من طفل في الخمسين
لماذا لا نزال نكتب؟!
الكاتب عمله أن ينقد
ليس كلاما في السياسة
الانفتاح إلى الداخل أيضا
الخطة الجهنمية الجديدة1
عن عمد اسمع فتسمع
المستقبل والعنبر
حيرة الكاتب
الخناقة على الطريقة المصرية
التصرف المصري أمام الخطر
أرقام فلكية
تعالوا إلى كلمة سواء
تحية لهم، وعزاء لنا
ليلة العيد
اختراع جميل جدا
حوار عن المرأة
للموظفين فقط
لمن اخترعت كلمة «الدمث»؟
الإسكان تحول من أزمة إلى مأساة خلقية
المهم: أي سينما؟
رماديات
وعن السينما أيضا
ما دمنا نتكلم عن الفن
الجد واللعب
للشعب الآخر
الفرق بين «الجدية» و«ثقل الدم»
موضة
جمهورية حسن الإمام
الخبر المزعج
الذكاء الجميل
الذكاء المصري
الطفل الذي يلعب والطريق السريع
قبل أن تنهار عمارة بيومي
كاتب بلاد الغنى والضياع
حوار مع زوج مارلين مونرو
عن كامل الشناوي
من طفل في الخمسين
لماذا لا نزال نكتب؟!
الكاتب عمله أن ينقد
ليس كلاما في السياسة
الانفتاح إلى الداخل أيضا
الخطة الجهنمية الجديدة1
عن عمد اسمع فتسمع
المستقبل والعنبر
حيرة الكاتب
الخناقة على الطريقة المصرية
التصرف المصري أمام الخطر
أرقام فلكية
تعالوا إلى كلمة سواء
تحية لهم، وعزاء لنا
ليلة العيد
اختراع جميل جدا
حوار عن المرأة
للموظفين فقط
لمن اخترعت كلمة «الدمث»؟
الإسكان تحول من أزمة إلى مأساة خلقية
المهم: أي سينما؟
رماديات
وعن السينما أيضا
ما دمنا نتكلم عن الفن
الجد واللعب
للشعب الآخر
الفرق بين «الجدية» و«ثقل الدم»
موضة
جمهورية حسن الإمام
الخبر المزعج
الذكاء الجميل
الذكاء المصري
الطفل الذي يلعب والطريق السريع
قبل أن تنهار عمارة بيومي
كاتب بلاد الغنى والضياع
حوار مع زوج مارلين مونرو
عن كامل الشناوي
عن عمد ... اسمع تسمع
عن عمد ... اسمع تسمع
تأليف
يوسف إدريس
من طفل في الخمسين
عمري ما احتفلت أو حفلت بعيد ميلادي. كنت أعرف وقته دائما، 19 مايو، ولكني في أحيان كثيرة، ومن فرط عدم اهتمامي؛ كنت في أحيان أنساه تماما ولا أتذكره إلا على كلمة تهنئة من صديق، أو بوكيه ورد من صديقة. وكنت كثيرا ما أتشاجر مع صديقي الكبير فنان الحياة الأعظم كامل الشناوي على ذلك الاكتئاب والتشاؤم الغريب الذي يقابل به يوم ميلاده حين يقترب. وحين «فعلها» مرة وكتب في حالة كتلك قصيدته المشهورة «جئت يا يوم مولدي ... جئت أيها الشقي» إلى أن يقول «ليتك يوما بلا غد»، أي ليت الحياة تنتهي بك ولا تبدأ؛ تشاجرت معه، لا لما حفلت به القصيدة من تشاؤم مهول، ولا لأنه زاد الطين بلة فأعطاها للمطرب العاطفي الكبير الحافل صوته بالحزن، وكأنه يحيل الموسيقى والكلمات ليس إلى شعر مهموس ولكن إلى خيط دمع طويل مدرار. لم أتخانق مع كامل الشناوي لهذا، وإنما كنت أتخانق معه لاهتمامه هذا الاهتمام الكبير بيوم ميلاده، حتى لو كان ذلك الاهتمام الحزين المتشائم الموتور، بل أخانق فيه هذا التناقض الغريب، ذلك الرجل الذي يعشق الحياة إلى حد الوله والعبادة حتى ليضن على نفسه أن ينام وينقص كوبه الليلي الذي يتجرعه بمتعة زائدة قطرة. ذلك الموله بالحياة، كيف يلعن اليوم الذي أصبح فيه ذلك الكائن الحي؟! اليوم الذي وجد فيه على ظهر أرض كان يرتعب رعبا دونه رعب الأطفال من مغادرتها؟!
ولا أذكر بماذا كان يجيبني، ولكن ما أذكره أنه لا يرد أبدا بشيء مقنع أو يستطيع إقناعي؛ ذلك لأن ما كان يعتريه كان إحساسا، مجرد إحساس لا منطق فيه أو له. ولم يكن وحده صاحب إحساس كهذا؛ معظم الناس، بل أكاد أقول كل الناس، تنتابهم حالة غريبة من الأمر كلما اقترب يوم مولدهم أو ليلة رأس السنة مثلا، وأبدا ليس حزنا على عام انقضى أو تخوفا من عام سيجيء. ربما السبب الأعمق هو أن هناك زمانين لكل منا: ذلك الزمان العام الذي تسير على وقعه أحداث العالم وأحداث اليوم، والذي من أجله نحمل الساعات ونحرص على ضبطها (وإن كان حقا في منطقتنا العربية نحرص على وجاهتها). ذلك الزمن العام هو العداد العام الذي ما دام يعد السنين والأيام للناس كلها علنا وأمام بعضهم البعض وفي ونس من بعضهم لبعض وفي إحساس شامل أن الساعة إذا مضت فهي ساعة موزعة على أربعة آلاف مليون من البشر، وأن العام كذلك موزع علينا جميعا بالقسطاس، بحيث لا ينال الواحد فينا من العام بأكمله إذا مضى إلا فتفوتة إحساس، مجرد همسة زمن. وهناك - وهذا هو الأهم - ذلك الزمن الخاص، عدادك الخاص أنت، الذي صحيح كثيرا ما «تفكر» فيه، ولكنك نادرا تماما ما «تنظر» فيه، فأنت حين تنظر فيه من المحتم عليك أن توغل بنظراتك إلى أعمق أعماقك، إلى حبك الخفي الغويط، ودائما ما تدرك وتتيقن أن الجزء الذي يغوص منك في بئر الزمن المطلق، العدم، قد ازداد، وأن جزأك الباقي فوق سطح الحياة قد نقص، والنقص غير موزع على أربعة آلاف مليون بشري، بل ولا على أربعة حتى، النقص منك أنت ويخصك كله؛ ولهذا يرتدع البعض، وعند عمر معين يتجنبون النظر تماما إلى ساعاتهم أو زمنهم الخاص، إلا أن يرغمهم قدوم رأس العام مرة أو حلول عيد الميلاد مرة بالقوة الغاشمة، يلوي أعناقهم لتنظر إلى الداخل، إلى الغاطس والطافي من وجودهم، إلى ما ذهب وما تبقى أو مفروض أن يتبقى. هذه الساعة التي لا ننظر فيها إلا كل عام مرة، أو بالضبط هذه النظرة السنوية هي التي كنت أتحاشاها دائما؛ ذلك أن حساباتي في مسألة العمر مختلفة قليلا عن حسابات معظم الناس؛ فأنا أحسب السنين بحسب ما حققته وليس بعدد ما عشته، وأنزعج من فكرة العمر أيضا، لا بمقياسها الزمني ولكن بمقياسها التحقيقي. وهكذا كنت لا أحفل أبدا بالسنين في شبابي وصباي؛ ذلك أني كنت أنظر إلى الأهداف، وكان العمر يبدو طويلا وممتدا بالقياس إلى الأهداف التي كانت تبدو كعناقيد العنب في متناول الوثبة. بل أذكر أني وأنا في السادسة عشرة والسابعة عشرة كنت أستعجل الزمن، كنت أحلم في منامي ويقظتي أنني أصل بالواحدة والعشرين، ويا سلام، فمنتهى سعادتي أن أجد نفسي فجأة في السادسة والثلاثين، أما الاثنان والأربعون فقد كان لها في نفسي سحرها الغامر الذي لا يقاوم. كنت ألهو بلعبة الأيام كما يلهو الطفل بألاعيبه؛ إذ موقفي الجدي كان مع الأهداف التي كان معظمها ليس خاصا، وبالتأكيد ليست أحلاما أو أعمالا أحققها ككاتب. مصر الغنية المثقفة المصنعة، والعرب وقد أحالوا بترولهم حضارة كالإسلام، والاشتراكية في العالم وقد سادتها الديمقراطية تماما، والديمقراطية في الدنيا وقد سادتها الاشتراكية، ومن مجاميع الحضارات التي تنمو مع العالم النامي يصبح الكون مائة زهرة فعلا قد تفتحت وسخرت لخدمة وإمتاع إنسان هذا العصر الذي أحيا فيه، لعب عيال، كنت أظنها سنوات. أقصى ما أعطيه لها عشرون عاما يحدث فيه هذا كله، بحيث حين أكون في الخمسين أبدأ أعيش إذ أعيش في إجازة أتعلم فيها الموسيقى وأعزفها - ذلك كان حلم حياتي - وأشتغل بعض الوقت وبمزاجي جراحا.
أما أهم ما أوجه له جهدي فهو دراسة الطبيعة النووية التي كان حلم صباي أن أدرسها. وبالمرة أكتب، إلى بشرية ذهب عنها الظلم ولم تعد فيها الكتابة أنات من السخرة الحديثة ولا شكايات من القهر. ليست كتابة مرضى يحاولون علاج زملاء مرضى هم الآخرون، ولكن كتابة أصحاء لقوم أصحاء انتهت شكاواهم، وانتهى الأدب كوسيلة لإيصال رسالة سياسية أو اجتماعية، وانفتح على الروح البشرية مباشرة يستكشفها ويضيئها ويرويها، كتابة ما بعد اختفاء الجوع والمرض والظلم والحرب والجريمة، وآلاف الأسطر والكلمات يمكن أن أسوقها عما كنت أحلم به، ومتأكد تماما أنه سيتحقق آنذاك.
ولكن ها أنا ذا أفاجأ أن اليوم هو 19 مايو، وأن عمري أصبح فعلا خمسين، وأن مسائل قياس العمر بالأهداف قد استغرقتني تماما، قليل تحقق، هذا صحيح، ولكن كثيرا قد تحقق لي أسوأ، وزمان ونحن أطفال حين كانوا يقولون عن فلان: ياه! دا راجل عمره خمسين سنة يا شيخ! كنا نضعه نحن الأطفال تحت بند «الكهنة» البشرية؛ فخمسون عاما كانت كمية كبيرة جدا من السنين في الماضي؛ ذلك الماضي الذي كان يجري يومه بهدوء وانسياب وراحة بال، وكأنك ممتط «كارتة» ساعة العصاري على الكورنيش. الخمسون عاما اليوم تمضي في ومضة، في ومضة ملهوفة عصبية قلقة تقضيها مروعا من ألف اعتبار، وكأنك تعبر ميدان التحرير عن غير طريق المشاة ومشدود من العربات القادمة التي تفاجئك من كل اتجاه، وإن كنت في عربة خائف أن تقتل، وإن كنت من المشاة خائف أن تقتل، وإن كنت على دراجة خائف من الماشي ومن الراكب ومن الأتوبيس ومن كل شيء يتحرك أمامك أو خلفك أو على جانبيك، والخوف يطيل اللحظة ولكنه يقصر العمر، وهكذا في ومضة تستيقظ على الخمسين.
ولأنها غريبة وراودتني فيها عن الناس وعن الحياة وعن نفسي أفكار لم تخطر على قلبي، وربما على قلب بشر، فقد غامرت وجعلتها البداية لعودتي للانتظام في كتابة المفكرة. أفكار، منها مثلا فكرة أن الناس تكبر بالعكس أو على الأقل بعض الناس، فأنا من هؤلاء الذين قضوا طفولة جادة تماما لم يعرف المرح طريقه إليها؛ رجل رهيب في ثوب طفل، كل ما أعتقد أني أريده أحرمه على نفسي بل وأنظر له وكأنه خطيئة أرتكبها تجاه الآخرين، همي الأكبر كله أن أصنع مثلما يصنع الكبار لأكون كبيرا، وألا تبدو من طفولتي بارقة نزق واحدة تشف عن «الولد الصغير» المرتدي جاكتة أبيه أو معطفه، فالطفولة كانت في طفولتنا «عيبا»، ولا تزال لغتنا حافلة «ده شغل عيال.» و«أنت عيل.» «هو لعب عيال؟» الطفولة واللعب، الانطلاق وحق ارتكاب الخطأ، المطالب والهدايا واللعب؛ كل هذه كانت «تهما» نموت حنينا إليها في أعماقنا، ولكننا نموت خوفا أيضا أن نطلبها أو نصرح بها وإلا أصبحنا «عيالا» وكأن كلمة «طفل أو عيل» مرادفة لكلمة «امرأة» حين تذكر على محمل التأنيث والإهانة.
وكان الصبا أيضا جادا؛ إذ قام «الواجب» فيه محل معطف الرجل. من طبقات مطحونة، علينا أن نأخذ من المدينة كل علمها، وكل وسائل تقدمها، لنطفو فوق سطح الحياة، ولا نطفو وحدنا، وإنما في الغالب ينفق والد الواحد فينا فيكون عليه هو الكبير أن يصبح حاملا فوق كاهله ربما نصف دستة أو أكثر من الإخوة والأخوات، وبهذا يحكم عليه أن يعوم ويظل يطفو ... ضاعت الطفولة في إرهابنا أن نتصرف كالأطفال.
وضاع الصبا في صعود الجبال الوعرة إلى الطريق الأكثر إنسانية وراحة.
وجاء الشباب لندرك أن المشكلة ليست مشكلة كل منا بمفرده، وإنما هي مشكلة بلد، بل منطقة، بل عالم بأكمله علينا أن نغيره، نحلم بتغييره ونحقق الحلم ونواجه حكومات تلو حكومات، وعقوبات تلو عقوبات، وسجونا ومعتقلات، ويضيع الشباب في مقاومة الشر ومحاولة استنبات ما أمكن من خير، ثم يطل عليك عامك الخمسون وهو يخرج لك لسانه، فجيشك شرد معظمه وتشتت، وجيلك كرش واصلع وشاب، وأمانيك أصبحت لا تصلح إلا كعناوين لمواضيع إنشائية أو شعارا من شعارات تنظيمات الشباب الرسمية. •••
وليس ما ذكرته مرارة ولا ندما؛ فقد كان لا يمكن أن يحدث إلا ما حدث، فإننا ومن أجل وفي سبيل هذا كله، ومن الأفعال وردود الأفعال، من الزق والدفع والجذب، من الأمل والإحباط، من جماع ذلك كله وأنت تناضل موجة أعتى منك بكثير وأطول قامة، وبحرا كالغول فاغرا فاه، من هذا كله صنعت دون أن تدرك «نتيجة»؛ نتيجة حياة هي هذا الشيء الذي تجلس اليوم تتأمله وتحس بكل ذرة منه حفنة من دمك، وكل واقعة فيه كومة من لحمك وعمرك، ولكنك أيضا تحس بروعة لأن هذا كله كان اختيارك وباختيارك صرفا، وأنها حياة لم تفرض عليك، ولكنك أنت الذي فرضت حياتك تلك على الحياة ...
بل المضحك الذي أكتشفه الآن فقط أنني نجحت في تربية نفسي حقا ... فإذا كانوا قد ربونا على أن نكون رجالا ونحن أطفال، ومسئولين ونحن صبية، وشهداء ونحن شباب، أي نعكس وضع الأمور جميعا، ونستلب من كل فترة الممتع من محتواها؛ فقد كان علي وعلى كثيرين مثلي أن يقوموا لأنفسهم بالثورة التربوية؛ تلك التي لا تقسم الإنسان إلى مراحل هرمية ينبذ أي منها بكل ما فيها من ألم أو متعة بعد انتهائها. ولكن أن يعيش كل مراحل العمر معا وفي كل آن، في كل جزء من يومه يطلق الطفل المحروم، وفي لحظة تنبت له أحلام الصبا، شابا ينزق ويتصرف إذا عن له أن يفعل، شيخا في السبعين أو الثمانين يتأمل، مراهقا وكأنها اللحظة الأولى التي تنبت فيها أول مجموعة من شعر الشوارب، حكيما وكأنه وصل إلى لحظة الاستغناء المطلق عن متع الدنيا كلها والحكم عليها وعلى نفسه وعلى الناس بموضوعية، تكاد تقترب من موضوعية القديس.
وكان هذا - وإليكم أعترف - أصعب جزء من المهمة، مهمة أن تحيا، ليس كما أريد لك، ولكن كما اخترت أنت وكما قررت - فكأنها اللحظة التي عليك أن تخضع فيها عالما بأكمله لمشيئتك البشرية المحدودة، والنصر الحقيقي، والحياة الحقة، والفوز الأعظم - أن تفعلها.
فهل استطعت؟ هل أيكم استطاع؟
ها أنا ذا جالس إلى مكتبي في يوم عمري ما خططت فيه حرفا في حياتي، ذلك العيد الميلاد الذي لا يأتي في العمر إلا مرة واحدة، وليته يأتي ليقسمها إنما هو يأتي ساخرا في العادة مخرجا لك لسانه، مبتعثا فيك أشد الشك في كل ما فعلت وحققت، وفي نفس اللحظة، وكأنما ليغيظك أكثر، مبتعثا في نفسك أيضا كل ما تتوهم أنه كان معجزات، وحققت، ولكنه على الحالين ساخر، وإمعانا في سخريته مشفق ...
ولكن، ها أنا ذا، ولأول مرة، لا أجلس أمامه كالمذنب الذي يتلقى التأنيب أو يحاول الدفاع، ها أنا ذا جالس وقد عرفت - واليوم فقط - سر اللعبة؛ لعبة الأيام. إننا أبدا لا نحياها مراحل تنتهي لنقلب صفحاتها تماما ولا نعود نرجع إليها، ولكن نحياها، كل المراحل معا، فلا خلاص لنا من متاعب المسئولية، إلا أن نحظى بوقت من اليوم نحياه أطفالا غير مسئولين، ولا خلاص لنا من الخمسين إلا بأن نحيا معه جنبا إلى جنب العشرين والعشرة والثلاثين، ولا خلاص لنا من رعب النظر في زمننا الخاص كل عام مرة إلا بأن نتعود النظر إليه يوما بيوم بل وحتى ساعة بساعة لنسرق نحن من زمننا زمنه، نسرق خوفنا منه، نحيل أرقامه إلى الصفر، إلى ما لا نهاية.
وهكذا أحس اليوم وقد قضيت الصباح ألعب مع ابنتي (4 سنوات) أني زاولت فيها طفولة تساوي طفولة عام من أسعد الأعوام. وهكذا أحس، وأنا أكتب لكم هذا أيضا، طفلا في الخمسين، لا يخوفه الزمن ولا الرقم ، لا يخوفه حتى كل ما ضاع وفات؛ إذ ما ضاع شيء وفات إلا أوجد مكانه شيئا يستحق أن يبقى، ولا يخيفه ما هو آت، مهما كان ما هو آت فهاته هات؛ إذ هل سيكون أشد سوءا أو أكثر روعة مما جاء وفات. وإذا كبرتنا أيها الزمن، فسنصغر لك، وإذا صغرتنا سنكبر عليك؛ فقد ساهيناك ووصلنا زمننا الخاص بالزمن العام.
وحرمتنا متع الصبا والشباب والطفولة، وستحرمنا - أنا متأكد - متع الشيخوخة، فسنخرج لك نحن لساننا ونعيشها كلها معا، وإذا خذلنا الحاضر سنضمهم معا جميعا الماضي والحاضر والمستقبل وبهم نواجهك ونوجد ...
اصنع ما شئت بسنينك؛ فالسن لا تزال عندنا ليس العمر وإنما الهدف، وستظل أهدافنا أقوى من تعدادك، وإلا لما وصل إنسان إلى ما وصل إليه الآن.
وليكن اليوم وقفة مع الخمسين في المائة من العمر والأهداف والإصرار، وقفة بعدها يمكن فعلا أن تبدأ الحياة الحقة.
لماذا لا نزال نكتب؟!
قال لي: بعد إذنك، لمن تكتب ما كتبت؟ وبالأصح: ما فائدة ما تكتب؟ إن القراء ينفعلون قليلا أو كثيرا، هذا صحيح، بعض المسئولين يقرءون كلاما، مجرد كلام. ما أكثر ما تنشر الصحف ونسمع ونرى من كلام وكلام وكلام! صحيح أن كل كلام ليس مثل أي كلام، ولكن مهما كانت الكلمات ومهما بلغ مفعولها، أتعتقد أنها يمكن أن تغير الواقع؟ يمكن أن تحل أزمتي أو أزمتك؟ يمكن أن تجعل النقود تنسال إلى جيبي الخاوي أو تشتري لي الطعام؟ ما فائدة يا سيدي أن تكتب؟ وما فائدة أن تقرأ؟
نظرت إلى محدثي مرة ثانية. موظف، واحد من مئات الآلاف من شعبنا الموظف، خريج جامعة يبدو، ولكن الزمن والوظيفة من الواضح أنهما تكفلا به؛ فأحالاه إلى ذلك الجسد السمين والقميص الكالح والبنطلون الأكلح. نظرت إليه، ولم آخذ كلماته ببساطة أبدا، رحت بعمق شديد أفكر فيما قال. ولم تكن هذه أول مرة أفعل، وإنما خلف وعيي، ودون أن أشعر، وقبل أن أكتب وأنا أكتب وأنا أقرأ ما أكتبه ويكتبه غيري، يلح السؤال، نفس سؤال الموظف القارئ، رحت بعمق أفكر ، والتفكير يقودني إلى السؤال تلو السؤال حتى أصل في النهاية إلى ذلك اللغز: كيف يتغير الواقع؟ ومن الذي يغيره؟ أهي الظروف؟ أهو الإنسان؟ أم بالصدف المحضة ينتقل الكائن من حال إلى حال؟!
في الحقيقة ما أزعجني في السؤال هو أيضا هذا الكم من الاكتئاب الذي يحتويه. إن للاكتئاب النفسي الفردي أعراضا معروفة في علم النفس، منها التشاؤم وفقدان الهمة والإحساس المحض أن كل شيء مثل أي شيء، وأن كله كلام في كلام، وكله لا فائدة فيه، حتى الشهية للطعام والشراب والجنس والحب وأي متعة في الحياة تفتقد طعمها، ويصبح الإنسان يعيش وكأنه يؤدي دورا، يؤديه مجرد أداء واجب سخيف ثقيل في رواية ممجوجة لا معنى لها بالمرة اسمها الحياة.
