومسألة التطور، ومسألة الأديان المقارنة، ومسألة الشر وعلاقتها بالقدرة الإلهية.
فهذه المسائل كانت في نشأتها حجة على بطلان العقائد التي واجهتها.
ولكنها قد صارت في القرن العشرين إلى موقف غير موقفها في القرون الماضية، فليس الإنكار الذي يقوم عليها اليوم حاسم الحجة ولا موصدا لأبواب المناقشة والسؤال.
بل تنقلت هذه الأسباب بين مباحث العلم والعقل حتى صلحت للشك في الإنكار، بعد أن كانت فيما غبر مصوبة كل قوتها إلى الشك في الإيمان.
من دلائل التدبير الإلهي اليوم أن الأرض سيارة حول الشمس، وليست مركزا تدور حوله السيارات والشموس.
ومن القول الجزاف اليوم أن يقال إن محسوسات المادة هي وحدها الوجود الحقيقي وأن المتكلمين عن أصول المادة يأتون بشيء أثبت من الكلام عن الأرواح والمجردات.
ويعود النشوئيون اليوم فلا يجدون في مذهب النشوء ما يعطل الإيمان، ولا ينسون أن المذهب كله ينسب إلى عالم مؤمن وعالم آخر يرفض الاعتماد على المصادفة؛ التي لا تعقل في تفسير ظواهر الكون والحياة.
أما المقارنة بين الأديان فالذين اتخذوها دليلا على أصالة الدين أكثر عددا وأقوى حجة ممن يبطلون بها الأديان.
وأما مشكلة الشر ففيها اليوم ما يحفز النفوس إلى الإيمان ويزعجها كلما ركنت إلى التعطيل والإنكار، والمنكرون الذين أغلقوا الباب من جرائها أقل من المنكرين الذين تركوه مفتوحا ولم يروا من أمانة العلم والبحث أن يغلقوه ويصروا على إغلاقه، وهم لا يعلمون ما يأتي به الغيب.
هذا هو محصل الأسباب التي شككت العقول في القرون الماضية، وخلاصة ما آلت إليه في القرن العشرين.
وهذا المحصل هو التمهيد الواجب لبيان العقائد التي اختارها لأنفسهم أناس من مفكري القرن العشرين في مختلف مذاهب التفكير، منهم علماء وأدباء وفلاسفة وأخلاقيون، وكلهم من المطلعين على زبدة المعلومات التي أوجبت الشك قديما أو توجبه في العصر الحديث.
وغني عن القول أن عقائدهم التي اختاروها لأنفسهم غير العقائد التي اصطدمت بالشكوك في العصور الماضية، وهم لا يريدون أن تصطدم بالشكوك التي يعرفونها حيث كانت، وليس يفهم من ذلك أنها عقائد أقوى وأمتن في نفوس أصحابها، إذ لا ننسى أن العقيدة التي يخلقها الإنسان لا تبلغ من القوة في نفسه مبلغ العقيدة التي تستولي عليه وتهيمن على وجدانه، ولكنها في غيبة العقيدة المهيمنة هي حيلته التي لا حيلة له غيرها حيث يرفض الإنكار والتعطيل.
أو هي على التحقيق أرجح في عقولهم وضمائرهم من الإنكار والتعطيل.
عقائد العلماء
من العلماء من عقيدته تقرير وتوكيد، ومنهم من عقيدته ترجيح ورغبة، ومنهم من عقيدته استعداد وانتظار. وحصة هؤلاء في تأييد العقيدة غير قليلة، لأنها بمثابة «فتوى علمية» بأن العلوم التي تفرغوا لها وبلغوا مبلغ الثقة فيها لا تعارض الإيمان في أساسه، ولا تمنع صاحبها أن يفتح صدره وضميره لعالم الغيب، فليس عالم الشهادة عندهم بالعالم الوحيد.
ولا نعرف من علماء القرن العشرين من هو أبعد شوطا في الاعتقاد من الدكتور ألكسس كاريل (Alexis Carrel)
الطبيب المتخصص في بحوث الخلية ونقل الدم والأعضاء، والمشتغل بالطب علما وجراحة وإشرافا على معاهد العلاج والنظريات العلاجية، وصاحب جائزة نوبل سنة 1912، ومدير معهد الدراسات الإنسانية بفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية.
وإذا عدت بواعث القلق النفساني في القرن العشرين لم يكن كاريل غريبا عن واحد منها. بل صح أن يقال إنه عاش حياته كلها في حومتها سواء في القارة الأوروبية أو القارة الأمريكية، فقد تولى علاج الجرحى والمرضى في الحرب العالمية الأولى وتولى الإشراف على معهد روكفلر للتجارب العلمية، وتولى الإشراف على معهد الدراسات الإنسانية خلال الحرب العالمية الثانية، ولم ينقطع قط عن الاهتمام بالحياة في خلايا الجسد وفي أعماق الروح، وولد بفرنسا سنة 1873 ومات فيها بعد رحلات كثيرة سنة 1944، فكان مولده في غبار حرب السبعين، وكانت وفاته في غبار الحرب العالمية.
وليس في العلماء المعتقدين من هو أبعد منه شوطا في الإيمان بالله، وخلاصة إيمانه أن الله لازم للإنسان لزوم الماء والأكسجين، وأنه راقب آثار المادية في تجاربه بالولايات المتحدة فعزا إليها كثيرا مما يعرض للشباب من الخلل العقلي والحطة الخلقية، فضلا عن تعويد الفكر أن يتشبث بالآراء الحتمية، حتى يفقد القدرة على صحة الحكم والتبصر في الأمور.
ويؤمن كاريل بأن كل خلية في الجسم تتهدى بالعقل الأبدي إلى موضعها من البنية المرسومة، وتعمل في كل خطوة من خطواتها كأنها ترى تكوين الجسم كله ماثلا أمامها، ولهذا يعن له أن وجود الخلية الحية أبدي غير زمني، لأنها تحتوي الوجود المقبل قبل وجود الزمان، ويعن له كذلك أن الكون على رحبه مملوء بعقول فعالة غير عقولنا، وأن العقل الإنساني هاد قاصر بين دروب التيه التي حوله إذا كان معوله كله على هدايته، وأن الصلاة من وسائل الاتصال بالعقول التي حولنا وبالعقل الأبدي المسيطر على مقادير الأكوان قاطبة فيما هو ظاهر لنا وما هو محتجب عنا في طي الخفاء، وليست قوة الصلاة عنده مقصورة على صاحبها، ولا هي من قبيل الإيحاء النفسي الذي ينفع الإنسان لاقتناعه به في صميم وجدانه، بل هي قوة تسري من المصلي إلى غيره، ويستطيع أن ينفع بها غيره إذا توجه إلى الغيب داعيا له ملتمسا له الهداية والفلاح.
قال في رسالته الصغيرة عن الصلاة:
وليس من الضروري لحدوث هذه الظاهرة أن يصلي الإنسان لأجل نفسه. فقد شفي أطفال صغار لم يتكلموا بعد كما يشفى أناس لا يؤمنون في لورد (Lourdes)
لأن بجوارهم أناسا يصلون لهم. وكثيرا ما كانت الصلاة لغير صاحبها أنفع من صلاته لنفسه، وإنما تستمد الصلاة فعلها من عمقها وخلوصها.
وقال قبل ذلك في تعريف الصلاة: ... إن الصلاة على ما نرى تسام من النفس إلى أوج اللامادية من الدنيا، وهي على أكثر ما تكون شكاية أو ابتهال أو صرخة أو استغاثة، وهي في بعض الأحايين تأمل خالص في أصول الوجود ومصادره، ويصح أن يقال إنها ارتفاع بالروح إلى المقام الإلهي عنوانا للتوجه بالحب والعبادة إلى الذي منه صدرت الأعجوبة التي هي الحياة ...
والشعور بالجانب «المقدس» من هذا الوجود حالة لا تنفصل من حالة الخشوع الذي يلازم الصلاة، فلا صلاة مع الابتذال والجشع والتهافت على اللبانات، وإنما الصلاة تطلع مع الحب وفزع مع الثقة، وهي بهذا نوعان: مناجاة وابتهال، ومن الجهل بها أن يقال إنها أشبه شيء بأن يطلب الإنسان من الله أن يخل بنظام الكون ويغير الأسباب والمسببات؛ لأن المصلي وعقائده وملهماته جزء من نظام الكون وسبب من الأسباب التي يحيط بها علم الله. ثم ختم الرسالة قائلا:
والخلاصة أن الشعور بالقداسة مع غيره من قوى النشاط الروحاني له شأن خاص في الحياة؛ لأنه يقيمنا على اتصال بآفاق الخفاء الهائل من عالم الروح. وبالصلاة يسمو الإنسان إلى الله ويداخل الله سريرته. وهي على ما نرى ضرورة لا غنى عنها لنمو الإنسان في أرفع حالاته، ولا ينبغي أن ننظر إليها كأنها عمل لا يلجأ إليه غير الضعاف والمتسولين والجبناء كما قال نيتشه: إنها شيء مخجل. فما الصلاة بأدعى إلى الخجل من شرب الماء والتنفس، وإن الإنسان ليحتاج إلى الله حاجته إلى الماء والأكسجين، وهذا الشعور بالقداسة إلى قرائنه من الشعور بالبصيرة والحاسة الخلقية وذوق الجمال وضياء الفهم - هو تمام الازدهار والنضج للشخصية الإنسانية، ومما لا جدال فيه أن استيفاء حياتنا يتطلب منا أن ننمي كل نشاط فينا يشمل الجسد والذهن والعطف والروح، وما الروح خلو من العقل ولا من العاطفة. فمن واجبنا إذن أن نحب جمال العلم وجمال الله ...
وقد كانت رسالة الصلاة زبدة آراء العالم الطبيب في مسائل العقيدة، وأجمع منها لآرائه كتابه عن «الإنسان المجهول» (The Unknown Man)
وهو في بابه أجرأ كتاب كتبه عالم باسم الطب والعلم في مسائل العقيدة والروح؛ لأنه أعلن فيه أن النظر إلى الإنسان كأنه آلة جسدية هو «خطأ طبي» أو خطأ علمي تثبت للباحث جرائره الحسية كما يثبت كل محسوس يعتمده أصحاب التجارب الطبية والعلمية، وختمه بنداء إلى ذوي الرأي والبصيرة كأنه توسل في محراب، ناشدهم فيه أن يعتقوا ضمائرهم من ربقة الكون المادي الذي بناه لهم الطبيعيون والفلكيون، وقال فيه إن الوقت قد حان لأن نعمل خلاصنا بأنفسنا، ثم قال: «إننا لا نضع للخلاص برنامجا، لأن البرنامج يخنق الحقيقة الحية تحت غشاء متحجر، ويمنع تفتق المجهول عن وارد الغيب الذي لا ينتظر ولا يسبقه خبر، ويحبس المستقبل في حيز العقل المحدود. وإنما علينا أن ننهض ونتحرك، وأن نطلق أنفسنا من المصطلحات العمياء ونقبل على طبائعنا بما أودعته من الغنى والذخيرة المركبة.» «وقد أشارت علوم الحياة إلى بني الإنسان نحو قبلتهم ووضعت تحت أيديهم الوسائل التي تبلغهم غايتها، ولكننا لا نزال غائصين في الدنيا التي خلقتها علوم المادة الميتة غير ملتفتين إلى عوامل النمو والكمال التي في نفوسنا، بين جدران دنيا لم تخلق لنا لأنها من صنع الخطأ في تفكيرنا والذهول عن حقيقتنا، ومثل هذه الدنيا لا يمكن أن تلائمنا ونلائمها، فلا مناص لنا من الخروج عليها وأن نبدل قيمها ونعيد نشأتها وفاقا لمطالبنا الصادقة، وأن هذه العلوم الإنسانية اليوم لتخولنا أن ننمي كل قوة كامنة في أجسامنا، فنحن نعلم الأسرار الآلية في وظائفها وفي ملكاتها القليلة، ونعلم من ثم مواطن ضعفها، كما نعلم كيف تخطينا أوامر الطبيعة ولماذا عوقبنا وضللنا في الظلمات، ولكننا على هذا نبصر خلال الضباب قبسا من الفجر خليقا أن يهدينا سبلنا إلى النجاة ...»
وقد جاء كتاب الإنسان المجهول في إبانه فتجاوبت به الأندية العلمية والدينية سنوات، وقيل إن وطأته على مذاهب الإنكار قد حملت دعاتها على تطويقه بسد خفي من المصادرة، فوقفت نشره عند حد محدود. •••
ويشبه كاريل في اطمئنانه إلى عقيدته المختارة طبيب آخر من الفرنسيين اشتغل مثله بمباحث التشريح والعلم الطبيعي وعمل مع الأستاذ كوري وقرينته، ثم تسامعت المعاهد بتقريراته العلمية والطبية فاستدعاه معهد روكفلر لمواصلة بحث مع أعضائه في خصائص وعلاج الجراح، ثم عاد إلى فرنسا بعد سبع سنوات فتولى رئاسة معهد باستور للمباحث البيولوجية الطبية، واختير بعد عشر سنوات (1937) مديرا لمعهد الدراسات العليا بجامعة السربون، ونال في سنة 1944 جائزة جامعة لوزان بفلسفة العلوم.
هذا الطبيب العالم الذي قلنا إنه يضارع كاريل في اطمئنانه إلى عقيدته هو ليكونت دي نوي (De Nouy)
صاحب كتاب القدر الإنساني أو قدر الإنسان (Human Destiny) ، وفحوى رسالته فيه أن العقيدة لا تقاس بالمنطق والحساب ولا يقال عن الضمير الإنساني إنه يؤمن بجدول الضرب أو التجربة الكيمية، وإنما طبيعة الإيمان من طبيعة الحياة وهي سر لم توضحه حتى اليوم نظرية من نظريات العلوم، ومدار الإيمان عند دي نوي هو شعار الفيلسوف الإسباني (أنامونو) (Unamuno)
وهو: «إن اعتقادك في الله هو أن ترغب في وجوده، وتزيد على هذا أن تبني عملك على أنه موجود.»
قال: «كثير من الأذكياء وذوي النية الحسنة يتخيلون أنهم لا يستطيعون الإيمان بالله لأنهم لا يستطيعون أن يدركوه. على أن الإنسان الأمين الذي تنطوي نفسه على الشوق العلمي لا يلزمه أن يتصور الله إلا كما يلزم العالم الطبيعي أن يتصور الكهرب، فإن التصور في كلتا الحالتين ناقص وباطل، وليس الكهرب قابلا للتصور في كيانه المادي. وإنه مع هذا لأثبت في آثاره من قطعة الخشب، ولو أننا استطعنا أن نتصور الله لما استطعنا أن نؤمن به لأن تمثيلنا إياه - لاصطباغه بالصبغة الإنسانية - يخامرنا بالشكوك.» «... وليست الصورة التي نتمثلها للإله هي التي تثبت وجوده، وإنما يثبت وجوده ذلك الجهد الروحاني الذي نبذله لمعرفته، وكذلك الفضائل إنما يعول فيها على شعورنا بها لا على نتائجها.»
وبعد أن أشار إلى فضل التدين العميق - حتى التعصب - في وقاية المسلم والبرهمي من غوائل الجحود، مضى يطبق قوانين التطور على الضرورات الروحانية والخلقية فقال: إن إنشاء بيئة جديدة لازم لوقاية الأنواع المهددة من عواقب الانحلال والانقراض، وإن النوع الإنساني يواجه حالة كهذه الحالة في أمر العقيدة فلا بد له من بيئة روحانية جديدة.
قال : «على الإنسان أن يفهم أن التطورات الآلية التي أدخلها في بيئته وراح يلائم بينه وبينها لن تكون لها إلا نتيجة من نتيجتين، وهما التقدم أو الدمار حسب نجاحه في شفاعتهما بالتطور في بيئته الخلقية. فواجب الإنسان إذن أن يزيح جانبا معالم حضارته الباطلة ويقيم في مكانها معالمه الصادقة، وهي الكمال الذي يوافق كرامة الإنسانية، وليس المطلوب منه أن يحارب التقدم الآلي - ولا طاقة له بمحاربته لما يرجى من المزيد في تقدم العلم والطب - بل بتهذيب النفس والارتفاع بأمثلتها العليا.» •••
ومن العلماء المؤمنين روبرت بروم (Broom)
عضو الجمعية الملكية الإنجليزية، ووليام براون (Brown)
أستاذ علم النفس بجامعة أكسفورد وصاحب التجارب المشهورة في العلاج النفساني، وسير آرثر تومسون (Thomson)
أستاذ التاريخ الطبيعي بجامعة ابردين، والأستاذ جوردون عضو جماعة الأطباء الملكية بأدنبرة، وهم يتناولون مسألة العقيدة من نواح متفرقة ولا تجتمع منهم مدرسة خاصة كمدرسة العلماء الباحثين في الذرة وأصل المادة من الأقطار الأوروبية المتعددة.
سئل الأستاذ بروم عن عقيدته الدينية باعتباره رجلا من رجال العلم الحديث، فأجاب في فصل خاص كتبه لمجموعة (الروح العصري نحو فلسفة الإيمان) (Modern Spirit towards a Philosophy of Faith)
وقد نشرت هذه المجموعة سنة 1951.
قال الأستاذ بروم: من نحو عشرين سنة اهتم بعضهم بأن يبحث عن الآراء المادية التي شاعت بين الدوائر العلمية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر! هل لا تزال على شيوعها؟ أو أن الآراء الأخيرة عن بناء المادة ومذهب النسبية وعلوم الحيوان قد عدلت على صورة من الصور فلسفة رجال العلم في القرن العشرين؟
فتبين أن فئة مدهشة - بنسبة عددها إلى سائر أعضاء الجمعية الملكية - قد قررت بأسلوب واضح أنها تؤمن بعالم روحاني وعناية ربانية مهيمنة، وأن كثيرا منهم يعتقدون بقاء الشخصية بعد موت الجسد، وظهر في امتحان الأسئلة أن عددا كبيرا من الأعضاء لم يحفل بالإفصاح عن رأيه، مما قد يفهم منه أن بعضهم على شك وتردد، وقد يكون الشك والتردد خطوة في طريق الإيمان.
ولقد كانت مباحثي في الخمسين السنة الأخيرة مفرغة على الأكثر لدراسة الحفريات الفقارية، ولم تقنعني هذه المباحث بأن أنواع الحياة الأخيرة قد جاءت من طريق التطور وكفى، بل أقنعتني كذلك بأن هذا التطور لم يحدث جزافا ولا عرضا، ولكنه حدث بهداية أو هدايات روحانية.
إن داروين سيظل في مكانه الرفيع من تاريخ علوم الأحياء والنباتات، إلا أن مذهبه في الانتخاب الطبيعي كما يلوح لي جد قاصر عن الإقناع والكفاية، وقد عدل عنه رسل والاس نفسه شريك داروين الذي أعلن المذهب معه في سنة 1858.
فأما أن التطور قد حدث فأمر لا شك فيه، ولا بد من مذهب صحيح للتطور، وإن كنا حتى اليوم لم نستقر على مذهب مقنع، وربما كان مذهب لامارك أقرب جدا إلى الحقيقة من مذهب داروين، ولكنه غير واف على الحالة التي تركه بها لامارك.
وقد ذكر رسل والاس أن كثيرا من الخلط والصعوبة قد نجم من القول بأن الاحتمال لا يقبل غير فرضين اثنين لا ثالث لهما، وهما الإله الحكيم القادر على كل شيء أو المصادفة العرضية، وانتهى في أواخر أيامه إلى إيمانه بعدة عوامل روحانية لا تسمو إلى القدرة الكاملة ولا إلى الحكمة الكاملة.
وأمران يبدو أنهما محققان: أحدهما أن التطور الذي أفضى إلى خلق الإنسان من تدبير قدرة روحانية عظيمة، والأمر الآخر أن هذا التدبير تتولاه عوامل ثانوية تخطئ في إنجازه، ولكن الغاية المطلوبة تتحقق في النهاية على الرغم من هذه الأخطاء.
والظاهر أن التوفيق بين الحيوانات وبيئاتها من عمل روح أو ملكة شبيهة بالواعية في الحيوان، ويتفق أحيانا أن يكون التوفيق غير سديد. وهذه الأرواح أو الملكات الثانوية لا تطلع على المستقبل، وقد فضل كثيرون من علماء الحيوان نظرية مؤداها أن قدرة مدبرة تدفع التطور إلى غاية معينة وتتولى الأرواح الأخرى أمر مطالبه العاجلة، وقد كان الرائد الأيقوسي العظيم في ميدان التطور روبرت شامبرز (Chambers)
يلمح ما لعله الرؤيا الواضحة لما هو قريب من الحقيقة. ومن النشوئيين من هو كبرجسون أدنى إلى التأثر بالبينات التي تدل على قوة دافعة وراء التطور، ومنهم من هو كصمويل بتلر وبرنارد شو تؤثر فيهم على نحو قوي بينات تنم على وجود عامل أو عوامل موشجة في الحيوان، يتسنى لها أن تلائم بينه وبين أحواله. «وكان رسل والاس في شيخوخته يعتقد أن الكون المادي إنما هو مظهر للكون الروحاني، وأن في الكون الروحاني أنماطا من العوامل الفعالة من القوى العليا إلى الأرواح الكامنة في الخلايا الحية، وربما تعذر إثبات هذه التقديرات بالبرهان القاطع، ولكنها فيما نراه أصلح لتوضيح الوقائع من أي تقدير يأخذ به الماديون.»
