وحتى لا أفوت عليك تحقيق الهدف؛ أقول إن معناها قد اتضح أمامنا الآن، فإذا توافرت للشيخ حكمة، كان ذلك لأنه استطاع أن يستخلص من خبراته الماضية التي لا تقع تحت العد والحصر وجهة نظر على أساسها يفرق لنفسه ولغيره بين الحق والباطل، وبين الصحيح والفاسد، على أن يكون مفهوما أن تلك النظرة الحكيمة المكتسبة، إنما تنحصر حدودها في شئون الحياة اليومية الجارية، فلا تجاوزها إلى ميادين لا يكون فيها القول إلا للعلم لا للحكمة، وفي هذه المناسبة أقول إن لمحة مرت ذات يوم بخاطري عن العنوان الذي وضعه «القفطي» لكتابه «إخبار (بكسر الألف) العلماء بأخبار (بفتح الألف) الحكماء»، قد يلفت أنظارنا إلى أن هنالك فرقا بين «العلماء» و«الحكماء»، فعلم العلماء منصب على «الظواهر» لاستخراج قوانينها، وحكمة الحكماء تنظر إلى الغايات.
فلما بلغت مع صاحبي هذا المدى، هممت بالانصراف خاتما لقاءنا بقولي: ألم أقل لك يا سيدي إن الله سبحانه قد بارك لك في حياتك لإخلاصك لفكرك ولصدقك مع نفسك ومع الناس، فازددت مع الأعوام بركة على بركة، ونعمة على نعمة،
كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة ؟ فقل الحمد لله رب العالمين.
الفصل الثالث والعشرون
إرادة تأمر وعقل يأتمر
جاءتني رسالة من طالب في إحدى كليات الهندسة، وهو يقول عن نفسه في صدر رسالته إنه «يدرس علوم الإلكترونيات والكهرباء، وهي علوم - كما تعرفون- حديثة ومتطورة بدرجة عالية بحيث نستطيع القول إن حضارة اليوم مبنية عليها.» فلما قرأت رسالة الطالب إلى ختامها وجدتها مثلا واضحا لرسالة تجمع الجيد والرديء في صفحة واحدة؛ أما الجيد فهو ما نحمد الله عليه، وواضح أن صاحب الرسالة هو من خيرة الشباب في جامعاتنا، ومن هنا يشتد أسانا عندما نجد الجانب الرديء من رسالته يشير إلى اهتزاز خطير في منهج التفكير، كما يشير إلى قراءة متسرعة لما يقرؤه صاحب الرسالة، بحيث لا يرسخ في ذهنه مما قرأه إلا صورة مشوهة ممسوخة، وتكون هي الصورة التي يقيم عليها أحكامه بعد ذلك.
بدأ صاحب الرسالة رسالته بقوله إنه يتابعني فيما أكتبه، فبعضه يصادف عنده القبول والرضا، وبعضه الآخر لا يلقى عنده إلا الرفض، وقد لا يعلم الطالب صاحب الرسالة، أن أسعد ما يسعدني من طلابي هو أن أجد فيهم مثل هذا العقل الناقد الفاحص، الذي يعرف كيف يميز القمح من الشعير، حتى وإن اجتمع الصنفان واختلطا في وعاء واحد، وإن أشقى ما يشقيني من هؤلاء الطلاب هو أن أراهم يعبرون على المادة المقروءة مرور الغافلين، فالصواب أمام أعينهم وأذهانهم كالخطأ، وما هو مقطوع بيقينه لا يختلف عندهم عما هو موضع شك ويحتاج إلى مراجعة وتحقيق، ولهذه الخصلة في طباعي، أعجبني من صاحب الرسالة ما يرويه عن نفسه إزاء ما أكتبه، من أنه يقبل ويرفض، فلا هو ممن يقبلون المكتوب كله برغم ما قد يكون فيه من حسنات.