ولكننا هنا لسنا أمام حالة اكتئاب فردي هذه أعراضها فقط، نحن أمام ما هو أكبر بكثير، أمام حالة اكتئاب جماعية. وأنا لا أعرف إن كانت هناك حالة في الطب النفسي أو علم الاجتماع كهذه الحالة، ولكن ما أعرفه بالتأكيد هو أننا مصابون تماما بها، هذه الحالة تتخذ شكل الفوضى الشاملة الناتجة عن فقدان الإرادات الفردية المحددة للواجب والحق، فوضى في السرور، فوضى في العمل، فقدان البعد الزمني في تقدير الحاضر والماضي والمستقبل حتى ليصبح المجتمع كله وكأنه يحيا الدقيقة لدقيقتها فقط، لا دقيقة ستأتي بعدها. وإذا تحددت الحياة في اللحظة الراهنة تصبح هي كل الحياة، وليمت الإنسان بعدها فادفع و«زق» واخبط بالكتف والذراع ودس على أي قيمة، وملعون أبو أي مجتمع وأي شعار؛ فأنا ميت أو سأموت في اللحظة التالية.
أنا هنا لا أقدم بحثا «أكاديميا» عن حالتنا، ولا أزعم أني أكتشف شعبا جديدا، ولكني فقط أسجل بعض الأحاسيس والانطباعات التي كثيرا ما تنتابني حين أمشي في شارع طلعت حرب أو 26 يوليو، أو أقابل الجماهير الخارجة من مباراة كرة قدم، وأتمعن في وجوه الناس؛ فأجد وكأنهم ليسوا بأناس بالمرة، أجسام معظمها تخين من فرط فقدان الإرادة ولهيب الطموح، سائرة، هائمة، كما يقولون بالضبط «لا تلوي على شيء.» لا هدف لها ، حتى الفرجة على الفتارين ليست الهدف ولا التمشي في الشارع ولا أي هدف بالمرة، إنما هو التحرك الراكد في اللاشارع واللاشيء، والسير إلى اللاهدف، والتطلع إلى اللارؤيا، وسماع اللاصوت. وثمة بخار خانق يتصاعد من الأجساد وتنفثه نوافذ البيوت ومداخن العربات وعيون القطط الضالة والكلاب؛ بخار كثيف غير مرئي يتجمع وينعقد كسحابات الفجر فوق الرءوس، وتستنشقه الصدور؛ لتعود فتنفثه وقد تحمل بضجر أكثر وضيق أكثر وأكثر، وكأنما السؤال الرهيب المعلق في الفضاء، يدق بمقامع من حديد ويلح ويقول: وبعد! أما لهذا نهاية؟
وبالطبع، فإن لهذا كله، ولأي شيء في الوجود نهاية. ولكن النهاية هنا صعبة تماما؛ لأن على المفقود في اللانهائية - الذي هو نحن - أن يجدها، بل وأن يضعها، وأن يقوم بها.
ولهذا فنحن يا سيدي الموظف القارئ نكتب.
ولهذا أيضا فأنت لا تزال تقرأ.
والواقع أني شخصيا فعلا لم أختر شكلا «من مفكرة فلان» عبثا. لقد اخترتها بعد تفكير وإمعان شديدين، فقد كان الشيء الذي يلح علي هو: كيف أدعو مسدود النفس إلى تذوق طعم كلمة ونفسه تعاف الكلام كله، بحلوه ومره. قصص؟! أي قصة أقرأ وأنا في قلب مأساة لا يتفتق عنها ذهن أعتى قصاص أو تراجيدي. شعر؟! وما فائدة الشعر ومائتا قتيل يسقطون يوميا في بيروت ببنادق عربية، والحرة في بلاد أخرى تبيع جسدها من أجل أن تطعم الأولاد والزوج. رواية؟! مسرحية؟! كيف تهز أعماقا أصبح دوي القنابل الذرية نفسها لا يهزها، بحيث لو مسحت اليوم مدينة مصرية أو عربية بأكملها من الوجود لما ارتفع لها حاجب دهشة أو استغرابا.
هكذا جاء شكل «المفكرة»، مجرد دعوة، دعوة بحذر شديد أقدمها، ذلك أني ما زلت أومن أننا نحن الذين سنغير هذا كله، وحيث إن الله سبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فنحن الذين علينا أن نغير الواقع ونغير أنفسنا وهنا يأتي دور الكلمة.
فأول كلمة نزلت على نبينا الكريم كانت كلمة: اقرأ.
والسيد المسيح هو القائل: في البدء كان الكلمة.
فالكلام يا سيدي الموظف القارئ أبدا ليس أي كلام.
وليس كل الكلام مثل كل الكلام. هناك دائما أبدا ما أسميه أنا: الكلمة- الفعل، أي الكلمة التي ليست بديلا عن الفعل وليست مجرد تفاصح وإظهار للقدرة على القراءة والكتابة، ولكنها الكلمة التي تصدر عن قلب عاناها ويعانيها ويحياها وتحياه بحيث إنه فعلا ومن الممكن أن يموت في سبيلها. الكلمة الصدق، الكلمة الصدق الفعل، الكلمة التي تغير لأنها تصدر عن متغير، لأنها تصدر عن قرن استشعار اجتماعي خلقه الله ليكون لقومه الموقظ والمنبه والنذير والمبشر والمهدهد والراعي، والحاكم، المستيقظ إذا ناموا، النائم فقط حين يستيقظون؛ تلك الكلمة وحدها هي التي تشفي اكتئابنا الفردي والجماعي، ففي داخلها كيمياء. الصدق المغير والمحول، في داخلها شحن الطاقة الذرية، وإشعاع الحقيقة المعدية، في داخلها يكمن السر.
أعرفت الآن يا سيدي الكاتب الموظف لماذا لا نزال نكتب؟!
ولماذا لا تزال أنت تقرأ؟!
الكاتب عمله أن ينقد
العودة للكتابة كالعودة لحمل السلاح، لها رهبة، فلست أعود باختياري، والفن ليس مزاجا ووحيا ومهنة وتخصصا كما يحلو للبعض أن يقول، وألف مرة رثيت لأولئك الأصدقاء والزملاء الذين كانوا ينعون علي أني أضيع وقتي في العمل «الإداري»، بينما المفروض ألا أفعل شيئا في هذه الحياة إلا الجلوس إلى المكتب وكتابة القصص والمسرحيات، أرثى لهم لأنهم يحيلون بهذا الكاتب إلى حرفي، بالضبط إلى ساعاتي جالس طوال النهار إلى مكتب هو الآخر، كل الفرق أنه بدلا من تصليح الساعات، «يصنع» القصص والمسرحيات. ومن قال إن الكاتب هكذا؟
من قال إن القصص تستجلب من تخصص وجلسة إلى مكتب وتحديق في الفراغ؟ من قال إن الفن صنعة وحرفة ووظيفة؟
إن الفن، كالعواطف، خاصية، وبمثل ما لا يمكنك إطلاقا أن تحترف البكاء أو الضحك، فكذلك لا يمكن ومن غير المعقول أن تحترف الإبكاء أو الإضحاك أو تحريك العواطف. إني معهم أن هناك أناسا يفضلون أخذ الكتابة والفن على هذا النحو، تماما كما أن هناك «ندابات» متخصصات في الإبكاء و«بلياتشوهات» متخصصة في الإضحاك.
ولكن في رأيي، وفي رأي العلم على ما أعتقد ، أن الكتابة إفراز حتمي لحياة فنية.
أنت تحيا وتكتب، ولست أبدا تحيا لتكتب.
ومن قال إن شغل المنصب الإداري هو «ترك» للكتابة؛ إن الكتابة لا يتركها الإنسان مطلقا، إنها معه اينما كان وسار، صار، عمل، إنها خاصيته. أما أن يعمل أو يكافح أو يسجن أو يسافر أو يعشق، فتلك أشياء لا بد له منها كي يعيش ويوجد، على الكاتب أن يوجد أولا، أن يوجد كمواطن مثله مثل غيره من المواطنين، أن يكون له موقف، أن يكون له عمل، أن يزاول حياته الروحية والجسدية كاملة، وبعد هذا إذا كتب كان بها، وإذا استطاعت هذه المشاغل الأساسية أن تمنعه عن الكتابة فمعنى هذا أن الكتابة ليست أصيلة فيه، فلا شيء يستطيع أن يحول بين الكاتب الأصيل والكتابة سوى الموت. وحين أقول الكتابة، فإنما أعني الحياة ككاتب عليه ليس فقط أن يكتب وإنما أن يقرأ أيضا ويعرف ويقود.
أولئك الإخوان والأصدقاء الذين سخروا من فكرة أن أعمل أو بمعنى أشمل أن يعمل الكتاب والفنانون مثل الصديق الدكتور لويس عوض، الذي أصر مرة على أن يأتي لمكتبي «ليتفرج» على يوسف إدريس - على حد تعبيره - وهو يقوم بعمل إداري، إنما كانوا جميعا كالأب المشفق على ابنه دائما أن يفعل أي شيء آخر سوى أن يستذكر دروسه مخافة أن يرسب في الامتحان أو يكف عن الكتابة. الكاتب في رأيهم معناه قلم وورقة، مثلما أن التلميذ معناه مكتب وجلسة وكتاب، وأي عمل خارج عن هذا هو عبث لا طائل من ورائه. لا يا سادة، الكتابة ليست قلما وورقة، الكتابة حياة كاملة، وموقف من الحياة، وصراع مرير وعمل، وعرق، ومعايشة للحياة والدنيا، لا كمتفرج وإنما كمشارك لمواطنيه في معركة انتزاع القرش من فم الكفاح اليومي الشاق. الكتابة عندي وأصر على كلمة «عندي»؛ فلكل «شيخ طريقته»، أن أعيش الحياة، بكل ذرة من كياني وقدرتي، أعيشها كساكن يدفع الإيجار، ويستخرج بطاقة التموين ويلعب عشرة طاولة، ويسافر ليلتحق بجيش التحرير الجزائري، ويزاول عملا يوميا مثله مثل أي رب أسرة ، ومن عصارة هذا كله تتفتح له سبل الخيال أو الحقيقة. ويكتب.
حرية الكاتب أن يكتب = حرية أن يرسم حياته
كل المشكلة أني ممن يؤمنون بحتمية المسئولية الفردية في إنجاح أي تنظيم أو مؤسسة أو قطاع، وفي مقابل هذا لا بد من منح حرية التصرف ثم المحاسبة. حرية من ناحية ومسئولية من ناحية أخرى. ولقد قضيت في وزارة الثقافة أكثر من سبعة شهور، خرجت منها بنتيجة كان من المستحيل علي أن أحظى بها لو كنت قد استمعت لآراء الآباء اللويس عوضين المتصورين الكاتب تصور الوالد للتلميذ.
وسيأتي اليوم حتما ذلك الذي أكتب عن هذه التجربة فيه ومستعد ساعتها أن أحاسب ككاتب.
فليترك لنا حرية أن نعمل أو لا نعمل، نتفرغ أو لا نتفرغ، ولنحاسب في النهاية على ما نكتبه، وليس مهما أبدا أن تحاسبني على الطريقة، الحساب في الكتابة مثلها مثل أي عمل آخر، بالنتيجة. فلو أني أصغيت لنصح الأصدقاء، وبالذات نصح هؤلاء الأصدقاء الذين يعملون فعلا ثم يوصونك بألا تعمل، لما أمكنني أن أمضي هذه الشهور السبعة رابضا في قلب ذلك «الليفياثان» الهائل المسمى بالحكومة، متأملا له من الداخل تأمل بطل دستوفسكي لأحشاء الحوت الداخلية حين ابتلعه الحوت، ولما أمكنني أن أرى هذه الآلة الجهنمية المسماة بالروتين، وهي، ببطء سلحفائي أميري شديد، تعمل وتلتهم وتهضم، حتى الثورات تهضمها، كيف كان باستطاعتي أن أحظى بهذا كله، وهي أشياء لا تجدها في كتاب ولا يمكن أن تخطر على ذهن بشر.
مهمتنا تكسير المجاديف
ونحن في بلد الناس فيه شديدو الاهتمام بالآخرين. تسأل إنسانا في الشارع عن منزل ما، فيتجمع عشرة في ثانية ليسألوك ويلحوا عليك: عايز إيه؟ عايز مين؟ وعايزه ليه؟ وكأن - من كثرة الفراغ - لا عمل لنا إلا البحلقة والتأمل وتمزيق الحجب عن حياة الآخرين، ونحن في بلد كل منا ولي أمر الآخر وناصحه وضيف «برنامج رسالة» مستمر له، حتى أصبح الواحد بحكم العادة لا يجرؤ أن ينفذ فكرة عنت له، حتى في أشد المسائل خصوصية كالزواج أو أحيانا بل بالذات في الطلاق إلا بعد أن يستشير عشرة وربما عشرين من أقرباء وأصدقاء ومعارف، وتكون النتيجة في الغالب أن يكسروا مجاديفك حتما، وبدلا من أن تغامر مرة فتظفر بغنيمة أو بمعرفة أو بالميت بتجربة فشل مفيدة، تهبط عزيمتك وتتحول إلى كائن لا يعرف أن يفعل إلا ما تواضع على فعله الآخرون واتفقوا عليه، إلا أن تفعل أسلم الأفعال وأكثرها أمنا ودعة؛ أي لا شيء بالمرة. تكون النتيجة، أن يموت فيك أهم ما يميز الكائن الحي الإنسان، روح المغامرة والتحرر، روح التطلع، روح السعي وراء ما يصوره الخيال لتحيا وأنت تحيل أحلامك إلى واقع. وتلك هي الحياة، إما أن تحيا الحياة كما مضغها الآخرون ولاكوها وعجنوها وخبزوها، إما أن تحيا حياة خارجة كالجثة الهامدة من تحت النصائح والإرشادات والمواعظ، فهي حياة الموت أحسن منها وأرحم، على الأقل باعتبار الموت تجربة فذة جديدة.
أتمنى لو أن كل من خطرت له فكرة واقتنع بها أن ينفذها في الحال دون أن يراعي، وماذا سيحدث يعني لو ثبت أنها كانت خاطئة؟ هل ستنقلب الدنيا؟ هل ستقوم القيامة؟ أبدا والله، فإنه على أسوأ الفروض لو فشلت ستكون قد ظفرت بتجربة فاشلة عظيمة؛ لأن التجربة الفاشلة هي المقدمة الطبيعية للتجربة الناجحة؛ إذ الفشل نجاح مؤجل. تخيلوا واحلموا ونفذوا ولا يهمكم ماذا سيقول فلان أو علان، فليذهب قولهم إلى الجحيم، فأنت لو سمعت كلام الآخرين لن تتحرك، أما لو تحركت ونجحت فستتحول نفس أقوال الآخرين إلى قصائد مديح تدبج لك. وأنا مثلا، لو خرجت من عملي القصير في الحكومة بقصة مثيرة أو بمسرحية جيدة، لكان أولئك الذين نصحوني بعدم قبول العمل «الإداري» هم أول المشيدين بها وبي وبحذقي في اختيار التجربة التي دفعتني لكتابتها.
باختصار شديد، كتابا وقراء ناصحين ومنتصحين، أقول لكم رأيي بصراحة: لقد حللت النصائح التي تزجى للآخرين، فوجدت أن 90٪ منها على الأقل تبدأ بحرف النفي هكذا: لا تعمل هذا أو ذاك، حتى أصبح طالب النصيحة يتقي من يحس بغريزته أنه سينصحه بألا يفعل ليسأله النصيحة، كي لا يكون هو المسئول - بينه وبين نفسه - عن نكوصه أو رفضه للعمل.
لا بد من وقفة زاعقة
وهنا لا بد لنا من وقفة زاعقة حاسمة، هنا لا بد أن ندق جرسا أو نطلق مدفعا أو نصنع ضجيجا هائلا؛ إذ قد وصلنا إلى أس البلاء وعلة العلل، ألا وهي عدم الرغبة أو القدرة على تحمل المسئولية، وكما تؤدي كل الطرق إلى روما مثلما قالها المرحوم الدوتشي موسوليني، فإن كل أمراضنا وعللنا ومخازينا الاجتماعية تقود إلى هذه الحقيقة التي أصبحت في حاجة إلى ثورة خاصة بها تقتلعها من جذورها اقتلاعا. أجل، نريد ثورة تقوم لتطالب بمطلب واحد فقط، ألا وهو أن نتعلم كيف نتحمل المسئولية ونتحملها بشجاعة، ومهما كان الثمن. فلقد تدربنا على التهرب من المسئولية كبيرنا وصغيرنا، حتى أصبحنا عباقرة في هذا المجال.
قد تسمع من المصري أي شيء، مثل: أنا جدع ... أنا حر ... أنا متأسف ... أنا لي رأي، ولكنك أبدا ولكي نكون دقيقين الدقة العلمية الواجبة، أندر الناس أن تسمع: أنا المسئول عن كذا أو كيت. وخاصة إذا كانت هذه المسئولية تتضمن مسئولية عن خطأ ما، بل بالذات حين تكون المسئولية متضمنة ذلك الخطأ.
في حياتي الصحفية التي ليست بالقصيرة، وفي حياتي كمواطن، تلقيت كما تلقى غيري آلاف الشكاوى، وبدون أي مجهود أو تعب تلاحظ في تلك الشكاوى أن الدنيا كلها قد أخطأت ما عدا صاحب الشكوى؛ الغلبان المظلوم الذي قاسى وكابد من كل هذا الظلم الفادح، بمعنى أنه غير مسئول إطلاقا عما حدث له، بل إنه حين يلجأ لرفع هذا الظلم الذي حاق به يلجأ إليك وإلى العشرات غيرك (فالشكاوى عادة تكون إلى أكثر من جهة ومطبوعة على ورق كربون إن لم يكن بالبالوظة أو بالرونيو أو أحيانا بالمطبعة) كي يرفع هذا الظلم عنه. بمعنى آخر هو لا يريد أن يكون مسئولا أيضا عن رفع الظلم عن نفسه، وإنما يريد أن يلقي عليك وعلى الآخرين مسئولية رفع الظلم. في الحب، في الصداقة، في كل شيء يريد كل منا أن يتنصل من مسئوليته الشخصية عن عمل ليلقيها على غيره. والاستعمار هو المسئول حين عرفنا كلمة الاستعمار، التكنوقراطية أو البرجوازية أو الرأسمالية أو الإقطاعية، كل هؤلاء هم المسئولون عن أنهم تخطوني في الترقية. أما أن يكون هذا التخطي مسئوليتي الخاصة باعتبار أني مهمل أو مقصر أو مشاكس فهو ما لا يمكن أن يخطر على بالي مطلقا.
من المسئول عن النكسة؟
لهذا فكما نحيا مجتمعا متلاصقا متقاربا له ألف نوع ونوع من القرابة، فنحن نعيش معا ونخطئ معا، ولكننا أبدا لا يحاسب بعضنا البعض، أو إذا فعلنا نجد المسئولية تتقاذفها الألسن كالكرة تخلصا منها، بل لا نرضى حتى أن تكون المسئولية مسئوليتنا جميعا، إنما جماعتنا كطوائفنا وهيئاتنا، لا بد أن تقذف بالمسئولية خارجا تماما لتحملها لكائن أو قوة غريبة عنا.
لا نتهرب جبنا
والغريب أننا لا نتهرب من المسئولية جبنا، مع أن المقياس الوحيد للشجاعة هو القدرة على تحمل المسئولية، إنما نحن نتهرب منها لأننا منذ أكثر من سبعة آلاف عام اكتشفنا للعالم الخير والشر. وفرقنا بينهما تفريقا عميقا بشعا، وباعدنا بينهما بحيث أصبح أحدهما الجنة والآخر النار، أحدهما الكمال المطلق والآخر الفساد المطبق، وبحيث أصبح الخطأ صنوا للشر، أي أننا بالغنا كثيرا في تجسيد بشاعة الشرير أو المخطئ مبالغة أصبح معها الاعتراف بالخطأ مسئولية أكبر بكثير من أن يتحملها الكائن الإنساني الفرد، ويبقى حيا ويظل مواطنا مثل غيره من المواطنين. وللأسف لم يكن في التراث الفرعوني حديث كثير عن العفو، إنما الشر وصمة أبدية تلحق بروح فاعله وتظل معه في الحياة الأخرى. الخطأ عندنا إذن بهذه الآلاف المؤلفة من السنوات المتراكمة أصبح شيئا أبشع آلاف المرات من خطيئة المسيحيين وحرام المسلمين، ولست أدري ماذا كان يمكن أن يصبح عليه وضع الشعب المصري لو لم يجئ المسيح ومحمد وتدخل في قاموس المصريين ألفاظ العفو والمغفرة والسماح والتوبة.
استمرارا للصراحة أقول
أحس أني وإن كنت لم أبعد عن الهدف الذي حددته لكلمتي، إلا أني طرقت موضوعات، أو بالأصح رءوس موضوعات كثيرة، كل منها بحاجة إلى وقفة وتأمل طويلين. فالهدف كان أن أوضح أن لجوئي إلى العمل الإداري وتركي الصحافة لم يكن جريمة أو خطأ بشعا كما تفضل عشرات من الزملاء والأصدقاء وصوروه لي، وكان السؤال دائما يلح ويبقى: لماذا؟ لماذا أترك الكتابة للصحافة وأزاول عملا مهما كان ما أفعله فيه فهو بالتأكيد أقل فاعلية من الكتابة؟ وهنا لا بد أن أعترف أن هذا صحيح، وأن الكتابة للصحافة فعلا أهم وأبقى، ولكني - استمرارا لموجة الصراحة وفتح القلب على مصراعيه - أقول إني تركتها مضطرا، فقد كان ذلك قبل النكسة، وكنت قد تلفت ذات صباح، وكل صباح تحدث لي صاعقة فكرية أحس معها بكل كياني وأفعالي وأحلامي وأخطائي وميزاتي تتفاعل فجأة وتحدث شرارة كهربية ضخمة تنير لي الطريق، فألمح النفس على حقيقتها. وعلى هدي هذه الشرارة وجدت أني أبت بالكتابة في الصحافة إلى زقاق مسدود، فلم يعد أمامي موضوع لليوميات إلا نقد لمحافظة أو تريقة على روتين أو مجاملة لكاتب زميل على كتاب أخرجه أو مسرحية كتبها أو نقد لفيلم لا يستاهل النقد. وأفعل هذا لا عن فقر في الموضوع، وإنما عن عجز، فأهم ما يشغل بالي وبال الناس أن قضايانا الأساسية، مشاكلنا الجذرية، بعيدة عن متناول القلم، لا لأن هناك حجرا على حرية الكاتب، فالكاتب حقا وصدقا كان حرا أن يكتب ما يشاء بشرط أن يتحمل مسئولية ما يكتب، ولكن المشكلة أني كنت أحس أن الكتابة نفسها أصبحت غير مجدية بالمرة.