ثم قال: «ومتى سوغ الباحث لنفسه أن يقتنع بصدور التطور عن قوة أو قوى توجهه إلى خلق الإنسان؛ فمن النتائج التي تنساق إليه مع هذا الاقتناع طواعية، أن ظهور كائنات كبيرة الدماغ قائمة على قدمين لا يعقل أن يكون هو غاية القصد من تمهيد ملايين السنين، وأحرى أن يكون القصد من هذا التدبير إنشاء وحدات روحية تبقى بعد موت الجسد ...» •••
وقال الأستاذ براون من جوابه المنشور في هذه المجموعة:
هناك صورتان للتطور: إحداهما صورة التطور في الكون، أو بعبارة أخرى تطور الأحياء التي يصارع بعضها بعضا ويبقى الأصلح منها وما شابه هذه العوامل. والأخرى تطور الكون نفسه.
وإنهما لصورتان متميزتان. وهذه الصورة الثانية - وهي الصورة التي تنمى إلى ما وراء الطبيعة - مخالفة جدا لصور الأحياء المنفردين في تطورهم وفاقا لبيئة معينة. إذ ليس للكون بيئة معينة، وكل بيئة معينة فهي مطوية فيه، وليس هو من الزمان بل الزمان والمكان منه. ... هذه التطورات إذا استقصيناها إلى مداها ترينا أن العلم حري أن يقودنا إلى معرفة غير العلم، إذا نحن تمشينا معه على منهاجه وطبقا لقواعده، وتلك المعرفة الأخرى هي فلسفة ما وراء الطبيعة.
ثم قال بعد استطراد:
فإذا رجعنا إلى علم النفس ألفينا مسألة الروح أو العقل على صلة بالدماغ أو منفصلة عنه بعض الانفصال، واضطررنا إلى أن نتساءل: هل العقل مستقل عن الدماغ؟ ونعود فنذكر أن العلوم الطبيعية عزلت نفسها من مسألة الوعي ولم تزودنا بوسيلة ما للوصل بين العقل والتغيرات المادية، وكل ما نلاحظه أن للعقل نشاطا مقترنا بالتغيرات المادية في أجزاء مركبة من البدن، ولكننا لا نعلم شيئا عن حقيقة هذا الاقتران.
وليس ثمة ما يمنعنا أن نفهم أن العقل الواعي - وإن تطور من صور أبسط في الوظائف الحيوية - يتدرج شيئا فشيئا إلى حال من الاستقلال، ويتمكن من التأثير في البدن بقسط متزايد من الحرية ويصبح كيانا له وحدة تبقى بعد الجسد، وليس في وسعنا أن نقطع بأن نقيض هذا التقدير قد ثبت بأدلة العلم الحديث، ونعني بالنقيض أن العقل يستحيل أن يعيش بعد الجسد.
ثم ربط بين القول بالعقل الباقي وبين العقيدة الدينية فقال:
إن للدين تعريفات شتى، ومن تعريفاته أنه الموقف الذي يتخذه العقل حيال الوجود في شموله، ومن تعريفاته أنه الشعور بالاعتماد التام على الكون، وهذا هو تعريف سكلير ماكر (Schlerr macher) .
غير أنه لا هذا التعريف ولا ذاك ولا كلاهما معا يوفي الدين كل صفاته. فإن الرجل المعطل قد يتخذ له موقف سخرية واحتقار أمام الوجود في شموله أو موقف حيدة وقلة اكتراث. أما الشعور بالاعتماد على الكون فليس كافيا على حدة. فإننا حين نرقب المتدينين الذين يعلمون أنهم متدينون ويرى من أحوالهم أنهم كذلك؛ نبصر على الدوام عنصر العبادة قائما هنالك، نبصر العبادة والإيمان بالقيم والإيمان بقيمة عليا يتصل بها العقل الإنساني ويستجيب لها: قيمة عليا توحي إلى النفس التقديس والعبادة لأنها خير.
فكيف نقرب بين هذا المعبود وبين القيم التي أشرت إليها؟ إن هذه القرابة على ما أرى هي تلك الصلة التي توجد بين المجسمات والمعاني المجردة. إذ كانت معاني الحق والجمال والخير كلها مجردة، وكلها صور من الوجود الصادق، وكلها تمضي معا ولا رجحان لواحدة منها على الأخرى، إذ كلها بمرتبة واحدة. ومن السخف مثلا أن يقال عن آية قيمة إنها جميلة ولكنها مناقضة للخلق الفاضل أو خالية منه، فهذه القيم مستقلة لأنها صفات متعددة لكائن واحد هو الله.
ولا يوصف هذا الاعتقاد بأنه من قبيل الاعتقاد بوحدة الوجود. بل هو اعتقاد بأن الله محيط بكل شيء، ولكن الأشياء درجات، ولكل قيمة درجتها في الكائن المحدود ، وتعلو بعض القيم حتى تعم ولا تتوقف على ذوات الكائنات المحدودة. ومن التجربة والمزاولة يزداد المرء تعمقا في إدراك القيم كلما بلغ القدرة على تحصيلها. فالخير قيمة صحيحة والشر قصور عنه أقل وأنقص، والحق قيمة صحيحة والباطل قصور عنه أقل وأنقص، والجمال قيمة صحيحة والقبح قصور عن الجمال.
وصفوة كلام العالم النفساني بعد ذلك أن تصحيح النفس هو ردها إلى الشعور بهذه القيم والقدرة على تمليها، وأنه ما من نفس تمرض وفيها ثقة بالجمال والحق والخير، وأن الديانة المثلى هي قوام هذه الصحة النفسية، وأن وظائف العقل تترقى وتسمو لتتهيأ لإدراك هذه المعاني، ولا يعقل أن يتهيأ العقل لها كي يعود فينغمس في المادية والجسدية.
ويفرق الدكتور براون بين الفردية والشخصية، أي بين كون الإنسان فردا (Individual)
وكونه شخصا (person)
أو (Personality) . وعنده أن الشخصية هي الفردية وزيادة، وأن الشخصية روحانية أقرب إلى الاتصال بالروحانية العليا، أو إلى ذلك الهيام الصوفي الذي يجمع بينها وبين الروحانية الشاملة، وهذه الصوفية هي التي يعبر عنها السيد المسيح حين يقول: إن من يفقد نفسه من أجلي يجدها. •••
أما السير آرثر ثومسون فهو يعول كثيرا على تخفف الكثافة المادية واقترابها من «اللاموزونات»؛ أي المعاني التي لا توزن كالفكر والعاطفة والعناية (Imponderables) ، ويقول إننا في زمن شفت فيه الأرض الصلب، وفقد فيه الأثير كيانه المادي، فهو أقل الأزمنة صلاحا للغلو في التأويلات المادية.
وفي جوابه للسائلين عن عقيدته قال في مجموعة أخرى هي مجموعة العلم والدين (Science and Religion) : ... إذا كان العلم صيغا وصفية وكان الدين في جانبه العقلي تفسيرا علويا أو خفيا فلا موجب للتعارض الحاسم بينهما.
وقد مهد لهذا التقابل بين العلم والدين بقوله: إن الإنسان قد أحس لزوم الدين كلما انتهى إلى قصاراه من العمل أو الحس أو التفكير. ثم قال:
ليس للعقل المتدين أن يأسف اليوم لأن العالم الطبيعي لا يخلص من الطبيعة إلى رب الطبيعة. إذ ليست هذه وجهته. وقد تكون النتيجة أكبر جدا من المقدمة إذا خرج العلماء بالاستنتاج من الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة . إلا أننا خلقاء أن نغتبط لأن العلماء الطبيعيين قد يسروا للنزعة الدينية أن تتنفس في جو العلم حيث لم يكن ذلك يسيرا في أيام آبائنا وأجدادنا ... فإذا لم يكن عمل الطبيعيين أن يبحثوا في الله - كما زعم مستر لانجدون دافيز خطأ في كتابه البديع عن الإنسان وعالمه - فنحن نقرر عن روية وعن أن أعظم خدمة قام بها العلم أنه قاد الإنسان إلى فكرة عن الله أنبل وأسمى، ولا نجاوز المعنى الحرفي حين نقول إن العلم أنشأ للإنسان سماء جديدة وأرضا جديدة وحفزه من ثم إلى غاية جهده العقلي، فإذا به في كثير من الأحيان لا يجد السلام إلا حيث يتخطى مدى الفهم، وذاك في اليقين والاطمئنان إلى الله.
ومضى يقول: إن العقائد القديمة أحرى أن تعبر عن أصولها اليوم تعبيرا جديدا على هذا المثال:
في البدء كان العقل.
وكان العقل مع الله.
وكان العقل هو الله.
وكل شيء صنع من العقل.
وبغيره لم يصنع شيء مما صنع.
منه الحياة.
ومن الحياة نور الإنسان.
ثم تساءل: ألا يمكن أن يستعين العلم بالدين؟ فقال إنه يوشك أن يسمع جواب هذا السؤال من زملائه بالنفي القاطع، ولكننا ينبغي أن نفهم أن العلم للحياة وليست الحياة للعلم، وإذا كان عمل العلم المباشر أن يفهم فعمله غير المباشر أن يزيل الشرور ويزيد الطيبات، ومن الشعور الديني يستمد العالم ثروة حية هي نعم المدد للبصيرة في الكشف عن المجهول.
ثم ختم كلمته قائلا ما معناه أن الإنسان يجهل حاجته إذا وضع الدين أمام العلم موضع المناجزة، وقال لنفسه: إما هذا وإما ذاك ... «فالذي نحن على يقين منه أننا بحاجة إلى مزيد من العلم ومزيد من الدين.»
والدكتور جوردون يقول في كتابه «فلسفة عالم» (The Philosophy of a Scientist)
من فصل بعنوان (على الإنسان أن يوجد ديانته):
إذا تم للإنسان هذا تمت له عفوا إطاعته أعظم الأوامر الإلهية وهي: أحبب إلهك. لأنه سيحب إذن تلك القيمة العليا أو الصفة العليا التي هي المعبود، وذاك هو أساس كل دين.
والمعبود كائن نوجده ونخدمه ونحبه بأرفع معاني الخدمة والحب. إذ بفضل الحب ينال هذا التقدم، وقوة الحب الصحيح هي التي تنظم أو تجند كل طاقات الشخصية الإنسانية إلى وجهة أعلى وأرفع: وجهة أفضل من أنفسنا، نستطيع أن نستقبلها بالإجلال الحق ونسعى إليها في شوق لا يهدأ. وقد تنفعنا الروح الجماعية متسامية إلى المعونة المتبادلة كما شرحها كروبتكين، ولكنها لا تغني فتيلا بغير دفعة الحب، وقل إن شئت إنه من الحب الجنسي أو من الحنان الأبوي ... فإن شوق المحبوب وحنان الأبوة القريب منه هما أساس الحب الشامل، وحيث نصدق في حب المحبوب نحس فوق كل شيء أننا نطمح إلى القداسة والأمانة والحق والجمال. ... ويلاحظ أننا حين نرتقي هذا المرتقى لا نظل مشغولين بالشيء نفسه، بل بالقيمة التي يحتويها. فليس همنا المعبود أو المحبوب، وإنما همنا القيمة التي يجلوها لنا ... ويومئذ نحب الله، وحيث نحب الله في كماله نرى أن الكمال هو المهم، ويصبح كل شيء وكل أحد حقا، ويصبح كل شيء وكل أحد جميلا، ويصبح كل شيء وكل أحد خيرا. إذ ليس واحد أو اثنان أو فئة مختارة منتقاة هم الذين يدركون ذلك الكمال المنشود، بل كل في هذه الحالة يشارف كمال المعبود.
من الأمثلة المتقدمة، مثال للعالم الذي يؤمن وإيمانه قائم على حقيقة خارجية، ومثال للعالم الذي يؤمن وإيمانه قائم على حقيقة باطنية.
ومن العلماء «الإيمانيين» غير هؤلاء فئة ذات صبغة خاصة تجمعها شعبة واحدة من شعب العلم الطبيعي، أو مدرسة واحدة كما أسلفنا في مقدمة هذا الفصل عن عقائد العلماء، وهي مدرسة الذرة والبحث في بناء المادة، ومنها أقطاب هذا البحث من طبقة بلانك وهيزنبرج وادنجتون وجينس، ومذهبهم فيما وراء المادة مجمل فيما أشرنا إليه آنفا عند الكلام على قوانين الطبيعة، ومحصلة أن المادة تحولت إلى ضياء وأن الضياء تحول إلى معنى كمعاني المعادلات الرياضية الذهنية، وأنه لا محل بعد اليوم للاعتراض باسم العلم على المعاني المجردة لأنها مخالفة لما تصوره الأقدمون من شرائط الوجود الثابت في الحس والعيان، ومعظم علماء هذه المدرسة يجاوزون الناحية «النافية» التي تكتفي بنفي الموانع، ويذهبون شوطا بعيدا في الإثبات الموجب كما فعل جينس في قوله بالعقل المدبر، وكما فعل إدنجتون في قوله إن العالم غير المنظور في صميمه يوحي بهيمنة «الذات» الإلهية عليه، تمييزا للإله أن يكون مجرد معنى كما تصفه بعض النحل البرهمية القديمة، وإقرارا لعقيدة «الذات الإلهية» كما يؤمن بها المتدينون.
ولا يقف بلانك وهيزنبرج دون هذا الشوط في الإثبات الموجب، ولكنهم يقنعون بفتح أبواب الإلهام الديني على أوسعها من قبل التفكير. •••
ولم تستوعب هذه النظرات مواقف العلماء جميعا من العقيدة والإيمان. ففي العلماء كثيرون لا يذهبون إلى هذا المدى ولكنهم لا يقفون موقف العداء أو قلة الاكتراث لما يحاوله زملاؤهم في هذا المجال. ومنهم من يود لو يعتقد ولكنه لم يجد عقيدته، ومنهم من يعتقد ولكنه حين يسأل عن معتقده لا يتضح من كلامه معتقد محدود.
يمثل هؤلاء العلماء اثنان يختص كل منهما بشعبة من البحث العلمي كادت أن تكون من خصائص القرن العشرين: أحدهما مالنوسكي البولوني (1884-1942). أشهر الباحثين في الأجناس البشرية، والآخر ألبرت أينشتين العالم الألماني الإسرائيلي صاحب مذهب النسبية المشهور.
فالعالم البولوني يقول حين سئل عن عقيدته:
1
أما عني أنا فإنني لا أدري. ليس في وسعي أن أنفي وجود الله، ولست أميل إلى نفيه، فضلا عن القول بأن الإيمان بالله غير لازم.
كذلك أتمنى لو يكون هناك بقاء بعد الموت وأود لو أنتهي إلى يقين في هذا الأمر. ولكنني على كل أتمنى وأود، لا أجدني قادرا على قبول عقيدة موجبة في العناية الإلهية سواء مسيحية أو غير مسيحية ...
ثم قال بعد استطراد: «ترى هل للعلم دخل في هذه اللاأدرية وفيما يشبهها عند أمثالي؟ أظن ذلك، ولهذا لا أحب العلم وإن لم يكن لي بد من الولاء في خدمته.»
أما إينشتين فهو يحسب أن الإيمان بالله على أنه «ذات» هو بقية من تشبيهات الأديان الأولى. ولكنه يؤمن بعالم غير عالم الشهادة ويقول: «إن الإنسان الذي لم يختبر وقفة من وقفات الصوفية حيال ذلك العالم ولم يشعر نحوه بالروعة؛ هو حي حكمه حكم الميت. ولب الديانة عنده أن يعلم أن الذي لا ننفذ إليه بمداركنا هو موجود حقا متجل حقا. يطالعنا بالحكمة العليا والجمال الرائع ولا تحيط عقولنا الكليلة منه إلا بأشكال بدائية كالظلال.»
وقد شرح إينشتين عقيدته في كتاب الدنيا كما أراها (The World as I see)
وكتاب من سنواتي الأخيرة (out of my later years) ، وناقش آراء المعلقين على معتقده في الكتاب الخاص به من سلسلة الفلاسفة الأحياء، ولم يخرج إجمال تلك الشروح عما قدمناه. •••
وليس استقصاء المعتقدات التي يدين بها جميع العلماء ميسورا في هذه العجالة، ولكننا نحسب أننا مثلنا لها تمثيلا يجزئ في الإبانة عن مناحيها، وقد تلاقى الجازمون والمترددون منهم في تبرئة العلم من عداء الدين، فمن لم يكن صديقا خالصا فليس بالعدو المبين، بل وجد من هؤلاء المعارضين للدين من يثبت القصد في الخليقة مع تصريحه بأنه مادي آلي يعزز التطور بالانتخاب الطبيعي، ومنهم من يرى دلائل القصد في المادة غير العضوية فضلا عن الأجسام الحية، وقد أشار إلى هؤلاء العلماء الدكتور فردريك وود جونس عضو الجمعية الإنجليزية الملكية في كتابه عن التدبير والقصد، فذكر لورنس هندرسون أستاذ الكيمياء الحيوية بجامعة هارفارد، وروى عنه أن تقلب الليل والنهار على الأرض له معناه في تركيب ثاني أكسيد الكربون (لارتباط صلاحيته بالنور والظلام)، وأن تقلب الفصول وموقع الأرض من المنظومة الشمسية لهما معناهما في خصائص الماء بين حالتي التجمد والذوبان، وأن هندرسون قد اضطر إلى الاعتراف بأن مجرى التطور في مظاهره الكونية والحيوية يماثل مجرى الأعمال التي نقول حين نرقبها في الناس إنها مقصودة. ثم ذكر توماس دوايت (Dwight)
أستاذ التشريح بجامعة هارفارد، فروى عنه أنه كتب قبيل وفاته يقول إن صدور الرسم الواحد عن المصادفة قد يفهم، ولكن نسبة الرسوم في عدد كبير من الظواهر إلى مجرد الاتفاق سخف وهراء.
2
فإذا جاء هذا الاعتراف من العلماء المصرحين بالمادية فلا حاجة بالذين لا يصرحون بها إلى أكثر من هذا الاعتراف.
عقائد الأدباء
يستشهد بأقوال الأدباء في العقيدة لأنهم دارسون، ولأنهم موضوع دراسة .
هم دارسون لأنهم يفكرون في عقائدهم ويمحصونها ويقبلون منها ما يقبل ويرفضون منها ما يرفض، أو ينشئون لأنفسهم عقائدهم المختارة حين يرفضون كل ما ورثوه من المعتقدات.
وهم موضوع دراسة لأنهم يمثلون شعور عصرهم ويعبرون عنه. فمن أراد أن يدرس المعتقدات في عصر من العصور فمن أقرب وسائله أن يراجع أقوال أدبائه عن أنفسهم وعن أبناء عصرهم، فيعرف منها أنماطا صالحة لتصوير تلك المعتقدات.
ومن المتفق عليه أن العقيدة حاجة إنسانية في ضمائر المعتقدين، فهي من هذه الناحية شعور نلتمسه - أقرب ملتمس - في أقوال الأدباء، أي في أقوال الذين يشعرون ويعبرون عن الشعور، وهذه هي وظيفة الأدب في كل زمن. فلا أدب لمن لا يشعر ولا يحسن التعبير عن شعوره وعن كل شعور يحكيه.
فإذا كانت العقيدة موضوع امتحان ودراسة في نظر العلم فهي في ميدان الأدب موضوع تجربة وتصوير.
وتنتهي وظيفة العالم حين يقول: علمي يقبل هذه العقيدة أو يرفضها، فإذا تحدث بعد ذلك عن العقيدة كما يشعر بها أو يفكر فيها فهو والأدب سواء في هذا الحق: حق الشعور والتفكير. •••
ومن أدباء القرن العشرين في الغرب من نروي كلامه عن العقيدة لأنه صاحب رأي فيها.
ومنهم من نروي كلامه لأنه صورة معبرة تدل على مجرى الشعور بين أمثاله، وكلهم يضيفون إلى صفتهم الأدبية صفة المطلع المستفيد من علوم عصره ومباحث علمائه، فهم مثال صادق لزمانهم على كلتا الحالتين. •••
في مقدمة الأدباء العالميين الممثلين لزمانهم في القرن العشرين (برنارد شو) الكاتب الأيرلندي العالمي الذي عاش من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، وصاحب التطور في مذهب التطور نفسه خلال هذه المدة، فخرج من تجاربه ومطالعاته بمذهبه عن القوة الحيوية، وهي في مذهبه تحل محل الإله في الأديان.
ومذهبه كما لخصناه في رسالتنا عنه أن لا يؤمن بالمادية المطلقة ولا يقول بأن الوجود كله مادة مسيطرة على الفكر والحياة.
