80

ويقول مارتن: «لنعمل من غير برهنة، فالعمل هو الوسيلة الوحيدة التي تطاق بها الحياة.»

أخذت تلك الجماعة الصغيرة كلها تطبق هذا المشروع المحمود، وأخذ كل واحد يمارس مواهبه، فصارت المزرعة الصغيرة تأتي بدخل كثير. أجل، كانت كونيغوند بشعة كثيرا في الحقيقة، غير أنها غدت حلوانية بارعة، وتطرز باكت، وتعنى العجوز بالبياضات، حتى إن الراهب جيرفله يقوم بخدمة، فقد صار نجارا ماهرا، وأصبح رجلا صالحا أيضا، وكان بنغلوس يقول لكنديد أحيانا: «إن جميع الحوادث آخذ بعضها برقاب بعض في أحسن ما يمكن من العوالم؛ وذلك لأنك لو لم تطرد من قصر جميل بضربات رجل في عجزك من أجل غرامك بالآنسة كونيغوند، ولو لم تؤخذ من ناصيتك في محكمة التفتيش، ولو لم تطف في أمريكة ماشيا، ولو لم تطعن البارون بالسيف طعنة نجلاء، ولو لم تفقد جميع كباشك التي أخذتها من البلد الطيب إلدورادو؛ ما أكلت هنا ترنجا مرببا وفستقا.»

فيجيب كنديد: «هذا قول حسن، ولكن يجب علينا أن نزرع حديقتنا.»

الجزء الثاني

الفصل الأول

كيف انفصل كنديد عن زمرته؟ وما نشأ عن ذلك

يسأم الإنسان كل شيء في الحياة، فالثروات تتعب من يملكها، وإذا ما أشبع الطمع لم يترك غير الندم، ولا تبقى ألطاف الغرام ألطافا زمنا طويلا، ولم يلبث كنديد - الذي خلق ليعاني جميع تقلبات الطالع - أن سئم زراعة حديقته فقال: «أيها الأستاذ بنغلوس، إذا كنا في أحسن ما يمكن من العوالم، فإنك تعترف لي - على الأقل - بأنني لا أتمتع بحصة ملائمة من السعادة الممكنة، ما عشت مجهولا في هذه الزاوية الصغيرة من بحر مرمرة، غير مالك من الوسائل سوى ذراعي اللتين قد تعوزانني ذات يوم، وما دمت لا أنال من المتع غير ما لدي من الآنسة كونيغوند الدميمة جدا، والتي أرى السوء كل السوء في كونها زوجا لي، وما دمت لا أفوز بغير صحبتك التي أملها أحيانا ، أو صحبة مارتن التي تجعلني حزينا، أو صحبة جيرفله الذي هو حديث عهد بالصلاح، أو صحبة باكت التي تعلم ما تنطوي عليه من خطر كثير، أو صحبة العجوز التي ليس لها غير ألية واحدة، والتي تقص أحاديث مملة.»

وهنالك يتناول بنغلوس الكلام ويقول: «تعلمنا الفلسفة، أن الذرات الحية القابلة الانقسام إلى ما لا حد له تنتظم بذكاء عجيب لتكوين مختلف الأجسام التي نلاحظها في الطبيعة، فالأجرام السماوية هي ما يجب أن تكون عليه، وهي تقوم حيث يجب أن تكون قائمة، وهي ترسم من الدوائر ما يجب أن ترسم، ويتبع الإنسان من الميل ما يجب أن يتبع، وهو كائن على ما يجب أن يكون عليه، وهو يفعل ما يجب أن يفعل، أنت تتوجع يا كنديد؛ لأن ذرة روحك الحية تسأم، غير أن السأم تحويل للروح، وهذا لا يمنع كل شيء من أن يكون على أحسن حال لك وللآخرين، ولما رأيتني مستورا بالبثور، لم أك متحولا عن رأيي قط؛ وذلك لأن الآنسة باكت لو لم تذقني ملاذ الحب وسمه، ما لاقيتك في هولندة، وما كنت أتيح للتعميدي جاك فرصة القيام بعمل يثاب عليه، وما كنت أشنق في أشبونة من أجل تهذيب القريب، وما كنت هنا لإمدادك بنصائحي، وجعلك تموت على مذهب ليبنتز، أجل يا كنديدي العزيز، إن كل شيء آخذ بعضه برقاب بعض، وكل شيء ضروري في أحسن ما يمكن من العوالم، ويجب أن يهذب برجوازي منتبان الملوك، وأن تنتقد حشرة كنبر كرنتن، تنتقد، تنتقد، وأن يصلب الواشي بالفلاسفة في شارع سان دني، وأن يقطر متحذلق الريكوله، وكاهن سان مالو الحقد والافتراء في جرائدهما النصرانية، وأن تتهم الفلسفة أمام محكمة ملبومن، وأن يداوم الفلاسفة على تنوير البشر، على الرغم من نهيق البهائم المضحكة، التي تغوص في مناقع الآداب، وأن تطرد من أجمل القصور بضربات رجل على ألييك، وأن تتدرب عند البلغار، وأن تجلد، وأن تعاني مجددا نتائج غير هولندية، وأن تعاد إلى أشبونة؛ فتجلد ثانية تنفيذا لأمر التفتيش المقدس، وأن تعاني عين الأخطار لدى البادر والأوريون والفرنسيين، وأن تكابد أخيرا، جميع ما يمكن من البلايا، وعلى ما أنت عليه - مع ذلك - من عدم فهم لليبنتز كما أفهمه، يجب عليك أن تذهب إلى أن كل شيء حسن، وأنه على أحسن ما يكون، وإلى الهيولى والمادة اللطيفة والانسجام المقدر والذرات الحية أروع ما في العالم، وأن ليبنتز رجل عظيم حتى عند من لم يفقهوه.»

ولم يجب كنديد - الذي هو أكثر من في الطبيعة حلما - عن هذا القول الجميل بكلمة، وإن قتل ثلاثة رجال كان بينهم قسيسان. ولكنه - وهو الذي سئم الدكتور ورهطه - انطلق عند فجر الغد حاملا بيده عصا بيضاء، وذلك من غير أن يعرف إلى أين، باحثا عن مكان لا يسأم منه، عن مكان لا يكون الناس فيه أناسا، كما هو الأمر في البلد الصالح إلدورادو.

وصار كنديد أقل شقاء؛ لرغبته عن كونيغوند كما تقدم، وأخذ كنديد يقوم أوده بكرم مختلف الأمم غير النصرانية، مع إيتاء زكاة، ووصل كنديد - بعد سير طويل شاق جدا - إلى تبريز الواقعة على حدود فارس، إلى هذا المصر المشهور بالفظائع، التي مارسها الترك والفرس مناوبة.

Unknown page