كان الموقف في رأيي مخيفا، والمخيف فيه أننا كنا قد حققنا لبلادنا أوضاعا وإنجازات كانت تبدو منذ سنوات قليلة جدا كالأحلام؛ كنا قد أجلينا المستعمرين عن بلادنا بلا أي قيد أو شرط، ورفضنا الأحلاف والتبعية، وخلقنا مع غيرنا كتلة عالمية ضخمة واتجاها فكريا تقدميا رائعا اسمه الحياد الإيجابي. وكنا قد واجهنا قوى الاستعمار العالمي بالنجاح، بل وأصبناه بضربات قاصمة وفي الصميم مثل تأميم القناة والمساعدة في تحرير الجزائر وتونس ومراكش واليمن والجنوب العربي المحتل ولبلادنا العربية، أصبحت القومية والوحدة حقيقة تكاد بين لحظة وأخرى أن تقع ، وفي الداخل كنا قد حققنا ثورة صناعية ضخمة ووضعنا أقدامنا على أعتاب عصر آلي حقيقي كان سيغير من وجه الحياة في مصر في سنوات قلائل تغييرا جذريا ينقلها من عصر إلى عصر. كان كل شيء ضخما رائعا عظيما، كالمعجزة، وكل هذا تحقق في سنوات قليلة وبأقل الخسائر.
ولكن ...
ليس كلاما في السياسة
في 16 سبتمبر 1970 بدأ يحدث شيء في الساحة العربية لا أعتقد أنه قد حدث قبلا في تاريخها أو سيحدث من بعد. في ذلك اليوم من شهر «أيلول» قرر الملك حسين أن يذبح خمسة وعشرين ألف فلسطيني «من رعاياه»!
والقرار دبر له في عناية بالغة، وربما ترك الملك حسين مزايدات واستفزازات بعض منظمات المقاومة الفلسطينية تعمل عملها في تهيئة الجو كي ينقسم رعاياه إلى أردنيين وفلسطينيين أعداء، وكي يحين الوقت ليبدأ المذبحة.
إن الوصف التفصيلي لهذه الجريمة المروعة لم أقرأه في صحف عربية، بل في الصحف الأجنبية التي كان لها مراسلون في عمان شاهدوا ورأوا بأعينهم ما جرى. هؤلاء الشهود «المحايدون» قرر أكثرهم أن البشاعة والوحشية التي تم بها هذا العمل لم تحدث في تاريخ البشرية إلا مرتين، مرة على يد تيمور لنك عندما أراد فتح العاصمة «هيرات» القائمة على الحدود بين الهند وإيران، فانتقى قرية صغيرة بجوار العاصمة وذبح جميع سكانها نساء وأطفالا ورجالا وشيوخا، ثم أرسل رجلا من أعيانها إلى العاصمة بعد أن فقأ عينيه ليكون الراوي الوحيد الباقي على قيد الحياة؛ يقص على سكان العاصمة ما شهده بعينيه حتى يستسلموا.
ولكن المروع لم يكن فقط ما يدور في عمان وإربد، المروع الأكثر هو ما حدث في الساحة العربية، ولا أقول الساحة العربية الرسمية؛ فقد دعا القائد الخالد إلى عقد اجتماع قمة على عجل لإيقاف المذبحة، المروع هو ما كان يحدث على الساحة الشعبية العربية، فلقد وقفنا جميعا من «المحيط الهادر» إلى «الخليج الثائر» نسمع الأخبار وبعضنا يشيح على أثرها بيده وكأن لا فائدة، وبعضنا سادر في حياته وكأن شيئا لم يكن، والبعض القليل المتحمس تائه مروع حائر لا يدري ماذا يفعل. ولن أغالي إذا قلت إننا جميعا عشنا أياما طويلة بضمائر مرهقة قد أثقلها الإحساس بالعجز.
بعد عامين فقط، وأيضا في 16 سبتمبر (أيلول الأسود) بدأ جيش «الدفاع» الإسرائيلي بنفسه مذبحة أخرى لتصفية بقايا الشعب الفلسطيني في سوريا ولبنان، أذاعت الخبر وكالات الأنباء، وبنفسها راحت إسرائيل تجاهر ودون أدنى خجل بهجومها على سوريا والأردن وتصدر البلاغ تلو البلاغ عن عمليات «التمشيط» التي تقوم بها قوات «الدفاع الإسرائيلية» وتتولى فيها قصف مخيمات اللاجئين بالقنابل والنابالم للقضاء على «الإرهابيين» أنى وأين كانوا. وأي طفل فلسطيني إرهابي في نظر إسرائيل، وأي امرأة «إرهابية» باعتبارها ستلد «إرهابيا»، وأي شيخ إرهابي لأنه لا بد أب أو جد لإرهابي.
إنما المحير حقا هو موقفنا نحن العرب، وأيضا من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، تجاه هذا الذي يحدث. ولا أقول أيضا كقيادات سياسية أو كحكومات، وإنما كشعوب عربية، إن لم تكن قد ذاقت نفس طعم المذابح مثلما حدث لنا هنا في مصر أيام غارة مصنع أبي زعبل ومذبحة الأطفال في مدرسة بحر البقر، إن لم تكن قد ذاقت فهي لا بد يوما ما ذائقة نفس الطعم.
ماذا فعلنا؟
على رأي كاريكاتير صلاح جاهين المشهور، كان ناس كثيرون في القاهرة، وفي ذلك اليوم بالذات مشغولين بحدث ضخم هائل أهم، حفل المطربة صباح في نادي الجزيرة وحكاية بيع فستانها. وأعتقد أنهم لا بد في مراكش كانوا يسمعون وإلى الرابعة صباحا مثلنا حفل موشحات أندلسية أو تسجيلا معادا لاحتفالات ميلاد الملك، واليمن الجنوبية كانت مشغولة بالشمالية والعكس بالعكس، والعراق بإيران. والأردن كان يعقد الندوات لمناقشة مشروع الملك حسين لحل الأزمة. وهكذا استشهد من الجيش اللبناني 41 ضابطا وجنديا ومن قوات الفدائيين 61 فدائيا وعدد لا يحصى من أطفال المخيمات ونسائها في سوريا ولبنان.
دعوة سريعة وممن؟
جاءت الدعوة سريعة وبالتليفون. كان مقرها أمانة النقابات المهنية بالاتحاد الاشتراكي، وحضرها الأمين العام، وكان أعضاء الاجتماع هم أعضاء مكاتب النقابات المهنية في مصر، وكانت نقابة المحامين قد طلبت من أمانة المهنيين أن تدعو لاجتماع لمناقشة هذا العدوان الإسرائيلي الحادث في وضح النهار ودون أدنى مواراة أو خجل.
والحقيقة لم أتوقع أن يكون الاجتماع من النوع الذي تسوده هذه الروح؛ روح ديمقراطية لا تخضع لأي قيد على رأي ممكن أن يعن لصاحبه. وتحدث عدد وافر من الحضور، وكنت قادما في التو من بيروت بعد حضوري المؤتمر الأول لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وكنت قد تركت لبنان وأثار جريمة العدوان بادية لكل عيان، ونقلت لزملائي المجتمعين ما رأيته وما لمسته من غياب يكاد يكون تاما للرأي الشعبي العربي.
لقد استثمرنا أحلى السنوات من عمر ثورتنا في الوطن العربي، وسقط منا الشهداء تلو الشهداء دفاعا عن هذه الأمة من أقصى جنوبها إلى أقصى الشمال، وخسرنا الكثير، بل كدنا نصبح الخاسرين الوحيدين في معركة تعرف هذه الأمة على ذاتها وكيانها ورسالتها. جاء عبد الناصر إلى مصر مصرية ولا شيء أكثر من هذا، وغادرها وقد آمنت مصر برسالته وأدركت ولأول مرة منذ زمان طويل أنها عربية وأنها جزء من أمة عريضة ومترامية من المحال أن تحيا بغير هذه الأمة، ومن المحال أن تحيا هذه الأمة أو تكون بغيرها. إنها غنية برجالها وإمكانياتها، وحتى بصراعاتها غنية، تكاد تصبح بمواردها الطبيعية أغنى أمة على سطح الأرض، وتنفرد مع قليل غيرها من الأمم بلغة واحدة، ومزاج نفسي يكاد يكون واحدا، ودين في أغلبه واحد. ولقد سرت بعد هزيمة 67 بالذات نغمة في مصر راحت تروج للعودة للتقوقع على النفس ولعق ما أصابنا من جراح، ولكن فات أصحاب هذا التيار أن صعوبة التحقيق لا تعني بالضرورة أن المبدأ خاطئ أو قاصر، إنها تعني فقط أن العقبات كثيرة وأن المسائل لا تتحقق هكذا بين يوم وليلة، وأنه إذا كان القدر قد ألقى بحكم الموقع والتاريخ والحجم على مصر أن تقود نضال هذه الأمة، فالتصدي لهذه العملية التاريخية شيء مكلف ومحفوف بالمصاعب والمخاطر، فالتصدي أبدا إذا انهزمنا مرة أو طعنا بالانفصال مرة أن ننفض يدنا ونيئس. إننا تصدينا لرسالة يلزم لتحقيقها عشرات السنين ومئات المحاولات، وجريمة حقيقية أن نكسر بأنفسنا إرادة الطموح فينا، وعند أول عقبة نعود للتقوقع والانكفاء للعق الجراح.
إن الصدمة التي حدثت لنا بهزيمة 67 لم أكن شخصيا ولا أعتقد أن أحدا كان باستطاعته أن يتنبه إلى أنها ستغور في أنفسنا بعيدا إلى هذا العمق. لقد ضخمنا العدو إلى ما هو أكثر بكثير من حجمه، وقللنا من أنفسنا إلى ما هو أقل بكثير من حجمنا.
إنني لا أفهم كثيرا في تعبير «الحرب النفسية»، ولكنني متأكد أن آثارها إن كان بعضها بفعل دعايات العدو وأجهزته، فإن معظمها بفعلنا وبأيدينا. وصديقا لصديق وجارا لجار وسيدة لأخرى نتولى جميعا وبالحديث اليومي الذي لا يتغير ولا يشذ تحطيم أي بارقة أمل فينا أو بصيص نور. ربما ليبرر كل منا لنفسه تقاعسه واستسلامه المطلق لسقوطه الخاص والشعور بالهزيمة الذي يعفيه من مسئولية الأمل؛ فالأمل لا ينبت إلا في صدور الأحرار، والعجز إحساس عبيد ومبرر لكل التصرفات الخسيسة التي يمكن أن يقوم بها إنسان فقد تاج الإنسان، وتاج الإنسان كرامته.
لا لم نمت، ولا انتهينا في 67، ولا في غير 67 سننتهي.
كل ما في الأمر أننا في حاجة إلى صدمة، ولتكن كهربائية، أو من أي نوع كان، لنفيق.
الوفد يتشكل
وأعود إلى اجتماع النقابات المهنية الذي ذكرته.
تحدث الكثيرون حديثا نافعا في أحيان، مضحكا في أحيان، ولكن القلوب والعقول مفتوحة، وفي صراحة تسكب المحتويات.
وصدر عن الاجتماع بيان هام وقرارات.
وكان أحد هذه القرارات إيفاد عدد مختار من أعضاء المؤتمر للتوجه إلى سوريا ولبنان والاتصال بالمسئولين هناك وبقيادات المقاومة لنشاركها الموقف من ناحية، ومن ناحية أخرى نتدارس معها ماذا يمكن أن نفعله.
وشرفني المجتمعون واختاروني عن نقابة الصحفيين ضمن هذا الوفد. وفي الحق لم أجد في نفسي حماسا كبيرا للعودة - بعد يومين فقط من المجيء - إلى بيروت دمشق. إن الزيارة الواحدة لبيروت تحدث لي في العادة نوعا من الحمى يلزمني دائما بعض الوقت كي ألم شتات نفسي وأعود كما أنا.
كان الوفد مكونا من الأستاذ مصطفى البرادعي نقيب المحامين ، ومن الدكتور عبد الرازق عبد الفتاح سكرتير عام نقابة المهندسين، ومن الأستاذ يوسف كامل عبد العزيز عضو مجلس نقابة المحامين، والأستاذ أحمد يحيى سكرتير عام النقابة، والدكتور المعتز بالله مبارك سكرتير عام نقابة الأطباء.
وصلنا بيروت، وقررنا أن نبدأ مهمتنا بعقد مؤتمر صحفي نظمه لنا الزميل الأستاذ طه نقيب الصحافة اللبنانية في نقابة الصحافة هناك، ولم أكن أتصور أننا وفقط في هذا المؤتمر الصحفي الأول نفسه سنكتشف حقيقة المهمة التي جئنا من أجلها. الغريب أننا لم نتفق على شيء، كل ما اتفقنا عليه كان أن ننتخب الأستاذ البرادعي رئيسا للوفد. ولكن بقيت المشكلة؛ ماذا نفعل؟ هل نكتفي بكلمات المجاملة التقليدية نحملها إلى إخواننا أعضاء المقاومة والشعب اللبناني الشقيق؟ هل نحمل لهم تحيات وتمنيات زملائنا النقابيين في مصر والذين يمثلون نصف مليون متعلم ومثقف؟ هل نقول قلوبنا معكم وسحقا لما يرتكبه الأعداء؟
السلاح المجهول
بالضبط لماذا لا يكون هناك عمل شعبي شامل وسريع وعلى مستوى الأمة العربية كلها من المحيط إلى الخليج؟
عمل ليس مهما حجمه أو لونه، ولكن المهم فيه أن يكون شاملا وفي وقت واحد، فليس مطلوبا من العمل - وبالذات في مراحله الأولى - أن ينزل بأمريكا أو بإسرائيل أضرارا بقدر ما هو مطلوب منه أن يكشف لأنفسنا عن أنفسنا، وبإرادتنا نصنع إرادتنا، إنها ليست كلمات إنشاء أو تراكيب أدبية، إنها حقائق علمية. إن السبب الرئيسي لروح الهزيمة واللامبالاة التي استشرت عقب 67 أننا بعد أن كنا أمة تكاد تكون - ولو بالروح - واحدة قبل الحرب، انقسمنا إلى أمم كثيرة وشيع بعدها، بل حدث ما هو أكثر، وأصبح كل فرد منا أمة بمفردها، أي استحال المائة مليون عربي في الحقيقة إلى عربي واحد هو أنا أو أنت فقط، أنا وحدي المهزوم واليائس وفاقد الإرادة، وحدي أتفرج ووحدي أحمل المأساة.
والهزيمة الحقيقية أن ننفرط إلى أفراد لا مبالين. ماذا أصبح يجمع الشعب العربي في كل مكان؟ لا شيء، حتى الأماني المشتركة لا تجمعه، لا الكلمة أصبحت واحدة ولا الهدف واحدا ولا واحدة في أي شيء .
المطلوب من العمل الشعبي شيء واحد فقط في أول خطوة؛ أن نشترك جميعا في عمل، حتى لو كنا قد تفرقنا مبادئ وشيعا، فليجمعنا العمل الواحد، أبسط الأعمال، ولو حتى نتفق أن نصمت جميعا ولمدة دقيقة واحدة غدا في التاسعة صباحا.
قد يبدو للبعض أن الاقتراح ساذج وبسيط، ولكن أخطر ما فيه أنه ساذج، إذ أن نتيجته مروعة.
إن جزءا كبيرا من اليأس الذي عم شعوبنا سببه أننا في تفكيرنا لمواجهة الغزو الصهيوني الاستعماري كنا دائما نتصور أننا لا بد أن نتصدى له بواجهتنا الرسمية فقط، بما فيها من قيادات وجيوش وحكومات، وحتى ليس كل القيادات والجيوش والحكومات، بعضا فقط سميناه دول المواجهة، وعلى جيوش هذه الدول أو بالضبط على بعضها فقط ألقينا عبء «العمل».
ولقد بدأت تتضح لنا الآن أبعاد القضية. والحديث عن قومية المعركة ليس إلا إدراكا واحدا من إدراكات ذلك البعد؛ فقد كنا نظن أننا نواجه إسرائيل فإذا بنا نكتشف أننا نواجه يهود العالم مجتمعين. وقد كنا نظن أننا نواجه حروبا صغيرة فإذا بنا نكتشف أننا نواجه خطة خبيثة وماكرة ومدبرة بعناية - ومنذ نصف قرن من الزمان على الأقل - وأن إسرائيل واليهودية العالمية ليست وحدها عدونا إنما وراءها رأس الرمح في القوى الاستعمارية العالمية؛ أمريكا وأفلاكها. وراءها رأي عام عالمي استطاعوا خداعه وتلفيقه - وأيضا من زمن طويل - شيئا فشيئا بدا يتضح لنا أن المواجهة أكبر من أي قطر عربي بمفرده، وحتى أكبر من قومية المعركة لو اجتمعت لها الحكومات العربية كلها، إنما لا بد لها أيضا من شعبية المعركة، من اشتراك كل مواطن عربي في المعركة ولو بعمل صغير، ولو بقرش واحد يمول به كل أسبوع معركة حياته أو موته.
وأبدا لم تستعمله
وشعبية المعركة ليست لعبا بالكلمات، إنها السلاح السري الخطير الذي يملكه العرب ولم يستعملوه إلى الآن. إن الذي يخيف إسرائيل وأمريكا، وكل الدوائر المتآمرة علينا والمتربصة بنا، أن يحدث وعلى امتداد الوطن العربي كله توقف الخمس الدقائق أو نصف الساعة وفي وقت واحد جامع شامل يلم شتات عامل البناء في طنجة والوزير في حكومة اتحاد إمارات الخليج وخفير المخزن في اللاذقية والرعاة في اليمن الجنوبية والسودان.
ذلك أننا لو فعلنا هذا لأدخلنا إلى المعركة السلاح الرهيب الذي لم نستعمله أبدا، سلاح الكم الهائل من البشر الذي نمتلكه، سلاح المائة مليون إنسان. إن إسرائيل تخاف من سلاح المائة مليون إذا حشد؛ لأنها مهما فعلت لن تستطيع التفوق لا هي ولا أمريكا معها في هذا المجال. إن إدخال الشعب طرفا في المعركة الرهيبة الذي إذا دخل المعركة لن يخرج منها أبدا إلا منتصرا، وأن الأمر قد يبدأ برفع الذراع علامة المشاركة، ولكنه لا بد أن ينتهي حتما بالسيطرة الكاملة على كل المصالح الأمريكية في المنطقة، وعلى خنق إسرائيل ولو حتى بأجسادنا نفسها مجتمعة ومتلاصقة وزاحفة لاسترداد هذا الجزء من أرضنا.
إن إشراك الشعب العربي كله في المعركة يضع أمريكا وإسرائيل أمام أمرين لا ثالث لهما: إما إبادة هذا الشعب لإبادة إرادته، وإما التسليم له بما يريد. ولأننا لم نعد في عصر تستطيع فيه حتى ولو دولة معربدة مغرورة مسلحة مثل أمريكا أن تبيد مائة مليون مهما رغبت في هذا الأمر وحلمت به، فلن يبقى لها إلا التسليم.
بالضبط، لماذا لا يكون هناك عمل شعبي شامل وسريع وعلى مستوى الأمة العربية كلها من المحيط إلى الخليج؟
هكذا تبلورت مهمتنا الشعبية في مؤتمرنا الصحفي الأول، أصبحت هدفا واضحا نتحرك تجاهه، ونتصل بالنقابات وبالقيادات وبالسياسيين على أساسه.
والحق أني لم أتصور أن رد الفعل سيكون بهذه الضخامة؛ خرجت الصحف اللبنانية جميعها في اليوم التالي وهي تتحدث عن «المبادرة الشعبية المصرية».
ولكن الأمر لم يسلم من المضحكات، فعقب إعلان مهمتنا اتصل بي صديق يمني وسألني بالتدقيق عن هذا «الوفد» المصري الشعبي، وبعده جاءني أكثر من صحفي وسياسي من المقيمين في لبنان وبروح من الشك راحوا يستجوبونني عن هذا «التحرك» وعن علاقته بنوايا مصر والقيادة السياسية في مصر. إلى هذه الدرجة فقدنا الثقة في أنفسنا. إن أي تفكير أو مبادرة لا بد أنه موحى به من جهة أو وراءه نية ما. أصبحت البراءة في عالمنا العربي أبشع التهم، إذ إنك لن تجد للبراءة سببا أو مبعثا واضحا يريح بعض النفوس ويلون العمل. وهكذا تظل التهمة على البراءة مسلطة ومشرعة.
ولكن الصدى الأهم كان هو الصدى الشعبي الذي أردناه؛ بدأت الأفكار تتفجر والحماس للفكرة لدى القيادات النقابية في لبنان وسوريا يطغى. صحيح! لماذا يقف الشعب مكتوف الأيدي معزولا عن المعركة؟ لماذا يترك الأمر كله لجامعة الدول العربية تتصرف فيه وتحله؟ وأين الجامعة «الشعبية» العربية، جامعة الإرادة الشعبية والعمل الشعبي؟
أيكون هذا هو السلاح؟
أن نتحرك كشعب هائل وأن نعوض بحركاتنا تلك ما ينقصنا؟
أن نبدأ الحركة بخطوة بسيطة واحدة، وأن نختار وبسرعة لجان اتصال من النقابات والهيئات والقيادات الشعبية والاتحادات العمالية والفلاحية والطلابية والنسائية والشبابية العربية كي نقوم بعمل واحد وسريع نرفع به الرأس ونواجه العدو؟
إني أطرح الفكرة على قيادتنا السياسية وعلى اتحادنا الاشتراكي وعلى تنظيماتنا العمالية والنقابية.
بإلحاح أطرحها.