بل يؤمن بقوة غير مادية يسميها القوة الحيوية ويقول إنها تتطور بإرادتها، وإن المادة عدو لها في تطورها ، وإن ارتقاء هذه القوة في معارج الفكر إنما يأتي من طريق واحد: وهو طريق الخطأ والتصحيح والتكرار والمثابرة، ولا نهاية للارتقاء الذي تبلغه الحياة من هذا الطريق. فإنها تسلكه وتتطلع في كل مرحلة من مراحله إلى القدرة المطلقة والعلم المطلق، وقد تبلغهما في زمن من الأزمان بعد الملايين التي لا تحصى من السنين ... ... وأول خطوة من خطوات التطور عنده أن القوة الحية تلبست بالأجساد المادية لتعمل وتستفيد من معاركة المادة وإملاء إرادتها عليها، فأصبحت القوة الحيوية أفرادا متفرقة بعد أن كانت جملة مجتمعة لا تفرق بين أجزائها.
وظهر الفكر وتقدم من علاج الإرادة الحية للمادة التي تقاومها وتعاديها.
فكل معالجة تتقرر فيها تجربة ثابتة، وكل تجربة ثابتة تجري مجرى العادة، وكل عادة تتجمع مع العادات الأخرى فتهتدي بها الحياة وتتعود التفكير.
ولكن المادة من طبعها أن تعوق الفكر وتصده عن الانطلاق بغير قيد ولا حائل، وينتهي هذا التعويق بتنبيه إرادة الحياة إلى طلب الخلاص من هذه العوائق واعتماد الحياة على الفكر المجرد مستقلا من الأجسام، فلا تزال تطلب وتكرر الطلب، وتخطئ وتصحح الخطأ، وتثابر على الطلب والتصحيح حتى تبلغ ما تريد.
ويومئذ لا يبقى من هذه الأجساد الحية غير الفكر الحي المجرد المطلق من جميع القيود. ... وليس في مذهب شو مطلب بعيد على الإرادة، فسوف تتحقق الحياة بالفكر المجرد كما تحقق الفكر نفسه، وكما تحقق الحس والنظر والسمع وسائر الحواس بالمحاولة بعد المحاولة والتصحيح بعد التصحيح. ... ويزعم شو أن التطور الخلاق صالح لأن يصبح ديانة جديدة لأبناء القرن العشرين، وكما قيل عن المعري إنه سئل عن قرآنه فقال: اتركوه حتى تصقله الألسنة في المحاريب. كذلك يقول شو عن ديانته هذه إنها لا تشيع بين جمهرة الناس حتى تنشأ حولها أساطيرها وأماثيلها ومعجزاتها، ولكنها مع هذا خير من الديانات العتيقة وخير من الشكوكية وخير من المادية العمياء، وخير من مذهب داروين العتيق والحديث ... ولا يصلح الإنسان على كل حال بغير إيمان. •••
وبين نوابغ الكتاب الإنجليز في العصر الحاضر الدوس هكسلي صاحب المشاركات المعروفة في الشعر والقصة والفلسفة، وهو صاحب نزعة صوفية واضحة في جميع كتبه، وديانته الصوفية عامة في غير عقيدة محدودة يجمعها مسلك عملي في الحياة قائم على القناعة والإقلال جهد الطاقة من علاقات المرء بالدنيا وهمومها، قطعا للشواغل السفلى وتوسيعا لمنادح النفس في التماس مطالبها العليا وتوفير حظها من المتعة بالحق والجمال.
ومن كتاب القصة العالميين الأديب النمسوي فرانز ويرفل (Werfel) (1890-1945) صاحب رواية أغنية برناديت ورواية الأيام الأربعين وكتاب بين السماء والأرض، وفيه خلاصة فلسفته الدينية والخلقية، ولا تخلو هذه الفلسفة من بقايا الصوفية الإسرائيلية القديمة؛ لأنه نشأ من سلالة إسرائيلية، ولكنه يورد المصطلحات مورد المجاز فلا تؤخذ على ظواهرها الحرفية.
يقول ويرفل في كتاب ما بين السماء والأرض:
إن تفسير الكون بالقياس والتعقيب هو أنجح أحابيل الشيطان؛ لأن حجته التي تقوم عليها جميع المذاهب الوضعية المادية هي أن الشيء يساوي نفسه (س = س، والأمة وليدة الإقليم الجغرافي، والفرد محكوم بظروفه، ومطالب الشعب السياسية تتوقف على حاجاته الاقتصادية، والفيل له جلد فيل لأنه ضروري له في اجتياز أشجار الغاب بغير ضرر يصيبه ... إلخ إلخ)، ومثل هذا التفسير لغايات الطبيعة هو عند الأحمق مفتاح كل باب بغير استثناء سر من الأسرار.
وقد نجح الشيطان في تزويغ الأصول الأولى من المسألة كلها وهي أصول الخلق، والكينونة ووجود الله، وإنما تتحقق الروحانية بالإلحاح كل الإلحاح على المسألة من جانبها هذا.
وقال في الكتاب نفسه:
إن الإنسان - وهو لفة قصيرة بين العالم العلوي والعالم السفلي - لا يفلح في شيء فلاحه في توليد الشرارة التي تنقدح من هذا الالتقاء بين العالمين: شرارة الفكر التي تصهر جميع الأخلاط.
وقال فيه:
كل تقدم فهو انفصال قد تتابع من النشأة الأولى، فالنبات يبقى مغروسا في البقعة الصغيرة من تربته، والحيوان يتجول في صقع محدود، والإنسان هو الذي يفارق ويعود.
وهذه الهجرة - وإن حسبناها مجازا من مجازات الروح - إنما هي حالة لا مرجع منها، وليس على معالم الطريق إلا كلمة واحدة تقودنا من أعلى إلى أعلى: نحو الوطن.
وقال فيه :
ويل للإنسان - شك أو آمن - إذا فقد القدرة على جيشان الروح. فكل من جمد على يقين قانع فهو فريسة الشيطان، أو هو شر من فريسة الشيطان: هو ممزق سياسة.
ولقد تكون ثورة اليائس حينا من الأحيان أقرب إلى القداسة من صلاة الجمود.
وقال:
إن التجربة الصوفية التي لا معدى للإنسان عنها ساعة احتضاره تنم عن وحشة غير مفهومة لا مهرب للروح من عبورها، لعلها في انتظار تحصين يعززها مما فوق الطبيعة.
وقال:
إن الله أعظم جدا من أن يحتوي كلام الإنسان برهانا على وجوده، وأن صفته العامة - وهي الخير الذي لا نهاية له - لتثبتها بالبرهان الواقع حياة مخلوقاته، إذ هي تؤثر أن تكون على ألا تكون، كيفما كانت محنتها بالخوف والمرض والعذاب والموت.
وقال:
القانون هو حماية للإنسان من الإنسان، وضعها الإنسان في سبيل الله.
وقال:
إن الله هو الزمن كله: هو الأبدية.
ومن هنا تتمثل الشيطانية في تمزيق الزمن: فالشيطانية الرجعية تثني على الماضي، والشيطانية الثورية تثني على المستقبل.
وقال:
كيف كنا قادرين على أن نموت لو لم نكن خالدين؟
وقال:
إن الدين هو الحوار الخالد بين الإنسان والله، والفن هو المناجاة الأحادية (Soliloquy) .
وقد احتوى كتاب ويرفل «بين السماء والأرض» نتفا من هذا القبيل عن العقائد الروحية والخلقية، تفارق المراسم التقليدية في بعض تعبيراتها، ولكنها تعود فتلاقيها حول محيطها وعند غايتها، مما يجعلها مزيجا عجيبا من التجديد والمحافظة، ومن الصبغة العالمية والصبغة القومية في أضيق حدود العصبية.
ومن المفيد - وقد لوحظ أن عقائد الأدباء هي في ذاتها موضوع دراسة - أن نستخرج من أقوال ويرفل دلالتها على مصادر الاعتقاد في طائفة من الملل والمذاهب.
فقد تواتر أن العقيدة عند الإسرائيلي تصاحب روح القبيلة أو تستمد العصبية منها، وربما فارق المفكر الإسرائيلي تراثه القديم من باب واحد ليعود إليه آخر الأمر من أبواب شتى، ولو كانت في ظاهرها أبواب إلحاد ومروق. ويصدق هذا كثيرا على ويرفل كما يصدق أحيانا على سائر المفكرين من بني إسرائيل، وقد عبر عن ذلك في كلماته التي يفسر بها معنى شعب الله المختار، وقال في إحدى تلك الكلمات: «إن إسرائيل أكثر من أمة: إنها دروشة تاريخية وبيولوجية من شذاذ متفرقين على الرغم من الآحاد الموسرين هنا وهناك، ومن دخل هذه الدروشة بالميلاد طوعا لأمر الله لن يفك من عقالها إلا في اليوم الأخير قبل ختام الزمان.»
وعقيدة الرجل أن هذه الهجرة الدائمة هي رسالة القوم، وأنه من خفايا الأسرار التي لا تدرك في التاريخ الإنساني أن حب الاستقرار هو الخدعة التي يؤتى اليهود من قبلها كلما حاولوا أن يؤسسوا لهم وطنا. وقد حاولوا في القدم، قبل عصر المسيح؛ أن يحسبوا مصريين أو بابليين أو يونانيين كما يرى من كل صفحة من صفحات العهد القديم، فمزقت عنهم ستورهم وبرزت جلودهم المعذبة عارية من تحتها كرة بعد كرة، وهذه محاولاتهم في العصر الحديث تسمى تارة بحركة الاستنارة أو حركة العالمية أو التحرر أو الاشتراكية أو القومية وتنتهي إلى المذابح الأوروبية والبولونية. ولم يبق أمامهم الساعة إلا مقر من مقرين تتزاحم عليهما جموع إسرائيل في إصرار وإلحاح كما يتزاحم النمل في طلب النجاة، ولا بد للإنسان على كل حال من أن يعيش.
هذان المقران هما الديمقراطية الأمريكية أو الصعلكة الروسية، وإن قشعريرة الروح من أن تصير إسرائيل إلى أي مصير غير أن تظل إسرائيل؛ لن تستطيع الوقوف أمام هاتين القوتين.
ومهما يستكثر المؤرخ من أمثلة العقائد التي يدين بها المفكرون الإسرائيليون في العصر الحديث، فلن يجد في كل مائة مثال إلا مثلا أو مثلين يشذان عن هذه القاعدة، وتطرد الأمثلة دائما على أن «الجامعة العصبية» لا تلبث أن تملأ فراغ العقيدة من جوانح الإسرائيليين كلما انطلقوا من شعائر دينهم الموروث، فالتعب الذي يحتمله المفكر الأوروبي كي يستعيض عقيدته باسم الإنسانية أو الحضارة أو الروح الكونية؛ يحل محله تعب واحد سريع إلى نفس المفكر الإسرائيلي، وهو الجامعة الإسرائيلية أو رسالة إسرائيل كما يترسمها في مستقبل قريب أو بعيد.
وهذه الظاهرة المتكررة هي إحدى الظواهر التي يرقبها الباحثون المخصصون لشئون العقيدة ، ليقرنوا بينها وبين عوامل الاعتقاد في عقول المحدثين والأقدمين.
ولهذه القاعدة شذوذها كما تقدم، ولكنه شذوذ ضخم يكاد أن يلغيها لو كان الشذوذ يلغي قاعدته، فقد تمثل في أديب واحد أوشك أن يحلق وحده في سماء الأدب الصوفي بين قومه من مطلع القرن العشرين إلى منتصفه إذ توفي (سنة 1949).
هذا الأديب هو موريس مترلنك (Maeterlinek)
الشاعر البلجيكي الإسرائيلي الذي لقبوه بالحبر ولم يبالغوا، وإن كانوا يتهكمون، وقد أنفق حياته باحثا عن أسرار الطبيعة وأسرار ما بعد الطبيعة، فدرس غرائز النحل والنمل ودرس الديانات الشرقية التي تواترت الروايات عن قدرة أحبارها على تسخير الطبيعة، وفحص هذه الروايات في كتابه عن السر الأعظم فلم يخف على القارئ غمه لتحققه من بطلانها، وظل بعد ذلك مؤمنا بعالم الأسرار يراها ويلمسها في كل مكان بين ظواهر المادة والحياة، ومن مؤلفاته غير القصص المسرحية وغير كتاب السر الأعظم كتاب عن «أبديتنا» (Our Eternity)
وكتاب عن موقفنا أمام الصمت العظيم (Before the great silence)
وشذرات مجموعة في هذا المعنى لا تخلو صفحة منها جميعا من شواهد قوية على شعوره بأسرار الكون ووجوب التسليم بما لها من الأثر في الحياة، وهو يقول في كتاب «أبديتنا» إن المجهول سيظل مجهولا ولو رزقنا ألف نصيب كنصيبنا من الفطنة والذكاء، ولكن «فكرتنا» عن هذا المجهول هي أهم وأنبل ما تحتويه بصيرة الإنسان. إذ ليس المجهول منفصلا عن الكون لأنه مجهول، بل هو فينا ومحيط بنا وعامل بأيدينا ولا حيلة لنا في تقصير المسافة بيننا وبينه إلا أن نصاب بالقصور من تجاهل هذا المجهول، فالبصيرة الإنسانية تكبر بمقدار ما تتسع أمامها حدود ذلك المجهول، وهي تصغر بمقدار ما تصغره وتعرض عنه وتعيش معه كأنه غير موجود. •••
وننتقل من هذا الشاعر الروائي «الحبر» كما وصفوه إلى كاتب روائي عاش زمنا بين أسرار الشرق ثم قنع بأن يعيش في عالم معطل الأسرار، وهو إدوارد مورجان فورستر مؤلف كتاب (مجاز إلى الهند) وصاحب المقالات النقدية عن أدب الهند وأدب اليونان الحديثين.
ويعد «فورستر» بين أعلام القصة والنقد الفني في اللغة الإنجليزية ، ويمتاز على نظرائه بذلك الاطلاع على الأدب الحديث في اليونان والهند، حيث ساح وعمل أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد لخص عقيدته في مجموعة مقالاته، فصرح في أول مقالة بأنه لا يعتقد في الاعتقاد. ولكنه في عصر الاعتقاد حيث تحيط به العقائد المناضلة مدفوع بحكم الوقاية إلى صوغ عقيدة له تغنيه حيث لا تغني السماحة وطيب الطوية والعطف بإحسان.
وبعد أن أشار إلى الإيمان بالبطولة بديلا من العقائد المتداعية؛ قال إنه ضعيف الثقة بالأبطال لأنهم يمسحون ما حولهم وينكسون جميع الرءوس إلى جانبهم ويحفون أنفسهم أحيانا ببحر من الدماء إن لم يكن صحراء من الخلاء.
ثم ترجى أن ينبغ من الغيب محل مرموق، فقال: «إنه حين يجيء - إن جاء - لا يعظ الناس بكتاب جديد، ولكنه يستغني عن ذلك بتوجيه العلية من ذوي المزايا الخلقية، وأن يعمد إلى ما هو موجود من العزائم الصالحة والشمائل الطيبة فيجندها للعمل الناجز، أو هو بعبارة أخرى سيأتي بترتيب جديد. وقد قيل لنا في شئون الاقتصاد إنها لو وضع لها ترتيب جديد لما كان هناك محل للفاقة ولما هلك الناس جوعا في مكان ونبذوا الفاضل من الغلات في مكان آخر، فمثل هذا التغيير مطلوب في ميادين الأخلاق السياسية، وليس هذا بالمطلب الجديد. فإنه قد طلب بالأسلوب اللاهوتي على لسان جاكوبون داتودي قبل ستمائة سنة حيث يقول: «يا من تحبونني، رتبوا حبكم على وفاق!» ولكنه طلب لم يستجب، ولا إخاله سيجاب غدا، ومع هذا أرى أن الخلاص إنما يأتي من هذا الطريق لا من طريق تغيير طبائع القلوب، فليس الأمل أن يصبح الإنسان أحسن من هذا الإنسان، بل الأمل أن يرتب ما فيه من الخلق الصالح وأن يحسن توزيعه فيغلق على العنف صندوقه ويفسح الوقت لكشف أسرار الكون وطبعه منه بطابع كريم. أما الآن فإنه يكشف أسراره اتفاقا على أوقات متفرقات كأنه يغتنم الفرصة من التفات القوة العنيفة إلى ناحية أخرى، وتبدو ملكاته الإلهية المبدعة كأنها محصول عرضي يقتلع ساعة تدق الطبول وتطن القاذفات.»
ثم قال إنه ضعيف الرجاء في تحقيق هذه النبوة بالوسائل الدينية الحاضرة، وإلى أن يفلح علماء النفس وعلماء الحياة في خلق لحام جديد يربط بين الناس سيظل كل إنسان فردا راضيا بما قسم له قانعا بصفوة ما يتأتى له من مؤونة قليلة الصفاء.
وأحدث المجاميع التي عني واضعوها بنقل كلام الأدباء والمفكرين عن عقائدهم كتاب (ما اعتقد)
1
لواضعه السير جيمس مارشانت (Marchant)
وفيه فصل مسهب كتبه الأديب الشاعر المؤرخ للأدب والنقد ألفرد نويس (Alfred Noyes)
وهو من المؤمنين بعد دراسة واطلاع على الفلسفة، وقد استخف فيه بالدراسات التي تقف عند حل التأمل والاستطلاع في مسائل العقيدة وقال إن العالم لن يحل مشاكله بالوقوف عند هذه الدراسات، وإن مشكلات العالم ناجمة من عجزه عن إشباع روحه لا من عجزه عن إشباع جوفه، وسخر من قول القائلين إن الله قد نشأ في عقل الإنسان فعقب عليه قائلا: وأين نشأ زعم الزاعمين أن الكون مكنة كبيرة؟ ألم ينشأ في عقل الإنسان؟ ثم استشهد بقول لوتز (Lotze)
إن المكنات حولنا في كل مكان ولكنها في كل مكان مسخرة تابعة، فلم تشاهد قط مكنة إلا كان وراءها عقل يديرها ويسخرها، وهذا الذي ينساه الماديون الآليون الذين يزعمون أن عمل الطبيعة في أنظمتها وقوانينها شبيه بعمل الآلات. •••
والأديب الفرنسي جول رومان (Romains)
من أجدر أدباء أمته بتمثيل من المدرسة الإيمانية وسطا بين المقلدين وطلاب المظاهر والحذلقة من المنكرين وأدعياء الإنكار، وهو في رأي النقاد ضريب زولا وبلزاك في الإعراب عن المزاج اللاتيني الفرنسي الأصيل، وقد سئل عن عقيدته فكتب جوابه في فصل موجز قال فيه: إنه ليس بالشكوكي، ولا بالمتشائم، ولا يحسب العقل قادرا على استطلاع الحقيقة المطلقة، وإنه قد يقترب منها ثم ينحرف عنها هنيهة، ولكنه يرجو من تقدم الزمن أن يضطلع العلم النفساني بحكمة يعترف بها العلم الطبيعي قسرا، ولا يتسنى له أن يغفلها أو يحيلها مزدريا بها إلى مجال البحث فيما بعد الطبيعة، ويدهش الأديب لأن أقطاب العلم والفلسفة المعاصرين قانعون بأن يعيروا (نصف أذن) لما يقال عن كشف الحجب واستشفاف الغيوب.
قال: «إنني أحسبني من بعض الجوانب من العقليين الذين يقلبون ما فوق العقل (Sur-rationaist) ، وأعني أنني مستعد أن أعترف للروح عند بعض الأفذاذ في حالات مميزة بالقدرة على بلوغ الحقيقة بالإلهام المباشر، وأؤمن بأن هذا الإلهام قد تكرر حدوثه في تاريخ الروح الإنسانية، ولكني - وأحب أن أؤكد هذا لأنه مبعث كثير من الخلط والاضطراب - أرى أن هذه اللمحات إنما تطرأ عرضا بين ركام من حالات الوعي التي قد تشبهها ولكنها لا تعدو أن تكون حلما أو وهما، وليس عمل العقل في هذه الحالات أن يدفع الروح إلى رفضها جميعا بل عليه أن يعينها على التمييز بينها بمضاهاتها على الحقيقة.» «وقد ذكرت كلمة الروح مرات، والواقع أنني أرى للقوة الروحية والنفسية مكانا هاما في الكون ... وأعتقد بصفة خاصة أن المقاربة بين الروحي والمادي تصدق في تجارب الجماعات كما تصدق في تجارب الآحاد ...»
ثم ختم رسالته قائلا: «وإلى هنا لم أقل شيئا عن الله بالمعنى الشائع لهذه الكلمة، لأنني أجد من العسير علي أن أقرر معنى يقينيا أو مقاربا لليقين في هذا الموضوع.»
ومضى يناقش الفلاسفة في صفات الله، ولا يرى كيف يكون التوفيق بين القدرة الكاملة وما يعتري الكون من الآفات والعيوب، ويرجح أن المادة عائقة للمقاصد الإلهية، وأن الإنسان مطالب بأن يجتهد اجتهاده لتغليب تلك المقاصد على ما عداها.
