إننا إذ نقول عن عصرنا هذا إنه قد بدل في حياته العلمية منهجا بمنهج فكأننا قلنا كذلك - بصورة ضمنية - إن الناس في موقفهم من الحاكم قد بدلوا - كذلك - أساسا بأساس، فعلينا الآن أن نسأل عن طبيعة التغير الذي طرأ على النظرة العلمية المعاصرة لنرى تبعا لها طبيعة التغير الذي طرأ على صورة العلاقة الجديدة بين الشعب وحكومته، وهو تغير يقتصر - بالطبع - على من يحيون حياة فيها علوم ومناهجها، مبدعة وأصيلة، لا منقولة ومحفوظة.
ولعله كان من أهم ما حدث من تغير في وقفة العلم في عصرنا هو أن الباحث العلمي في ظاهرة معينة، محاولا أن يخلص إلى قوانينها، بعد أن كان سلفه يبحث عما هو «يقين» مثل يقين الرياضة تماما، قد أصبح يبحث عما هو «محتمل» الصواب؛ لأن يقين الرياضة لا يكون إلا في الرياضة أو ما يشبهها من ضروب الفكر، وأما الظواهر الطبيعية فلا تجيء قوانينها إلا في صورة احتمالية، لكنها ليست هي «اليقين» على كل حال، لماذا؟ لأن ما هو يقيني يقينا مطلقا - في العلوم الرياضية أو غيرها - إنما استمد يقينه ذاك من كونه لا يضيف معرفة جديدة يلتزم بصدقها بالنسبة إلى واقع الدنيا، وإنما هو يكتفي بتحليل معنى ما إلى عناصره الداخلة في تكوينه، لا بحكم الأمر الواقع، بل بحكم «التعريف» الذي اصطلح عليه أصحاب الشأن في مجال معين؛ فحين نقول في الرياضة - مثلا - إن «1 + 1 = 2»؛ فنحن نحلل ما نقصد إليه حين نستخدم عدد «2» تماما، كما يقول: إن الأعزب هو من لم يتزوج، فمصدر «اليقين» في هذه الحالة وكل ما يشبهها، إنما هو ما كنا قد اتفقنا عليه من «تعريف» وتجيء الجملة بعد ذلك لتفصح عما هو مضمر في المصطلح وفقا لتعريفنا له، فإذا قلنا عن الجملة التي من هذا النوع، إنها مبتدأ وخبر، كان الخبر فيها هو نفسه المبتدأ.
وأما في مجال العلوم الطبيعية؛ فالأمر فيها غير ذلك؛ إذ لا بد للخبر أن ينبئنا بشيء جديد عن المبتدأ (إذا جاز لنا استخدام مصطلحات النحو في هذا المجال) وما دام الموقف فيه إضافة خبر «جديد» على طبيعة الضوء - مثلا - أو طبيعة الصوت، أو طبيعة سمك القرش أو ما شئت من ظواهر الطبيعة وكائناتها، فأنت معرض للخطأ؛ لأنك مضطر إلى استخلاص الحقيقة التي تعرضها من «متوسطات» تحصل عليها من العينات التي تخضعها للبحث العلمي. ولقد جاءت «أجهزة» البحث في عصرنا (وهي من أهم ما خلع على عصرنا طابعه المميز) جاءت تلك الأجهزة لنزداد بها دقة في مقاييسنا التي نجريها في بحوثنا العلمية، فإذا أردنا - مثلا - قياس درجة الحرارة في مريض، أو قياس ضغط الدم أو ضربات القلب، واستخدمنا في ذلك الأجهزة الملائمة، وجدنا أولا أنه كلما ازداد الجهاز دقة تغير الرقم الذي يعطيه عن الظاهرة التي يقيسها، وثانيا أننا إذا قمنا بعملية القياس عدة مرات على الحالة الواحدة خرجت لنا أرقام بينها اختلافات يسيرة، فلا يكون أمامنا إزاء هذا إلا أن نستخرج «متوسطات»، وإذا قلنا «متوسطات» فكأننا قلنا إن الحقيقة التي نقدمها قائمة على «احتمال» الصواب بدرجة ما، لا على «يقين» ذلك الصواب، وكيف يكون الأمر في هذا «يقينا» إذا كان الجانب الكمي فيه لا بد أن يتغير قليلا مع اختراع أجهزة أكثر دقة؟
وماذا يعني هذا كله بالنسبة إلى موضوعنا؟ إنه يعني أن نظرة الإنسان المعاصر إلى «الحقيقة العلمية» قد دخل عليها وجوب المراجعة المستمرة، مع استمرار الزيادة في دقة الأجهزة العلمية، مما زحزحها عن منزلة «اليقين» التي كانت تحتلها فيما مضى، وبالتالي قد انعكست هذه النظرة على ميادين أخرى غير ميدان العلوم، كالنظم الاجتماعية وصور الحكم، فما قد كان منها يوصف باليقين المطلق، أخذ يتواضع ليصبح معترفا له باحتمال الخطأ وبضرورة مراجعته وتصحيحه تبعا لذلك.