ملحوظة: هذه المقالة أعتقد أنها في عام 1980 كوميدية تماما، ولكني آثرت أن أثبتها، فمن يدري ماذا يكون الحال؟
الانفتاح إلى الداخل أيضا
كانت السينما هي حدث الأسبوع الماضي دون شك، حدث ولا أقول حديثا؛ فالحديث عن السينما في صحفنا ومجلاتنا لا ينقطع، بل هو - إذا أضيفت الإذاعة والتليفزيون - يكاد يكون المادة الطاغية على كل حديث. بل جاء علي وقت أحسست فيه شخصيا أن الهدف الثقافي العام لمجتمعنا أصبح مقرره الوحيد هو مادة السينما والتمثيل والإخراج والماكياج والديكور والمونتاج، لدرجة أني كنت أتابع برنامجا هاما جدا لا بد أن تتابعوه؛ إذ لا أعتقد أن أحدا يلتفت إليه التفاتا ملحوظا. وهو برنامج «الغلط فين» الذي يذاع يوم الجمعة. وأنا لا أتابعه لأنه برنامج طريف فقط، وإنما لأنه ترمومتر خطير جدا للمستوى الثقافي العام، لا للشعب قاطبة، وإنما للمتعلمين من هذا الشعب طلبة وطالبات، معاهد وجامعات، ومراكز بحوث وإحصاءات. المهم أن الخطأ يحدث في كل شيء وأي شيء إلا في الأشياء المتعلقة بالفن . لا خطأ في اسم ممثل أو ممثلة أو فيلم، لا خطأ في أي تعبير سينمائي أو مسرحية. تقريبا هي والأمثال الشعبية تكاد تكون المادة الثقافية التي يشترك، لا أقول الشعب كله، ولكن حتى المتعلمون في معرفة أدق تفاصيلها. و«الغلط فين!» والمسئول عن هذا من وفين؟ والسبب ماذا؟ وفيه أشياء ليست موضوعنا الآن. فموضوعنا وإن كان السينما إلا أنه ليس السينما، عناوين أفلام وأسماء نجوم ومواصفات تمثيل وإخراج. كان الحديث عن السينما حديثا عنها كصناعة، هذا شيء بلا شك رائع وجميل، بل الأروع أنه حديث عنها باعتبار أنها مقدمة أو عينة ل «سياسة» الانفتاح الاقتصادي. كانت المسألة إذن قضية وطنية سياسية من الدرجة الأولى، أو هكذا كان يجب تناولها. لكن ضايقني تماما أولئك الذين أخذوا الموضوع مأخذا شخصيا وصنعوا من قضية هامة وخطيرة مظاهرة سباب ضد وزير الثقافة عبد المنعم الصاوي. بالضبط كما ضايقني تماما موقف مجلس الشعب من الأمر بحيث خرجت علينا الجرائد بمنشتات تقول: مجلس الشعب يناصر عبد المنعم الصاوي في موقفه من السينما، وكأن المسألة كانت خناقة بين عبد المنعم الصاوي من ناحية وبين آخرين.
أنا شخصيا حين عرفت أن الموضوع مهما نشرته الجرائد يتعلق بمستقبل السينما في مصر، وباعتبار السينما وسيلة الثقافة الأولى لشعبنا، وباعتباري أمت بدرجة ما إلى هذه الثقافة، ذهبت فعلا إلى مجلس الشعب لأحضر الاجتماع الذي عقدته لجنة الثقافة والفنون بالمجلس، والحقيقة ذهبت غير مدعو، ذهبت وفي ذهني أني فقط سأستمع إلى ما سوف يثار من مناقشات خاصة بالسينما، وليس في ذهني مطلقا أنها مناقشات خاصة بقضية خاصة، بل بواقعة اتهام خاص.
مستمعا ذهبت، ومستمعا أصغيت إلى البيان الذي أدلى به الوزير عبد المنعم الصاوي، فإذا به بيان يرد فيه على ما دار في اجتماع أعضاء غرفة صناعة السينما حول واقعة بعينها، وهي اعتزام هيئة السينما تكوين شركة بينها وبين مستثمر مشترك (سعودي أمريكي)، شركة ضخمة برأسمال قدره 160 مليون جنيه سيكون لهيئة السينما فيها 51٪ من الأسهم، وسيقوم المستثمر السعودي بدفع 49٪ من رأس المال . أما كيف ستقوم الهيئة بدفع هذه ال 51٪ من الأسهم وهي تشكو من العجز في ميزانيتها وعدم قدرتها على الصرف على دور عرضها واستديوهاتها، فسيتم هذا بأن تبيع الهيئة للمستثمر أو بمعنى أدق للشركة الجديدة المزمع تكوينها أربع دور عرض هي ميامي وديانا ومتربول وفريال في الإسكندرية واستديو الأهرام في الجيزة، قدرت أثمانها بأربعة ملايين من الجنيهات في مقابل أربعة ملايين أخرى من المال السائل يقوم المستثمر بدفعها. وبهذا تبدأ الشركة عملها بثمانية ملايين جنيه على أن يتم استكمال رأس المال الباقي (160 مليونا) باستغلال هذه الأماكن الاستراتيجية في إقامة دور عرض واستصدار قانون جديد يبيح إقامة عمارات فوق دور العرض (إذ القانون الحالي يحرم إقامة مبان فوق دور العروض السينمائية والمسرحية) ومن الربح الضخم الناتج عن إقامة هذه العمائر يتم استكمال رأس مال الشركة وتبدأ في إقامة دور عرض سينمائية (400) في بقية أنحاء القطر المصري.
وهنا قامت قيامة أكثر من جهة، أولها غرفة صناعة السينما (أي اتحاد المنتجين السينمائيين المصريين)؛ إذ إن هذه الشركة الممولة لن تقوم فقط بإنشاء دور العرض، وإنما سيكون لها الحق في إنتاج وتمويل الأفلام السينمائية والتليفزيونية. وحيث إن رأسمال أكبر منتج في الغرفة لا يتعدى نصف المليون جنيه، فكيف ستواجه هذه الأسماك ذلك الحوت الهائل الذي من المحتم أنه سيبتلع الجميع؟
ومن الجميل في قيامة غرفة صناعة السينما أنها ربما لأول مرة تذكرت أنها صناعة وطنية خطيرة، أنها تملك التحكم في توجيه الفكر لا في مصر وحدها ولكن في العالم العربي كله، وأن المنتجين هم أصحاب المسئولية الأولى في المحافظة على الفكر الوطني الإبداعي. وهذا الأمر طبعا نكتة، فتسعون في المائة من إنتاج هؤلاء السادة لا فكر فيه على الإطلاق، أو إذا كان فيه فكر مناهض ورجعي وشلل لطاقات الإنسان المصري والعربي على القوة والإبداع، وأظن أن الصراخ الذي يأتينا دويه من المصريين المقيمين في البلاد العربية خير دليل أن أكثر المنتجين غير قوامين بالمرة على أمر الفكر المصري أو العربي، وأنهم بالدرجة الأولى تجار وطنيون ، هذا صحيح ، ولكن يتاجرون في مادة خطرة هي القصة والبطل والممثل في السينما العربية، وفقط أدركوا مدى خطورة ما تصنعه أيديهم حين جاء منافس أكبر، من المحتم أنه لن يكون أكثر حرصا على الفكر العربي منهم، ولكن المؤكد أنه سيكون أسخى وأغنى في تصنيع بضاعة وتغليفها وتسويقها. ومع هذا فهم أيضا رأسماليون وطنيون إن اعتبرناهم تجار سينما، بمعنى أنهم بالتأكيد يتجاوبون في النهاية مع النقد ويراعون الحرمات بعض الشيء، وأناس «على قدنا» نستطيع أن نؤثر فيهم ويؤثروا فينا، ولكن الشركات الكبرى في هوليود ونيويورك وأوروبا تصل بثرائها ونفوذها إلى أنها تصبح فوق أي نقد، بل هي التي «تصنع» النقد، وهي التي «تفكر» للناس، وهي التي «تخلق» نمط الحياة والسلوك وتجعل من الجواسيس ورجال المخابرات «أبطالا» يصبح المثل الأعلى لكل شاب أن يحذو حذوهم. وإذا كنا نحن في القاهرة نشكو من «النماذج» السيئة التي يقدمها كثير من منتجينا السينمائيون، ونحاول قدر الطاقة أن نستبدلها بنماذج أخرى للإنسان أروع وأقوى، فهناك تبلغ الشركات بقدرتها الفائقة على إخفاء السم في منتجاتها حدودا تصل إلى نخاع المتفرج دون أن يملك الناقد مهما نقد أن يحول بينه وبين الاستسلام الكامل المطلق لما يرى. هناك «المؤسسة» هي الأقدر والأبشع والأذكى والأخبث والأكثر قدرة على التلون والتنكر، بحيث تضع أنت الناقد نفسه وربما وأنت لا تدري تجد نفسك تصفق لعمل كان عملك أنت نفسك، ويسخر من قدرتك على الاكتشاف أنت نفسك. •••
حسن جدا، قامت غرفت السينما - المشكورة - بدورها الهام في التخوف التام من هذا القادم الصناعي الجديد، على هيئة الدفاع التام عن «الفكر» الوطني، والإشفاق على المواطن المصري من السم الزعاف الذي من الممكن أن تنفثه صناعة قتالة كصناعة السينما أو بالأصح صناعة العقول؛ قامت مشكورة بالرفض (9 ضد واحد) ثم قامت مشكورة بالتخوف، ثم قامت مشكورة بالموافقة (10 ضد لا شيء)، خافت على الفكر المصري وصرخت: احذروا الذئب القادم، ثم هكذا وبأية قدرة لا أعرف اكتشفت أن المسألة لا ذئب فيها، أو أننا كلنا ذئاب وأولاد ذئاب أو مصيرنا أن نصبح كذلك، وأن كل شيء تمام وشكرا يا سيادة الوزير على اهتمامك بصناعة السينما، والسلام عليكم ورحمة الله. هكذا قالت الغرفة، ثم من بعدها اللجنة، ثم جاء المجلس الأعلى؛ مجلس الشعب ليضع إمضاءه، وليصبح كل شيء تمام التمام. فهل كل شيء تمام التمام؟ •••
إن السيناريو كما رأيته وعايشته ضعيف جدا، ولو استحال إلى فيلم فسيسقط سقوطا بشعا ويكون كارثة على منتجيه. وكما تفعل وزارة الثقافة نفسها - رحمة بالمنتجين - فتراجع السيناريو وهو لا يزال حبرا على ورق، وتجيزه أو ترفضه أو تعدله قبل أن يصرف المنتج عليه دم قلبه ثم تصادره الرقابة، فكذلك نريد أن نفعل بموضوع السينما.
وقبل أن يغلق ملف الموافقة ليفتح ملف التنفيذ، فهناك أشياء هامة جدا لا بد من قولها.
فأولا أنا ضد كل ما قيل تجريحا في شخص الوزير ونقيب الصحفيين السابق، والكاتب الذي تابعته وتابعه معي الآلاف منذ أن كان يكتب في «المصري» ويحيا حياة الكفاف في لندن ليتعرف على أوروبا في بلادها ويثقف نفسه بنفسه وطنيا صادق الوطنية.
إن سياسة الانفتاح أساسها الفكر والاقتصاد وحتى السياسة، إننا أخذنا بها لتقوية الاقتصاد المصري بحيث نغري المستثمر الأجنبي بأرباح من عندنا أكثر مما يجده في أي بلد آخر أو مشابه، بمعنى أنها سياسة لتدعيم الاقتصاد وليست سياسة «التعليم» (أقصد جعله عالميا). الاقتصاد المصري بعدما مصرناه، ومعنى أننا مصرناه أننا امتلكنا أصوله، والانفتاح جئنا به ليجعل هذه الأصول تعمل بأقصى طاقتها ويربح منها الأجنبي بأكثر مما يربح من أي بلد آخر. ولكن أبدا ليس على حساب «بيع» الأصول، كما كان الخديوي إسماعيل يفعل، يبيع سندات قناة السويس وغيرها ليسدد ديون مصر، وكانت النتيجة صندوق الدين واحتلال مصر نفسها بعد هذا. وأعتقد أن القائمين على سياسة الانفتاح والقائمين على أمر هيئة الاستثمار يعرفون هذا جيدا، ولديهم بالفعل مشروعات جاهزة ووافرة الأرباح لمن يشاء أن يربح، ولكن لا أعتقد أبدا أن مشروعا كهذا توافق عليه هيئة الاستثمار؛ لسبب بسيط هو أنه لا استثمار فيه بالمرة. فنحن كأفراد مصريين نستطيع أن نقوم بمشاريع كهذه بمنتهى البساطة. ولنأخذ مثلا بسيطا، أن سينما ميامي والمسرح المجاور لها مساحتها أربعة آلاف متر مربع في قلب القاهرة التجارية، لو بعناها حتى كأرض فضاء للمواطنين المصريين العاديين وتواضعنا جدا وجعلنا المتر هناك بخمسمائة جنيه، لكان ثمنها اثنين مليون جنيه ثمن أرض فضاء فقط، ولو أنشأنا شركة مساهمة مصرية لبناء عمارة فوق هذه الأرض نجعل من بدرومها ودورها الأول أربع دور عرض فوقها عشرون دورا كل دور يحتوي على الأقل على عشر شقق أو ربما عشرين، لوجدنا في أيدينا في ظرف لا يزيد عن عامين المائة والستين مليون جنيه رأس مال الشركة المفروض أنها ستنتج وتطور وتبني صناعة السينما في مصر. إن لدينا في مصر مكاتب وشركات وأشخاصا يستطيعون أن يدفعوا فورا ما يزيد على المائة مليون جنيه ليحظى كل منهم بشقة في شارع طلعت حرب في قلب العاصمة، فلماذا نشرك الغريب في شيء نستطيعه نحن بكل بساطة ويعود علينا ربحه كله، ونمول بهذا الربح دور عرض تدر ربحا رهيبا علينا، ونمصر بها صناعة السينما فعلا؛ تلك التي سيتحكم فيها الموزع اللبناني الذي يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، وهو بحق إمبراطور الصناعة، وعلى بابه يقف جميع نجومنا ومنتجينا وغرفة سينمتنا بجلالة قدرها؟ إن 600 دار عرض كفيلة بتمويل الصناعة السينمائية المصرية تمويلا ذاتيا، بحث لا تخضع لذوق، أو يفرض عليها مواصفات تجعل المصريين في الخارج والداخل يلعنون أنفسهم من أجلها.
وكل هذا من بناء دار سينما واحدة.
فما بالك بديانا وفريال في الإسكندرية، وأربعة أفدنة في قلب شارع الهرم اسمها ستوديو الهرم، وكل هذا لأن «المستثمر» سيدفع مقدما اثنين مليون جنيه؟ إن المثل العربي يقول: «ما يحتاجه المنزل يحرم على الجامع.» معناه بالعربي الفصيح أن ما تستطيع أن تفعله أنت وحدك وبمنتهى البساطة وتعود فائدته لك يصبح من الجريمة أن تعهد به إلى آخر.
إذا كانت هيئة السينما في حاجة لتطوير نفسها لتصل إلى ما لم تصل إليه هوليود، فعليها فقط أن تطرح عملية بناء ميامي على المواطنين في مصر، السهم ذو العشرة جنيهات يصبح بعد خمس سنوات ثمنه مائة جنيه. فلتطرح الهيئة الفكرة والأسهم ولتر كيف ستمطر عليها السماء ذهبا وبدون حاجة إلى مستثمر وبدون حاجة إلى مليم واحد من الخارج.
أما الانفتاح، فلنتركه لمشاريع تحتاج إلى الخبرة والتكنولوجيا، تحتاج إلى ما ينقصنا وما لا نستطيعه، ولتربح من ورائه ما تشاء، فحلال عليها ما دامت في النهاية ستئول إلينا. •••
إنها مجرد فكرة، ولكني متأكد - رغم أني لست اقتصاديا - من صحتها، فالاقتصاد أولا تفكير معقول، أما غير المعقول فهو ما يحدث الآن تحت شعار الانفتاح وباسمه. إن الانفتاح هو من أشد حاجاتنا القومية ومن ضرورات حياتنا، وقد تجاوب معه شعبنا ومع واضعه ومخططه الرئيس السادات تجاوبا فاق كل تقدير؛ ذلك أن الشعب فهمه كما فهم القائد على هذا النحو القومي الوطني العظيم. وليس بالضرورة أن يكون الانفتاح بالخارج فقط وإلى الخارج، فهناك انفتاح قد يكون أكبر، ذلك هو الانفتاح إلى الداخل، واستخراج المدخرات القومية وتوظيفها؛ إذ لو فعلنا هذا، ولو بدأنا بأن نعرف كيف نستغل نحن بلادنا ومصادرنا لانهالت علينا المشاريع من الخارج. ذلك أن رأس المال لا يستخدم نفسه لتقديم الصدقات، إنما هو يلهث وراء من يعرف كيف يفكر ويربح، وكيف بذكائه يستطيع أن ينتج ويدر معه وعليه الأرباح. إن رأس المال الأجنبي لا يقدم نفسه إلا للناجح، أما إذا قدمه للغبي أو الفاشل فلا بد أن يفعل هذا ليسرقه.
وأنا لا أعتقد أبدا أننا أغبياء أو فاشلون.
الخطة الجهنمية الجديدة1
من جولة في شرقنا العربي عدت ... من عشرة أيام عدت، وقد كان مفروضا أن أكتب انطباعاتي فور عودتي، ولكني لم أشأ هذا، فقد كانت تشغلني مشكلة أهم من الكتابة بكثير؛ مشكلة أننا رغم كوننا أمة عربية واحدة تكون لها - مع اختلافات غير أساسية - نفس الشخصية، بل والملامح الجسدية في أحيان. رغم هذا إلا أننا منذ وعينا حتى بكياننا هذا الواحد لا نفهم بعضنا، واحتراسا أقول إلا فيما ندر. أما قانوننا العام السائد فهو أننا أبدا لا نفهم! لغتنا عربية ومشتركة ولساننا واحد، والأفكار الشائعة في عالمنا العربي تكاد تكون نفس الأفكار، إلا أن اللغة واللسان وأدياننا الواحدة وأفكارنا العامة المطروحة كلها معلقة هناك في سمائنا الواحدة كالسحابة، بعيدة دائما عن أرض الواقع، بعيدة عن الإنسان.
ومن أعسر بلادنا العربية قدرا على عدم الفهم، هي قلب هذه الأمة، مصر، يحبونها ويحبون شعبها، والقاهرة حلم المسافر إذا أراد السفر، ولكننا بالمرة غير مفهومين.
ولا أعتقد أن السبب في عدم الفهم هذا راجع إلى الشعوب العربية الأخرى، بل هو راجع في الأصل وفي الأساس إلى كل شعب على حدة. وهكذا فأعتقد أننا في مصر المسئولون الأول عن أنه لا المشرق العربي ولا المغرب العربي ولا أي مكان يفهمنا، بل أحيانا يخيل لي أننا أنفسنا لا نفهم أنفسنا حق الفهم.
هكذا قضيت الأيام العشرة الماضية أفكر في تلك المشكلة المحيرة.
ذلك أنها - في رأيي - ليست مشكلة سوء فهم، أو سوء علاقات ناتجة عن سوء فهم، ولكنها تشكل الآن قضية الحياة أو الموت، ليس فقط لنا كمصريين وإنما كمصريين وعراقيين وفلسطينيين ولبنانيين وسعوديين وليبيين ومغاربة وجزائريين وسودانيين ... إلخ.
وسأقول حالا لماذا هي قضية حياة أو موت.
وبالذات أقولها لهذا النفر القليل من مفكرينا ومثقفينا وبعض قياداتنا الشعبية التي أصبحت تنادي بالعودة إلى المصرية بمعناها المحلي القديم، و«سيبونا» من هؤلاء «العرب» الذين «ودونا في داهية» ... إلى آخر هذه النغمة.
هؤلاء الناس يجدون آذانا صاغية كثيرة، خاصة والمثل واضح أمامنا وصريح. دخنا نحن في صراع مرير طويل من أجل القومية العربية، وخضنا ضد إسرائيل أربع حروب، ومات منا مئات الآلاف، وأنفقنا عشرات الآلاف من ملايين الجنيهات، وتهدمت مدننا، بينما النتيجة أن بلاد البترول العربية استفادت حتى من حرب أكتوبر المجيدة وتضاعف سعر بترولها، أي دخلها من عام 1952 إلى الآن ربما أكثر من عشر مرات، بينما الدخل عندنا نحن كان ينخفض، وأزمات المأكل والملبس والمواصلات تشتد.
ولكي أكون صادقا لا بد أن أقول إن هذا المثل ليس افتراء على الوقع، بالعكس هو مائة بالمائة صحيح. بفضل هذه المعارك الذهبية المتصلة أعتقد أن العالم العربي الآن انقسم إلى دول غنية ودول فقيرة، دول تزداد غنى ودول تزداد فقرا.
ولكن المغالطة في المثل واضحة أيضا، فنحن لم نحارب أصلا للدفاع عن موارد البترول وحراسته، إنها كانت حروبا موجهة ضدنا نحن، ضد مصر بالذات، ضد قائدة هذه الأمة الروحية والثقافية والحضارية، ضد القمة النامية المخيفة في المنطقة.
ولم تكن مجرد حروب عسكرية وسياسية وتآمرية، ولكنها كانت وبالأساس حروبا ثقافية واقتصادية. إن كل خبراء البترول في العالم يجمعون على أن في الصحراء المصرية الغربية والشرقية حقول بترول هائلة الضخامة، فجيولوجيا من المستحيل أن يمتد عرق البترول من الجزائر إلى ليبيا وبالضبط يتوقف عند حدودنا المصرية، ويستمر توقفه حتى حدود مصر الشرقية ليبدأ في البحر الأحمر والسعودية إلى العراق وإيران. لا يمكن علميا هذا إلا إذا كانت الجيولوجيا قد تآمرت مع الاحتكارات البترولية من قديم الأزل. الصحيح أو الأكثر صحة أن تكون الاحتكارات البترولية هي التي تآمرت ضد الجيولوجيا المصرية بالذات.
التاريخ يعيد نفسه
والمؤامرة قديمة وقد أصبحت معروفة. منذ أيام الاحتلال البريطاني وفكرة البحث عن البترول في مصر أو اكتشافه فكرة مرفوضة تماما؛ فالإنجليز لم يحتلوا مصر عبثا، ولم يستخلصوها من قبضة نابليون ومن أنياب الإمبراطورية العثمانية عبثا أيضا، بل ولا حتى لموقعها الجغرافي أو قنال السويس أو هذا كله.
الإنجليز واحتكارات البترول أدركت من زمن بعيد أن المنطقة العربية - أو ما اصطلحوا تضليلا على تسميته بالشرق الأوسط - يرقد تحت أرضه أعظم كنز عرفته البشرية في كل تاريخها ما مضى وما سيأتي، واكتشفوا أيضا أنه بينما يرقد تحت الأرض هذا الكنز الخرافي الذي يساوي في قيمته كل صناعة أوروبا وزراعتها ومناجمها، تحيا فوق هذه الأرض شعوب كانت متخلفة تعيش في القرن السادس عشر.