وجملة ما يفهم من فلسفة رومان - وهو فيلسوف درس الفلسفة زمنا - أن روح الإنسان وروح الأمة ملاذ صالح للمقاربة بين المقاصد الإلهية والمقاصد الدنيوية، وأن الإجماع اللدني الذي يهتدي إليه الناس بداهة وارتجالا غير مصطنع ولا مدير هو أصدق ما يشعر به الإنسان من وحي الله. •••
ومن النادر جدا أن يشتهر في أمم الشمال (السكندنافية) أديب معطل كل التعطيل، ولكنك تلمح في كتابات المفكرين منهم لواعج القلق التي تشبه لواعج العاطفة السوارة: فهي شوق غير مستقر وغير ضعيف وغير مفارق، ولا حيلة فيه لصاحبه إلا كحيلة المحب الذي يقنع بما في أعماق وجدانه من الشوق، ثم لا يحاول أن يسلط عليه أنوار النهار، وكأنما عودتهم أجواء بلادهم أن يعيشوا تحت السحاب ويسكنوا إلى الليل الطويل، فليس من اللازم عندهم جو الوضوح والإشراف.
وقد تردد منذ سنتين اسم كاتبهم السويدي «لاجر كفيت» صاحب رواية «باراباس»، ذلك اللص الذي اختاره الأحبار والشعب للعفو عنه بديلا من السيد المسيح، وليس إيمان «لاجر كفيت» كإيمان البسطاء في الرواية، ولكنه يستلهم الإيمان من تلك البساطة ويروض حيرته الذهنية البادية من خلل السطور على الاقتداء بهؤلاء البسطاء، فإن كان ذهنه يعجز عن حل مشكلاته فاللوم عليه، ولعله لا يضيره أن يعيش بذلك الذهن الحائر ما دام يحس في الأعماق تلك الذخيرة المحتجبة المضطربة، وما دام له ذلك العطف على بساطة الإيمان. •••
وفي الشعر تكثر شواهد الاعتقاد الشخصي ويسهل على القارئ أن يلمح من تصفح ديوان الشاعر قبلته في العقيدة الدينية.
وقد أردنا أن نختار من الشعر الإنجليزي ثلاث مراحل على حسب السن، وأن نختار من كل مرحلة شاعرا ممتازا بحكم الشهرة العامة، فاخترنا من المرحلة الأولى جون ماسفيلد الشاعر المتوج، ومن المرحلة الثانية توماس إليوت صاحب جائزة نوبل منذ سنوات، ومن المرحلة الثالثة ديلان توماس (Dyllan)
أوفى الشعراء الشبان نصيبا من تقدير النقاد الجديين.
أما ماسفيلد فهو مؤمن بالله يتجاوب شعره في الأزمات العالمية بما يشبه الصلاة، وفي إحدى قصائده (عونا للإنسان) يناجي الأمل الذي يتطلع إليه ابن آدم كما يتطلع إلى فلق الصبح لا إلى نجم عابر، أو كما ينظر إلى نهار صاح يعيش فيه لا كما ينظر إلى علامة متنقلة، ويقول إن كل مخلوق آدمي يولد هو روح يلبس الجسد في حجته بين ظلماتنا، ويقبل من الغيب مزودا بالجمال والحكمة والفرح، فيجمع بيننا الحزن والحماقة والشطط، فإن لم يقض بعد ذلك قتيلا مات وهو مجلل بأخطاء الزمان.
ثم يتساءل: «أما كان الأحرى بكل مولد أن نستقبله كأنه طالع إلهي يؤم بالناس قبلة الإخاء الذي هم في حاجة إليه؟ أما كان الأحرى به أن يكون دعوة لقادم جديد يقبل إليهم بعد عناء؟ أليس هذا التقديس للحياة جديرا أن يمهد لعيش أكرم وأسلم، وأن يكون من إيمانه أنه عالم يعمه الإخاء، ومن خيره أنه جنة على الأرض، ومن رجائه أنه صدى للغناء - هناك!»
وهو يومئ «بهناك» إلى عالم لا يسميه ولا يشير إلى مكانه، ولكنه هناك ... مأنوس محسوس.
أما إليوت فقد مضى عليه سنوات وهو يطرق بابا من أبواب المجهول ثم يوصده أو يولي عنه إلى غيره، أو هو يشك لسبب ثم يشك لسبب آخر ثم يوازن بين الأسباب، حتى انتهى به المطاف إلى التمذهب بمذهب الكنيسة الكاثوليكية الإنجليزية، إيثارا للاعتقاد في الجماعة، وإيمانا بواجب كل فرد أن يتصل ولا ينفصل في مسائل الديانة حيثما استطاع.
وأما ديلان توماس فقد ظهر ديوانه الأخير قبل نهاية السنة الماضية (1952) وقال عن سبب جمعه من كلمة موجزة في تصديره:
قرأت مرة عن راعي غنم سئل: لماذا صنع من تمائم السحر تعويذة إلى القمر عسى أن يحرس له قطيعه؟ فقال: لو لم أفعل لحقت علي لعنة الحماقة.
وهذه القصائد بكل ما فيها من الخشونة والشك والخلط قد نظمت في حب الإنسان والثناء على الله، ولو لم أنظمها لحقت علي لعنة الحماقة!
وفي هذا السطر الأخير من التصدير كل ما استطاعه الشاعر من البيان: هكذا وإلا فهو أحمق (damn fool) .
ويخرج القارئ من الديوان كله على إيمان بالله غير محدود، أو هو إيمان حدوده أن الله عنوان لخير ما يرجى في الحياة الإنسانية، وماذا بعد الحياة الإنسانية؟ حب لا يحاسب ولا يدين (Unjudging love) . وذلك غاية ما يقال - في شعر الديوان - عما بعد الموت من حياة.
وقد اخترنا هؤلاء الشعراء الثلاثة لأنهم جميعا شعراء معبرون عما يحسونه في أنفسهم وما يحسونه حولهم، وأعرضنا عن أدعياء الأفانين ممن يهيمون بكل أفنونة معتسفة لا حياة لها في أنفسهم ولا في العالم، ولا معنى لها غير أنها فقاعة في رغوة طافية، تلمع ثم تنفجر بعد قليل. •••
والاهتمام بعقائد الفنانين من المصورين والموسيقيين والممثلين مطلب لا يقل في دلالته وقيمته عن عقائد الشعراء والأدباء والفلاسفة، ويزيده دلالة أنهم يصدرون عن البداهة الصامتة في فنونهم، ويباشرون دقائق الخلق والإنشاء عملا لا يلتبس بأخطاء اللفظ وتعبيراته.
إلا أن هذه البداهة الصامتة هي موضع الصعوبة في استقراء عقائدهم من أعمالهم، وهم لا يكتبون عن العقيدة ولا يسجلون آراءهم كثيرا بالقلم والكلمة، ولهذا نعول على أقوال الذين كتبوا منهم في المسائل الدينية، ولا نرى بين أيدينا من أقطاب الفن في القرن العشرين من هو أجدر بالتعويل عليه من جون كوليير (Collier) (1850-1934)، الذي يحسب مع الكتاب والنقاد كما يحسب مع المصورين في الذروة العليا، وله في المسألة الدينية كتاب سماه «ديانة فنان» كتبه بعد الحرب العالمية الأولى وتناول فيه هذه المسألة من جميع أطرافها، وفيما يلي تلخيص كلامه على العقيدة والفضيلة ورجاء بني الإنسان، وقد ختم كتابه ختاما موجزا، قال فيه: إن الديانة ليست هي الوسيلة الوحيدة للسعي في طريق الأمثلة العليا، وإنه يترقب مع الزمن يوما تغني فيه الأخلاق غناء الديانة، وتستقيم فيه الحماسة الدينية إلى طريق غير طريقها فيما مضى، وقد كانت طريقها العراك والخلاف، فلعل طريقها المقبل وحدة بني الإنسان.
رأى كوليير في الديانة أن مذهب الموحدين (Unitarianism)
هو المذهب الذي يرتضيه الرجل العصري، إذا فارق عقائده الموروثة وأحب أن يحتفظ بنسبته إلى المسيحية.
ويفضل في أمر الإله أن يؤمن بالإله الذي وصفه الكاتب الكبير (ويلز) على لسان أحد أبطاله،
2
وهو إله قادر على كل شيء ولكنه يوزع تدبير الكون على الملائكة وأكبرهم الملك المحجوب (The Invisible King) ، فإذا حدث النقص والشر في الوجود فذاك من عمل الملك المحجوب لأنه طيب رحيم ولكنه ليس بالقادر على كل شيء، فهذه الصفة أقرب إلى تفسير الواقع لولا أنه - أي كوليير - عاجز عن تخيل الكائنات التي فوق الطبيعة.
أما الأخلاق فرأيه فيها أن المتدينين يسندون أعمالهم خطأ إلى الإرادة الإلهية، فإنهم لا يعلمون هذه الإرادة ويضطرون إلى استجلائها بالصلاة والدعاء إذا عم عليهم أمرها، وخير للفضيلة وللناس أن يبنوا عملهم الخلقي على أساس من حب بني الإنسان. فإن الله غني عن حبنا، وأما بنو الإنسان فلا يستغني بعضهم عن حب بعض ، ولا تزال العداوة بينهم مفسدة للأخلاق والضمائر، ولا يصدق كوليير بالعذاب الأبدي لأن الأبد ديمومة ليس لها نهاية، وعمر الإنسان محدود فلا يجزى عن الخطأ المحدود بعقاب دائم سرمدي لا يعرف الحدود، وهو يقول عن الحياة بعد الموت: «إنني لا أعني أنني أنكر إمكان الحياة الأبدية خارج الزمان والمكان، وإنما الذي أعنيه أنني لا أفهمها وأنها لا تشبه الوجود كما أفهمه.»
وبعد استطراد قصير قال: «إن العلاقة بين العقل والمادة لمن الخفاء بحيث يحسن الوقوف منها موقف اللاأدرية. فقد يحتمل أن يوجد العقل مستقلا من المادة ويحتمل أن يكون للحياة بعد الموت صلة مادية، وحقيقة الأمر أننا لا نعرف عن ذلك شيئا، ولعل هناك موضعا للرجاء.»
ولا ننسى أن هذا الكتاب ظهر في غاشية الحرب العالمية الأولى، وأنه مشوب بالكثير من دواخينها ونيرانها، وليس في مؤلفات أقطاب الفنون ما يبسط القول في العقيدة الدينية، وليس لدينا أيضا ما يدل على شيوع هذه النظرة التي شرحها كوليير في كتابه بين أولئك الأقطاب.
أما الأدباء والفنانون المتدينون بديانة الآباء والأجداد فهم غير قليلين، ولكننا نقصر القول في هذه الرسالة على الجديد الذي تمخضت عنه أحوال القرن العشرين باجتهاد المجتهدين ومحاولة الباحثين، ومما أجملناه آنفا - وهو نموذج صالح للقياس عليه - يتبين لنا أن المؤمنين منهم بقوة غير القوة المادية يزيدون على غيرهم، وأن القرن العشرين قد أبرز من ذوي العقائد المجتهدة طائفة لم يكن لها وجود محسوس في القرن التاسع عشر، إذ لم يكن فيه صوت لغير الإلحاد أو الإيمان الموروث.
عقائد الفلاسفة
تتقابل في مذاهب الفلاسفة مدرستان خالدتان، لا تزال كل منهما تتجددا عصرا بعد عصر باسم جديد، وهما المدرسة المادية والمدرسة العقلية أو الروحانية أو المثالية، وكلها أسماء لمسمى واحد في النهاية.
فمدرسة الماديين - كما يدل عليها اسمها - ترجع بالمعرفة إلى التجربة المحسوسة، وغيرها من المذاهب العقلية أو الروحانية أو المثالية ترجع بها إلى شيء غير التجربة المحسوسة، وقد تستعين بهذه التجربة ولا تبطل عملها في المعرفة، ولكنها لا تسلم القول بأنها هي المصدر الوحيد.
وفي القرن العشرين تقابلت هاتان المدرستان، واتسمت كل منهما بالتطرف في دعواها، كما يحدث كثيرا في موقف التحدي والمناجزة العنيفة.
فقامت مدرسة المنطق الوضعي (Positive Logic)
من جانب، وقامت بإزائها مدرسة التجريد من جانب آخر، وهي في الواقع مذاهب شتى يجمعها النظر فيما وراء الطبيعة.
فمدرسة المنطق الوضعي لا ترى محلا للبحث فيما وراء الطبيعة؛ لأنها ترجع بالمعرفة كلها إلى الحس، وكل كلمة لا نرى مصداقها في شيء محسوس فهي لغو فارغ وقرقعة أشبه بقرقعة الأصوات المادية.
أما المذاهب الفلسفية الأخرى التي لا تقبل دعوى المنطقيين الوضعيين فتجمعها جامعة واحدة في النهاية، وهي الرجوع بالمعرفة إلى غير المادة، أو الرجوع بها إلى ما وراء الطبيعة.
ومن هؤلاء الفلاسفة الذين ينظرون فيما وراء الطبيعة من يقابلون الغلو الوضعي بغلو مثله أو أبعد منه مدى في الناحية الأخرى، فينفون وجود معرفة قط تستغني عن النظر فيما وراء الطبيعة، ولا يستثنون من ذلك معارف الحسيين والواقعيين في أضيق حدودها.
تناول سدني هوك دعوى القائلين إن الفكر نفسه هو آلة العمل، فقال: إن هذه الدعوى نفسها غير ممكنة ما لم يسلم أصحابها أن هناك مقررات غير حسية؛ لأنهم يقررون وجود عالم لم تخلقه قوة عاقلة، كما يقررون وجود فكر فيه يعمل، ووجود تغييرات يحدث بعضها بمشاركة الفكر وبعضها بغير مشاركته، وأن التغييرات التي يشترك فيها الفكر ليست مثالية أو عقلية في جوهرها.
1
غير أن المذاهب الوسطى من مذاهب ما وراء الطبيعة تضيف ولا تحذف.
تضيف وسائل البحث الفكري إلى وسائل التجربة الحسية، ولا تحذف من برنامجها وسيلة علمية أو واقعية يستعان بها على المعرفة.
فبدلا من شعار «هذا أو ذاك» تتخذ لها شعارا جامعا لهذا وذاك وزيادة، ومن هذه الزيادة حسبان الإلهام والبداهة من وسائل المعرفة عند طائفة من فلاسفة «ما وراء الطبيعة» في العصر الحديث.
فمعظم المدارس العقلية في القرن العشرين تدخل العلم في تقديرها وترجع إلى شعبة من شعبه في تأسيس دعائمها، ومنها علم النفس وعلم الطبيعة ومذهب النشوء والارتقاء في حدوده العلمية.
فمن المذاهب التي ترجع إلى علم النفس مذهب «الظواهرية» نسبة إلى ظواهر الطبيعة (Phenomenology) .
ومن المذاهب التي ترجع إلى علم الطبيعة مذهب الزمانية المكانية (Space time reality) .
ومن المذاهب التي ترجع إلى مذهب النشوء والارتقاء مذهب التطور والانبثاق (Emergnet Evolution) .
ونحن مجتزئون في هذا الفصل بتلخيص فكرة الإيمان كما يدين بها كل مذهب من هذه المذاهب.
فالظواهرية - وأشهر فلاسفتها هسيرل (Husserl)
الألماني ترد كل معرفة إلى الوقع (Experience)
وهو أعم من التجربة الحسية والتفكير العقلي؛ لأن المعرفة - على حسب هذا المذهب - تتم بما يقع في الوعي من طريق الحس والتفكير والكلام.
فالحس لا يعطينا كل المعرفة، والتفكير كذلك لا يعطينا المعرفة كلها ولو كانت مستمدة من الحس والتفكير، والكلمات تعطي المعنى ولكن المعنى غير المعرفة التي تقع في وعي العارف.
أما المعرفة بالله خاصة فهي «وقع» مباشر لا يعتمد على الحس؛ لأن الله لا يقع تحت الحس، ولا يعتمد على الفكر لأن الفكر لا يحده، ولا يعتمد على الكلمات لأن الكلمات تنقل معناها ولا تزيد عليه، وإنما تستقر المعرفة بالله في الوعي مباشرة بما يقع فيه من جملة المعارف الحسية والفكرية والمعنوية وزيادة عليها، وكونك لا تستطيع حصرها في اللفظ لا ينفي وجودها، فإنك لو جربت حصر معنى واحد في المعاني الحسية في لفظ جامع مانع لاستعصى عليك أن تحصره وتقنع بحصره، فكيف بالمعرفة التي لا تدانيها معرفة في الشمول والكمال؟
وأما مذهب الزمانية المكانية فرأس القائلين به هو صمويل ألكسندر الذي نشأ في استراليا وعاش في إنجلترا، وصفوة الرأي فيه أن الوجود حركة وأن الحركة الأولى نشأت من اتصال الزمان بالمكان، وأن صفات الموجودات هي جملة حركات منوعة، وأن الله هو غاية هذه الحركات، فهو الكمال التالي لكل مرحلة ينتهي إليها الكون، ولا يزال الكون يحقق بالحركة كمالا بعد كمال.
وقد يبدو هذا المذهب، لأول وهلة، ممعنا جد الإمعان في غوامض ما بعد الطبيعة، ولكنه في دعائمه لا يعدو أن يكون تفسيرا خاصا لمعنى الجسم المادي في علم الطبيعة الحديث.
فالأجسام كلها تتألف من الذرة، والذرة تنشق وتنطلق فتصبح شعاعا، والشعاع هو حركة في الأثير أو الفضاء؛ لأن أوصاف الأثير في علم الطبيعة مطابقة لأوصاف الفضاء.
وكأنما يقول الفيلسوف إن الحركة هي الزمان، وإن الأثير هو المكان، وإن المادة وجدت حين وجد الشعاع، أي حين اتصل الزمان بالمكان، وإن تنوع الموجودات إنما جاء من تلاقي الحركات واتحادها في الجهة، ثم يزيد على ذلك نتيجة مذهبه وهي تقدم الحركة مع تقدم الزمان.
أما مذاهب التطور الانبثاقي أو التطور المنبثق وسائر المذاهب التي تمت إلى النشوء والارتقاء فلها شراح كثيرون، وهي مذاهب واسعة الآفاق يدخل فيها حتى مذهب الزمانية والمكانية الذي يذكر باسم صمويل ألكسندر، وكل شراحه من أقطاب الفلسفة في اللغة الإنجليزية أمثال ويتهيد ومورجان وسمطس، وكلهم يؤمنون بوجود القوة الإلهية على اختلاف في تصوير علاقتها بالكون والإنسان، ومنهم من يؤمن بقدم الأشياء جميعا وحدوث تراكيبها وأطوارها، ويكل إلى الله تدبير الخلق وإخراج الأطوار والتراكيب من بسائطها الأولى، ومنهم من يعتبر كل موجود مركب كائنا عضويا لأنه كالجسد الحي في ضرورة تركيبه وتماسك أجزائه، ويعتبر الحياة تركيبة مميزة بين هذه الكائنات العضوية، والمهم في هذه الفلسفات بالنظر إلى موضوع رسالتنا عن عقائد المفكرين أن وجود الله لازم فيها لتفسير كل موجود، وأن أصحابها مؤمنون فلسفيون، وإن لم يكونوا مؤمنين بالديانة «الرسمية».
وقد أجمل كولنجود (Collingwood)
موقف الفلسفة من العلم في البلاد الإنجليزية فقال في كتابه «فكرة الطبيعة» (The Idea of Nature)
إن العلماء الطبيعيين «بعد أن تتبعوا نظرياتهم عن المادة إلى حيث تنكشف حدود العالم الطبيعي وتنكشف حاجته إلى الاعتماد على غيره أطلقوا الاسم القديم - اسم الله - على ذلك السند الذي يعتمد عليه، وأن اللجوء إلى هذا الاسم يقابل بالترحاب؛ لأنه يظهر مدى تحرر الفكر الحديث من أوهاق المثالية الذهنية، لا لأنه يبشر برتق الطبيعة بين الدين والفلسفة، ولا لأنه يومئ إلى إحياء التقاليد الفلسفية القديمة على سنن أفلاطون وأرسطو وديكارت وكفى.»
ومن رأي كولنجود في هذا البحث أن المادية لم تزل منذ ظهرت في القرن السابع عشر محاولة لم تصل إلى محصل، ولم يزل ربها - أي الكون المادي - إله خوارق وأعاجيب تخفى على العقول، وأنها تعلق رجاءها على الغيب عسى أن يجلو الزمن أسراره مع تقدم العلوم، وأنها بمثابة من يكتب صكوكا ضخاما على رصيد غير موجود، وأن زعمها أن الفكر إفراز من الدماغ كإفراز الصفراء من المرارة قد يحسب من تصديقات المتدينين ولكنه في نظر العلم إنما هو تمويه وتهويش. ويتهكم كولنجود ببعض دعاة المادية الأسبقين فيقول: إنك لو بدلت كلمة هنا وكلمة هناك من كلامه عن المادة لسلكتها في عداد الصلوات.