وفي هذا السياق، الذي نريد فيه أن نربط ديمقراطية السياسة باحتمالية القوانين العلمية - في عصرنا - كما كان الحكم المطلق فيما مضى، قد صاحبته نظرة علمية تجعل الصواب مطلقا للقوانين العلمية، قد يتبادر في أذهاننا سؤال يقول: لكن كيف نربط صورة الحكم في عالم السياسة بصورة المنهج في دنيا العلم مع أننا نعلم أن منهج العلم واحد عند جميع من ينتجون علما، في حين تتعدد صور الحكم السياسي بين غرب وشرق في أوروبا وأمريكا، فضلا عن تعدد صوره في سائر بلدان العالم؟ والجواب هو أنه لما كانت نسبية العلم وما فيها من بعد عن تصور اليقين الرياضي تستتبع وجهة نظر تتلاءم معها في دنيا السياسة كذلك وأعني أنها تستتبع النظام الديمقراطي في الحكم، بدل نظام الحكم المطلق، فقد نتج عن ذلك ما نراه من تمسح أشد البلاد طغيانا في نظام حكمها في اسم «الديمقراطية»، حتى أصبح الناس في حيرة أين تكون الديمقراطية بمعناها الصحيح، إذا كان الجميع يدعونها، برغم ما بين الدول المختلفة من تباعد في صورة الواقع؟
وليس انعكاس الوقفة العلمية الجديدة على ميادين الحياة الأخرى مقتصرا على المجال السياسي وحده، بل انعكست تلك الوقفة الجديدة على الجانب الثقافي بكل معانيه، فلقد كان الرأي السائد إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى هو أن ثمة معيارا واحدا للثقافة الرفيعة، ألا وهو ثقافة الغرب، وأما ما دونها من ثقافات الشعوب الأخرى فهي تكون متقدمة أو متخلفة بمقدار قربها أو بعدها بالنسبة إلى معايير الثقافة الغربية. ولكن ذلك كله قد تغير، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، وما ظفرت به الشعوب في آسيا وأفريقيا من استقلال وحرية، وعندئذ ارتفع في عالم الثقافات مقياس جديد، هو «نسبية» الأحكام بحيث لا يجوز الحكم على ثقافة معينة بمعايير ثقافة أخرى، فلكل ثقافة معاييرها التي تحكم عليها، وكما تساوت الدول في هيئة الأمم المتحدة من الناحية السياسية (إلا في مجلس الأمن حيث يكون لبعض الدول حق النقض دون بعضها الآخر)، فكذلك تتساوى من الناحية الثقافية في «اليونسكو».
وإذا أردت أن تنتقل بالحديث، من «الثقافة» بوجه عام، إلى الأقسام الفرعية التي منها تتألف الثقافة بمعناها العام، كالفنون والآداب؛ وجدت النتيجة عينها ماثلة أمامك، وأعني «نسبية المعيار»، وما تستتبعه تلك النسبية من حرية للفنان أو الأديب، ومن ثم تفجرت الصور الكثيرة التي تراها في كل جنس من أجناس الفن والأدب، فالفن التشكيلي اتجاهات وتيارات يختلف بعضها عن بعض اختلافات واسعة، وكذلك قل في الشعر والرواية والمسرح وفي الموسيقى، وتستطيع أن تضيف في هذا التشعب والتنوع الفكر الفلسفي في عصرنا بمختلف مذاهبه وتياراته.
ها هنا قال زميل من الزملاء الذين اجتمعوا على حوار تديره الصداقة واحترام الفكر وكرامة العقل، قال ذلك الزميل: أظن الوقت قد دنا من لحظة انصرافنا، لكنني أرغب في رجاء أوجهه إلى فلان، على غرار ما يقوله المذيع أو المذيعة لمن يجري معه الحديث، عندما يبلغ ذلك الحديث ختامه: هل لديك ما تلخص به هذا كله في جملة واحدة قصيرة تريد لها أن ترسخ في عقول الشباب؟ قلت: نعم، فإني أقول لشبابنا: إن المتزمت صاحب الأفق الضيق الذي يزعم الحق المطلق لما يقوله هو دون سائر القائلين، لم يعد له في عصرنا مكان.
الفصل التاسع عشر
يوم الثقافة العربية
Unknown page