وبعد الحرب كانت أوروبا هي الهدف الثانوي لأمريكا القوية المنتصرة الغنية، أما هدفها الأساسي فقد كان هو انتزاع هذا الكنز المهول من أنياب الاستعمار القديم. بريطانيا كانت وسيلتها للاحتلال الجيوش ، والقوة عندها في الأساطيل والسيطرة على المضايق والتجارة. اكتشف الأمريكان أن العصر الجديد القادم هو عصر البترول، وعلى هذا يجب اقتلاع النفوذ البريطاني والفرنسي من المنطقة، وبالتأميم مرة ثم بالتدويل مرة، ثم باحتكار التوزيع، ثم بالانقلابات والاضطرابات، نجحت أمريكا أخيرا في إعادة الفرنسيين إلى فرنسا والإنجليز إلى جزيرتهم، وتقريبا «ملكت» أمريكا أهم مصادر البترول في كل العالم العربي.
ولكن هذا وحده لم يكن يكفي.
فإذا كان المنافسون الأوروبيون قد ذهبوا، فالمنطقة قد تطورت بسرعة وتهدد بتطور أسرع، وكان نجاح ثورة 23 يوليو واكتساب حق تأميم الممتلكات الأجنبية لحساب شعوب المنطقة؛ كان هذا تهديدا أخطر بكثير من تهديد المنافسين السابقين.
وكان على أمريكا أن تؤكد وجودها وتؤمنه تأمينا مباشرا بإقامة دولة ترسانة تقوم بدور رجل البوليس المهاب.
وتأمينا غير مباشر بضرب مصدر الخطر الأكبر: مصر.
وأمريكا تعرف تماما أن مصر ليست ثلث العالم العربي، ولكنها الثلث الذي يملك من الإمكانيات المادية والبشرية والثقافية والحضارية ما يمكن أن يقود العرب ليس فقط لتأميم بترولهم ولكن حتى ليحتكروا هم إنتاجه ويحتكروا نقله وتوزيعه؛ ويعود إلى الشرق العربي ذلك المركز الخطير الذي كان يشغله في عالم الأمس؛ دولة حضارية كبرى تتحكم حتى في الحضارة الأوروبية بشقيها، بل وفي أمريكا نفسها.
ثم بدأ الضرب الساخن
وحين يكتب تاريخ ثورة 23 يوليو الحقيقي، والمحاولات المذهلة التي بذلت ضدها، سيدركون إلى أي مدى لعبت هذه الثورة دورا أصيلا وبطوليا.
ولما فشلت هذه المحاولات، أصبحت إسرائيل فتى أمريكا المدلل، وانهالت عليها المساعدات والخبرات.
إذ كانت الخطة هي سحق الثورة المصرية والجيش المصري سحقا لا تقوم بعده لمصر الثورة أو مصر القائدة قائمة.
ومن ناحية أخرى بدأت خطة موازية لعزل مصر عن العالم العربي وإغراق عبد الناصر في خلافات عربية تحول بينه وبين أن يتفرغ لبناء مصر الجيش والصناعة والتفوق، ونجحت الخطتان نجاحا باهرا.
تقطعت تقريبا كل علاقات مصر العربية.
وجاءت حرب 67 التي انتهت في أقل من يوم، فقد كانت في حقيقتها حربا لاغتيال عبد الناصر شخصيا، وقد كان. وعبد الناصر لم يمت عام 1970؛ لقد مات لحظة ما عرف أن كل طيرانه ضاع وجيشه تفكك. وجيش مصر يعني رأي مصر، فلا رأي لبلد لا جيش له. وقد كان مطلوبا من الحرب ليس فقط أن تقتل عبد الناصر كمدا، وإنما أن تعريه من البطولة الأسطورية التي تكونت لديه عند الشعب العربي قاطبة وحتى عند غيره من الشعوب.
ولكن الحسابات والخطط ولعبة الأمم والكمبيوتر نسيت شيئا واحدا؛ أن عبد الناصر ورفاقه قاموا بتنفيذ ثورة 23 يوليو، ولكن الثورة كانت ثورة الشعب، وأن عبد الناصر لم يكن يحارب لأنه طاغية، ولكنه كان يحارب لأنه زعيم مصري في قلبه كل ما في قلب أي مصر، والشعوب لا تستسلم.
وقامت الشعوب كلها في مصر وفي كل مكان ترفض ما حدث، وتثبت الثورة. ولقد ظن الاستعمار أن المشكلة انحلت بوفاة عبد الناصر، وأن مصر هدأت وانهدمت وأمامها عشرات السنين لترفع القامة وتعتدل.
وجاء السادات
ونفس القصة تكررت مع الرئيس أنور السادات:
ونفس المفاجأة حدثت حين رأوا أن هذا الرجل الذي يبدو بسيطا لا يملؤه الاعتداد الزائد بالنفس أو الغرور ولا يحلم بإمبراطوريات، رأوه هكذا فجأة يأمر الجيش المصري بعبور القناة واستعادة سيناء، وفي ساعات بشعبه والجيش ينجح ويصنع ما لم يصنعه حاكم مصري، يهاجم ويسحق ويطرد الأعداء كما فعل أحمس وتحتمس.
لقد نسوا أن عبد الناصر فعل ما فعل لأنه كان تلميذا للحركة الوطنية المصرية وابنا لهذا الشعب، ونسوا أيضا أن السادات حين جاء وضرب مركز القوة الإسرائيلية لم يكن أيضا مجرد قائد، كان تلميذا لمصر الوطنية وابنا بارا شديد الإحساس بشعبه شديد الثقة في قدراته.
وهكذا كان لا بد أن يوقف عند حد؛ وجندت أمريكا كل قواها العسكرية والتكنولوجية والبشرية لتنقذ إسرائيل.
ووجدت أمريكا أنها لا بد أن تغير سياستها في الشرق الأوسط.
وتحركت قوى كثيرة في المنطقة تحاول أن تعطي هذا التحول أكثر من حجمه، وتحركت قوى كثيرة محاولة عزل مصر عن المنطقة حتى لا تعود أبدا إلى سابق حضورها وقيادتها.
يأكل شعب؟ معقول، يرتدي ثيابا غير بالية؟ معقول ، أما أن ينتج فكرا ويشع وعيا ويقود الحضارة العربية المترامية الأطراف، فهذا هو بالضبط غير المسموح به.
فلتزدهر الأفكار الجديدة التقدمية في بيروت، أما أن يعود إلى مصر فكرها المتقدم الذي خلقت به نفوذها الحضاري والسياسي، فهذا مستحيل.
حتى الصحافة المصرية ... لتبق في حالة مونولوج داخلي محدود بحدود مصر ولا يتعداها، وليبق حجمها دائما أقل من حجم صحف بيروت. ففي بيروت تستطيع أي دولة أن تصدر صحيفة تنطق بأفكارها هي، أما في مصر فقد فشلت كل التجارب لخلق صحافة غير ناطقة باسم شعبها ومثقفيه، ولتكل لمصر الاتهامات الاستسلامية لتنهار مكانتها القيادية، ليشتت كل مثقفيها وأذكيائها في أركان المعمورة؛ فثروة مصر الحقيقية كانت في خبراتها وذكائها؛ ولهذا لا بد أن تستنزف طاقتها الخلاقة حتى لا تعود قادرة على الخلق أو الطموح. وأمامنا الواقع واضحا لا لبس فيه! في كل أسبوع يصدر في بيروت بالذات كتاب هائل الأهمية، مترجما كان أو مؤلفا، أروني كتابا مصريا هاما صدر خلال العام الماضي بأكمله.
لتقتل الثقافة المصرية قتلا وئيدا بطيئا، وليخنق الكتاب المعروفون فيها خنقا بحبال من حرير، لتستمر صحافتنا في انكماشها، ولتستمر الأزمات المعيشية قائمة؛ فالمطلوب أن تظل مصر محنية الظهر أمام عالم عربي وإن كان قد ظل يكن لها الاحترام الكبير، إلا أنه في النهاية سينفض يده منها ومن الأمل فيها، وكأننا قد أصبحنا رجل العالم العربي المريض، بل لتشدد النعرات الإقليمية لدى كل قطر، وليصبح لكل قطر قاهرته الأعظم، الأعظم بكثير مما آلت إليه قاهرتنا.
إن الرجل لا يموت إلا حين يضعف قلبه ويعجز عن جعل جسده ذلك الكائن الحي الواحد المتحد.
ولقد جربوا ضرب القلب - مصر من الخارج.
فكان الجسد العربي يزداد التصاقا به وفناء.
الخطة الجهنمية هي أن يجعل الجسم نفسه يتمرد على القلب، الجسم الذي كبر واغتنى وامتلأ بالمثقفين والدارسين، كيف يمكن أن تكون ثقافته هي ثقافة القاهرة.
وإذا هبط القلب، ذلك القلب المتجانس الكبير، فالإجهاز على الأطراف يصبح مسألة مفروغا منها.
خناقة النشالين
إنني أعتقد أن الاحتكارات الأجنبية كانت تغذي الصراع العربي-الإسرائيلي باستمرار حتى لا يكف لحظة، وحتى يتيح لها نشل ذلك الكنز الأعظم، بينما الرأي العام العربي كله مشغول بقضية إسرائيل. إنه نفس تكتيك النشالين حين يفتعلون خناقة مع راكب الأتوبيس ليسرقوا حافظة نقوده.
ولو استطعنا نحن كعرب، ليس فقط أن نحارب إسرائيل، وإنما أيضا نفشل مؤامرات التفريق بيننا ونتعلم، وبما نملكه من علم وثورة وثروة ستنتهي القضية العربية- الإسرائيلية؛ فهي كاللص الذي يعيث في البيت فسادا لأن الخناقة بين أفراده قائمة على قدم وساق. وحين نكف عن الزعيق والسباب ومحاولات قلب بعضنا البعض، ونتجه فقط بوجوهنا إلى ذلك اللص، فإنه لن يستطيع البقاء بيننا لحظة، إما أن يقفز من النافذة في الحال أو يموت رعبا.
ولكن كيف تنتهي الخلافات؟
إن النوايا الحسنة لا تنهيها، ولا مجرد الإحساس بقوميتنا وعروبتنا ينهيها؛ فهناك مولد نشيط لها لا يتوقف. إننا نظن أن بعض الخلافات بين الحكام العرب تأتي اعتباطا، ولكن هذا التصور ساذج للغاية، فلا شيء في هذا الشرق العربي كله يحدث اعتباطا أبدا؛ كلها خطط مدروسة وموضوع لها البدائل، ولكن المسألة الآن مركزة في مصر.
إنهم يريدون القضاء على مصر الملهمة والحضارة والقائدة. إن الرأي العام العربي تقوده عواصم أخرى بعد أن أسكتنا نحن خلال زمن طويل مفكرينا، وجعلنا من صحفنا مونولوجات محفوظة لا تثير عند القارئ المصري أو العربي أي ضرورة أو إحساس بالتفكير.
حتى السياسة المصرية لا نشرحها لأنفسنا ولا للعالم، وكأننا نعتبر أنها يكفي أن تكون سياستنا ليتبناها الناس دون نقاش.
الانفتاح الاقتصادي يفسر على أنه عملية تصفية للثورة.
اهتمام مصر بحل مشاكلها الداخلية يفسر على أنه تمهيد لحل مصري-إسرائيلي منفرد.
وأعود إلى هؤلاء الذين يريدوننا أن ننغلق على أنفسنا ويكفينا عروبة، فإن هذه دعوة ضد مصر أولا! إنها مثل العالم الذي يقضي عشرين عاما ليكتشف الدواء، ثم في لحظة اكتشافه يكفر بالدواء والعلم معا.
إن هذا الدور البطولي الذي لعبته مصر وأخرجت به الاستعمار الإنجليزي والفرنسي، ودخلت حربا دفاعا عن سوريا ضد حشود مزعومة على حدودها، هؤلاء الشهداء الذين ماتوا، هذا العدد المخيف من المصريين الذين يعلمون العرب ويعالجونهم ويخططون لهم وينشئون دولهم التي لم تنشأ بعد؛ هذا كله استثمار بشري مادي ومعنوي، هذا كله الضريبة التي يدفعها الأب في أعظم سني شبابه، الضريبة التي دفعتها مصر طوال ربع قرن أو تزيد، وحين آن أوان عائدها حين يكبر أبناؤه ويبدءون يردون له ما فعل ينفض يده منهم قائلا: لستم مني ولست منكم. إنه عبث وهراء ودعوة تقتلنا قتلا؛ فمصر بنفسها في حاجة الآن للعرب مثلما كان العرب في وقت ما في حاجة إليها، في حاجة لرءوس الأموال، في حاجة إلى توظيف أبنائها واستغلال ذكائهم، في حاجة إلى سوق لبضائعها، في حاجة أن تجعل من حلم ثورة 23 و15 مايو حقيقة.
ورقة أكتوبر
إن ورقة أكتوبر مكتوبة لنا نحن المصريين، وأنا معها على طول الخط. فهي أحلامي في مصر العظمى، وأن سياسة الرئيس السادات العربية تلقى استحسانا كبيرا من معظم الحكومات العربية؛ فقد كبرت الحكومات العربية، بل ينبغي أن يكون انفتاحا على العالم العربي أجمع ولا نقاطع أي دولة عربية، فما من كاتب أو مسئول تناقشت معه إلا وكان مقتنعا أن الاستعمار يريد أن يعيد اللعبة القديمة في إقامة المحاور العربية.
إن اللعب في المنطقة قائم على قدم وساق، والهدف إحالة مصر إلى دولة عربية من الدرجة الثانية، بينما مصر لا تزال هي مصر، هي كعبة الأمة. وليس ضروريا في هذه المرحلة بالذات أن يكون الانسجام السياسي على أشده، فليكن لكل حاكم أو حكومة رأيه أو موقفه، وإنما الذي لا يجب أن يحدث أبدا هو أن تبدأ السياسة بقطع العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية مثلما كان خطؤنا الأكبر أيام فكرة القومية العربية؛ لنضع سياسة اقتصادية ثابتة، لنعط فيها ونأخذ.
إننا كما نريد أن ننفتح على العالم أجمع، على أمريكا وعلى روسيا وعلى أفريقيا حتى، مهما اختلفت نظم الحكم في تلك البلاد ومهما كان رأينا فيها، من باب أولى أن ننفتح على إخوتنا وأشقائنا وكلهم وبلا استثناء. إنها بلاد تغيرت ونشطت ودبت الدماء في عروقها، ولكنها دائما وأبدا تنظر لنا باحترام، ودائما وأبدا تعتقد أن القضاء على مصر هو قضاء مؤجل عليها، وتريدنا أن نقف على أرجلنا ليس فقط لأننا قلبها وروحها، ولكن حتى لمصلحتها الذاتية، ودفاعا عن نفسها هي.
عشرون عاما ونحن نكافح عربيا، حتى ولو بطريقة خاطئة أحيانا. أعتقد أنه آن الأوان لنجني ثمار هذا الكفاح، ولتفشل المؤامرة التي تعد ومنذ الآن لإحلال الصراع العربي-العربي، مكان الصراع العربي-الإسرائيلي، وهذه في رأيي خطة أذكى وأكثر تطورا.
والخلافات «الأيديولوجية» هي رأس الرمح في إبقاء هذه الشعوب بعيدا عن التفكير في أنها تملك هذا الكنز فعلا، بينما شعوبها لا تزال من أفقر شعوب الأرض.
أهي صدفة؟
إننا في حاجة إلى ورقة أكتوبر أخرى نخاطب بها الرأي العام العربي ولا ندافع عن أنفسنا أو سياستنا، وإنما نشرح وجهة نظرنا، تلك التي لا يزال البعض لا يفهمها تماما.
وإذا كانت ورقة أكتوبر قد جاءت لتعيد للطموح المصري بعض ما فقده، فنحن في حاجة أمس إلى خطوات أخرى إيجابية، في حاجة إلى وجوه ثورية حقيقية تخاطب ثوار المنطقة الذين أصبحوا هم القوة الفعالة، في حاجة لنعيد للفكر المصري وللكاتب المصري وللصحيفة المصرية دورها الذي يتعاونون على خنقه. لسنا فقط في حاجة لانفتاح اقتصادي تحضر إلينا فيه الرساميل، ولكننا في حاجة لانفتاح معاكس نصدر فيه ثروتنا الحقيقية، مصر العلم والحضارة والقيادة والأفكار. ولا يمكن أن ننحصر هنا فقط في حل مشاكلنا العاجلة؛ فهي حتما لن نستطيع أن نحلها بالانغلاق عليها؛ إن حلها الأوحد هو بالانفتاح على عالم عربي لم يفت بعد الأوان لدورنا فيه، كل العالم العربي وكل الدول العربية وليس بعضها المنتقى فقط. ولو فات دورنا وتمت الخطة الجهنمية فسنكون نحن وليس المشرق أو المغرب أول الضحايا.
ومرة أخرى أعود وأقول إني كتبت هذا عام 1974.
عن عمد اسمع فتسمع
ذاهب أنا لزيارة مكتبة مدبولي في ميدان طلعت حرب، ولكني قبل الباب بقليل توقفت؛ إذ كنت لحظتها أحدق ناحية التمثال ... بالضبط أحدق في وجهه، فركت عيني بضع مرات وعدت أنظر، فعلا كانت شفتا التمثال لا أقول تتحرك، ولكنها بالتأكيد تتململ كالسجين الذي فرضوا عليه الصمت عشرين عاما أو أكثر، تناضل وتتزامم وتكاد بعض ومضة تتفتح على آخرها وتطلق صيحة استغاثة تصم آذان الكون وتوقف الحركة الدائبة حولها في الميدان، وتخرس الأرجل المنطلقة في تباطؤ سريع أو سرعة طائشة إلى حيث - حتى صاحبها - لا يعلم أحد. صرخة تأكدت أنها لو حدثت وانفلتت لأجبرت قاهرة سعد الدين مأمون ذات الملايين الثمانية أن تفعلها مرة وتخرس وتصمت وتسمع.
هب أنه خيال كاتب أو مزيج من واقع أشد غرابة من خيال أي كاتب، هب أنها أمنية، هب أنها معجزة لا بد إذا ظل الحال على هذا المنوال أن تحدث، أو ربما يحدث ما هو أشد منها هولا وإرعابا.
أحسست بالشفقة تجمدني في مكاني، نسيت اسم الكتاب الذي كنت ذاهبا لشرائه، حتى نسيت إلى أي مكان كنت ذاهبا، واستغرقني التمثال بقامته القصيرة وجسده الذي بدا في نظري يرتعش تململا وغضبا، الجسد الممتلئ الواهن رغم امتلائه. - مالك يا باشا؟ ما بك؟
التمثال موضوع بحيث لا يمكنك أن تراه وجها لوجه إلا إذا وقفت في منتصف الجزء الأول من شارع قصر النيل ومرت فوقك على الأقل مائة وخمسون عربة ملاكي وأجرة ونصف نقل، لا بد إذا أردت أن تراه بزاوية وأن يراك بنصف وجه.
ارتفع الحاجب النحاسي الصدئ حتى تجعد الجزء المقابل لي من الجبهة، ارتفع دهشة إذ لا بد أن ما حدث كان شيئا في رأيه خارقا للعادة. له في هذا المكان خمسة عشر عاما أو تزيد، الملايين جاءت الميدان واخترقته ودارت حوله، الملايين تلكأت أمام جروبي وأمام البوتيك وأمام بائع الجرائد، الملايين هرأت الأرصفة الأربعة الدائرة وربما لم يعن لواحد منها أن يرفع رأسه ليرى طلعت حرب أو يتمعن في ملامحه، أما أن يسأله ما به، فلا بد في رأي الباشا النحاسي أن شيئا حدث للكون وخرق ناموسه، وكأن واحدا من ملايين التماثيل النحاسية والبرونزية والخشبية والجميزية، تماثيل أبلاكاشية وكرتونية وعرائس مولد وعرائس ماريونيت وعرائس القشطة وعرائس كالسيد قشطة، لا بد أن اهتز ناموس الكون وخرق قانونه واحد من هذه التماثيل المارة ودبت فيه الروح وفتح عينيه ورأى، رأى الباشا التمثال وعرفه، وأدرك أنه مأزوم إلى درجة تقارب الانفجار.
بلا شك كانت دهشة التمثال لسؤالي إياه عن حاله أكبر بكثير من دهشتي أنا حين سألته، فنطقت ملامحه وارتفع من الدهشة حاجبه؛ دهشة شديدة دفعت به ليس فقط أن تتجعد جبهته، وإنما أن يستدير بوجهه ليواجهني، أجل يستدير بوجهه ويواجهني. حركة رآها مئات الناس الذين يحفل بهم الميدان معي، ولكني أكاد أقسم أن أحدا منهم لم يرها شيئا غريبا ولم يجد فيها ما يبعث على الدهشة؛ ومعذور ألف مرة؛ يندهش على إيه وللا إيه وللا إيه؟ المستشار الذي يقطن في المنزل المجاور لبيتنا رأى العفاريت، وبهدوء أعصاب تام استدعى البوليس، وأيضا لم يندهش ضابط البوليس وبكل روتينية كتب بيد غير مرتعشة في المحضر: وحيث إننا شاهدنا بأنفسنا الأرواح الشريرة وهي تفتح الأبواب عنوة، وترفع الأطباق في الهواء وتقذفها إلى الأرض حيث تنكسر وتتناثر شظاياها، فقد رأينا أن نرسل في طلب شيخ من مشايخ الجن المدرب على ترويضها. وجاء من مصر القديمة وأنهى المهمة، وهجعت حركة الجن في الشقة تماما، وقيد الحادث ضد كائنات مجهولة، حيث إن الشيخ لم يستطع أن يتعرف على أحد من الجن باعتبارهم ليسوا من ذوي السوابق، وقفل المحضر ... إلخ ... إلخ. يندهش على إيه واللا إيه واللا إيه؟ البنت المفعوصة التي كانوا يسمونها نعسة الحولة جاءت بالأمس تزور الحتة في «حتة» مرسيدس تمساح لونها أحمر، وأصبح اسمها دوسة، وشعرها ذهبيا، وتدير أمكنة بلغت من تعدادها أن اتخذت لها في أحدها مكتبا بسكرتيرة وتايبريتر. أماكن يرتادها أناس من غير حاجة إلى جن يرفعون بالنقود كاساتهم وتطير رءوسهم نفسها في الهواء، بموافقة ضابط آداب دون محاضر إلا محاضر لا يوقع عليها متهم، محاضر أنس يقبض فيها بدل إغلاق العين إياها ! يندهش من ماذا؟ وكم الدهشة أصبح أكبر بكثير من كم اللادهشة مثلما أصبحت القذارة أكبر بكثير من طاقاتنا وطاقة البلدية والمحافظة وربما جيوش الحلفاء في الحرب العالمية على النظافة. يندهش على إيه واللا إيه وفي كل بلاد الدنيا يخترعون التليفون والعربة والقطار والأتوبيس لتكون وسائل اتصال أسرع، ونحن أبدا لا نندهش حين تتحول عندنا فقط إلى وسائل انفصال دقيق، وكأنها اخترعت لتعزلنا أو لتعطلنا أو لتضيع وقتنا وأرواحنا.