وفي عالم الفلسفة الإنجليزية أناس مثل كولنجود يسمع حكمهم في المسائل الفلسفية ولا يسلكون بين أصحاب المذاهب والمدارس، وقيمة آرائهم أنها آراء مستقلين لا يعنيهم ترويج هذا المذهب أو ذاك ولا يحاسبون على أفكارهم المتفرقة بحجج المؤمنين ولا بحجج المنكرين، وهؤلاء النقدة الفلسفيون هم ميزان الآراء بين المدارس الفلسفية والعلمية، ومن هذا الميزان يتبين أن الفلسفة المادية في هذا العصر أضعف من أن تهاجم العقيدة في معقل أو في مقتل، وأنها قد تراجعت من الهجوم المتلاحق إلى الدفاع الذي لا يعززه دليل مقبول.
من هؤلاء النقدة الفلسفيين غير كولنجود أستاذان لا يقلان عن أقطاب المذاهب، ولا يعيبهما أنهما لا يشتركان في مباحث الفلسفة بمذهب ينسب إليهما. بل لعل هذا مما يشهد لهما بأمانة العلم والحيدة بين البراهين والأسانيد التي تتساوى عندهم في القوة والإقناع.
هذان الناقدان هما الأستاذ برود (Broad)
والأستاذ جود (Joad)
وكلاهما من أساتذة الفلسفة والأخلاق وعلم النفس وأصحاب التواليف المحترمة في هذه الموضوعات.
فالأستاذ برود يعرض براهين الإيمان وبراهين الإنكار في محاضراته عن الدين والفلسفة والمباحث النفسية
2
ويبين ما فيها جميعا من مواطن القوة والضعف، ويقول ما مؤداه إن الأدلة على العالم الآخر قد توجد من التجارب النفسية ومن القضايا المنطقية ولكنها لا تلزم المعارض، وإن الفلاسفة الأقدمين الذين اعتبروا الحقيقة الإلهية مقنعة بذاتها؛ إنما سلكوا هذا المسلك لأنهم نشأوا في الجو العقلي الذي كان يتقبل قضايا إقليدس بغير برهان، فإذا تحرج المنطقي العصري من قبول تلك البراهين الفلسفية فقد يتحرج الرياضي العصري مثل هذا التحرج من قبول أحكام إقليدس بعد أن كانت غنية عن كل برهان في رأي الرياضيين الأقدمين، ومثل هذا التغير قد عرض للبراهين المادية فسقط منها في جو العقل الحديث ما كان معدودا من المفحمات.
ويوازن برود في محاضرته عن وجود الله بين الكفتين المملوءتين بحجج المعتقدين والمتشككين، ثم يختمها بهذه المعادلة التي استقر عليها رأيه فيقول: «إن النوع الإنساني إذا استمر على اعتقاده وبحثه في التجارب الدينية فسوف يأتي الزمن الذي تختلف فيه عقائده حتى لا يعرفها من عرفها كما هي الآن، ولكن هذا الحكم يسري بقضه وقضيضه على مدركات العلم ونظرياته، ومن الهزل أن يدعى لنحلة من النحل أنها فرغت من تقرير الحقائق جميعا في هذه المسائل كافة ... ولكن الطرف المقابل لهذا الطرف يهزل كهذا الهزل - وإن لم يكن مثله تماما - حين يزعم أن تجارب الدين كلها وهم وخداع ...»
ويوازن مثل هذه الموازنة في ختام كلامه على ديانات الفاشية والشيوعية، فيذكر قصة الطفل الذي هرب من مرضعته في حديقة الحيوان فأكله الأسد ... ويتمثل بنصيحة مستر بلوك (Belloc)
مؤلف القصة، إذ يستخلص عبرتها قائلا: «صبرا على المرضعة حذرا مما هو أمر وأدهى.» •••
أما الأستاذ جود فقوة المعارضة أدل على فلسفته من قوة التأييد، ومعارضته للمادية أشد من معارضته للبراهين الإلهية، وصفوة كلامه كما أجمله في كتابه عن معنى الحياة (The meaning of life) «أن الكون لا يمكن تفسيره بمبدأ أساسي واحد دون غيره، ولا بد لتفسيره الوافي من مبدأين على الأقل ... فالمادة - على كونها حقيقة واقعة - ليست كذلك على وجه مطلق؛ لأن وقائع علم الحياة تأبى أن تفسر بمصطلحات المادية البحتة.»
وخير ما يستفاد من المادية العصرية، أو الآلية العصرية، في اعتقاد (جود) أنها تعطينا الوقت الكافي لاستملاء محاسن القيم النفسية كالخير والحق والجمال. لأن علمنا بقوانين المادة قد أغنانا عن ملابستها كما كان يلابسها آباؤنا وأجدادنا، فنحن - بحركة أصبع - نطلق من القوى الآلية ما كان آباؤنا وأجدادنا ينفقون العمر وهم يعملون برءوسهم وأيديهم وأرجلهم ، ولا يقدرون على إطلاقه، وادخار هذه الجهود لا فائدة له إن لم نكسب به قيما باقيا في ميادين الخير والحق والجمال، وعلى هذا التقدير يكون العصر المادي أو العصر الآلي مقدمة لعصور أخرى يتضاءل فيها شأن العوامل المادية والآلية جيلا بعد جيل، إن لم يصب بنو الإنسان بنكسة ليست في الحسبان.
وبينا نحن نصحح هذا الفصل ورد إلينا كتاب جود الأخير «رجعة العقيدة» (The Recovery of Belief)
وفي اسمه دلالة عليه. فقد خطا جود في هذا الكتاب خطوة كبيرة نحو الإيمان، ودان بعقيدة شبيهة بعقيدة هكسلي الصوفية، وختمه قائلا: «إنه قد يكون داعيا قويا إلى النظرة الربانية في الكون، ولكنه بالنسبة إلى تفسيرها المسيحي يقف موقف الإشارة دون البرهان.» •••
وأهم المدارس الفلسفية في غير إنجلترا وألمانيا هي مدارس الوجودية الفرنسية على نهجيها من وجودية متدينة ووجودية ملحدة، وهي أخص المدارس الفكرية بالقرن العشرين؛ لأن بواعثها لم تنتشر قط في عصر سابق كما انتشرت فيه، وبواعثها هي طغيان روح الجماعة على استقلال الأفراد، وتفاقم الشرور العالمية وأزماتها الروحية في ضمائر المفكرين، وسنجمل الكلام فيها على حدة.
ولم تخل القارة الأمريكية من دعوات فلسفية في مباحث ما وراء الطبيعة، فنبغ كروتشة
Croce
في إيطاليا وأوشك أن يسيطر على تفكيرها الفلسفي من أوائل القرن العشرين، ونبغ أنامونو
Unamono
في إسبانيا وأوشك أن يضارع كروتشة في مكانته بين الإيطاليين، لولا أن كتابة الفيلسوف الإسباني أقرب إلى الشعر والقصة وأدنى إلى الخيال منها إلى التفكير.
وكاد جوسيا رويس (Josiah Royce)
أن يستوي وحده في أمريكا الشمالية على مدرسة الفلسفة التي تبحث فيما وراء الطبيعة، بل كاد في هذه المباحث أن ينحى مذهب وليام جيمس الذي توفي قبله ببضع سنوات؛ لأن وليام جيمس قد اكتفى بفلسفة النتائج والذرائع (أو البرجمية) ولم يوغل في مباحث ما وراء الطبيعة.
وليست هذه الآراء والمذاهب مستوعبة لفلسفة ما وراء الطبيعة في تلك الأمم، ولكنها في زبدتها مثال صالح لاتجاه العقول والنفوس الذي لا تنحرف الأفكار العامة عنه بعيدا، وإن تمثلت على تفاوت بينها في عقائد الأفراد، كما يتفاوت الأفراد عادة في مسائل الفهم والشعور.
وزبدة الفلسفة التي بسطها كروتشة في تصنيفاته الكثيرة هي نفي المادية وتغليب الفكرة الخالقة على عوامل الكون والحياة، فليس في الكون حقيقة أبدية غير العقل الإلهي، وخلود النفس عنده معناه أنها جزء من حقيقة الكون في أعماقه، تتراءى في صور المادة ثم تخلفها صور أتم منها وأكمل وأعلى إلى غير انتهاء.
وزبدة فلسفة أنامونو أنه كان في بيان ديانته «يميل بقلبه وشعوره إلى المسيحية دون أن يأخذ بقضايا الاعتقاد في هذه النحلة أو تلك ...» وهذه مسألة قلبية، وأعني بأنها قلبية أنها لم تثبت عندي على النحو الذي أثبت فيه أن اثنين واثنين تساوي أربعة.
وفي أقوال أبطاله ومحاورات قصصه زبدة أخرى أدل على لباب عقيدته من ذلك البيان، فليس الله ما تحتويه بفكرة أو أمثولة، ولكنه ما تطلبه بشوق وجهاد، وليس حساب الله للإنسان على ما كان بل على ما ينبغي أن يكون ثم قصر دونه بغفلته وإسفافه وإيثاره الحلوى الصبيانية على غذاء النضج والنماء، ومن قال إنه إنسان وقنع بأن يظل إنسانا في أهوائه ونزواته فنهايته أن ينحدر عن منزلة الإنسان إلى حضيض الحيوانية، وإنما تتم له فضائل الإنسانية حين لا يقنع بها ويتسامى إلى ما فوقها، ولا يكف عن السعي لأنه يسعى في طريق الأبد، وليس للمسعى في طريق الأبد من قرار.
وليس في روسيا اليوم فلسفة مستقلة عن الفلسفة الماركسية كما تطبقها الدولة، ولكن الفيلسوف الروسي المستقل (لوسيف) (Lossev)
قد أعلن آراءه فيما وراء الطبيعة بعيدا من موضوع المباحث الاقتصادية والسياسية، واعتبر أن الوجود ثلاثة أطوار: طور فوق الفكر وفوق الوجود المدرك، وطور كائن لا يتصوره العقل إلا مع مقابل معدوم، وهو يرادف ما يسمى بالكليات في الفلسفة العامة، كاسم الشجر والحجر والنجم والإنسان وغيرها من الأجناس ... والطور الثالث هو الصيرورة التي لا تزال في جانب منها وجودا وفي الجانب الآخر عدما، ومهمة الفلسفة ومهمة العلم تختلفان حيال هذه الأطوار الثلاثة. فالعلم يتولى تحقيق الموجود الفرد الماثل للعيان والحس والتجربة، والفلسفة تتولى النظر في الوجود المطلق والوجود الذي تبرزه الصيرورة، ولا يزال وسطا بين الكائن والمعدوم.
ولولا أن هذا المذهب أقرب إلى النفي لكان كلامه عن الوجود فوق الفكر شبيها بكلام أفلوطين عن «الأحد» الذي يعلو به حتى عن صورة الوجود على الإطلاق، ولكن لوسيف في كتابه عن الكون القديم والعلم الحديث (The Ancient Cosmos and Modern Science)
يكاد ينفي كل وجود فوق الفكر ويقول وهو يسميه بالأحد: «إن هذا الأحد ليس مطابقا لنفسه ولا لغيره، وليس كذلك مخالفا لنفسه ولا لغيره، وإنه بهذه المثابة لا يوجد، وفوق الوجود.»
3 •••
ومن الحالات التي تلوح للنظرة الأولى كأنها إحدى المفارقات أن العالم الجديد أميل إلى المحافظة الدينية من العالم القديم، بيد أنها في الواقع حالة طبيعية منطقية لا محل فيها للمفارقة. إذ كان المجتمع الأمريكي الأول قد قام على عقائد المهاجرين المتنطسين الذين لاذوا بالعالم الجديد فرارا بعقائدهم من اضطهاد خصومهم ومعارضيهم، وإذ كانت ثورة التمرد على الدين بين أمم القارة الأوروبية قد نجمت من مقدمات طويلة في تاريخها لم يحدث لها نظير في تاريخ القارة الأمريكية، فلا جرم يغلب الميل إلى الاعتقاد على مذاهب الفلسفة التي يتمخض عنها مجتمع العالم الجديد، ويقال عنه إن مذاهبه هي الجناح الأيمن في صفوف الدين، ويصدق هذا بصفة خاصة على مذهب رويس الذي ألمعنا إليه.
فالفضيلة العليا في مذهب رويس هي توسيع الحياة الإنسانية حتى تخرج من أفقها الضيق المحدود إلى أفق «اللانهاية» الإلهية، وعلامة الالتقاء بين الأفق الإنساني المحدود والأفق الإلهي السرمدي هو الخلق الذي تجاوز المنافع الفانية، فما الإنسان في حياته الخاصة إلا شذرة من الحياة الأبدية المطلقة، تظل مغلقة إذا غفلت عن مصدرها وتثوب إلى ذلك المصدر كلما تنبهت إلى مبادئها وغاياتها، وليست الحياة الإنسانية الخاصة مفهومة على حدة ما لم تنزل في منزلتها من الحياة الأبدية المطلقة، فهي كالنغمة الموسيقية التي لا معنى لها مع انفرادها، والتي تترجم عن الأبد كله عند تنسيقها مع سائر النغمات.
وفي مذهب رويس أن العالم إرادة وفكرة كما في مذهب شوبنهور المعروف ، ولكن الإرادة والفكرة فيه تتعاونان ولا تتناقضان، وتمام التعاون بينهما أن يخرجا من المحدود إلى غير المحدود.
وقد حل رويس مشكلة الشر باعتبارها آية من آيات الكمال الإلهي تثبت الكمال ولا تنفيه، فإنما الكمال أن يعارض النقص معارضة فعالة لا أن يكون قوامه سلبيا لخلو الكون من النقائص والشرور، فآية الكمال أن الله يخلق الخير ويخلق له أدواته التي يقاوم بها نقيضه، ولو قام الخير مفردا بغير نقيض لما تم له الكمال. وتبدو ملامح الفلسفة الألمانية واضحة في مذهب رويس ولا سيما مذهبي هيجل وشوبنهور، ولكنه يغربل المذهبين ويستصفي منهما عناصر الإيمان والتوفيق بين العقيدة الفلسفية وعقائد الديانات.
ولا بد عند الكلام على الفلسفة في أمريكا من الإلماع إلى مذهب الواقعية الجديدة (Neo-Realism)
الذي يشيع فيها هذه الأيام، وهو مذهب يدل على اتجاه جديد «للواقعية» نفسها يبين لنا الفارق بين الواقعيين من مفكري القرن العشرين والواقعيين من مفكري القرن الماضي، وهو فارق مهم في اتجاه الفكر الحديث حيال المسائل الغيبية على العموم، فإن الواقعيين الجدد لا يعتبرون التصديق بالواقع منافيا للتصديق بالغيب المجهول، بل يجعلون المعرفة معرفتين: إحداهما علمية وهي التي تنعزل عن شعور العارف وأمله، والأخرى عملية ذاتية، ومنها المعرفة الدينية الغيبية التي تناط بها الآمال في حياة أفضل من الحياة الحاضرة سواء في هذا العالم أو في عالم آخر، ولا مانع عند الواقعيين الجدد أن تكون هذه المعرفة مقترنة بالحقيقة وإن لم تثبتها التجارب العلمية في حيزها المحدود، ويرجع في استقصاء آراء هؤلاء المفكرين إلى مجموعة هورنلي
4
أستاذ الفلسفة السابق بجامعة هارفارد وإلى كتاب الفيلسوف بيري
5
عن الاتجاهات الفلسفية المعاصرة. •••
وبعد فإن الفلسفة تذهب في كل مذهب، وتتسع للتصور كل متسع، إذا تتبعناها إلى أطرافها لم نحصرها في أقسام محدودة، فإذا تتبعناها إلى مركزها أو محورها فهناك يتأتى تقسيمها إلى أقسامها المجملة، ومن النظر إلى مراكز الفلسفة في القرن العشرين يخلص لنا أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: (1) طائفة نفضت يديها من مباحث «ما وراء الطبيعة» لأنها من المجهولات التي لا تعرف ولا تقبل المعرفة بالوسائل العلمية أو العقلية، وينتمي أصحاب المنطق الوضعي إلى هذه الطائفة، كما ينتمي إليها الشكوكيون، أي اللاأدريون. (2) وطائفة جزمت بإنكار ما وراء الطبيعة ولا سند لها من نظريات العلم في القرن العشرين، ولا سيما النظريات التي خرجت بالمادة من صورتها في العلم القديم إلى الصورة التي جعلتها في عداد المعقولات الرياضية. (3) وطائفة تؤمن أو تتجه إلى الإيمان، ولا تجد من العلوم الحديثة تلك المقاومة التي كانت راصدة لها قبل القرن الأخير.
ومجمل القول في موقف الفلسفة كلها في هذا القرن أن الفلسفة المادية تتراجع من الهجوم إلى الدفاع بسلاح غير فعال.
الفلاسفة الوجوديون
بدأت الفلسفة الوجودية (Existentialism)
في القرن التاسع عشر واستفاضت في القرن العشرين، ولا تزال أشهر المدارس الفلسفية في هذه السنوات لأنها تشتمل على مذهب من مذاهب السلوك، ويغلب على مذهبها الشائع في السلوك أنه يدعو إلى الإباحة وإطراح العرف والخلق وعقائد الأديان.
لكن «الوجودية» مدرسة واسعة النطاق ينتمي إليها المؤمنون والملحدون، وبين فلاسفتها أناس متدينون متصوفون لعلهم أكثر عددا من الوجوديين المنكرين، إذ ليست «الوجودية» في ذاتها دعوة مخالفة للدين ولا للعقائد الخلقية، وليس بين مذاهبها من وحدة مشتركة غير إنصاف «الشخصية الإنسانية» أمام الجماعة في عصر شاعت فيه قيمة الكثرة والزحام، وقلت فيه قيمة المزايا والصفات. وما عدا ذلك من التفصيلات فإنما يقع فيه الخلاف تبعا لموضوع النزاع بين الحرية الشخصية وطغيان الجماعات.
فالوجودي المتدين قد يؤمن بالله أشد الإيمان ولكنه لا يؤمن بالمراسم والشعائر ولا يذعن لسلطان الكنيسة ورجال الدين.
والوجودي الإباحي قد يكون من أقوم الناس خلقا وأطهرهم سيرة ولا تتراءى منه الإباحة إلا حين يتمرد على المحظورات التي لا حجة لها غير مجاراة العادة والاستسلام للتقاليد والموروثات.
والوجودي الذي يتهالك على الشهوات ويختار لنفسه ما يهواه يتعلل بحق الفرد أو بحق الشخصية الإنسانية في حياتها الخاصة، ولكنه لا يستطيع أن يجعل ذلك الحق قانونا ملزما لجميع الشخصيات، وإنما يدين به في سلوكه ولا يجهل المصير الذي قد يعرضه له ذلك السلوك، حيث يصطدم بالجماعة أو يصطدم بغيره من آحاد الناس.
وقد تسمى الوجوديون بهذا الاسم لأنهم يعتبرون وجود الإنسان مقدما على ماهيته، أو يعتبرون أن وجوده لذاته أهم من كونه واحدا من نوع متعدد الآحاد، فلا حقيقة للنوع الإنساني كله إلا بوجود هذا الإنسان وذاك الإنسان، ولا يصح لهذا أن يكون وجود النوع معطلا لاستقلال الشخصية الإنسانية وهي الأصل في الوجود.
فليس من الضروري إذن أن يخرج الإنسان على العقائد الدينية لأنه من الوجوديين، وقد تكون الوجودية الدينية - كما تقدم - أعم من الوجودية المنكرة أو الإباحية، ومن تدين من الوجوديين فهو لا يقنع بما دون الوصول إلى معتقده ببحثه ودأبه ونفاذه إلى ما وراء «النسخ المكررة» من عقائد المقلدين، ومنهم من يسمي عقائد المقلدين بالعقائد «المرجوعة» تشبيها لها بالثياب التي يلبسها غير واحد بغير قياس، وفيها ما فيها من البقايا والأدناس. •••
هذه الوجودية المتدينة متعددة بطبيعتها على أوسع ما يكون التعدد تحت عنوان واحد. لأنها من اجتهاد كل باحث بينه وبين ضميره، وهي أشبه ما تكون بالنحل الصوفية التي يهتدي فيها كل مجتهد بهديه. وقلما تتكرر على نحو واحد إلا في أعم المبادئ والغايات، وسنحاول في الخلاصات التالية أن نختار منها المذاهب التي يمثل كل منها وجهة متفقة بطبيعة التفكير والمزاج. •••
من هذه المدارس مدرسة بردييف (Berdyaef)
الروسي الذي ازدوجت ثورته على الشيوعية وعلى الديانة «الرسمية» واعتقد أن خلاص الإنسان عمل من أعمال الإنسان، فلا يخلصه أحد إن لم تكن في طويته عدة الخلاص، وقد ترددت له كلمات كأنها من كلمات الحلاج في الحلول، لولا أنه لا يؤمن بالحلول، وإنما يقول إن وجود الإنسان في العالم لازم كوجود الله، وإن الحب يمحو ما بين الخالق والمخلوق من الموانع والحجب، فالله يطلب الإنسان والإنسان يطلب الله، وباطل كل «حكم مطلق» في السماء كما هو باطل في الأرض بين المخلوق والمخلوق، وإنه لولا أن خلق الإنسان يضيف شيئا جديدا إلى حقيقة الحياة لما خلقه الله.
