76

ويقول بنغلوس: «حقا أنك رأيتني مشنوقا، وكان يجب إحراقي طبعا، ولكنك تذكر أن المطر كان ينزل مدرارا، حينما استعدوا لتحريقي، وكانت العاصفة من الشدة ما قنط معه من إيقاد النار، فشنقت لأنه لم يستطع صنع ما هو أروع، ويشتري جراح جثتي، ويأتي بي إلى منزله ويشرحني، وكان أول ما فعل هو أنه بضع على شكل صليب ما بين السرة والترقوة، ولم يمكن أن يشنق إنسان بأسوأ مما شنقت. أجل، إن منفذ مآثر التفتيش المقدس - وهو شماس - كان يتقن تحريق الآدميين إتقانا عجيبا بالحقيقة، ولكنه كان غير درب بالشنق، وذلك أن الحبل كان مبتلا، فيزلق زلقا رديئا وينعقد.» «والخلاصة أنني كنت لا أزال أتنفس، وكان من فعل البضع على شكل صليب أن صرخت صراخا عظيما، سقط الجراحي به على ظهره، وقد ظن أنه يشرح الشيطان، ففر وهو يكاد يموت من الخوف، وكذلك سقط على السلم وهو هارب، وتهرع امرأته من غرفة مجاورة بفعل الضجيج، فتجدني مستلقيا على المنضدة مع بضعي الذي هو على شكل الصليب، ويعتريها خوف أشد من الذي اعترى زوجها، وتفر وتقع عليه، فلما عاد إليهما شيء من وعيهما، سمعت الجراحية تقول للجراح: «لم عن لك أيها العزيز أن تشرح ملحدا؟ ألا تعلم أن الشيطان يكون في جسم هؤلاء الناس دائما؟ سأسرع في البحث عن قس؛ لقراءة العزائم عليه.» وأرتجف من هذا القول، وأجمع ما بقي لي من قوى قليلة، فأقول صارخا: ارحماني! وأخيرا تشجع الحلاق البرتغالي، فرتق جلدي، حتى إن زوجه عنيت بي، فلما مضى أسبوعان كنت قادرا على المشي مرة أخرى، ويجد الحلاق لي منصبا، أي: يجعلني خادما عند فارس من فرسان مالطة، كان ذاهبا إلى البندقية، ولكن بما أنه لم يكن عند سيدي ما يدفعه أجرة لي، فقد استخدمت لدى تاجر بندقي، واتبعته إلى الآستانة.» «ويعن لي ذات يوم ان أدخل مسجدا، وكان لا يوجد فيه غير إمام شائب، وفتاة تقية باهرة الجمال تقوم بصلواتها، وكانت بادية الجيد، وكان يوجد بين نهديها طاقة رائعة من الخزامى والورد وشقائق النعمان والحوذان والزعفران والأذيني، فتركت طاقتها تسقط، وأجمعها، وأعيدها إليها بتهافت مع عظيم احترام، وأبلغ من تلبثي طويلا في إعادتها ما يغضب الإمام معه، ويرى أنني نصراني فيطلب العون، ويؤتى بي إلى القاضي، فيأمر بضربي مائة ضربة بالعصا على باطن رجلي، ويحكم علي بالأشغال الشاقة في الليمان، وأقيد في ذات المركب الليماني وعلى ذات المقعد مع البارون، وكان يوجد في المركب عينه أربعة شبان من مرسلية، وخمسة قسوس من نابل، وراهبان من كورفو، قالوا لنا: إن مثل هذه الحوادث مما يقع كل يوم، وكان السيد البارون يزعم أنه عانى ظلما أكثر مما عانيت، وكنت أزعم أن إعادة طاقة إلى جيد امرأة أهون كثيرا من الظهور عاريا مع غلام سلطاني. وكنا لا نكف عن الجدال، وكنا نتلقى عشرين ضربة سوط كل يوم، حتى ساقك تسلسل الحوادث في هذا الكون إلى مركبنا، ففديتنا.»

ويقول له كنديد: «والآن يا بنغلوسي العزيز، هل ترى سير كل شيء في العالم على أحسن ما يكون، وقد شنقت، وشرحت، وأوسعت ضربا، وجدفت في المركب الليماني؟»

ويجيب بنغلوس بقوله: «لا أزال على رأيي الأول؛ وذلك لأنني فيلسوف، كما هو حاصل القول، فلا يناسبني أن أناقض نفسي، ولأن ليبنتز لا يمكن أن يخطئ، وذلك ما دام النظام المقدر أحسن شيء في العالم، وما دام هذا النظام بالغا حسن الهيولى والمادة اللطيفة.»

الفصل التاسع والعشرون

كيف لقي كنديد كونيغوند والعجوز؟

بينا كان كنديد والبارون وبنغلوس ومارتن وككنبو يقصون مغامراتهم، ويبرهنون حول الحوادث العارضة وغير العارضة في هذا الكون، ويجادلون حول المعلولات والعلل، وحول الشرور الأدبية والمادية، وحول الإرادة والوجوب، وحول ما يمكن أن يشعر به من سلوان في أثناء الأشغال الشاقة في المراكب الليمانية بتركية، انتهوا إلى منزل أمير ترنسلفانية على شاطئ بحر مرمرة، وأول من بدا لهم كونيغوند والعجوز، اللتان كانتا تنشران مناشف على الجبال، تجفيفا لها.

ويمتقع البارون عند هذا المنظر، ويرتد العاشق الرقيق كنديد ثلاث خطوات، ويرتجف عند رؤيته كونيغونده الحسناء سمراء عمشاء ذاوية الجيد، متكرشة الخدين، حمراء الذراعين، قشراء الساعدين، ثم يتقدم عن مجاملة، وتعانق كنديد وأخاها، ويعانقان العجوز، ويفدي كنديد الاثنتين.

وكانت في الجوار مزرعة صغيرة، فاقترحت العجوز على كنديد أن يشتريها، ريثما يتفق للزمرة نصيب أوفى مما هي عليه، وكانت كونيغوند لا تعرف أنها شنعت، ولم يخبرها أحد بذلك، وتذكر كنديد الطيب بوعوده تذكيرا حازما، لم يجرؤ معه أن يرفضها؛ ولذا فقد بلغ البارون عزمه على الزواج بأخته، ويقول البارون: «لا أطيق صدور مثل هذه الدناءة عنها مطلقا، كما أنني لا أطيق صدور مثل هذه الوقاحة عنك أبدا، ولن أعمل ما ألام به على هذا العار، ولن يمكن أولاد أختي أن يدخلوا محافل الشرف بألمانية، كلا، لن تستطيع أختي غير تزوج أحد بارونات الإمبراطورية.» وترتمي كونيغوند على قدميه وتبللهما بالدموع، فلا تلين له قناة.

ويقول كنديد: «أيها السيد المجنون، لقد أنقذتك من الأشغال الشاقة في المركب الليماني، وقد فديتك بمالي، كما فديت أختك بعد أن كانت تغسل الصحون وهي شنعة، ومن كرمي أن أجعل منها زوجتي، ثم تزعم أنك تعارضني! لو لبيت نداء غضبي لقتلتك ثانية.»

ويقول البارون: «تستطيع أن تقتلني مرة أخرى، ولكنك لن تتزوج أختي ما دمت حيا.»

Unknown page