المهم أبدا لم يندهش أحد، وطلعت حرب - التمثال - يستدير برأسه الهائل ويواجهني، وقد كسيت ملامحه بمزيج غريب من الدهشة ولا أقول الرعب والحيرة والغيظ، ثم أخيرا شيء وكأنه عودة الروح التائهة في صحراء بشرية يصرخ وينادي لخمسة عشر عاما بلا أمل في جواب، وأخيرا ها هو ذا يتلقى الأمل في رد، أمل حقيقي، بدليل أن شفتيه راحتا تتحركان بكلام، ضاع طبعا وسط الضجيج الهائل الذي تصنعه صفافير وزعقات وميكروفونات أربعين ضابط مرور وعسكريا وأمين شرطة واقفين لينظموا المرور، في أضبط مكان «بحكم جغرافيته» لانسياب المرور. تحركت شفتاه، أصخت بسمعي، وضعت يدي مفرودة خلف أذني لتلتقط ما يريد قوله، اشرأبت أطراف أصابعي، سددت الأذن الأخرى بلا فائدة، وكان علي أن أعدي الميدان وأندفع إلى حيث قاعدة التمثال. محاورة سريعة كالطلقات دارت بيني وبين أمين الشرطة: - ممنوع يا افندم! امش على الرصيف. - بس أنا رايح لطلعت باشا. - من ع الرصيف أرجوك. - بس هو في الميدان. - شاور له واتقابلوا بره بعيد عن الميدان من فضلك. إذا عديت غرامة خمسين قرش. - بقول لك عايز طلعت باشا ده (وأشرت للتمثال). - يا افندم مافيش وقت، عايز طلعت باشا، سليمان باشا. أي باشا أي بيه أي حد ع الرصيف من فضلك وإلا الغرامة. - اتفضل.
ودفعت الغرامة، وانشغل هو في تحرير إيصال لم أحفل به. ورأسا اتجهت لصرة الميدان، وعلى رصيف الصرة وقفت، وبأشد الزعيق من ناحيته (فقد كان صوته الطبيعي منخفضا وكان قليل الكلام)، وبأقصى ما أستطيع من رفع صوتي دون أن ألفت أنظار ضابط المرور الجالس فوق موتوسيكله ذي الصوت المزعج، تكلمنا . - مالكم يا بني؟ - مالنا؟ أقول لك إيه واللا إيه واللا إيه يا جدنا الباشا؟ زي مانت شايف. - أنا مش شايف حاجة أبدا من كتر الزحمة. - ولا احنا وحياتك. - ومين اللي قال لكم حطوني هنا. - شلنا سليمان باشا الفرنساوي وحطيناك. - كيف تشيلون بطل مثله كان أول من نقل الجيش المصري من القرون الوسطى إلى العصر الحديث، وتحطوني أنا؛ أنا الذي لم أصنع شيئا؟ - أبدا يا باشا. هذا تواضع! أنت الذي خلقت الصناعة المصرية الوطنية، أنت سعد زغلول الحقيقي؛ فاستقلالنا ظل نظريا إلى أن أنشأت أنت بنك مصر وشركاته، أول انتفاضة للاقتصاد المصري التي صنعت منا فعلا دولة، ولولاها الآن لكنا مجرد جزر مايوركا. أنت الذي ... - لا أنا ولا أنت يا بني. دعنا من دوري؛ فأنا محكوم علي بالسجن داخل هذا الميدان ووجهي إلى حائط الهيلتون الذي بنوه، لا أحد يسأل عني أو يستفيد بي أو يرجع إلي أو إلى آرائي. قلقي على أولادي زاد؛ أكاد أبكي. - اطمئن يا باشا؛ أولادك جميعا على خير ما يرام، أقل ما فيهم رئيس مجلس إدارة بنك أو وزير أو حتى مليونير لحسابه الخاص! - هؤلاء تلاميذي، ولكني أتكلم عن أولادي. - ما أعرفه يا باشا أنك لم يكن لك ذرية. - أتكلم عن بنك مصر وشركاته! لماذا لم تعودوا تفهمون بسرعة؟ - لأن الخبز الذي نأكله يا باشا فيه مكونات العلف أضعاف أضعاف ما فيه مكونات العيش! - معلش مجرد أزمة ستمر. رأينا ما هو أبشع منها في الثلاثينيات. سأسألك الآن عن أولادي واحدا واحدا، كيف حال البنك؟ - البنك عال والحمد لله؛ الودائع كثيرة، والموظفون بالآلاف، والأفرع في كل مركز، والأشيا معدن. - طيب كانت هناك ابنة لي أعزها كثيرا، ومت وهي صغيرة، إنما كانت ناجحة تماما، وكانت تنتج في العام أكثر من ثلاثين فيلما. ماذا حدث لها؟ - تقصد شركة مصر للتمثيل والسينما؟ رحمها الله. - ماتت؟! - ليتها ماتت، إنما هي بالحياة ماتت. سينما استوديو مصر أعتقد أنها مغلقة للتحسينات من أكثر عشر سنوات، وللآن لا تمت تحسينات ولا فتحت أبوابها للجمهور مع أنها تحتل قلب القاهرة! استوديو مصر الذي ينتج ثلاثين فيلما وعدد موظفيه لا يتجاوز الثلاثين، أصبح فيه الآن ألف موظف وعامل ولا ينتج فيلما واحدا! وأخيرا أجروه لشركة تليفزيون!
كادت الدموع تنساب من عينيه، لمحت فعلا وجنتيه تلمعان بدمع اختلط بصدأ النحاس الأزرق. وفجأة سأل: وشركة مصر للطيران؟ - اعلم يا باشا لقد كنت فعلا إنسانا عظيما تقدمي الفكر، لم تكتف بالدعوة لتمصير الاقتصاد المصري في وقت كان الخواجات فيه كالقوتين العظميين في العالم الآن؛ فتوات الاقتصاد ممكن أن يفترسوا أي منافس ويمسحوه من على وجه الأرض. نزلت بنظريتك الاقتصادية الوطنية إلى أرض الواقع الرهيب، ومن قروش المصريين الفقراء أنشأت بنكا، ولم تكتف بأن يقوم البنك بتمويل شركات مضمونة الربح كما فعلت بإنشاء شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، بل أيضا قفزت بأجور عمالها، وأول من أنشأت للعمال في مصر مساكن، فقد كانت نظريتك أن الأجر العالي والحياة المضمونة هي الدافع الحقيقي لزيادة أي إنتاج. لم تكتف بإنشاء شركات مضمونة في الربح، بل ومضمونة السوق بتصنيع أعظم خامة قطنية في العالم وطرحها غزلا أو نسيجا بحيث لا يستطيع أي إنسان في العالم منافستها، ولكنك أنشأت ورعيت ومولت شركات كانت تعتبر في رأي كثير من اقتصاديي ذلك الزمان - بل وربما هذا الزمان - أنواعا من التخريف والسفه. أنشأت - والطيران يكاد يكون معروفا وربما حتى غير معترف به كوسيلة للسفر والانتقال - أنشأت أول شركة طيران في أفريقيا كلها، والمضحك أنها في ذلك الزمن البعيد كانت لا تغطي مصروفاتها فقط، ولكنها كانت تربح ربحا كبيرا. بل أكثر من هذا «جنونا» أقصد رؤيا عميقة ضاربة في ضباب المستقبل تدرك كنهه، أنشأت شركة مصر للتمثيل والسينما في الثلاثينيات، أي لم تكن قد مضت ثلاثة أعوام فقط على اختراع السينما الناطقة.
وكأنها مصر الآن تنشئ مصنعا لصناعة العقول الإلكترونية أو ما هو أحدث، إنشاء واستنباط وتشغيل أشعة الليزر. ولو عشت لمصر يا باشا لكانت لدينا من المحتم مصانع لإنتاج الطاقة النووية وليس مجرد استيراد مصانع لإنتاجها.
بل إنك أيها الاقتصادي الخارق الذكاء قد أدركت في هذا الزمن السحيق أن لا اقتصاد حديثا بغير صناعة حديثة، ولا صناعة حديثة بغير إنسان حديث؛ إنسان حديث بمعنى أنه ليس مثقفا تلك الثقافة العامة العالمية، ولكنه مثقف الوجدان ثقافة وطنية فنية نابعة من صميم أحاسيسه الأصيلة وقيمه وإنسانياته. وهكذا كنت أول اقتصادي ينشئ جنبا إلى جنب مصنع القطن ومصنع الغزل ومصنع الفن «السينما»، ومسرحا هو مسرح الأزبكية اليتيم الذي كان شرطك لإنشائه أن يقدم فقط الإنتاج المسرحي الوطني المصري الرفيع.
أما المضحك حقا يا باشا، المضحك إلى حد البكاء أننا وبعد أن سرنا على منوالك في ثورتي 23 يوليو و15 مايو ومصرنا البنوك والشركات وأممنا الصناعة وبدأت تصبح لدينا بعض الصناعات المتقدمة التي نستهلك نحن معظمها ونصدر بعضها، وحتى جئنا بالانفتاح وسياسته مقصودا به أن يكون دعما للصناعة الوطنية بحيث ننفتح لنستورد من كافة أقطار الأرض أدوات إنتاج وعقليات حديثة تدير إنتاجنا الوطني الحديث. فهم قطاعنا الزاخر الخاص أنه انفتاح لأجل أن يغتني بعض الناس، ومن أجل أن نغرق أسواقنا بالبضائع الاستهلاكية الأجنبية حتى لو كانت أقل جودة من بضاعتنا المحلية. جئنا بالمنسوجات - تصور يا باشا - لتنافس «اللينوه» وال «جيل»، جئنا بالموكيت ومن أغلى مصادره لينافس مصانع السجاد الرائعة في دمنهور، قتلنا ذلك الذي بدأ على يديك جنينا سرعان - وبقوة صاروخية - ما نما وجاءت الحرب العالمية الثانية ليشب عن الطوق، وجاءت 23 يوليو ليصبح قاب قوسين أو أدنى من النضج، وفتحنا النوافذ له بثورة 15 مايو كي يتنفس ويطل على العالم، فإذا ببعضنا يستورد الغازات الخانقة والسائلة والسفن أب لتحيله إلى جثة.
المضحك؛ المضحك إلى حد البكاء يا باشا، أن الشركة التي أسستها وسميتها «شركة بيع المصنوعات المصرية» لتتخصص في عرض وتسويق منتجاتنا المصرية في مصر أولا ثم في بلادنا العربية والأفريقية ثم في العالم؛ هذه الشركة هي الآن شركة لبيع المصنوعات المستوردة، كل ما فيها مستورد، تنافس تجار الشواربي وأصحاب البوتيكات في استيراد ورق الحائط الإنجليزي والسجاد البلجيكي والمصنوعات الفرنسية والإيطالية واليابانية؛ أصبت باختناق وأنا أرى فترينتها وفترينة عمر أفندي وصيدناوي! حتى أيام الخواجات كانوا يفضلون أولا عرض البضاعة المصرية لأن المصريين أيامها كانوا فخورين بصناعتهم الوليدة وبمصريتهم الوليدة. أما الطبقة النجسة التي في يدها النقود الآن، فهي بقدر ما تجعجع بذكر «نحن مصريون» ومصر أولا وأخيرا إذا ذكرت الثقافة أو المعرفة أو تشغيل العقل، تصاب بالأرتيكاريا إذا اضطرت لشراء مصري أو لاستعماله. تصور يا باشا أنا أشعل سيجارتي المستوردة بعود كبريت مستورد، بينما صناعة الكبريت في مصر منشأة منذ عام 1830، وبينما لدى شركة النيل كبريت قيمته مليون جنيه احترق في مخازن الشركة لأننا نعطي بإجرام شديد تصاريح لاستيراد كبريت أجنبي ثمنه خمسة أو سبعة أضعاف الكبريت المصري.
وأنا أفهم أن يصيب النزق بعض الأفراد أو التجار، أما أن يصيب النزق العمود الفقري لصناعتنا وتجارتنا الوطنية، أما أن تتحول شركة بيع المصنوعات المصرية إلى بوتيك للبضائع الأجنبية، فهنا لا يصبح النزق نزقا وإنما يصبح خيانة. لقد كافحت مصر مئات السنين لكي تستعيد استقلالها السياسي؛ ولهذا فهي تحكم بالإعدام على أي إنسان يحاول إخضاعها أو سرقة هذا الاستقلال. ولقد كافحت مصر بك يا باشا ومن قبلك ومن بعدك، وكافحت طويلا من أجل أن تكون لنا صناعتنا وتجارتنا، فإذا انتهينا إلى أننا أصبحنا نستورد اللبن الزبادي! تصور يا باشا!
لا يمكن أن تكون الإصابة في عقولنا قد وصلت إلى حد ارتكاب الجريمة مع سبق الإصرار والترصد، ولا يمكن أن تكون القوة الوطنية الاقتصادية المسيطرة قد وصلت إلى هذا الحد من المداراة على الجريمة لتكريس ما يفعله المجرمون، بل - وهذا هو الأدهى - إخضاع القطاع الصناعي والتجاري العام للذين يعدون لقتل صناعتنا وتجارتنا وإنسانيتنا أخيرا بهدف ربح حقير مهما قيل عنه وقيل في تبريره. •••
دوت الصرخة أعلى من أي أصوات قنابل وانفجارات سمعتها، وصلت عنان السماء، أيها المصريون، يا أصحاب مصر، هل متم؟ ألا تعرفون هذا كله؟ لماذا أنتم ساكتون؟ يا من علمتكم وطنية الاقتصاد واقتصاد الوطنية، يا من مت أحلم بجيش يحمي إنساننا واقتصادنا واستقلالنا، أين ذهبتم ؟ أأضاعتكم المناصب والتوكيلات؟ أمات عندكم الضمير؟ يا مصر، أين ضميرك الاقتصادي؟ أين؟! استمع إليها واستمع، ولا أحد يلتفت، لا أحد هنا؛ لكأننا في الربع الخالي مع أننا في قلب العاصمة، وتماما بجوار الصارخ المتحدث. •••
ولا يزال طلعت حرب إلى هذه اللحظة يجأر ويصرخ، عيونه تقدح النار والكلمات من شفتيه كالرصاص تنهمر وتتدفق، ولكن المشكلة هل من يسمع؟ هل يتوقف أحد ليسمع؟ حاول أنت. مر في الميدان وقف، وتطلع إلى ملامح الرجل ووجهه، وكالرعد حتما سيأتيك صوته. المشكلة فقط أن - عن عمد - تذهب، وأن - عن عمد - تتوقف، وأن - عن عمد - تحاول أن تسمع وتفهم ما تسمع فستسمع.
المستقبل والعنبر
حين وقفت واسع العينين أحملق، لا في الشاب أو الفراش أو العنبر، وإنما في الكلمات المتدفقة من هذا الفم الذي فقد بعضا من أسنانه الأمامية، السمرة المختلطة بحب الشباب وحبات العرق والشحوب، الكلمات التي تروي كيف فقد قدمه. القدم لم تكن أمامي على الفراش، أمامي على ملاءة السرير كانت الساق سمراء جدا ورفيعة وتنتهي إلى لا شيء، وكان الجرح ملتئما تماما وكل شيء على ما يرام وكأن عصا ساحر خبيث مجنون مرت على القدم فاختفت ولم يعد لها أثر. ازدحمت خواطري بآلاف الأفكار وعشرات السنين والمعارك، أحسست أني ومن أعمق أعماق النفس بدأت أنفعل انفعالا حقيقيا صادقا لا يمليه واجب المشاركة، ولا سمعة 6 أكتوبر المجيد. أنفعل أمام عظمة الإنسان المصري، أكاد أخر ساجدا، ألثم نهاية الساق، أغسلها بدموعي؛ دموع تعسرت على عيني يوم مات أبي تملأ الآن جوانحي، تفور كالبركان في مآق تريد أن تنفجر، دموع حبستها طويلا وكثيرا، دموع كنت أختزنها لليوم الأعظم، ولم يكن اليوم الأعظم في نظري يوم معركة ننتصر فيها أو قنال نعبره، وإنما يوم ألتقي بالإنسان المصري الأعظم الذي يجعلني أحس - دون أن يدري ودون أن أدري - أني إلى جواره ضئيل وأنه أعظم من الأرض ومن التراب، وأني لأول مرة في حياتي أحس أني على استعداد أن أموت أنا من أجله هو ، بنفس البساطة التي تتدفق بها الكلمات من فمه أموت؛ فكلماته على عكس ما توقعت لم تكن تتحدث عن إصابته هو ولا قدمه، إنما كانت تتحدث عن قائد الكتيبة والدبابة؛ عن شجاعته وقدرته، عن اقتحاماته، عن كيف أصيب إصابة و«الحمد لله» بسيطة، وأخباره كويسة، وقريب الخروج.
كنت وجلا غير شديد الحماس قد ذهبت إلى القصر العيني. إن زيارات الجرحى وجهود السيدات والنجوم في هذا المجال قد أصبحت المادة الرئيسية لأخبار الناس، وأنا يزعجني الأشياء المقدسة حين تصبح مادة الحديث العام، وأوثر أن تبقى بعض المقدسات كالحرمات تعلن عن نفسها في صمت ونقف أمامها في خشوع، وكان أخوف ما أخافه أن أذهب فأجد البطولات قد تحولت إلى أحاديث، ولا أحظى بلحظة صدق.
القصر العيني، يا له من قصر! لي أعوام كثيرة كثيرة لم أدخله. القصر العيني الجديد قديما قد شاخ وعجز، وامتلأت حيطانه بالبثور والنتوءات والشقوق، هنا قضيت صدر الشباب طبيبا، أسرع عبر الممرات في البالطو الأبيض الهفهاف، وأملأ الدنيا بابتسامة مستقبل عريض كنت أعرف تماما أنه أكيد. مستقبل انتهى بعد عام وبعض عام حين لم يعد لي في الطب مستقبل. دخلت العنبر، كانت الدنيا مغرقة في المساء والضوء ليس قويا، وعلى الجانبين الأسرة، فوق كل سرير جريح، فوق كل سرير قصة كبرى، حتما فوق كل سرير قصة كبرى؛ فكل منهم كان له عالم، جاء من أم وله أب وربما زوجة وأولاد. قصة التحام كل منهم كأفراد جاءوا من جميع عوالمهم وبقاعهم مع الأم الكبرى مصر. كيف حدث الالتحام؟ كيف أحالوا اللقاء جحيما ينصب فوق رءوس الأعداء؟ كيف خرجوا؟ كيف نجوا؟ كيف هم الآن؟ ومن أين أبدأ؟ وقفت أبعد الستار وأقربه، أمسح الرجال بعيني وفي نفسي خشوع. إن للجماعة رهبة وخشوعا، فما بالك وهؤلاء ليسوا مجرد جماعة، ولكنها جماعة مقاتلين جرحى! إن للجروح هي الأخرى وللسيقان والأذرع والأطراف الموضوعة في الجبس والتي بترت أو تنتظر البتر رهبة. في خشوع وقفت محتارا بأيهم أبدأ أو ماذا أقول؟ ماذا تعني حمدا لله على السلامة حين تقال؟ وهل تقال الكلمة العادية كهذه في الموقف غير العادي كذاك؟ من أنا هنا ولماذا جئت وماذا أفعل أمام هؤلاء الذين أدين لهم أني حي سليم، وأن عائلتي في البيت مطمئنة سليمة لم تمس؟ ساعدني يا رب؛ فاللحظة حرجة، وأنا خجول أني لم أكن معهم، وأني غيرهم لم أدفع ضريبة دم ولا نلت في حياتي هذا الشرف.
في وجل رحت أخطو تجاه الجريح الأول، بالكاد خرجت من فمي كلمات تتعثر؛ لم أسمعها أنا أو يسمعها أحد. فجأة وجدت نفسي غارقا في فيض الحماس المصري؛ في حرارة رحب بي الشاب الراقد، أنساني القصر الجديد ومن أنا، وأذهب الخشوع والوجل. هذا الصدر المصري الحبيب ينفتح على مصراعيه لي ولأي غريب؛ فينسي الغريب غربته، ويجد نفسه في ثانية قد دخل الصدر وأصبح قريبا من القلب.
ومن القلب إلى القلب مضى الحديث يدور، وما هكذا أي شعب آخر؛ ولهذا ننفرد ونسمو نحن المصريين. وليس عيبا أبدا أننا نفتح الصدور على مصاريعها حين نلتقي؛ فهذا هو الشيء الجدير بالإنسان - إذا كان إنسانا حقا - أن يفعله.
الذي أذهلني أن أحدا منهم لم يبدأ الحديث بنفسه أو بإصابته، كان الحديث دائما يبدأ بالمعركة الكبرى كيف دارت وماذا حدث، ثم ما حققته الوحدة أو الكتيبة وما قامت به من دور، ثم، وبناء على سؤالي فقط، يدور الحديث عن كيف أصيب. حديث قصير جدا لا يأخذ أكثر من لحظة: «انضربت الدبابة بالصاروخ وأفقت فلم أجد أصابعي. في عودتنا طارت فوقنا الهليوكوبتر وسقطت قنبلة وقمت لأواصل السير ولكني سقطت. كانت ذراعي وساقي والقميص والبنطلون قد تمزقت واختلطت الدماء بالقماش وبالرمل. في عودتنا بعد نجاح المهمة أحسست بكتلة عريضة كأنها حائط رصاص ترتطم ببطني وكانت الإصابة، لولا ماشيست هذا (جندي من القوات الخاصة وقف بجوارنا - هكذا يسمونه) لكنت مت. وجدني في عودته راقدا، حاول أن يحملني، طلبت منه أن يذهب وحده؛ فغير معقول أن يحملني مسافة طولها أكثر من عشرة كيلومترات، ولكنه حملني بالقوة.» ماشيست يرد بالمرح المصري الأصيل : لو كنت أعرف أنك طويل اللسان هكذا لتركتك تلعق رمال سيناء بلسانك.
العنبر. وجدته، وكلما انتقلت من فراش إلى فراش يتسع ويتسع، ويطول ويطول، وسقفه يعلو ويعلو، وكأنما يريد أن يشمل مصر. وأي مصر!