وكان مما لقي عنده القبول مما أكتبه - كما يقول - هو تلك الدعوة التي ما أنفك داعيا لها، وهي أن يصاغ العربي الجديد في صيغة ثقافية، تضمن بها أن يجيء ذلك العربي الجديد عربيا ومعاصرا في وقت واحد وبنظرة واحدة، وبعد أن يقرر لي ذلك عن نفسه، ينتقل خطوة فينبئني بأنه أراد تطبيق تلك الدعوة على شخصه. إلى هنا والنية طيبة، والاستجابة محمودة، فماذا يطمع كاتب أن يحققه في قرائه أكثر من أن يأتيه النبأ من قارئ بأنه قد هم بتحقيق الدعوة في شخصه؟ لكن هذا الشعور بالرضا لم يكد يسري في النفس بأطراف أوائله، حتى انعكس عندما وقعت عيني على الجملة التالية في رسالة الطالب، وفيها يقول إن ما قد هم بتحقيقه من دعوتي في شخصه: «لا يكون إلا بأن يجمع بطرفي العلوم الوجدانية والعلمية، كل إلى جوار الآخر ...» آه! لقد زلت القدم من مهندسنا الصغير، وارتدت فرحتي به لتصبح شكا في قدرته على أن يحقق شيئا مما قال إنه قد هم بفعله، فهنالك من أوجه الزلل ما قد يبدو للعين الغشيمة أنه زلل خفيف، مع أن العين التي دربتها خمسون عاما في تربية الشباب وتعليمه، قد ترى في تلك الزلة الخفيفة مظهرا خطرا يمس التكوين العقلي في الصميم، إن مهندسنا الصغير قد تخيل أنني أدعوه إلى ما قد عبر عنه في جملته التي أسلفت ذكرها، وإنه لضرب من المحال أن أكون في كل ما كتبته قد أشرت إلى شيء اسمه «علوم وجدانية»؛ لأن المعنيين ينقض أحدهما الآخر، فإذا كان «علم» فلا وجدان، وإذا كان «وجدان» فلا علم، فأين يا ترى قد اتجه الطالب في بحثه ليجد كتابا فيه «علوم وجدانية»؟ ثم انظر إلى قوله إنه سيضع «العلوم الوجدانية» بجوار «العلوم العلمية»! فهل يعرف الطالب أن ثمة علوما غير علمية، بحيث يتحوط في عبارته فيصف أحد النوعين من العلوم التي اعتزم أن يجاور بينها في رأسه بأنه «علوم علمية»؟ إنه إذا كانت قطرة واحدة من ماء المحيط تكفيني لأعرف منها ملوحة الماء في المحيط كله، فعبارة واحدة كهذه، بما فيها من سذاجة شديدة في استخدام الألفاظ، لتكفيني للحكم على «الفصيلة» التي يندرج فيها الطالب صاحب الرسالة، من بين فضائل طلاب العلم، وعندما أشرت إليه فيما أسلفته بقولي عنه إنه لا بد أن يكون من خيرة الشباب في جامعاتنا، فذلك لأني رأيت فيه بشائر الطموح العلمي وإخلاص الرغبة في تثقيف نفسه، وحسن النية في تحقيق الأهداف السامية، وهذه كلها صفات لا يكثر وجودها اليوم في شبابنا الجامعي، مما يغرينا بالأمل في سهولة توجيهه إلى جادة الطريق، وجادة الطريق يا صاحبي في مجال العلم والمعرفة إنما تكون في ضبط المعاني، وفي تكوين الحاسة الهادية في تمييز السليم من الفاسد في الألفاظ الدالة على تلك المعاني، كالصراف المدرب في تمييز العملة الصحيحة من العملة الزائفة.
وأود للطالب صاحب الرسالة أن يعلم بأن «العلوم» حين تنقسم فروعا وجب أن يكون كل فرع من تلك الفروع «علما» تتوافر فيه الشروط الأساسية في كل تفكير علمي، ومن حقنا طبعا أن نقسم العلوم بحسب موضوعاتها فنقول: علوم رياضية، وعلوم طبيعية، وعلوم اجتماعية، وعلوم شرعية، وهكذا، لكن تقسيما كهذا حين نقيمه على أساس «الموضوع» لا ينفي أن يكون بين الأقسام كلها جانب مشترك، هو الذي يجعل العلم علما بغض النظر عن موضوعه، والجانب المشترك هو «المنهج» المتبع في البحث، ولولا أن صاحب الرسالة طالب جامعي، لما استطردت في هذا الجزء من الحديث، ولو كان قد تشرب من موضوع اختصاصه العلمي، ألا وهو - كما أنبأنا في خطابه - علم الإلكترونيات والكهرباء، أقول إنه لو كان قد تشرب من موضوع دراسته منهاجه ودقته؛ لانعكس ذلك المنهاج وهذه الدقة في طريقة استخدامه للكلمات، وكان عندئذ يجد في نفسه ما ينفر من عبارات كالتي استخدمها في قوله: «علوم وجدانية» و«علوم علمية».
ثم أنتقل مع صاحب الرسالة إلى نقطة أهم، وردت هي الأخرى في عبارته التي ذكرناها نقلا عنه، وهي أنه حين أراد أن يتقمص الدعوة إلى الصيغة الجديدة، الصيغة التي نريد لها أن تدمج في صلبها تراثا ومعاصرة في وقت واحد، ظن أن الأمر في ذلك لا يعدو أن يضع شيئا يقرؤه في كتب التراث «بجوار» (وهذه هي الكلمة التي استخدمها) بجوار شيء يتعلمه من علوم العصر، وعلى وجه التخصيص يتعلمه مما يدرسه في كلية الهندسة، وإنني، وإن كنت لا أدري كيف يكون هذا «التجاور» لصنوف المعرفة في رأس الدارس، فليس هو ما يحقق الهدف المطلوب في بناء الصيغة الثقافية الجديدة للمواطن العربي، وعلى سبيل التشبيه أقول: انظر كيف يتغذى الكيان العضوي لأي كائن حي. فانظر إلى الشجرة - مثلا - وهي تمد جذورها في الأرض، تتحسس العناصر الملائمة فتمتصها دون سواها مما لا ينفع في غذائها ونمائها، وكذلك تمتص الماء المطلوب لترتوي، فهل هي تفعل ذلك لتوضع العناصر المغذية عنصرا إلى جوار عنصر وتجيء شربة الماء لترص مع تلك العناصر في صف واحد، أو أنها تتمثل هذا كله تمثلا تختفي معه العناصر المأخوذة من تربة الأرض، وهي إذ تختفي فإنما تختفي ظاهرا لتتبدى في الأوراق وخضرتها، وفي الأزهار، وفي الثمار؟
Unknown page