وعلى الإنسان أن يعلو بنفسه من الفردية إلى الشخصية؛ لأن الفردية عدد والشخصية قيمة، وفي سبيل القيمة قد ينبذ الفرد حياته ولا خسارة عليه.
كذلك ينبغي للجماعة أن ترتفع من كونها جمهرة إلى كونها رابطة روحية (Community) . فإن الجمهرة مجموعة أفراد، وأما الرابطة فهي مجموعة «شخصيات» يضيف بعضها إلى بعض في قيم الحياة.
ولا بد للعملين من حرية، ولكن حرية الوسيلة غير حرية الغاية، فإذا طلبنا حرية الوسيلة فإنما نطلبها لنختار بين طريقين، وإذا طلبنا حرية الغاية فإنما هي حرية الضمير التي تخلص بها من قيود طباعه السفلى فلا يعوقه منها عائق عن الحق والخير، وينعي بردييف على المصلحين الدينيين في عصر النهضة أنهم جعلوا إرادة الإنسان كأنها مطية يركبها الله أو يركبها الشيطان، فإنما إرادة الإنسان هي التي تختار طريقها ومطيتها أو تعجز عن المسير فلا تخطو خطوة تستحق عناء المسير.
ولم تكن فلسفة بردييف فلسفة اطلاع ودراسة وحسب، بل كانت خبرته بالحياة أعظم أثرا في نفسه من مطالعاته ودروسه، فاختبر أزمات الأمم الأوروبية في جميع أقطارها، وشهد القارة الأوروبية من مشرقها إلى مغربها وهي في أحرج أزماتها.
شهد أزمة القيصرية في روسيا ثم شهد أزمة الشيوعية فيها، ثم انتقل إلى برلين فضاق ذرعا بالنازية وهجر البلاد الألمانية إلى فرنسا حيث أقام بباريس وظل مقيما بها إلى أن دخلها الألمان، فاعتقلوه برهة ثم أطلقوه فشهد في العاصمة كل نوع من أنواع الحكم وخالط كل مدرسة من مدارس الفكر إلى أن مات بها (سنة 1948).
ولم تزده هذه الأزمات المطبقة إلا إيمانا بالحرية الشخصية واعتصاما بالضمير الروحاني في وجه العالم الخارجي بجميع أهواله وأوقاره، وساء ظنه بثقافة الغرب وحضارته في وقت واحد؛ لأن الثقافة تنزع إلى نقد كل شيء وتستقبل الحياة بروح مجزأة مبعثرة ثم تستغرق النفوس بالشواغل الدنيوية التي تنحصر في السطوة والمال. أما الحضارة فهي مجاز من الثقافة والتأمل والنقد إلى الحياة العملية الواقعية التي تختتم بانتحال العقيدة المادية الاقتصادية (Economic Materialism)
كما حدث في ظل الحكم الأوروبي الحديث على تعدد عناوينه وأسمائه، ولا تستقيم حياة الإنسان - على مذهب بردييف - إلا بالاشتراكية الشخصية؛ أي بالقضاء على الاستغلال وسلطان المال مع الإبقاء على حرية الفكر والضمير، وهذه هي الحرية التي تسمح لكل معتقد بالاطمئنان إلى خلاص روحه حسب اجتهاده وعلى هداية فكره وبصيرته، فيدين كل ذي روح بالصوفية التي تقربه من الله وتتمم فيه مهمة الإنسان على هذه الأرض، وهي استحقاق الحرية والقداسة.
وفي الفصل الأخير من آخر كتاب ألفه قبيل وفاته
1
يقول:
إننا نميز في الماضي ثلاثة أنماط من الصوفية: أولها تصوف الفرد وهو يبحث عن الله ويقترب منه، وهذا هو أشبه الأنماط بالصبغة الكنسية. وثانيها هو تصوف دعاة المعرفة (Gnostics)
ولا يحسن الخلط بينه وبين الزندقة التي ظهرت في العصور المسيحية الأولى، وهذا النمط من التصوف يتجاوز حياة الفرد ويشمل الكون والحياة الإلهية. وثالث الأنماط هو تصوف النبوات والتبشير بالرسالات المخلصة، وهو نمط يتعلق بالقيامة وما وراء التاريخ وعنده تبتدئ النهاية. وكلها - أي الأنماط الصوفية الثلاثة - لها آمادها وحدودها.
والعالم اليوم يدلج في الظلام نحو صوفية وروحانية جديدة، لا محل فيها لتلفت النظرة النسكية إلى الدنيا ولا لما توحيه تلك النظرة النسكية من العزلة واجتناب الجماعات والآحاد، ولا يبقى فيها النسك إلا كوسيلة أو رياضة على التطهر والصفاء، وهو يتجه إلى الدنيا ولكنه لا يعتبرها نهاية الغايات. فهو مسلك من النسك أشد اتصالا بالدنيا وأكثر تحررا منها في وقت واحد، أو هو مسلك نحو العمق الروحاني تقوى فيه دعوة الخلاص وتتجلى فيه معرفة صادقة أقدر على السلامة من أوهاق الغايات الدنيوية التي ابتلي بها المعرفيون الأقدمون. وتتلاقى ثمة أشتات النقائض المعذبة والنحل الموزعة؛ لأن الصوفية الجديدة أعمق من الديانات وينبغي أن توحدها وتؤلف بينها، ويومئذ تنتصر الصوفية على أباطيل الدعوات الاجتماعية المتشبهة بها، وتنتصر دولة الروح على دولة قيصر.
وقد أخرجت ألمانيا الحديثة فيلسوفا يضارع بردييف في دعوته «الوجودية» المتدينة، وهو كارل جاسبر (Karl Jasper)
الذي بدأ حياته الفكرية بمعالجة الطب النفساني، وهدته التجربة في علاج النفس إلى مذهبه الفلسفي القائم على تصحيح الروح بالإيمان.
وكلمة «المذهب» لا تطلق على فلسفة جاسبر إلا مجاراة للعرف في الكلام على آراء الفلاسفة. أما أصح الأوصاف لفلسفته فهو أنها تمهيد يصل منه كل طارق إلى مذهبه الذي يختاره، فهي أصبع نافذة تشير إلى الوجهة المستقيمة، وعلى من فهم الإشارة أن يتجه إلى قرارة نفسه فيحقق لها كيانها الذاتي (Selfhood)
الذي لا وجود لها بغيره. ومذهب الباحث على هذا الاعتبار هو ديانته الخاصة التي يستوحيها من بداهته ويظل دائبا على استيحائها طول حياته، فهو ما عاش طالب هداية يترقى فيها من طور إلى طور ومن طبقة إلى طبقة، ولا بد له من الوصول إلى هداه الجدير بسعيه متى توفر على هذا السعي صادق الرغبة في محاولاته صابرا على تكرار المحاولة كلما قصرت به عن الغاية، وخليق بكل من عرف حدود العلم وعرف ذاته في قرارها أن يلهم حقيقة الإيمان بالله ويبصر من حوله رموز هذا الإيمان وإشاراته في كل ظاهرة وخفية من ظواهر الوجود وخفاياه.
والفرق بين معرفة العلم ومعرفة الهداية الدينية أن معرفة العلم مستقلة عن شخص العالم قد يأخذها من غيره ويحملها إلى غيره ويتساوى فيها الآخذون والمانحون، وأما معرفة الهداية الدينية فهي جزء من حقيقة الإنسان لا تنفصل عنه ولا تخلو من مقوماته الشخصية، فلا تكفي فيها المعلومات والبراهين ولا تغني هذه المعلومات والبراهين عن معونة من بديهة الإنسان. إذ إن هذه البديهة جزء من الحقيقة التي يتم بها الإيمان، وليست الحقيقة كلها خارجية عالمية يتلقاها كاملة من غيره، سواء كان غيره إنسانا حيا أو مظهرا من مظاهر الكون بما حواه.
ونقص البراهين العقلية التي يستدل بها الفلاسفة على وجود الله أن البرهان قوة ترغم العقل على التصديق، ولا يأتي الإيمان بإرغام بل بطلب وشوق واجتهاد في التحصيل، فإن لم تشعر النفس بمكان الإيمان منها فلا محل للبرهان فيها. وإن شعرت بهذا المكان فالبرهان متمم لشيء موجود يعاونه ويزيد عليه.
قال في كتابه مجال الفلسفة الدائم
2
عند الكلام على مقومات العقيدة الفلسفية:
ويمكن تقرير العقيدة الفلسفية في هذه الدعائم التالية:
أن الله موجود .
وأن هناك أوامر مطلقة (absolute imperative) .
وأن العالم طريق عارض بين الله والوجود.
فما يعلو على وجود العالم أو يسبقه فاسمه الله. والفرق شاسع جدا بين النظر إلى الكون كأنه موجود بنفسه كوجود الله، وبين النظر إليه كأنه موجود غير مستقل بوجوده، وإنما تفسير قوامه وتفسير قوامي يرجعان إلى شيء خارج عنه.
ولدينا براهين وجود الله قد أجمع المفكرون الأمناء منذ (أيام كانت) على أنها مستحيلة إن كان الغرض منها إفحام العقل كما تفحمه بالبراهين التي تثبت دوران الأرض أو وجوه القمر، ولكن براهين وجود الله لا تفقد صحتها وإن فقدت قوتها على الإقناع، فهي مدد العقيدة من جانب الأقيسة العقلية، وهي بصدقها وخلوصها تبده المفكر في تجاربه كأنها من أعمق الوقائع التي تمر به في حياته، ومتى مثلت للذهن وظلت ماثلة له تيسر للمفكر تكرار التجربة مرة بعد أخرى، ومزية الخواطر التي من هذا القبيل أنها تنشئ في الإنسان طورا بعد طور وتفتح عينيه، وتزيد على ذلك أنها تصبح جزءا منا بما توسع من شعورنا بالوجود وتعمق من معالمنا الشخصية.
وهذه البراهين تبدأ من شيء يمكن أن يوجد ويختبر في هذا العالم، كي نتأدى منه إلى هذه النتيجة: إن كان هذا فالله موجود. وبذلك نبرز خفايا الكون ونتيقظ لها ونتكئ عليها كأنها مرساة العبور إلى الله، أو نحن بعبارة أخرى نعالج الأقيسة العقلية التي يكون فيها الفكر بمثابة الانتباه لكياننا ومقدمة للانتباه إلى وجود الله.
ثم قال عن الأوامر المطلقة إنها تدرك بمعرفة القصد منها أو بالطاعة العمياء، وينبوعها في نفسي، بما أنها مساك كياني، وليس وجود الكائن الأبدي المطلق مسألة علم بل مسألة يقين، فإن العلم المحدود لا يمتد وراء الحدود.
ثم فسر معنى العقيدة الفلسفية التي تدلنا على أن العالم في طريق عارض بين الله والوجود، فقال إن إدراكنا للعالم يتوقف على طرفين: أحدهما العارف والآخر المعروف، وليس أدل من ذلك على أن العالم ليس كيانا قائما بذاته وليس هو بالكيان كله، وأن العلم بحقيقته ليس من المعارف التجريبية بل من المعارف التي نترقى إليها بتجاوزه واستجلاء ما فوقه أو ما يليه.
يريد أن العقل العارف نفسه لا يحتوي المعرفة كلها لأنه طرف طرفين، وكذلك العالم الذي تدركه العقول.
ثم وازن بين دعائم الإيمان ودعائم الإنكار، فلخص دعائم الإنكار فيما يلي:
أولا:
لا إله، إذ لا وجود لغير العالم وقوانين الطبيعة، والعالم هو الله.
وثانيا:
لا أوامر مطلقة، فإن الأوامر التي اتبعها تنشأ بحكم العادة والتجربة والتقليد.
وثالثا:
أن العالم هو كل شيء وهو الحقيقة الوحيدة والصادقة وكل شيء فيه متغير نعم، ولكن العالم نفسه دائم مطلق غير معلق على سواه.
ولا تبنى على هذه الدعائم معرفة، ولا يصح التعلل بسلب المعرفة للروغان من كل جواب، وإزاء هذه المعرفة الممتنعة أو المسلوبة تأتي العقيدة فتستولي علي إلى الحد الذي يتيح لي أن أعيش بها، وترفعني إلى الحضور الإلهي بقوتها.
ولا يقوم الإيمان في فلسفة جاسبر على إله منعزل عن الخلق، فإن الإله بغير خلق فكرة مجردة يختفي فيها كل شيء، ولا يقوم على إله نعبده لنلجأ إليه بصلواتنا، فإننا بهذا نعبد أنفسنا ونجعلها محورا لوجود الله وسائر الموجودات، ولا يقوم الإيمان على ادعاء اليقين بمقاصد الله ومشيئته في خلقه، فإن شرور التعصب كافة قد نجمت من هذا الادعاء، وإنما يقوم الإيمان على استخلاص «الذات» من الشوائب التي تحجبها ثم باتجاهها صافية إلى الله بغير حجاب، وفي هذا الاتصال الذي لا نهاية له حقيقة كل إيمان. •••
وفي فرنسا تذيع الوجودية - عقيدة وسلوكا من طرفي الإيمان والإنكار - قصاراها من الذيوع.
إلا أن الوجودية المؤمنة تنفرد في فرنسا بظاهرة خاصة لا تشاهد في غيرها، وهي التحول من الإلحاد إلى التدين بمذهب الكنيسة أو بالتوفيق بين هذا المذهب وبين التعبيرات الفلسفية التي يستعان فيها بالرمز والتمثيل.
وعلى هذا المثال تحول الفلاسفة الوجوديون المتدينون جاك ماريتان (Maritan)
وجبرييل مارسل (Marcel)
ولويس لافيل (Lavelle)
وغيرهم ممن لم يبلغوا مبلغهم من المكانة والصيت.
وقد ألحد ماريتان ثم تتلمذ للفيلسوف برجسون فانتقل من الإلحاد إلى الإيمان بالقوة الخالقة، ثم شك في القوة الخالقة التي لا تني تتغير لأنها ناقصة بذاتها محتاجة إلى قوة دائمة تحيط بهذه الغير ولا تتغير معها، ثم أعلن انتماءه إلى الكنيسة مع إيمانه بأن إرادة الله تظهر من استقراء حوادث التاريخ كما تظهر من فهم وحيه وتنزيله على ضوء الرمز والتمثيل.
ويلجأ مارسل إلى العقيدة على أنها تكملة المجهود العقلي وليست بديلا منه ولا نظيرا يناظره ويتغلب عليه، فإذا اجتهد العقل غاية اجتهاده بقي العمل الذي تتولاه العقيدة وتخف إليه كما يخف المنجد إلى صديق قصر به المطاف دون النهاية، وآفة الآفات التي تساور النفس اليائسة في زماننا أنها تعامل الإنسان معاملة موضوع يفهم ويستفاد منه (Object)
ولا تعامله كأنه ذات (Subject)
تعاون ذاته وتمدها وتوسع معها نطاق المحسوسات والمعلومات.
والأستاذ لافيل يقسم الوجود إلى درجات على حسب ما فيه من العدم. فالوجود المحض الذي لا يقاربه العدم (Nothingness)
هو الله، ووسيلتنا إلى العلم به وإدراكه هي نفس تبرأ من شوائب العدم وتمتلئ بالكيان الصادق، والفرق بين الوجود المحض والوجود الذي يقاربه العدم أن الوجود الأول فعل محض والوجود الثاني فعل وقابلية. أو قدرة حاصلة وقدرة موجودة بالقوة دون الفعل، وليس المقصود بالفعل ما تفعله الأيدي والأعضاء وحسب، بل من الفعل عند لافيل أن يتم الوعي والشعور، ومن كان وجوده وجودا صادقا كان أوفى وعيا وأكمل إدراكا لما يدخل في وعيه، فهو أقرب الموجودات إلى الله وأبعدها من العدم.
فالوجود يتراوح بين العدم والله، ووجود المادة التي لا تعي هو أقرب درجات الوجود إلى العدم، ووجود الوعي الواسع المحيط بما حوله هو أقربها إلى الله، وعلى الإنسان أن يصبح وجودا محضا في وعيه خالصا غاية الخلوص من أوهاق الجثمان، فهو إذن على اتصال بالحضرة الإلهية، وهو إذن فعل لا يشتمل على قوة معطلة من قوى الموت والفناء. •••
وفي سويسرة مدرسة وجودية تشبه المدرسة الفرنسية في بعض ملامحها وتخالفها في ملامح أخرى.
فمن وجوه الشبه بين الوجودية السويسرية والوجودية الفرنسية أن فلاسفة سويسرة الوجوديين يدينون بمذهب الكنيسة، ومن وجوه الاختلاف بين المدرستين أن هؤلاء الفلاسفة لم يبدأوا بالإلحاد ومعظمهم نشأوا على خدمة الدين على مذهب الكنيسة الإنجيلية.
وأشهر هؤلاء الفلاسفة كارل بارث (Barth)
وإميل برونر (Brunner)
ورينولد نيبهر (Niebuhr)
وهو جرماني الأصل أمريكي النشأة.
أما كارل بارث فلولا أنه ولد في أواخر القرن التاسع عشر (1886) أجاز أن يقال إنه من مواليد القرون الوسطى، لأنه يرد كل شيء في الدين إلى النصوص ويحسب الدين كله قائما على «كلمة الله» كما جاءت في تلك النصوص لا على اعتقاد الإنسان أو تفكيره، فليس المهم هو ما يعتقده الإنسان في الله بل المهم هو ما يعتقده الله في الإنسان، وهذا الاعتقاد الإلهي هو الذي يترجمه الواعظ والمبشر مستلهما فيه هداية الله، لينقذ الإنسان بالعون الإلهي من وصمة وجوده ووصمة الخطيئة.
أما إميل برونر فهو أقرب إلى القرن العشرين من صاحبه، وتقوم بشارته على طبيعة الإنسان وأنها إلهية في بعض خصائصها، فهي لا تتلقى الوحي الإلهي كأنه رسالة أجنبية، وأن علامة النفحة الإلهية في الإنسان هي الحب، فإذا عرف بعضهم الإنسان بأنه حيوان ناطق وعرفه بعضهم بأنه مدني بالطبع وعرفه غيرهم بأنه حيوان يستخدم الآلة، فتعريفه الأتم كما ينبغي أن يكون لا كما هو كائن على الدوام أنه حيوان محبة يستطيع أن يعيش بالمحبة مع الله.
أما نيبهر فهو يريد أن يعرف الإنسان بما يعبده لا بما يأكله كما يعرفه الماديون ولا بما يقبضه من الأجر كما يعرفه الماركسيون، وما دام الإنسان العصري يخلط بين معنى العقل (Reason)
ومعنى الروح (Spirit)
ويحسبها ملكة واحدة في النفس البشرية فهو في ضلال عن حقيقته، وقد يلتفت قليلا إلى الفارق بين التقدم العلمي والتدهور الروحاني في العصر الحاضر ليفهم أن العقل والروح لا يترادفان في المعنى والعمل، وسيظل الناس في حرمان من السلام ما داموا في طلب السطوة معرضين عن طلب المحبة، وإنما تأتي المحبة من طريق الروح لا من طريق العقل والمادة.
وهؤلاء الوجوديون الذين ينتمون إلى هذه المدرسة - وإن لم يكونوا كلهم من سويسرة - أدنى إلى مدارس اللاهوت منهم إلى مدارس الفلسفة . ولكنهم يحرصون على «التبشير الفردي» ويعلن بعضهم أن كل فرد من المتدينين مفتقر إلى بشارة خاصة لهداية ضميره، ولعل هذا هو الفارق بينهم وبين اللاهوتيين الرسميين. ولعل الأمان في سويسرة حرمهم نعمة القلق وما يفتحه من أبواب الضمير.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الفلسفة الوجودية عامة في هذا العصر لا تنحصر في أمة ولا تخلو منها أمة؛ لأن ثورة الضمير الفردي على طغيان الجماعة ظاهرة عامة بين جميع الأمم الأوروبية، وكل ما هنالك من الاختلاف بين أمة وأمة في هذه الظاهرة هو مقدار حاجتها إلى المناداة بمبدأ الحرية الفردية، ففي إنجلترا مثلا توجد الفلسفة الوجودية بغير اسمها وعنوانها، لأن مبدأ الحرية الفردية مفروغ منه من حيث المبدأ والفكرة، ولأنهم - في إنجلترا - قلما يتجمعون باسم مدرسة فكرية، وقلما تعرف المذاهب الفلسفية عندهم بغير أسماء أصحابها كمذهب هيوم ومذهب بركلي ومذهب داروين، وإن حدث أحيانا في المذاهب المشتركة بين فلاسفة إنجلترا وفلاسفة القارة أن تعرف بعنوان جامع كمذهب النفعيين ومذهب التطور ومذهب المنطق الوضعي في العصر الحاضر.
ولكن السمة التي تمتاز بها الوجودية المتدينة هي الإيمان المستقل الذي يتحرر به ضمير الفرد من سلطان الشعائر المرسومة، ويغلب أن تقترن به سمة أخرى تلحظ في كل نزعة وجودية، وهي عمل المحنة النفسية في صهر الضمير واستخلاصه للإيمان، وبهذه الخصلة في الوجودية أصبح القرن العشرون موسما للوجودية المتدينة بين مذاهب المتدينين على التعميم، لأنه العصر الذي امتحن الضمير المستقل أشد امتحان وأقساه، فحيثما وجد ضمير صامد لمحنة الألم ومحنة الطغيان والتقليد فهو من زمرة الوجوديين وإن لم يصاحبه هذا العنوان.