مصر هؤلاء الفلاحين وأبناء الفلاحين والعمال وأبناء العمال، خريجي الصنايع وأصحاب المؤهلات، شباب المدينة، وشباب القرى، مصر التي طالما نظر لها العالم على أنها مسكينة ملأى بالمساكين والفقراء. نعم، بفضل التسلط الاستعماري ظللنا لأمد طويل مساكين وفقراء، وللآن لم نزل فقراء، ولكنا لم نعد مساكين. فالبطولة الحقة أن الذين قهروا عدونا الشرس، الذين دكوا الحصون وعبروا المياه وسحقوا الدبابات والطائرات ومحوا أسطورة إسرائيل؛ البطولة أنهم ليسوا عمالقة من بلاد مجهولة ولا كائنات خرافية هبطت من السماء، البطولة أنهم أبناؤنا؛ هؤلاء أبناء أرضنا ومدننا وقرانا. أناس من دم ولحم وشحوب لم ينحدروا من صلب بروسيين، ولم يكونوا كالإنجليز قراصنة بحار، ولا كان آباؤهم مقاتلين. البطولة الهائلة الحقة أنهم هكذ، بالتلقاء البسيط، بالبطولة حين تزاول كعمل يومي لا فخر فيه ولا ادعاء، بالمعجزات حين تتحقق على أيدي البسطاء، البطولة الحقة أن هؤلاء هم الذين سيروي عنهم التاريخ إلى أبد الآبدين.
حين انتهى الشاب سائق الدبابة من الحديث عن القائد وبطولته، سألته كيف حدثت الإصابة وأزالت قدمه: أبدا. أنا مقعدي في مقدمة الدبابة، أثناء معركة الدبابات جاء صاروخ أصاب المقدمة وأخذ قدمي، ولم تكن تلك المرة الأولى التي تصاب فيها الدبابة؛ أصيبت مرتين وأصلحناها، ولولا أنهم انتزعوني من مقعدي وأن الصاروخ أصاب بدال البنزين لأصلحتها بنفسي وواصلت القتال.
سعيدا كان يتكلم، سعيدا إلى درجة النشوة، كانت الحرب وذكراها تمثل له قمة النشوة، فأخيرا ها هو ذا يلاقي عدوا متجسدا أمامه لأول مرة وينشب فيه أظفاره ويعلو به الصدام إلى قمة النشوة.
أقسم إنها كما صنعت مصر الحاضر ستصنع مصر المستقبل.
وكما زلزلت وجود العدو الإسرائيلي وهدت قواه، ستصنع لنا البقاء والوجود.
حيرة الكاتب
ما كان أضناه من شعور! شعورك أن أبناء بلدك وقومك يقومون بالبطولات، يموتون، ينتصرون، يعبرون، يقاتلون الشيطان العدو، وأنت وفقط بأذنك تتابع أنباء ما يفعلون. قتال؟ أنت غير مقاتل وغير قادر على القتال. حضور للمعركة؟ والمعركة قد خططت ليحضرها ويعيشها المقاتلون فقط بلا شهود عيان أو حتى شهود عدسات تصوير.
ماذا تفعل وأنت تحارب باللاسلكي، وحتى ليس كمرسل، وإنما كمستقبل سالب لا حول لك ولا قوة؟ ماذا تفعل وأنت لم تشهد ولم تعش ولم تر أعظم لحظات شعبك، لحظات أبدا لن يكررها الزمن. فالجيش جيشك الرائع قد عبر القنال إلى الأبد، واجتاح إلى الأبد بارليف، ومنذ الآن وإلى آلاف السنين لن يكون هناك ذلك العبور الرائع الآخر، أو ذاك الاجتياح العظيم؟ ماذا تفعل إذا كنت مثلي قد قضيت صباك وطفولتك وشبابك تحلم بساعة الاشتباك المروع، ثم تجيء اللحظة ويدور الاشتباك وأنت غائب، ليتك غائب، ولكنك الغائب الحاضر، المقاتل العاجز أصواتا وأمواجا، الشهيد الحي الجريح مع كل مجروح بغير دماء، المنتصر مع المنتصرين بمجرد آهة إعجاب، ولوعة فرح. ماذا تفعل؟
تكتب؟!
وما قيمة، وما معنى، وماذا يمكن للكاتب لو جند له جبريل نفسه أن يفعل؟ في عنابر الجرحى، في الطرقات، حتى في المسرح القومي، كنت أصادف بعض من حملوا على أذرعهم أو أعينهم أو سيقانهم أوسمة 6 أكتوبر، وكانوا جميعا يقولون: لماذا لا تكتب؟ أنت بعد لم تكتب. نحن ننتظر أن تكتب. لقد عشت تكتب فلماذا والآن نحيا التاريخ المهول لا تكتب؟ وأجلس أمام أوراقي وفي يدي قلمي أريد أن أكتب، لا بد أن أكتب بالقلم، أقاتل مثلما قاتلوا بالمدفع، على الورق أعبر وأجتاح مثلما عبروا الماء والرمال. اندفعوا، أفعل مثلما فعلوا. غير معقول ألا أفعل مثلما فعلوا، غير معقول أن تكون الكلمة أقل وقعا من الطلقة، ولا الجمل أقل فاعلية من الغارة. العجز أحسه، العجز يشملني، عكس الإرادة العظمى التي بها انطلقوا يتسرب وهني كالعدو، يحيل الحمى التي تجتاحني إلى كلمات؛ مجرد كلمات مثل غيرها من الكلمات، والشعور الهائل بالرغبة في التضحية وبذل الذات إلى شطرات، كأغان لها شطرات تنشدها حناجر مطربين، وراء الميكروفون يغنون، وشعراء خلف المناضد المنبسطة يشعرون. أي موقف صعب يا إلهي! أيها الإله أعاني وكيف المخرج؟
إن للكلمة دورا، هذا صحيح. ولكن دورها يأتي عادة قبل المعارك، قبل «الفعل» فهي «فعل» ما قبل الفعل. إن دورها أن تجسد الأماني حقيقة، دورها أن تقرب المستحيل، دورها أن تحرض، أن تتغنى بالعمل المقبل، أن تجعله محط الآمال والرجاء. كانت التقاليد عندنا في جيوشنا القديمة أن يخاطب القائد جنده قبل المعركة، وقد ذهبت بعض هذه الخطب من فرط ما فيها من بلاغة وصدق، مذهب القطع الفنية النادرة والأمثال. للكلمة دور في إعداد الشعوب لمعارك المقاومة ونفض الغاصب. للكلمة دور في إذكاء روح المقاومة حتى بعد بدء المقاومة. ولكن ماذا يمكن أن يكون للكلمة من دور، والعمل العظيم كله قد تم ويتم؟ إن أي تمجيد للتضحية، بعد عمل التضحية، شيء لا بد يدعو للإضحاك، أي تمجيد لروح القتال والقتال قد نشب وانتهى. شيء يأتي بعد أوانه كالفاكهة بعد الأوان لا لون لها ولا طعم ولا اشتياق. وأيضا لا بد أن للكلمة دورا أثناء المعارك والقتال، أقصد لا بد للكاتب من دور. ولكن هذا الدور لا يمكن أن يؤدى بالسماع أو بالراوية. إن الإنسان الكاتب لا يمكن أن ينفعل إلا إذا أحس، وهو لا يحس إلا إذا عاش التجربة نفسها، لا يمكن أن يحس بالخطر المروي إحساسه بالخطر يحيط به هو، لا يمكن أن يشيد بلحظة فداء إلا وقد ذاقها نفسه. ولقد كان الملوك والولاة يصطحبون الشعراء إلى معاركهم، بأنفسهم يعيشون ويعايشون ويشهدون؛ ليتولوا بعد ذلك الإنشاء والإنشاد والرواية. أما أن أجلس إلى جوار بطل أو جريح يروي لي قصة دوره أو دور زملائه، فقد يبهرني الحديث هذا صحيح، وقد أتتبعه بشغف زائد، ولكني أفعل هذا بإحساس الشاهد أو ربما بإحساس القارئ الذي يلتهم القصة الرائعة ذلك الالتهام السلبي الممتع. ولنتصور أن يحاول بعض الكتاب كتابة قصص مستوحاة من قصص قرءوها أو سمعوها، لنتصور كم ستبدو مثل هذه القصة شاحبة شحوب الرواية الثانية المنقولة أو المقروءة أو المبنية على أساس مقروء!
إن التسجيل الحقيقي، أو بمعنى أدق التسجيل الدرامي الفني لأحداث 6 أكتوبر كان لا يمكن أن يأتي إلا لإنسان عاش المعركة، مقاتلا كان بالبندقية، أو مقاتلا كان بالقلم أو الكاميرا. وفي كل جيوش العالم وحتى أساطيله يوجد سلاح للتصوير السينمائي والتسجيلي. فأي معركة يخوضها هذا الجيش - أو حتى مناورة - هي جزء لا يتجزأ من تاريخ الجيش، وبالتالي الشعب وتراثه، وهي ملك لمن خاضوها وحضروها مثلما هي ملك لبقية الشعب الذي لم يحضر، بل ملك لأجياله القادمة ومستقبله الطويل.
وهكذا رحت أقرأ الأخبار المحمومة المتحمسة عن الزيارات للجبهة بغير نيران، وعن نوايا الكتاب العظيمة في تسجيل وكتابة بطولات 6 أكتوبر أو حتى إضافة فصول عنها إلى قصصهم وأقلامهم، وأنا مذهول حائر لهذه القدرة الهائلة على عمل أي شيء، وكأن الكتابة والفن مجرد كلام في كلام، وكأن الكتابة عن المعارك مسائل يمكن أن تحس وتستعمل كالمراهم من الظاهر. في الحرب العالمية الأولى وفي الحرب الثانية، في حروب المقاومة في إسبانيا وفيتنام، في أي حرب قامت أو تقوم، كان الكتاب هناك في المعركة في أعمق أعماقها وداخلها، بأنفسهم، بوجدانهم، بكل خلجة إحساس من أحاسيسهم، بكل أحاسيسهم، بكل ما يملكون من قدرة على الانفعال والشعور. موجودون ليس كمتفرجين حتى أو كمشاهدين، وإنما كمشاركين أساسيين في المعركة، سلاحهم الكلمة الطلقة، والانفعال المتفجر. موجودون قرونا للاستشعار المقدس يملكها الشعب وبها يحس وبها ينفعل وبها أيضا يكون هو نفسه كجماهير عريضة واسعة قد خاض المعركة وعاشها وتنفسها. ولم أدهش أبدا وأنا أقرأ في اتحادات الكتاب وتجمعاتها في موسكو ولندن وباريس قوائم بعشرات، بل أحيانا بمئات، من الشعراء والكتاب والصحفيين ومصوري السينما استشهدوا وهم يؤدون واجبهم الفني الأعظم ضمن كتائب جيوشهم وقواتهم.
إن الكلمة، إن الفن، لا يمكن أن يكون له دور «الكومبارس»، وخاصة حين يجيء تمثيله بعد انتهاء الرواية، يبدو أن نظرتنا للفن وللثقافة عامة في حاجة إلى تغيير شامل عميق تعيد له مكانته القيادية والريادية، وتحترم دوره سواء في معارك جيوشنا أو في معارك سلامنا وحضارتنا. فحرب الحرب، أو حرب السلام هي أولا وأساسا ملك للشعب كله، لأجياله الحاضرة والقادمة، وحتى من مات من أجياله. إنها حياته، يحياها بالحرب حينا وبالسلام. ونحن لسنا كائنات من حديد أو حجر، نحن بشر، وحين خلق الله البشر خلق لهم الفن ليكونوا بشرا، ولتكون لحياتهم قيمة أسمى ومعنى أكبر من مجرد ملء البطون بالطعام وملء الأرض بالنسل.
أما من تغيير حقيقي يعيد لكلمتنا دورها، ولفننا قيادته، وللثقافة والفكر أهميتها القصوى لشعب بالفن عاش، وبالفن خلد وجوده وحضارته؟
الخناقة على الطريقة المصرية
لا شك أن المصريين أعقل شعوب الأرض قاطبة، ولقد حيرني هذا الأمر طويلا وكثيرا، وخاصة حين كنت أسافر وأختلط بكثير من شعوب الدنيا، ثم وأنا أدري - وحتى دون أن أدري - أبدا أقارن بيننا وبينهم؛ فأجد لكل شخصية من شخصيات الشعوب نوعا من جنونها الخاص أو غرابتها أو شذوذها، ثم أعود للقاهرة، وبعيون جديدة أحاول أن أعثر لشعبنا أو لشخصيته على هفوة غرابة أو بادرة جنون من أي نوع، دون جدوى.
وحين أقول إننا أعقل شعوب الأرض، لا أعني بالطبع أننا كذلك لأننا أكثرها حكمة أو علما أو تأدبا، في الحقيقة أعني أننا أكثره تعقلا. والفرق بين الحكمة والتعقل هو أن الحكمة تأتي بعد إعمال عميق للتفكير، ومقارنة بين الاحتمالات الكثيرة والحلول، ثم اختيار قائم على تفضيل الأحسن بالنسبة للشخص أو للشعب. أما نحن هنا، فنحن نتعقل أولا وبادئ ذي بدء، بمعنى أننا بالتلقاء والسليقة نختار أقرب الحلول للسلامة وحفظ الذات والإفلات من الموقف، ولو كان هذا على حساب النتيجة في المدى الطويل.
قارن مثلا بين خناقة إنجليزية وخناقة مصرية. تبدأ الخناقة الإنجليزية بخلاف بين صديقين أو عدوين هادئة، ثم تتصاعد إلى مستوياتها الدرامية العليا، ويحدث كل هذا دون ضجة أو زعيق، بل بكلمات تتصاعد في حدة معناها وليس في طريقة إلقائها حتى يبلغ الأمر حتمية أو ضرورة الالتحام، وهنا تجد الاثنين قد انتحيا ركنا أو خرجا من المشرب، وفي منتهى الهدوء المجنون بدآ يصفيان الحساب جسديا متصارعين أو متلاكمين أو متلاحمين، يكيل كل منهما للآخر ضربات هائلة في الصميم، ينالها الآخر ولا يتوجع لها إنما بكل العنف يتحين الفرصة وينقض على الآخر بضربة أقسى وأوجع. المارة لا يقفون ولا يتفرجون؛ فهم يعرفون أن ما يدور مجرد عملية جسدية لتصفية حساب «أيديولوجي» بين اثنين من الناس لا شأن لهم بهما، بل من المستحسن أن تتم هذه التصفية دون شهود عيان، إذ حين يوجد شهود العيان تتعرق عملية التصفية ويتحول المتعاركان إلى «ممثلين» يضعان الجمهور في حسابها ويستشهدانه، وفي هذا نوع من «التظاهر» أي الخداع لا يليق بقضية لا تخص أحدا بقدر ما تخص طرفيها، وبقدر ما تخص ما يكيله أحدهما للآخر من لكمات.
وهذا في الخناقة الإنجليزية الأنجلوساكسونية، يصفي الخناق عضويا بعدما عجز الخناق «الأيديولوجي» عن أن يصفيها نفسيا وتناقشيا.
وهذا - في عرف المصريين - نوع من الجنون المقيت، فالخناقات حين تنشب بين خصمين، وتتركز فيهما فقط ويصفيانها معا، تعتبر نوعا من الجنون أو من الشذوذ. فالخناقة عند المصريين ليست نوعا من الدراما الشخصية، ولكنها - إن آجلا أو عاجلا - لا بد أن تتحول إلى مسرحية، أي إلى محاكمة، أي إلى قضية يصبح فيها الجمهور عاملا رئيسيا ومؤثرا، كالقاضي سواء بسواء. ويصبح فيها التأثير في الجمهور - أي في ذلك المحترم القاضي - مسألة ذات أهمية بالغة. ومن أجل هذا تنشأ الخناقات في مصر ليس لينتصر طرف على آخر، وإنما تنشأ الخناقات بهدف مسرحي محض، أي تنشأ الخناقات درامية منذ البداية، عاقلة جدا ومتزنة منذ البداية، وبهدف - منذ البداية - محدد وواضح، ألا وهو: أي طرف يملك ناصية الحق؟ وأي طرف أحق من الطرف الآخر بأصوات «المحلفين»؟ وهكذا وهكذا. وبهذه الطريقة تنشأ الخناقة المصرية، لا بهدف أن ينتصر الطرف الأقوى على الطرف الأضعف، وإنما بهدف أن «يحكم» الجمهور ويحدد من هو الطرف الأقوى ومن هو الأضعف؟ من صاحب الحق ومن الكذاب؟ من هو الماكر الخبيث ومن هو صاحب القضية الغلبان؟ ومن أجل هذا تبدأ الخناقات المصرية جماهيرية منذ لحظة الصفر، درامية منذ بدأ التمثيل . كل طرف فيها يوجه خطابه - ليس بالكلمات مباشرة لتهد كيان العدو وتجعله يركع - وإنما بخطابات صاخبة عالية موجهة إلى الجمهور وإلى الإنسانية كي تقنع الجميع أن الطرف المتشرف بالحديث هو الطرف المظلوم المفترى عليه الغلبان، وأن الطرف الآخر هو المخطئ الظالم المستحق أن يوقع عليه العقاب. لا يتساءل المصري المتخانق: من سيوقع هذا العقاب؟ إن وجد الإنصاف، وإنما المهم أن يثبت للعالم أنه مظلوم وأنه يستحق الإنصاف، وأنه لولا التعقل لارتكب القتل والضرب والجنايات. لهذا فلا أعتقد أني بحاجة إلى وصف خناقة مصرية؛ فالعرض دائما وأبدا مستمر، والجمهور موجود يشهد ويتدخل ويمنع أن ينتصر أحد على أحد، يمنع القوة أن تكون هي الحكم، وصراع القوى أن يكون هو السبيل. إنه يتفرج على الخصمين ويستمع للحجج، وبمنتهى التعقل يتفحص، وفي الغالب يصدر حكمه. والأعجب أن الحكم لا يأتي أبدا ضد أي منهما، إنما يملك جمهورنا طاقة التعقل الكافية بمنح كل منهما قدرا من الحق وقدرا من الباطل، ذلك القدر الكفيل بأن يحل الصلح محل الخصام، والوئام محل الصراع، فإذا كان ثمة مظلوم في الموقف فإن الله سبحانه كفيل به وبإنصافه في الدار الأخرى، وإذا كان ثمة خطأ في الحكم ارتكبه القضاة للجمهور فإن يوم العدالة آت لا ريب فيه.
وهذه مجرد مقارنة، مجرد مثل؛ إذ تبقى الحقيقة التي لا شك فيها أننا أعقل أهل الأرض جميعا
ولعل هذا هو سبب أن خناقاتنا السياسية والعسكرية على المستوى الوطني أو القومي أو العالمي تسير على نفس الوتيرة وعلى نفس النسق.
كل ما في الأمر أن الجمهور القاضي في العالم ليس أبدا جمهورا محايدا، بل ولا هو كالجمهور المصري يتفحص القضية إحقاقا للحق والعدل، إنه جمهور يؤمن بالحقيقة القائلة إن الغالب دائما هو صاحب الحق، أو صاحب الحق هو دائما صاحب القوة.
كم من مرات خاطبنا فيها ضمير العالم وكأن للعالم ضميرا، والعالم له عيون، أما ضميره فهو مع صاحب الحق فقط حين يناضل صاحب الحق من أجل حقه، أما حين يتقاعس ويترك لهذا الجمهور القاضي وضميره أن يحصل على حقه فإنه لا يمتلك له إلا السخرية والصفير.
العالم لم يصبح معنا إلا بعد حرب أكتوبر.
ولن يصبح معنا إلا إذا شاهدنا دائما نناضل نضال المستميت لكي نحصل على حقوقنا، ونضال صاحب الحق والحصول على حقه هو الوسيلة الدائمة المثلى لإيقاظ «ضمير» العالم، فهو دائما نائم إلى أن توقظه ليست قسوة الظلم، وإنما قوة المظلوم في سحق ظالمه.
التصرف المصري أمام الخطر
كما توضع العينة تحت الميكروسكوب لفحصها، وضعت نفسي تماما في مكان سائق العربة التي اصطدمت بالقطار عند بنها؛ ذلك الحادث المروع الذي نتج عنه مقتل ثمانية عشر شخصا غير عشرات الجرحى والمصابين، بينما نجا سائق العربة واختفى في حقل الذرة القريب حتى قبض عليه البوليس.
أوقفت الزمن، تلك الثواني القليلة التي سبقت الحادث مباشرة، ثم رحت أمرره على مهل شديد في محاولة جادة مخلصة لمعرفة ما دار في عقل السائق بالضبط، وجعله - رغم أن أجراس المزلقان كانت تدق والنور الأحمر موقد علامة أن قطارا سيمر حالا - يقتحم الإشارة اقتحاما ليصطدم بالقطار! بالضبط ماذا حدث؟ وليس من أجل هذا السائق أو هذا الحادث بالذات أريد أن أعرف الجواب، إنما من أجلنا كلنا، ومن أجل الحوادث الأكيدة المماثلة المقبلة، من أجل أن نعرف أنفسنا ونعرف كيف ولماذا نتصرف أمام الخطأ أو الخطر؟ أو بالأصح ما هو الموقف المصري من الخطر؟
هذا سائق مدرب ما في ذلك شك؛ فرخصة قيادة سيارة نقل لا تمنح إلا بصعوبة شديدة وبامتحان عسير وبعد فترة طويلة من العمل كسائق. ها هو ذا قادم على الطريق، وأمامه ومن بعيد كان يرى شريط السكة الحديد وهو يتقاطع مع الطريق الزراعي الذي يسلكه، بل حتى كان ممكنا لو هو يقظ بدرجة كافية أن يرى القطار قادما في الأفق من بعيد، ولكن لنكن عادلين ولنصل معه إلى اللحظة التي وصل فيها إلى «المزلقان» ووجد الأجراس تدق والنور الأحمر يطفأ ويوقد علامة القطار القادم؛ الطبيعي تماما أن يوقف العربة حينذاك وينتظر مرور القطار، ثم يتأكد أن ليس هناك قطار آخر قادم، ثم يعبر. هكذا يفعل الناس في أي مكان وزمان، وللإنصاف نقول إنه فكر في الوقوف أول الأمر ولكنه لم يفعل، و«ظن» أن القطار ليس وشيك القدوم، بدليل أنه لا يراه؛ فضغط على البنزين واقتحم الإشارة. إن العربة تعلم الناس السرعة، هذا صحيح؛ فهي اختراع ولدته الحاجة إلى السرعة. وكل سائق في العالم يريد أن تنتهي رحلته بأسرع ما يمكن حتى ولو لم يكن وراءه عمل ملح عند نهايتها؛ هذه كلها أحاسيس إنسانية نشعر بها جميعا، ومن المؤكد أن صراعا صغيرا نشب في عقل السائق بين أن يوقف العربة كما تقضي القواعد وحكم الأمر الواقع، وبين أن يقتحم الإشارة رغم احتمال أن يصطدم بالقطار. احتمال واه، هذا صحيح، ولكنه موجود. ومن المؤكد أن الصراع حسم بسرعة لمصلحة مواصلة السير؛ هو عارف بالخطر إذن ولكنه ينحي معرفته جانبا ويمر! من أين جاءته الثقة أن الخطر لن يدهمه؟ على أي شيء اعتمد أنه سينجو؟ لا يستطع هو نفسه لو سألته أن يجيبك، وأيضا لا نستطيع نحن؛ فكل منا قد واجه موقفا كهذا مرة، ولا بد أن كلا منا ولو لمرة واحدة قد تصرف برعونة كما فعل السائق واقتحم الخطر، معتمدا على أن شيئا ما أو قوة ما ستحميه وتنقذه! هذا الاعتماد اليقيني الغريب الذي يزودنا بثقة لا حد لها، ويشبه تأكيد أننا حتما سننجو، هو المسئول الأول عن كل الكوارث التي تحيق بنا. فنحن نرى الخطر ماثلا أمامنا واحتمالاته قوية، ومع ذلك نتعامى عنه ونلغيه من وعينا ونغمض أعيننا عن أن ترى الخطر، وكأننا بمجرد التعامي عنه نلغيه من الحقيقة. والواقع، كل العالم المتقدم يدرس الوضع من جميع نواحيه، فإذا اشتم رائحة خطر ما فإنه أبدا لا يخاطر أو يغامر أو يتعامى عنه، ولكنه يحسب حسابه تماما ويأخذ حذره ويتفاداه، إلا نحن، ابتداء من القرارات الكبرى كقرار حشد الجيش في سيناء عام 1967 إلى أصغر قرار كقرار ذلك السائق أن يعبر شريط السكة الحديد اعتمادا على إحساس قدري أن شيئا لن يحدث، وأنه من غير المعقول أن يؤدي الأمر إلى صدام مع القطار. مع أن غير المعقول هذا هو الأقرب إلى العقل وإلى الاحتمال، وهو الذي يحدث غالبا وتكون نتيجته نكسة 67 أو حادث التصادم عند بنها.
