وجاءت ثورة 1952م لتوسع مطلب الحرية بحيث يشمل جوانب الحرية الاجتماعية التي لم تشملها كل الدعوات السابقة، وها هنا أعلنت الاشتراكية وما استتبعته من حقوق أعطيت للعاملين بكل فئاتهم وللمواطنين الذين لم يحسب لهم حساب في الدعوات السابقة.
ونعود بعد هذه الجولة إلى ما ذكره الأستاذ أنيس منصور عن نفسه ورفقائه عند التقائهم بالشاعر الروسي إيفنتوشينكو في مدينة أسوان خلال الستينيات، فسألهم الشاعر: ما قضيتكم يا رجال الفكر والأدب في مصر؟ فيروي لنا الأستاذ أنيس منصور في مقال أنهم شعروا بحسرة عميقة في مواطن نفوسهم؛ إذ شعروا بأنه لا قضية لنا، وإننا نفكر ونكتب خطفات متناثرات متفرقات لا تستهدف غاية محددة بذاتها، ومع ذلك فقد أجابوا عن سؤال الشاعر الروسي جوابا يسترون به قصورهم المظنون، فقالوا إن قضيتنا هي «الاشتراكية الواقعية»، فرد عليهم الشاعر الشاب بأنه ليس هناك شيء اسمه الاشتراكية الواقعية.
وقرأت للأستاذ أنيس منصور ذلك الذي رواه، فعجبت أن يكون جهاد إعلامنا في مجالات الفكر والأدب، الذي لم ينقطع خلال مائة وخمسين عاما على الأقل، والذي كانت قضيته واضحة نصب عينيه طوال تلك السنين والقضية كما وصفتها في موضع سابق من هذا الحديث، يمكن تصورها على صورها جدة وأم وحفيدة، فكانت في أساسها قضية موقفنا من الغرب كيف يكون، وتولد عنها جهاد متصل نحو تحقيق الحرية تحقيقا أخذت تتسع دائرته مع الأعوام، ثم تولد عنه في خطواته الأخيرة حفيدة هي قضية الاشتراكية، ضمن حفيدات أخريات، فاكتفى السادة بذكر إحدى حفيدات قضيتنا الشاملة وأنساهم الشيطان ما قد كان وما هو كائن من جهاد المجاهدين في سبيل القضية الجدة والقضية الأم، فظلموا أنفسهم - وظلمونا - وظلموا عشرات من روادنا الأعلام.
الفصل الثالث عشر
فكرة الأدب وأدب الفكرة
جاءتني الرسالة الآتية من الصديق الفاضل الأستاذ أحمد بهاء الدين، أرسلها من لندن، شفاه الله وعافاه، ورسالته تعليق على المقالة التي نشرتها في الأهرام بتاريخ 25 / 2 / 1985م، بعنوان «تلك هي القضية»، وهذه هي: قرأت كلمة الزميل الأستاذ أنيس منصور عن الحوار مع الشاعر الروسي المعروف إيفنتوشينكو، وقرأت مقالكم الذي جاء تعليقا على هذا الحوار، ويهمني أن أوضح لكم أمرين الأول: هو أني لم أكن داعيا للشاعر إيفنتوشينكو والزملاء الأصدقاء أنيس منصور، وكامل الزهيري، ورجاء النقاش إلى أسوان بصفتي الشخصية، ولكن بصفتي رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال في ذلك الوقت، ولم يكن من حظي أن أسافر معهم، وبالتالي لم أكن موجودا، عندما سأل إيفنتوشينكو - كما قرأت في مقال الأستاذ أنيس منصور - ما هي القضية التي تشغل بال الكتاب المصريين، وأجابه من أجابه من الزملاء: إنها قضية الواقعية الاشتراكية.
الأمر الثاني: إنني أتصور أن السؤال كان في نطاق الأدب فقط، وليس سؤالا فكريا، كما علقتم في مقالكم، فإنني أذكر أن بعض نقاد الأدب كانوا مشغولين - في ذلك الوقت - بمذهب الواقعية الاشتراكية، كمذهب في الأدب، وليس كمذهب في الفكر بمعناه الشامل.
وهنا أستأذنكم في أن أضيف أني لم أفهم، ولم أعترف يوما حتى في مجال النقد الأدبي، بشيء اسمه الواقعية الاشتراكية، فإنني أجد أن إلحاق تعبير «الواقعية» بوصف مذهبي سياسي اجتماعي تناقض شديد يلغي المعنى تماما، فإذا انتقلنا إلى الدائرة الأوسع، التي انصب عليها مقالكم البليغ كالعادة وهي دائرة «الفكر»، فقد كانت عقيدتي - ولا تزال - أن السؤال الفكري الأكبر المطروح على العقل المصري والعقل العربي عامة، منذ أكثر من قرن هو بالضبط السؤال الذي طرحتموه، وهو موقفنا من العصر، سؤال هجس به خاطر رفاعة الطهطاوي، ومن قبله الجبرتي بعد أول زيارة له لمعامل البعثة العلمية الفرنسية، في أثناء حملة نابليون، وأثاره بجرأة ووضوح الشيخ محمد عبده ومن تبعه، وما زال السؤال مطروحا منذ أكثر من قرن دون إجابة، أو بالأحرى أن هناك إجابات شتى، ولكن دون إجابة تصبح محل اعتناق الكتلة الكبرى من مثقفينا وشعوبنا، وتسمح لنا بالانطلاق، وفي السنة الماضية وحدها، عقد ما يقرب من خمسة عشر مؤتمرا في العالم العربي، تحت عنوان «الأصالة والمعاصرة»، وهي كما ترى، تدور كلها حول محاولة الإجابة على هذا السؤال.
وقد أضيف أن العقل العربي يريد أن يواكب العصر بغير شك، ولكن البعض يخشى أن يكون في مواكبتنا للعصر، وقبولنا للتحدي ما يفقدنا هويتنا وتراثنا وأصالتنا، ومذهبي غير ذلك، ذلك أن الأساس الصميم والصحيح والنقي، من تراثنا وهويتنا، قادر على اقتحام العصر والاكتساب منه، دون أن يتأثر، وهذا بالضبط ما فعله عصر النهضة الإسلامية الأول، وبنى حضارة الإسلام وإمبراطوريته دون خوف ولا وجل.
أما الخوف الكامن في بعض النفوس، فسببه ما خلفته عصور الانحطاط والظلام والاستبداد، التي تلت ذلك، والتي لا صلة لها بمعدن تراثنا الأصيل إنما هي التراب الذي تراكم على هذا المعدن، فأطفأ لمعته، وأخفى جوهره، وخلط الإيمان بالخرافة.
Unknown page