العقيدة الأخلاقية
تنوعت بحوث العلوم في القرن العشرين، وتعددت مراجع البحث في كل علم منها، وأولها - بل أخصها علم الأخلاق - فإن العلوم المختصة به في جملته أو في بعض فروعه لا تقل عن ستة علوم، بعد أن كان الكلام في الأخلاق كلها قائما على نصيحة من هنا وحكمة من هناك، أو على عبرة في قصة من القصص تحسب من حنكة السن وخبرة الأحداث .
فمن العلوم المختصة ببحث الأخلاق علم الحياة أو البيولوجية؛ لأنه يدرس الناسلات (Genes)
وعملها في وراثة الغرائز والأخلاق، ويرتبط بركن من أهم أركان الخلائق الإنسانية: وهو ركن المسئولية، كما يرتبط بتحديد الفوارق بين الاستعداد للخلق وبين الخلق نفسه. فيكون الولد وارثا لأبيه حقا ثم يخالفه في أعماله من جراء تلك الوراثة؛ لأنه ورث الاستعداد لبعض الأعمال ولم يرث العمل نفسه، وقد يظهر الاستعداد للشجاعة في الحرب كما يظهر في حملة أدبية لمكافحة الحروب على الرغم من غلبة الآراء واندفاع الجمهرة من الناس في هذا الاتجاه.
ومن العلوم المختصة ببحث الأخلاق علم وصف الإنسان، أو الأنثروبولوجي (Anthropology)
لأنه يدرس العرف والعادة في جميع الأمم، ويتتبع ضروب العرف والعادة إلى مناشئها الأولى في القبائل الهمجية، ويقارن بينها وبين أسبابها كما يقارن بين العوامل الإقليمية والاجتماعية وآثارها في التشابه أو التباعد بين قواعد الأخلاق.
ومن تلك العلوم علم النفس والطبيعة النفسية، ومن علمائه من يرى أنه وقف على أساس الأخلاق كلها ومن يرد الأخلاق إلى الوعي الباطن ويرد الوعي الباطن إلى منازعات الغريزة الجنسية والسيطرة الأبوية، ومنهم من يردها إلى روح الجماعة وطبيعة حب البقاء في النوع كله، ويفسر كل فضيلة في الفرد بما لها من الأثر في بقاء النوع وتغليب مصالح الجماعات الباقية على مطامع الآحاد.
ومن تلك العلوم علم الحيوان أو الزولوجية؛ لأنه يبحث الصفات العليا في الإنسان وما يقابلها من الصفات الفطرية في أنواع الأحياء، ويستخلص من المقابلة بينها شواهد الوحدة أو التباين في نشأة الأخلاق المكتسبة والأخلاق العريقة في الطباع.
ومن تلك العلوم علم السلالات البشرية أو الأثنولوجية (Ethnology)
لأنه يرقب أصول الأخلاق في النوع الإنساني بجميع سلالاته وأجناسه، ثم يميز بين الأجناس بمزاياها التي اختص بها كل جنس منها، ويضع المقاييس للحسن والقبيح من الآداب والعادات في كل سلالة بشرية، ويحاول أن يردها إلى مقياس واحد، أو يعلل اختلاف المقاييس بالعلل المحلية والتاريخية.
ومن تلك العلوم كل علوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد مجتمعات أو متفرقات، ومن أصحاب هذه البحوث من يقرر أن أخلاق الفرد والجماعة كافة تنعكس من أحوال الاقتصاد ووسائل الإنتاج، ومنهم من يفرق بين مقاييس السياسة ومقاييس الأخلاق، ويجيز بمقياس منها ما لا يجوز بمقياس آخر.
وهذه العلوم غير العلم المستقل بدراسة الأخلاق وهو الأثولوجية (Ethology)
وعنده تلتقي هذه العلوم والبحوث جميعا وتنتظم في ميدان واحد، ثم تتقبل في كل يوم مددا من سائر العلوم، وإن بعدت الشقة بين موضوعاتها وهذا الموضوع.
ونضرب المثل لهذه الأمداد الغريبة بمسألة حرية الإرادة وقوانين المادة التي سبقت الإشارة إليها، فإن علم الطبيعة لم يكن من العلوم التي تقرر الآراء في أصول الأخلاق قبل الكلام في الذرة والقوانين الحتمية على أجزاء المادة في جميع حركاتها، فلما كشف علماء الطبيعة عن مواطن الخلل في تجارب هذه القوانين تفتحت الأبواب للكلام عن حرية الإرادة ونصيب الإنسان منها، إذ كانت حركات المادة تتسع على هذا الاعتبار - في نظر بعض الباحثين على الأقل - لشيء من التصرف بسند إلى العقل والضمير.
وقد تكلم الكيميون عن قوانين الألفة بين العناصر ورجا بعضهم أن تطبق يوما على عوامل الألفة النفسية، ولكنه رجاء مرهون بالمستقبل لم يظهر منه بعد مذهب واضح في بحوث الأخلاق إلا أن هذا لم يمنع أن يكون بين الكيميين من يضع للأخلاق قاعدة واحدة تسري على القوى النفسية كما تسري على القوى المادية، وفي طليعة هؤلاء ولهلم أوستوالد (Wilhelm Ostwald)
صاحب القاعدة التي يعارض بها قاعدة «كانت» التي اشتهرت باسم الأمر المطلق (Categorical Imperative)
ومؤداها أن يتوخى الإنسان في عمله أن يصلح قانونا عاما يستقيم عليه أمر الناس أجمعين.
أما القاعدة التي وضعها أوستوالد مقابلا بها قاعدة كانت فهي أن يتجنب الإنسان دائما تبديد الطاقة، فشعاره في الأخلاق الفاضلة: «لا تبدد الطاقة» (Do not Waste Energy)
وهو شعار جامع لأسباب الفضائل كما يرى الكيمي الكبير، وإذا ظهر لأول وهلة أن الإنسان يبدد طاقته في الرياضة مثلا فهو في الواقع يجمع الطاقة بهذا التبديد الظاهر، وهكذا يحدث عندما ينفق طاقته في الإشفاق والحزن على مصائب الناس، فإن هذا الإنفاق سبيل الادخار أو سبيل الحماية والعزاء.
وغني عن القول أن هذه العلوم قد شعبت دراسات الأخلاق غاية التشعيب، إلا أنها لم تخرج بها عن محورها، أو على الأصح عن محوريها اللذين تدور عليهما، منذ القدم وهما أصول الأخلاق ومقاييس الأخلاق.
فما هي الأصول التي يرجع إليها في تعليل الأخلاق الإنسانية؟ وما هي المقاييس التي نستند إليها حين نفضل خلقا على خلق وحين نثني على بعضها ونقدح في البعض الآخر؟ وإذا اختلفت مذاهب الناس في التفضيل فهل هناك مقياس محيط بجميع المقاييس يرجع إليه بين المختلفين؟
هذان هما المحوران اللذان ينتهي إليهما مدار البحث في هذه العلوم جميعا، ولم ينته الباحثون فيهما إلى مقطع الرأي الأخير.
فالطبيعيون الذين يعللون كل شيء بما في الطبيعة يرجحون القول بأن الأخلاق جميعا إنما هي حيطة فطرية لوقاية النوع الإنساني، وأن الفرد ينسى نفسه بحكم الغريزة النوعية أو الاجتماعية حين يتخلق بالخلق الذي لا مصلحة له فيه، وقد يكون فيه تفويت بعض المصالح عليه. وتنقسم الأخلاق عند أصحاب هذا التعليل أقساما كثيرة على حسب الغاية منها، فما ينفع الناس جميعا في جميع الأزمان أفضل مما ينفعهم في زمن واحد، وأفضل مما ينفع قبيلا من الناس في الزمن الطويل ويعود بالضرر على غير ذلك القبيل.
والمقياس العام الذي يختاره جمهرة النشوئيين في العصر الحاضر هو مقياس الدكتور وادنجتون (Waddington)
المحاضر في علم الحيوان بجامعة كمبردج. وقد بدا له من بحوثه في علم الحيوان (Zoology)
وبحوثه في علم الحياة أن الحي يتطور وأن الأطوار المتقدمة هي «التصفية» التي بلغتها عوامل البقاء والتقدم، فمن نتائج التطور ينبغي أن نستخرج الهداية إلى أقوم الطرق وأفضل الأخلاق، وكل ما تحقق به الخير الأعظم على هدى هذه السنة فهو المقياس الأخير الذي ترجع إليه جميع المقاييس.
وقد أقنع هذا المقياس الجمهرة الغالبة من النشوئيين ولم يقنعهم جميعا، ولعله لم يقنع أحدا من معارضيه وهم كثيرون بين فلاسفة ما بعد الطبيعة على التخصيص.
ومن هؤلاء الفلاسفة من يرفض القول بالتطور أصلا؛ لأن الكون قديم بجميع عناصره ومواده فلا محل فيه لشيء جديد ، ولا يعقل أن تكون الحياة قد وجدت فيه بعد انعدامها إلا على اعتبار واحد: وهو الإيمان بأنها من صنع إله يحدثها في الكون ويرتب لها موعدها من الزمان.
ومنهم من ينكر المقياس الذي اختاره وادنجتون وأصحابه النشوئيون، لأن قياس الشيء بنفسه لا ينتهي إلى طائل، وقياس التطور بالتطور لا يدل على شيء، ومن قال إن التطور خير بدليل ما وصل إليه التطور، فكأنما يقول إن هذا الجسم مثلا خمسة أضعاف خمسة وعشرة أضعاف عشره، فلا نتيجة لأمثال هذا القياس.
وقد ناقش هذا المقياس فلاسفة لا ينكرون مذهب النشوء والتطور، ولكنهم ينكرون الاعتماد عليه وحده في تفسير القيم الإنسانية، ومن هؤلاء الأستاذ جود رئيس شعبة الفلسفة وعلم النفس بكلية بيركبك (Birkbeck) ، فرد عليه الدكتور وادنجتون ردا لم يخل من المغالطة حيث قال: إننا نقيس أبعاد الكون بجزء من الكون، فلا بدع في قياس الأخلاق المتطورة بمقياس من التطور، ووجه المغالطة في هذا الرد أن المقياس الذي نقيس به أجزاء الكون بمقياس محدود متفق عليه، ولكن المقياس الأخلاقي هنا غير محدود في زمن من الأزمان.
وقد جمعت مناقشات وادنجتون ومعارضيه في كتاب عنوانه العلم والأخلاق (Science and Ethics)
اشترك فيه نحو عشرين باحثا بين عالم وفيلسوف ولاهوتي وأديب، ولم يزد عدد المقرين لآراء وادنجتون في هذه المجموعة على اثنين، أحدهما جوليان هكسلي زميل وادنجتون في دراسات علم الحيوان وعلم الحياة.
والغريب في اتجاه هكسلي ووادنجتون أنهما عالمان من علماء الحيوان، ولكنهما يبنيان آراءهما على مدرسة التحليل النفساني ويدخلان هذه المدرسة بزاد غزير من دراسة الغرائز في الحيوان، ومن المقابلة بين الطفولة الحيوانية والطفولة الإنسانية في دور الاعتماد على الأبوين. ويقول هكسلي إن الوازع الأكبر في الديانات وقوانين الأخلاق إنما هو الأم مكبرة متعالية نامية في مخيلة الطفل مع نموه في الحياة العقلية والاجتماعية، ولا يستبعد قول القائلين إن الأخلاق الاجتماعية مستمدة في نشأتها الأولى من روح القبيل أو ما يسمونه بالنفس القبيلية (Tribal self) ، ولكنه يستند إلى دراساته للغرائز فيخطئهم في اعتبار الغرائز عادات موروثة وفي القول بأن الضمير غريزة من الغرائز، ويقول إن مذهبهم يرجع بكل شيء إلى القبيل ولا يدع محلا للفضيلة الفردية، وقد جمع هكسلي مساجلاته في هذه المباحث وضمها إلى ردوده على جده توماس هكسلي الكبير، ونشرها بعنوان التطور والأخلاق بين سنتي 1893 و1943 (Evolution and Ethics 1893-1943) .
وليس جوليان هكسلي بالعالم الوحيد الذي ينكر اعتبار الضمير غريزة من الغرائز الحيوانية، ولكنه في العصر الحاضر أشهر المنكرين لذلك استنادا إلى تجارب علم الحيوان وعلم الحياة، وهو في كليهما من الثقات المعدودين. أما الباحثون الفلسفيون والأدبيون الذين يرفضون اعتبار الضمير من الغرائز الموروثة فهم الكثرة الراجحة في العصر الحاضر، وحجتهم الغالبة هي أن الإنسان يصاب في ضميره فترجع به النكسة إلى غرائزه الأولى، وأن المفاضلة بين إنسان ذي ضمير وإنسان خلو من الضمير هي مفاضلة في الأوج لا في القرار، أي إنها لا ترجع بنا إلى الأغوار السحيقة في الماضي بل تتقدم بنا أحيانا إلى المستقبل البعيد، فيكون الرجل صاحب الضمير سابقا لزمانه بمرحلة واسعة، ومن شاء من فلاسفة العصر أن يستند إلى العلم في تعليل ضمير الإنسان زعم أن كبار المصلحين والقادة الدينيين أشبه بالفلتات التي تفسر التحول الفجائي (Mutation)
في عالم النبات، فقد يتغير النبات قليلا ثم تظهر فيه فجأة فلتات غير منظورة (Sports)
تترقى به طفرة ولا يقاس عليها في جميع الأحوال، وكذلك المصلحون والقادة الدينيون الذين ترتفع ضمائرهم إلى الذروة العليا بين أقوامهم وأبناء عصورهم، فإنهم طفرة في سبيل التقدم وليسوا بالرجعة إلى الغرائز المتروكة منذ زمن سحيق، وكثيرا ما يكون التقدم هنا ناشئا عن ترك أثر قديم واكتساب مزية جديدة، فهو ارتفاع في الأوج وليس بالغوص في القرار. •••
ومن نظرة سريعة يتبين لنا أن اشتراك العلوم الكثيرة في دراسة الأخلاق كان لها أثران متعارضان: أحدهما إلى التعسير والآخر إلى التيسير.
تفتحت الأبواب وتشعبت المسالك فازدادت مصاعب السير فيها وتقاطعت مداخلها ومخارجها فتعسر الوصول إلى غاياتها.
لكن هذا التشعب قد كان له أثر ميسر يعين الباحث على التمييز والتبسيط شعبة شعبة من مراحل الطريق. فقد تشعبت المتشابهات فظهرت الفروق التي بينها وتيسرت التفرقة بين أشتات من المسائل كانت ملتبسة متشابكة إلى زمن قريب.
أصبح الباحث الأخلاقي يميز بين ألوان مختلفة من الواجبات والمحرمات ومن الأوامر والنواهي، واتضحت أمامه إلى اليوم مناهج ثلاثة يستطيع أن يلمس حدودها في مواقعها البارزة ومراميها القريبة على الأقل، إن لم يلمسها في كل موقع وفي كل مرمى.
فلا التباس اليوم بين وازع الأخلاق ووازع القانون ووازع العقيدة الدينية، وليس اتفاقها في الإباحة والتحريم أحيانا بالذي يمنع الباحث أن يعرف لها صيغتها ويميز طبيعتها، فلا يخلط بين أوامر القانون وأوامر الأخلاق وأوامر الدين.
والغالب على الأوامر القانونية أنها إرادية تكتفي بتحقيق السلامة، ولا تذهب وراء الأسلم الألزم إلى شوط بعيد.
والغالب على الأوامر الأخلاقية أنها لدنية تعمل فيها الإرادة شيئا ولكنها لا تعمل كل شيء، بل يتولى الشعور أهم البواعث في أعمال الأخلاق، ويشاهد فيها كثيرا نزوع إلى ما وراء السلامة واللزوم، وتفضيل للأجمل الأمثل من الأمور. فصاحب الوازع الأخلاقي لا يقنع بفروض القانون ولا يزال متطلعا إلى درجة أعلى من درجات القانعين باجتناب العقاب والتزام أدنى الحدود.
أما الغالب على الأوامر الدينية أو على آداب العقيدة، فهو الشمول الذي يحيط بالإرادة والشعور والظاهر والباطن، ولا يسمح لجانب من النفس أن يخلو منه، ولا يقنع بالسلامة والجمال إلا أن تكون معهما الثقة التي لا تتزعزع في صميم الحياة، بل في صميم الوجود.
ومن السهل أن يقال إن حاسة القانون تتولد في الإنسان لأنه عضو في مجتمع، وإن حاسة الأخلاق تتولد فيه لأنه فرد من أفراد النوع الإنساني كله، ولكن ليس من السهل أن يقال إن الإنسان يهتم بمصيره في الكون لأنه عضو في المجتمع أو فرد من أفراد النوع.
فنحن قد نفسر احترام القانون بانتماء الإنسان إلى مجتمع، وقد نفسر احترامه للأخلاق الحسنة بانتمائه إلى الإنسانية، ولكننا لا نفسر التدين بهذا ولا بذاك. وإنما يتدين الإنسان لأنه يهتم بمصيره ومعنى وجوده ويطلب له قرارا أوسع جدا من علاقاته الإنسانية أو علاقاته بالمجتمع، ويحب أن يطلب عقيدة تحتويه ولا يكتفي بعقيدة يحتويها ويريدها كما يشاء.
ولهذا وجدت العقائد التي لا تبالي بقاء النوع الإنساني كله، والتي يقطع المعتقدون بها حبل النسل طواعية واختيارا ليخلصوا بأرواحهم إلى مصدر الوجود وقبلة كل موجود.
ولهذا هان على الأمم أن تخوض أهوال الحروب وأن يحكم بعضها على بعض بالفناء في سبيل العقيدة، لأن سلامة النوع الإنساني كله لا معنى لها عند المعتقد إن لم يكن للوجود معنى أكبر من حياة الإنسان وجميع بني الإنسان.
ولم يحدث أن حاسة الأخلاق حفزت الأمم إلى الجهاد كما تحفزها الحاسة الدينية، فلا تناقض ولا غرابة في تعليل نشوء الأخلاق بغريزة حب البقاء في نوع الإنسان، ولكن التناقض كبير في تعليل التدين بهذه العلة، ولا سيما التدين كما ارتقى إليه الإنسان بعد عصور الهمجية والجهالة الأولى.
طالب العقيدة يطلب معنى الوجود كله أو معنى الكون كله، ولا يفسر له هذا المعنى أنه متصل بأمة أو متصل بالأمم جمعاء.
ومحصل البحوث المتشعبة هو هذه التفرقة الواضحة بين حاسة القانون وحاسة الأخلاق وحاسة التدين، وما من باحث جاد في بحثه يستطيع أن يفهم أن تتولد في الإنسان حاسة قانونية لأنه جزء من وطن، أو تتولد فيه حاسة أخلاقية لأنه جزء من نوع، ثم لا تتولد فيه حاسة أقوى من هذه وتلك لأنه جزء من أصل الوجود كله لا تنقطع له صلة به كيف كان. وما من باحث جاد في بحثه يستطيع أن يفهم أن الإنسان يوجد في الكون ويدركه ثم تكون غاية إدراكه له أنه لا يطمئن إليه ولا يخرج منه بمعنى غير العبث والضياع.
ومن التفرقة الواضحة بين بواعث القانون وبواعث الأخلاق وبواعث الدين نعلم أن طبيعة القانون وطبيعة الأخلاق لا تغنيان عن طبيعة الاعتقاد، ولعل «العلوم الطبيعية» كما يسميها أبناء العصر صدقت أسماءها بظاهرة هامة في القرن العشرين، وهي «أن العقيدة طبيعية» في الإنسان، وأن خلوه من الاعتقاد هو الغريب.
بعد مليون سنة
في مليون السنة المقبلة - هو عنوان كتاب (The Next Million years)
ألفه السير شارل داروين العالم الطبيعي المشهور في العصر الحاضر.
وهو - بالبداهة - غير شارل داروين صاحب مذهب التطور، فهو حفيده وواحد من أسرة كبيرة كاد أفرادها جميعا أن يشتهروا بالعلم والثقافة ويبلغوا في دراساتهم الخاصة مبلغ الإمامة والرئاسة، ومنذ أيام جدهم الأكبر أراسموس داروين الذي نشأ في أوائل القرن الثامن عشر لم تخل الأسرة من عالم نابه يتخصص في علم من العلوم الطبيعية أو الرياضية، ويطرد هذا في أبناء العمومة من أسرة جالتون (Galton)
كما يطرد في أسرة داروين.
وهذه ملاحظة نقدمها في التمهيد لكتاب «المليون سنة» لأنها ترتبط ببعض مقترحاته لا لمجرد التعريف بصاحب الكتاب، وأهم هذه المقترحات أن يعمد المصلحون إلى الوسائل البيولوجية لترقية السلالة البشرية، فلا نظن أن المؤلف يقترح هذا المقترح إلا وقد قام لديه دليل الحس من أسرته نفسها على إمكان هذه الترقية البيولوجية وتطبيقها في الجماعات الكبيرة والآماد الطويلة.
يقرر داروين العصري أن الإنسان سيحتفظ بالعقيدة الدينية في المليون السنة المقبلة قياسا على المعهود من تاريخه القديم والحديث، وهو يتكلم عن العقيدة (Creed)
كأنها صفحة من الصفحات في تاريخ الديانة تستغرق نحو مائتي سنة، وتبقى الديانة العظمى مع تجدد العقائد فيها إلى أجلها المحتوم، لا يقدح في هذا التعميم أن العقائد عرضة للمخالفة في كل زمن، فتلك طبيعة في بعض الناس أن يخرجوا من الصف ولا يطيقوا الصبر على نظام القطيع.
قال: ولمحة أخرى من ملامح العقيدة يبدو أنها عامة في جميع العقائد، فقد يوجد في كل عقيدة نحو تسعة أعشار القوم يدينون بها بغير تصرف كأنها قانون من قوانين الطبيعة، وهم الذين يطلق عليهم اسم قطيع الضأن! ولكن يوجد معهم قلة يطلق عليهم اسم المعز مولعون بالخلاف ويعارضون كل شيء يجمع عليه من حولهم.
والمعز هؤلاء قلما يكونون من زمرة المحبوبين المقبولين، ولكنهم في الغالب أعلى من المتوسط في الذكاء، وربما كان إلحاح هؤلاء المعز هو الذي يستنزف عصارة الحيوية من العقائد بعدوى المجاورة، وقد توجد في الحق نسبة بين عدد المخالفين وبين عمر عقيدة الضأن في الجماعة.
وطبيعة البشر الثابتة تؤكد لنا أنهم سيظلون في تاريخهم المقبل منقادين لحماسة العقيدة على شكل من الأشكال، وأن الإنسان سيضطهد غيره وسيبتلى بالاضطهاد من غيره مرة بعد مرة في سبيل خاطرة من الخواطر لا يلبث بعضها أن يصبح قليل الخطر أو غير مفهوم ولا معقول في جيل آخر.
إلا أن العقائد لها خاصة أخرى أقوم وأجدر بالالتفات إليها، وذاك أنها تكفل الدوام للخطط الاجتماعية زمنا أطول من الزمن الذي تتكفل به أية فكرة عقلية، وفي التاريخ حالات عديدة تصدى فيها نخبة من الساسة المستنيرين لوضع سياسة يتوخون بها المصلحة العامة ويقفون حياتهم على إنجازها، وما هو إلا أن ينقضي جيلهم حتى يعقبهم ساسة آخرون ينقضونها إيثارا لطريقة غيرها من طرق المصلحة الإنسانية، فلا يطول أجل الخطة القائمة على العقل أكثر من جيل واحد، وهو أمد قصير جدا لا يكفي للتغلب على عقبات المصادفة، فلو أن خطة من الخطط تسنى لها أن تمتزج بحماسة الإيمان فأصبحت من العقائد المصدقة لقوي الأمل في بقائها نحو عشرة أجيال متعاقبة وهي برهة كافية للتغلب على طوارئ المصادفات، وبهذه المثابة تشارك العقيدة خلية التناسل في خاصتها التي تحفظ أثرها في البنية الإنسانية.
فإذا كان تاريخ المستقبل لا ينطوي على تطور إلي لبعض الوقائع التي لا سلطان عليها ولا يمكن تبديلها - وهو فرض لا يقره إلا القليل منا - ففي وسع من تتقرر عنده فكرة يناط بها التقدم الثابت لبني نوعه أن يقفو طريقا من طرق ثلاثة: أولها وأضعفها برنامج سياسي مفهوم لا يلبث أن يموت معه ويذهب بغير أثر، وثانيها أن يبث في النفوس عقيدة إيمانية يرجى أن تدوم أجيالا وأن تحدث معها تغييرا حقا في أثناء بقائها، وثالثها أن يعمل مباشرة على تغيير الطبيعة البشرية بوسائل الوراثة البيولوجية. وهي وسيلة إذا استطيعت أحدثت أثرا فعالا، ولكنها على فرض الإحاطة بكل أسرار الخلايا الناسلة - ونحن نجهلها - لا يتأتى حمل الناس على إنفاذها ولو فترة قصيرة، ولما كان الأمر يحتاج إلى أجيال متطاولة كان الأرجح أن هذه الوسيلة تهمل حتما قبل ظهور نتيجة من نتائجها النافعة.
لهذا كانت العقائد على جانب عظيم من الأهمية بالنظر إلى المستقبل؛ لأن العقيدة تبعث الأمل فعلا في دوامها بعد صاحبها وفي سيطرة الإنسان على مصيره بفضلها. •••
وتطرق المؤلف من موضوع العقيدة إلى موضوع الفصائل الإنسانية، فاقترح استخدام الوسائل البيولوجية في تكوين فصائل من النوع الإنساني كل فصيلة منها نافعة في مقصد من مقاصد النوع كله، وكلها تنتقى وتختار لاستئصال بقايا الوحشية من خلائق الإنسان.
وبعد كلام عن السعادة وعن موارد الطبيعة وكفايتها، جمع أطراف البحث في خاتمة خلص منها إلى قوله:
ومن الميسور عند النظر إلى المستقبل البعيد أن نشرع في أعمال غير التي تعودناها حتى الآن، فإن الأعمال التي يراد بها تحسين النوع قصرت إلى اليوم على تحسين أحواله دون طبيعته، ولا تلبث الأحوال أن تتبدل حتى ينقضي كل شيء. والأمل الوحيد معقود بأن نستخدم معارفنا البيولوجية بحيث لا يضيع كل شيء كلما تبدلت الأحوال، وهذه قواعد الوراثة حرية أن تقودنا إلى مرساة تثبت لنا كل كسب نبلغه في المزايا الإنسانية.
ولا ندري لماذا لم يعالج المؤلف إمكان استخدام الوسائل البيولوجية في تثبيت الاستعداد للعقيدة خاصة، ما دام على هذه الثقة بفضل العقيدة في إطالة أمد الإصلاح واستبقاء نخوته في نفوس طلابه.
فمهما يكن من صفة العقيدة الاجتماعية فالواضح من علاماتها وأطوارها أنها قوة حيوية يتفاوت نصيب الأفراد منها على حسب المزاج والخلق والوراثة، وإن كل مؤمن ففي طبيعته موضع للثقة يركن فيه إلى خاصة حيوية أقرب ما تكون إلى الخواص الموروثة، وإن استفادت من التعليم والبيئة.
إن في هذه النفوس الآدمية طبائع مفطورة على الثقة والإقدام وطبائع مفطورة على التردد والإحجام، ولا نكاد نرقب معرضا من معارض الحياة اليومية - فضلا عن الحياة في معارضها الخالدة - إلا رأينا أمامنا علامات ماثلة لهاتين الطبيعتين.
فهذا رجل يدخل إلى محفل عام كأنه يدخل إلى بيته ويتحرك فيه حيث يشاء، ويحسب أنه مهما يعمل فيه فهو عمل جائز له غير مراقب فيه، وهذا رجل يدخل إلى المحفل نفسه كأنه مهدد بالطرد منه مترقب للنقد في كل خطوة من خطواته.
والكون كله شبيه بهذا المحفل إذا نظرنا إلى القادمين إليه بهذه النظرة. فمنهم من يواجهه بالثقة في ظواهره وخفاياه، ومنهم من يواجهه بالتوجس والحذر كأنه طارئ عليه غير مستوف جواز القدوم إليه! ومنهم من يثق بخفاياه دون ظواهره أو بظواهر دون خفاياه، وإن جاءت العقائد بعد ذلك فإنما تجيء لتترجم عن هذه الحالات وتضع صاحبها في موضعه من الكون كله؛ موضعه من الكون كله أو من أرض بعينها أو زمن بعينه. ومن يسر هذه الطبائع فإنما يسر أغوار الاستعداد للعقيدة، وهو الاستعداد الذي يثبت في النفوس بالتخير والانتقاء ثم بالانتقال مع الخلائق الموروقة جيلا بعد جيل.
والمقصود بالوراثة هنا هو الاستعداد للعقيدة لا العقيدة في أحكامها وفرائضها، ولا نرى بين الطبائع الموروثة ما هو أثبت في علاماته وأطواره من طبيعة الاستعداد للعقيدة، أو طبيعة الثقة التي تداخل النفس أمام هذا الوجود بجميع ظواهره وخفاياه.
على أن العلم الذي يمتد بالأمل مليون سنة لحقيق ألا يضل سبيله إلى العقيدة التي تصحبه إلى ذلك الأمد البعيد!
تعقيب
بهذه الكلمة تنتهي هذه الرسالة عن «عقائد المفكرين في القرن العشرين»، وقد توخينا فيها أن نجعلها «نموذجية» تمثل العقائد من وجهات النظر على اختلافها.
ويرى من الفصول المتقدمة أن علوم القرن العشرين لا تبطل العقيدة الدينية، وأن للعلماء فيه موقفا من العقيدة غير موقفهم في القرن السابق، فليس لعالم من علمائه أن يجزم بالإنكار والتعطيل مستندا إلى حقائق العلم ونظرياته، وقد وجد منهم كثيرون يستخرجون من علومهم أسبابا شتى للشك في الإنكار والتعطيل.
وقد انقسم علماؤه المعتقدون إلى فئات ثلاث: فئة منهم تؤمن بما فوق المادة أو الطبيعة، وفئة أخرى تلحق المادة نفسها بالمعاني المادية، وفئة ثالثة تؤمن بالقيم الإنسانية لأنها تعتبر العقيدة الدينية ترجمة لنوازع النوع الإنساني التي يقتضيها تكوينه طبقا للسلامة والبقاء.
وملاحظتنا نحن على عقائد القيم الإنسانية أنها تقف بصاحبها دون الغاية الوافية من العقيدة؛ لأنها تتركه في الكون كله بغير سند يطمئن إليه، ولا تجاوز به حدود نوعه، وهو - أي النوع الإنساني - ضائع كله في الكون ما لم يكن لوجوده معنى أصيل مرتبط بالوجود الشامل لجميع الموجودات.
وعقائد القيم الإنسانية تقف دون الغاية حتى في المشاهدات المحسوسة التي لا خلاف عليها.
فكل علاقة بين الإنسان وبين «محيطه» ماثلة في غريزة من غرائزه أو نزعة من نزعاته.
فروح الجماعة تربطه بالمجتمع أو الوطن.
وغرائز الجنس تقود روابطه الحيوية بنوعه.
وآداب الأخلاق تقود روابطه أو معاملاته الإنسانية.
وليس بالمفهوم أن تتأصل فيه هذه العلاقات ولا تتأصل فيه علاقاته بالكون كله في صورة من الصور.
إن علاقة الإنسان بالكون أعرق وأوثق وأعمق من كل علاقة بإقليمه أو بعشيرته أو بنوعه، وليس بالمفهوم أن تترجم نوازعه عن علاقات العشيرة والإقليم والنوع ثم تخلو من ترجمة لعلاقته بالوجود كله، فإن لم تكن العقيدة الدينية هي ترجمة العلاقة الكونية فأين توجد هذه الترجمة؟ ولماذا تتأصل في الإنسان نوازع العلاقات بكل محيط ولا تتأصل فيه نوازع هذه العلاقة؟
لهذا نرى أن عقائد القيم الإنسانية تقف بالإنسان دون الغاية سواء نظرنا إلى طبيعة العقيدة وما تتطلبه من القوة والشمول، أو نظرنا إلى أطوار الإنسان في علاقاته بما حوله.
نعم إن القيم الإنسانية تؤسس في خلائق الإنسان الإيمان بالواجب، وإن قيامه بواجبه يبعث فيه الثقة والطمأنينة والعزاء، وإنه متى عرف القيم الإنسانية عرف الأحسن والأكمل وأعرض عن القبح والنقيصة، ومتى اهتدى إلى الواجب بين ما هو حسن وما هو قبيح صمد له وتبين طريقه في ظلمات المجهول.
ولكنه ولا ريب لا يكتفي بهذا الواجب لو علم بما هو أكثر منه وأكبر، وإنه لا يستغني معه عن سند له وسند للنوع الإنساني كله، ولا يجد هذا السند في شيء كما يجده في عقيدة تشمل الكون وما فيه بل تشمل الكون وما وراءه وتحيط بالزمن بغير ابتداء ولا انتهاء، وتلك عقيدة لا تملكها القيم الإنسانية ولا تدعيها، وإذا ملكتها فإنما تملكها بالرمز والإشارة وترفعها باختيارها فوق القيم الإنسانية جمعاء .
وهنا تعرض لنا مشكلة الشر كرة أخرى، وهي المشكلة التي قلنا إنها لا تخص القرن العشرين ولا يزال لها شبح قائم في كل زمان، ويكفي أنها في الأديان نفسها مجسمة في مثال الشيطان.
فما الذي يمنع المفكرين في هذا العصر أن يسلموا ضمائرهم إلى عقيدة دينية فيما فوق الطبيعة؟
إن السؤال هنا ينصرف إلى الشاكين والمترددين ولا ينصرف إلى مفكري العصر الذين آمنوا بما فوق الطبيعة إيمان المعرفة أو إيمان التسليم.
والشاكون المترددون يقولون إننا عاجزون عن التوفيق بين كمال الله وقدرته وبين الكون الذي تعتريه النقائص وتعيش فيه الشرور.
نقول: وهل هم قادرون على التوفيق بين كمال الله وقدرته، وبين الكون الكامل والمخلوقات الكاملة والحالة السرمدية التي لا يوجد فيها ما يشكوه أحد أو ما يخالف مشيئته أحد؟
هل الكون الذي يبعث فيهم العقيدة هو الكون الذي يرضى فيه كل مخلوق في كل حالة وفي كل حين؟
إن تصور هذا الكون أصعب جدا من تصور الكون كما نعهده ونزاوله، وما لم يكن في مذهبهم أن العقيدة مستحيلة أصلا فالعقيدة في الكون الذي نحن فيه أقرب من العقيدة في كون يفرضونه وهما ولا يستطيعون أن يفرضوه متبينين متثبتين.
والذي يحيك في نفوسنا بإزاء هذا الموقف أن المسألة مسألة زمن وتجربة، وأن الزمن فاصل غدا في أمر الاعتقاد ونبذ الاعتقاد، فإذا مضت الأيام بعد الأيام وثبت من التجربة بعد التجربة أن الخلو من العقيدة فقر في الشعور بالحياة والقدرة على العمل وشذوذ عن سواء الخلق، فالعقيدة يومئذ فارضة لنفسها مفروضة في العقول لا محالة، أو يعجز الإنسان عن استلهام عقيدته فتلك آية الفناء وإفلاس الحياة والأحياء.
وقد رأينا في الفصل السابق عالما من جلة علماء العصر يمد بصر العلم مليون سنة ولا يتخيل الإنسان متروكا لنفسه عاملا على صلاحه مائتي سنة ولاء من هذا الدهر الطويل ما لم يكن له اعتقاد وما لم تكن لاعتقاده نخوة وحماسة.
ونخال أن مائتي سنة كافية للفصل في أزمة العقيدة الحاضرة، بل نخال أن القرن الحادي والعشرين قمين أن يتقدم بالضمير الإنساني خطوة أوسع من خطوته بين القرن التاسع العشر والقرن العشرين. وإن علم النفس سيلاقي علم الذرة في الشقة الوسطى التي لا تزال حتى اليوم فاصلة بين المادية والروحانية، ومن يعش ير عيانا ما نراه باعتقاد وتقدير.
ونختم الرسالة كما بدأناها مذكرين من يعوزه التذكير في هذا المقام: إننا لم نكتبها لنبسط القول في معتقدات الغرب جميعا، فهذا شرح يطول ولا تستوعبه المكتبات بله الصفحات، وإنما أردنا بهذه الرسالة بيان العقيدة كما تفرض نفسها على المفكر المجتهد في القرن العشرين خاصة، فلا محل فيها لشرح العقائد التي توارثها الأبناء عن الآباء ولا للكلام على الذين رفضوا كل اعتقاد ولا سند لهم من علوم القرن العشرين، وحسبنا من محصول القول في هذا المقصد أن نصف قرن لم ينقض على المفكرين دون أن يطرقوا من أبواب العقيدة كل باب أدركوه بالبصيرة والتفكير.
كلمة على الغلاف
نعم هي كلمة على الغلاف، ولكنها ليست بالغريبة عن موضوع الرسالة ولا عن الموضوع كله: وهو موضوع العقيدة وذوي الرأي فيها.
فمن المسائل التي يتفق عليها الأكثرون، إن لم نقل إنها محل الإجماع، أن المشكلة الكبرى في العصر الحاضر إنما هي مشكلة العقيدة، وأن أزمة الضمير الإنساني في عصرنا هي الأزمة الشاملة التي تنتهي إليها جميع الأزمات، ولولاها لهانت كل أزمة وجدانية تعترض حياة الإنسان، فردا كان أو جماعة.
وما من أحد يستغرب الكتابة عن أزمة العصر كله، فالغريب حقا أن يسكت عن هذا الموضوع ولا يستوفي الكلام فيه من جميع نواحيه، فإذا كان في الناس من يستغربه ويستنكر الكتابة فيه فالأمر واضح ... إن هذا المستنكر واحد من اثنين: إما مسخر للعاملين في زماننا هذا على هدم جميع العقائد وتقويض كل دعامة قائمة من دعائم المجتمع الإنساني في كل بيئة، وإما عاجز مستسلم للكسل والحسد، يداري عجزه بالتطاول على كل عمل مفلح، كائنا ما كان.
ولكنهم مع هذا يتركون السبب الواضح ويلغطون بالتهم والظنون، وأول هذه التهم والظنون وآخرها أن الكاتبين في مسائل العقائد إنما يطرقون هذا الموضوع طلبا للربح وابتغاء الرواج عند الدهماء.
فيما يعنيني أنا يكفي أن أرد على هذا اللغط المسف بكلمتين: أولهما أنني أعاقد الناشرين على طبع كتبي، ولمن يشاء أن يطلع على عقود الاتفاق بيني وبين الناشرين، فلا فرق فيها بين كتاب في الأدب وكتاب في المعتقدات. لا امتياز لعبقرية المسيح مثلا على دراسة في ابن الرومي أو في ابن رشد أو في باكون أو في أي غرض من الأغراض التي لا تدور على المعتقدات.
والكلمة الثانية أنني لو كتبت للربح؛ لما طرقت هذه الموضوعات التي تكلفني الجهد والنفقة. فإن نظرة واحدة إلى كتاب عبقرية المسيح مثلا، أو إلى هذه الرسالة، تدل العارفين على مراجعها، وأنها لا يمكن أن تكتب قبل الرجوع إلى مئات المصنفات، نشتريها فتكلفنا ثمنا ثقيلا، ونطالعها فتكلفنا جهدا مضنيا، ونوازن بينها فترهقنا وتلجئنا إلى الاطلاع على مئات الصفحات قبل أن نخرج منها بصفحة واحدة. فما أغنانا عن كل هذا؟
ما أغنانا عن إنفاق المال والصبر على المطالعة والمراجعة إن كان غاية ما نبغيه الكسب والرواج؟
لقد كان أيسر من هذا جدا أن نضع القلم على الورق بغير مطالعة ولا مراجعة فنخط به قصة من قصص الشهوات التي تروج وتحسب عند الأغرار من فتوح الإبداع والتجديد، فإن لم تكن تأليفا فلتكن ترجمة، ولتكن من قبيل الصور العارية التي تملأ المكتبات مخطوطة ومرسومة، ولا تعب في ترجمتها ولا كلفة ولا صعوبة في البحث عنها، ولا في توخية الناشرين عليها في مظانها، كما نفعل في التوصية على غيرها، من كتب الدراسة والتفكير.
كان ذلك أجدى علينا لو أردنا الربح والراحة، وكان ذلك غنما لنا عند هذا «الواغش» البشري الذي لا يتورع عن خسة الافتراء بغير بينة ولا حياء.
لكن الرجل الذي قضى حياته يحارب الأضداد ولا يبالي خسارة تصيبه من هذه الحرب التي لا هوادة فيها - آمن ما يكون شرفا من تطاول المتطاولين وبهتان المفترين.
ولا والله ما في هذه المفتريات ما يوجب الرد عليه لو كان قصارى الأمر أن ندفع عنا ما يفترون.
ولكننا نميط الأذى عن الموضوع نفسه، لكيلا يخطر على بال أحد أنه موضوع تجارة وتمليق أهواء، أو ابتغاء المرضاة من الدهماء، وما من أحد يفهم ما يقول يزعم أن صاحب كتاب «الله» أو الفلسفة القرآنية أو عبقرية المسيح، أو هذه الرسالة في عقائد المفكرين، يبتغي الدهماء بحرف واحد مما يكتب، وليس شيء منه بالذي تصبر عليه طاقة الدهماء.
وفي هذا الكفاية! وموعدنا كتب أخرى، بعد كتب أخرى، عن العقائد والمعتقدين إن شاء الله!
Unknown page