إن النبي محمدا عليه السلام يقول لصاحب الناقة: «اعقلها وتوكل.» أي اربطها أولا كي تتأكد أنها لن تتحرك ثم بعد هذا توكل على الله في أمر بقائها.
بمعنى آخر، مفروض أننا إزاء الخطر ندرك أبعاده ونحذر منه ونتخذ كافة الاحتياطات اللازمة لحمايتنا أولا، ثم نسلم أمرنا لله بعد ذلك، ولكننا في أغلب الأحيان لا نفعل هكذا، إنما «بفهلوة» غريبة، باعتماد على ثقة مجهولة أن شيئا لن يمسنا، نعرض أنفسنا للخطر، ونستغرب بعد هذا إذا أصبنا وكأن تلك القوى المجهولة قد غدرت بنا وخانتنا. إنه في رأيي نوع من الهروب من مواجهة الواقع نفسه باعتبار أن الخطر جزء لا يتجزأ من الواقع. نحن نعيش نحلم بواقع من صنعنا، وحتى لو واجهنا الخطر فنحن نتعامى عن كل ما حولنا من واقع.
وكم من آلام نتحملها نتيجة هذا الموقف، وكم من نصائح! ولكن الغريب أننا - بعد - لم نتعلم أن نرى الواقع، وأن نرى ما فيه - إن كان فيه - من مخاطر، ونحتاط لها، وأبدا لا نتعامى عنها معتمدين على قوى خرافية مجهولة ستحمينا وتنقذنا.
أرقام فلكية
كنا نتحدث عن الثانوية العامة، فهذا موسمها، وكان شريكي في الحديث الصديق الدكتور أحمد سامح همام «أول دفعتنا في كلية الطب وأستاذ جراحة الأوعية الدموية بقصر العيني». والحقيقة فوجئت حين ذكر لي أن على أيام جده (وجده كان من عائلة طيبة بالمنيا) كان النجاح في البكالوريا (ثانوية زمان) يعني أن يذهب عساكر البوليس ويأخذوا الناجح بالقوة إلى المديرية، ثم يرحل إلى القاهرة تمهيدا لإرساله في بعثة إلى الخارج فورا ليكمل دراسته الجامعية؛ إذ لم تكن هناك جامعة في مصر. ذلك أن عدد الناجحين في بكالوريا ذلك الوقت لم يكن يتجاوز عدد أصابع اليدين، وربما أقل؛ ولهذا كانت الحكومة ما تكاد تظهر النتيجة حتى تبادر «بالقبض» على الناجحين لإرسالهم فورا في بعثات إلى الخارج. وكان الشاطر هو الذي يستطيع بالوساطات أو بالشفاعات أو بالرشوة أن يفلت من قبضة الحكومة فيفرج عنه ولا يرسل في بعثة، أو يكمل تعليمه الجامعي، أما سيئ الحظ الذي لا حول له ولا قوة ولا وساطة له، فهو الذي يرسل رغما عنه إلى أوروبا ويعود حاملا الليسانس أو ربما الدكتوراه!
وأذكر مرة أني قرأت في باب «الأهرام من 70 سنة» أن عدد الناجحين في الشهادة الابتدائية آنذاك كان خمسين طالبا في كل أنحاء القطر المصري.
واليوم نجد أن عدد المتقدمين للثانوية العامة حوالي 182 ألف طالب، ينجح منهم ما لا يقل عن المائة ألف وأكثر. في الثانوية العامة ينجح فقط مائة ألف، وعدد المتقدمين للشهادة الابتدائية قد يناهز المليون، أي أننا في خمسة وسبعين عاما تضاعف عدد تلامذتنا مائتي ألف مرة. ترى ماذا سيحدث في عام 2000 مثلا؟
من خمسة وسبعين عاما لم تكن المجتمعات تعرف التخطيط وتتنبأ بما ستصير عليه الزيادات، أما اليوم فنحن نحيا في عصر التخطيط، فإذا لم نكن قد خططنا في الماضي لهذه الزيادات الفلكية في أعداد التلاميذ، فهل في نيتنا حقيقة أن نخطط للحاضر وللمستقبل، وخاصة إذا عرفنا أن هذه الأعداد أقل بكثير مما يجب أن تكون عليه؛ إذ إن نسبة الأمية عندنا زادت حتى أصبحت 70٪ وهو رقم مخيف في حد ذاته، ولا يدل على تخطيط إلى الأمام وإنما يدل على تراجع إلى الخلف؛ فقد كانت النسبة أقل من هذا بكثير قبل عشر سنوات مثلا؟
أعتقد أن مشاكل التعليم وما يحتاجه من إعداد وسائل للتربية، ومدرسين مؤهلين، ومدارس مناسبة، لا يكفي لحله نشاط أو اجتماعات المجلس القومي للتعليم. أعتقد أن الأمر بحاجة إلى مؤتمر جاد كبير يبحث ويناقش ويحدد كيف نعلم أولادنا اليوم وكيف سنعلمهم غدا وبعد غد؛ مؤتمر يستمع إلى آراء الأطفال والتلاميذ؛ مؤتمر جامع شامل. أعتقد أن هذا قد أصبح واجبا ملحا وعاجلا؛ فإني أرى أن طريقتنا في مواجهة هذه الأرقام الفلكية من زيادات الطلبة لم تتعد كثيرا طريقتنا في مواجهتها أيام كان عدد الناجحين في الثانوية العامة لا يتجاوز عدد أصابع اليدين.
تعالوا إلى كلمة سواء
يخيل إلي - والله أعلم - أنه سبحانه حباني بقدر أكبر قليلا من الحساسية الشعبية، أو بالضبط إدراك كنه وطبيعة وحقيقة ما يريده شعبنا المصري، والرأي المصري. فالمزاج المصري ليس هو ما تسمعه من الناس في العلن مثلا أو في جلسات المقاهي، أو حتى في القعدات الخاصة. الرأي المصري الحقيقي شيء غويط جدا، من الصعب تماما الوصول إليه، من المستحيل تقريبا الإمساك به. شيء دفين دفين وكأنه من أسرار الحياة أو الخلود، بل لعله فعلا كذلك، وربما هو الذي أبقى شعبنا حيا ومتماسكا لسبعة آلاف عام أو تزيد؛ قدرته الخارقة على إخفاء ما يريد، حتى يحقق ما يريد.
فأحيانا يقتل التحقيق أو يضيعه مجرد إعلان النية أو إمكان الوصول إليها، تجدهم يصفقون تصفيقا راعدا للمطربة أو الراقصة أو اللاعب أو الكاتب، فإذا انتحيت بأيهم جانبا وسألته عن رأيه الحقيقي لأبدى وفي الحال رأيا مخالفا تماما. شيء غريب! نحن نستطيع أن نفهم أن ينافق البعض شخصا أو يتحمسوا له مجاملة، أما هذا فماذا أسميه؟ نفاق للنفس مثلا أو الوصول بالموقف الساخر من الحياة إلى الحد الذي يجعل لك تجاه الشيء الواحد موقفين، أحدهما هو الحقيقي الدفين، والآخر هو المزور الذي تبديه أمام الناس، ولكن المضحك أنك تبديه أمام نفسك أيضا.
المهم، شيء ما يجعلني أعتقد أن شعبنا بعد لم يندمج في مسألة الأحزاب هذه. أجزاء منه اندمجت هذا صحيح، أولئك الباحثون عن مستقبل أو حاضر سياسي، أولئك الطامحون للوصول إلى المناصب القيادية، وباختصار من لعبتهم السياسية. أما جماهير الشعب بشكل عريض، وحتى بمثقفيه ومتعلميه، فكما قلت لم تندمج بعد في الحكاية، لا تزال ترقب وترصد وتتفرج.
والموقف على أية حال ليس غريبا على مصر والمصريين؛ فهو له جذوره التاريخية منذ أن كانت في مصر أحزاب، بل حتى قبل أن تكون في مصر أحزاب. ولكل بلد ظروفه التاريخية الخاصة التي نشأت في ظلها أحزابه. وأعتقد أن النموذج المثالي لنشأة ونمو الأحزاب كان في إنجلترا؛ فإنجلترا كانت بلدا يحكمه ملك يتوارث العرش عن أبيه وأجداده، وتأخذ الأسرة المالكة فيه شيئا من القداسة وكأنها تستمد قوتها من حق إلهي في الحكم «نفس فكرة الفراعنة حتى عن الملكية أو الملك». إلى أن بدأ يتكون من خارج الأسرة المالكة إقطاعيون كبار يدينون بالولاء للملك، هذا صحيح، ولكنهم مجرد أناس «من الشعب» لا يمكن أن يتساووا مع أصحاب الدم الأزرق أو الحق الإلهي. إلى أن بدأ يحدث الصدام بين كرومويل «قائد البرلمان» والملك، ثم الحرب الأهلية لتثبيت حق الشعب ودفاعا عن الماجناكارتا «أو العهد الأعظم» وقتل الملك في هذه الحرب وتولى كرومويل وأتباعه حكم إنجلترا باسم الدستور هذه المرة، أي باسم الشعب. ولكن لأن أوروبا في ذلك الحين كانت في عصر ازدهار الملكية والإمبراطوريات؛ فقد تكاتفت الملوك وخاصة بعد وفاة كرومويل وأعادت الملكية إلى إنجلترا.
ولكن هذه «الثورة» كان لها أثرها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية للناس؛ إذ قفزت بالتاريخ خطوات، وتحول الإقطاع في إنجلترا إلى الرأسمالية تحولا سلميا، واستبعد «شكل» الحكم فأصبح الملك رمزا للأمة كلها أو للدولة، يملك ولا يحكم، بينما بدأ الرأسماليون الذين سموا أنفسهم بالمحافظين يحكمون ويحاسبهم البرلمان. وفي نفس الوقت، بدأت تتكون نقابات العمال دفاعا عن حقوقهم تجاه خصومهم الرأسماليين، وبدأت النقابات تتجمع تحت راية حزب العمال، وأصبحوا يدخلون الانتخابات ويفوزون، ولكن لأن الطبيعة الإنجليزية محافظة في صميمها فلم يكن حزب العمال يقوم بتغييرات جذرية في المجتمع لتحيله إلى مجتمع اشتراكي مثلا، بقي المحافظون والعمال يتبادلون الحكم تحت ظل الرأسمالية الإنجليزية لنظام الملكية كرمز للدولة.
هذه إحدى الطرق لنشأة الأحزاب، في مصر مثلا حدث الآتي: حين جاء الاحتلال البريطاني إلى مصر، وبعد أن استولى على البلاد عسكريا واقتصاديا؛ بقي أمر الاستيلاء عليها سياسيا. وسياسيا كانت مصر جزءا من الإمبراطورية العثمانية؛ ولهذا ظهر في مصر اتجاهان: اتجاه ينادي بالعودة للإمبراطورية العثمانية وطرد الإنجليز، واتجاه ينادي بالتعاون مع الإنجليز لبتر مصر من النفوذ العثماني؛ لتصبح «مصر للمصريين» أولا، تمهيدا للكفاح لإخراج الإنجليز لتصبح مصر للمصريين حقيقة. وكان الممثل الخالد للاتجاه الأول هو مصطفى كامل، ثم من بعده محمد فريد، بينما كان الاتجاه الثاني يمثله الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والشاب سعد زغلول. بمعنى أن نشأة الأحزاب في مصر كانت نشأة سياسية وليست تعبيرا عن أوضاع اقتصادية، وحتى نشأ المارد الأكبر حزب الوفد كانت نشأته سياسية أيضا؛ فقد قام ليقود الشعب بكل فئاته وطوائفه في ثورة ضد الإنجليز وغير مرتبطة باتجاهات الحزب الوطني نحو الارتباط بالتبعية العثمانية؛ ثورة «ضدهم جميعا» الهدف منها تخليص مصر من النفوذ التركي ومن الوجود الإنجليزي ومن الامتيازات الأجنبية، ثورة اشترك فيها الإقطاعيون والرأسماليون والطبقة المتوسطة والمسلمون والأقباط، جنبا إلى جنب تحت راية واحدة وهدف واحد هو الاستقلال التام؛ أي الوجود المستقل لمصر حرة غير مرتبطة أو مقيدة.
ولقد لعب حزب الوفد دوره بنجاح منقطع النظير حتى حقق جزءا كبيرا من الاستقلال السياسي، ومن إلغاء للامتيازات الأجنبية، ومن إيجاد لكيان مصري لأول مرة منذ عصور بالغة القدم.
وطبعا هذه الثورة السياسية صاحبتها ثورة اقتصادية، وبدأ الاقتصاد المصري يبنى، وأيضا على نظام شبه شعبي؛ فلم تكن هناك رأسمالية مصرية تستطيع وحدها أن تبني اقتصادا، ولكن كان هناك إقطاع خلقه الخديو والإنجليز ليستطيعوا به حكم مصر.
وكان مفروضا أن يستمر التطور الطبيعي، فيبنى اقتصاد رأسمالي وطني، ويتكون حزب الرأسمالية الوطنية، وحزب مقابل للعمال، وحزب للإقطاعيين، وحزب مقابل للفلاحين.
غير أن هذا التطور الطبيعي لم يحدث نظرا لوجود القضية الوطنية والمؤامرات الكثيرة لضرب الحركة الوطنية وتفتيتها، ليس فقط وحدة العمال والفلاحين من ناحية والإقطاع والرأسمالية من ناحية أخرى، ولكن تفتيت حتى الطبقة الإقطاعية والرأسمالية، فما بالك بأحزاب العمال والفلاحين؟
وكان أحد عناصر اللعبة إدخال حكاية الصراع الطبقي قبل الأوان، فلقد منع تماما قيام أحزاب للعمال، وطبعا تماما تماما للفلاحين. واستغلت الإقطاعية والرأسمالية المصرية التي كان من المفروض أن تكون على رأس الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال، استقطبت وفتتت تارة باسم الهيئة السعدية وتارة الأحرار الدستوريين وتارة باسم حزب الشعب وتارة بدكتاتورية الإقطاع المتعاون تماما مع الإنجليز «محمد محمود وشركاه».
أدرك الإنجليز بذكائهم الاستعماري الخارق أن بقاءهم في مصر مرهون بضرب القوى الوطنية بعضها في بعض، ووضع الإسفين الأعظم بين ملك وطني في ذلك الحين وحزب الأغلبية الأكبر «الوفد»، ثم بين الوفد وبقية الأحزاب المتقلبة عليه، ثم بين الطبقات الشعبية، وصارت المسألة «عكة» استغرقت من مصر قرابة الثلاثين عاما من الصراع الرهيب «حول» السلطة، مع أنه كان من المفروض أن يتم خلال هذه الأعوام الثلاثين الصراع الرهيب «ضد» الاحتلال، وليس من أجل من يحكم ومن له الحق في الحكم.
وقامت ثورة 52.
ولأعتبر من عندي أن ثورة 52 بقضها وقضيضها وعلى بعضها حزب ثوري جديد أفرزته الطبقة المتوسطة لينهي هذا الصراع السخيف حول أحقية من يحكم من، ويقود الشعب كله «أحيانا رغم أنفه» ضد الاستعمار الرابض في قلب مصر من ناحية، والمؤامرات المحاكة دائما ضد مصر، وكان مفروضا في هذا الحزب الجديد أن يحول جهد المصريين من العراك إلى وحدة البنائين. فيبني الاقتصاد المصري ويدعمه تماما، وينتقل بالزراعة إلى القرن العشرين، وبواسطة ثورة ثقافية وحضارية شاملة لنقل المجتمع المصري الفلاحي والعمالي بالذات إلى الحد الأدنى اللازم لوجود الإنسان على سطح الأرض في هذا القرن.
ولكن الاستعمار الخبيث كان يرقب كل شيء ويعد لكل شيء عدته، فما كاد يرى هذا «الحزب» الجديد وقد بدا أنه قد وحد الأمة حول أهداف قليلة ولكنها خطيرة، وسيصنع بها لو تمت معجزات. ما كاد يرى هذا حتى أطلق سهمه المضاد وجر مصر إلى حرب مع إسرائيل، وإلى تشتيت لجهودها في الكونجو وقضية المغرب والجزائر ونيجيريا واليمن والوحدة ومهزلتها، أي أنه نجح في تحويل كم الطاقة الهائلة الرابض ينتظر الانفجار لينقل مصر من عصر إلى عصر، نجح في تحويل دفته إلى الخارج حتى لم يبق للحزب ليقف في الداخل إلا أقل القليل.
والثورات أيضا حظوظ، ولست أعرف لماذا كان من حظ ثورتنا أن يكون على رأسها قائد لا يؤمن بالتنظيمات الجماهيرية، فحتى حزب الثورة لم يتكون! في حين كانت هناك عشرات الفرص لخلق حزب ثوري جماهيري ديمقراطي اشتراكي عربي وحدوي يصبح أقوى أداة في يد الثورة المصرية، ليس فقط لتغيير مصر وإنما لتغيير العالم العربي ثم العربي الأفريقي الآسيوي من حولها.
حظنا كده.
حظنا أن حزب الثورة الحقيقي كان هو «دولة المخابرات»، فهم وحدهم الذين كانوا محل ثقة الثورة، وهم وحدهم الذين كان يختار من بينهم من يعهد إليهم بأخطر المهام، حتى من بينهم لا بد كان يختار معظم الوزراء والمحافظين ورؤساء مجالس الإدارات.
وهكذا تمخض هذا الحزب الذي جاء ليكنس أرض مصر من أحزاب أنهكها طول الصراع حول الحكم، وجاء ليقود الطبقة المتوسطة ومن حولها بقية الطبقات، تمخض هذا الحزب عن «شلة» تحكم مصر وتقرر شئون وتمنع مزاولة السياسة إلا على أفرادها ومن يثقون فيهم.
قرأت مرة مقالا ظريفا كتبه أحد المعلقين الأمريكيين الذين عاشوا في مصر فترة. فقال عن تركيب مصر السياسي في عصر الثورة إنها جاءت بقاموس ومصطلحات جديدة إلى دنيا السياسة في العالم. والغريب أن الرجل استقى معلوماته من صفحة الوفيات في جريدة الأهرام، فداخل كل نعي كان يعرف قرابة فلان الوزير لفلان رئيس مجلس إدارة كذا لفلان قائد سلاح كذا لفلان السفير في كذا، وهكذا. المصطلحات الجديدة التي أدخلها ذلك الحزب الغريب الجديد كانت مصطلحات تبدو مضحكة لأول وهلة، ولكنها كانت فعلا الحقيقة المرة، فهناك «الشلة»، وهناك «الدفعة»، وهناك «القرابة القريبة والبعيدة».
في كل مجال من مجالات حياتنا كان يحكمها إما شلة أو ممثل الدفعة أو قريب لهذا أو ذاك من القائمين على الحكم.
والخارطة السياسية لمصر تقول إنه منذ زمن بعيد جدا، منذ أول انتخابات أجرتها الثورة، منذ تعقيم مصر سياسيا واعتبار أي ماض سياسي للشخص حتى لو كان وطنيا ونظيفا وشريفا لا يحسب له، وإنما يحسب عليه، منذ أول انتخابات جرت فإنها لم تجر على أسس سياسية إنما على أسس شخصية ذاتية أخلاقية محضة.
يعني نحن ننتخب الرجل الطيب، ليس مهما أن يكون فاهما في السياسة أو غير فاهم، ليس مهما أن يكون واعيا بحيث يدرك ما يصلح لبلادنا وما لا يصلح، المهم أن يكون «طيبا والسلام».
وبهذا قضينا على السياسة ولم ننتخب لمجالس شعبنا قادة سياسيين، إنما انتخبنا في معظم الأحوال رجالا طيبين أو قادرين على إنجاح أنفسهم بالمال أو بالنفوذ أو حتى بالتهديد.
ذلك لأن الثورة لم تسمح لنفسها أن تكون حزبا له مبادئ محددة واضحة تدقق جدا في اختيار أعضائه لأنها ثورة تحكم، وما أكثر الانتهازيين الذين يريدون الانضمام لأي تنظيم تصنعه ثورة تحكم. لم تسمح لنفسها أن تنشئ ذلك الحزب، وطبيعي جدا أنها لم تسمح لأي قوى غيرها بأن تنشئ أي أحزاب أخرى.
لهذا فالموقف الآن أحسن قليلا.
واضح أن ثورة 15 مايو على أقل تقدير قد قررت أن تنشئ لنفسها حزب مصر العربي الاشتراكي، وأن تسمح لأقسام أخرى من الرأي العام أن تنشئ أحزابا قد تختلف قليلا أو كثيرا مع حزب مصر.
أقول إن الموقف أحسن، ولكنه ليس بالضرورة الموقف المثالي.
ولكن المشكلة أني أرى الموضوع من زاوية أخرى تماما.
فالأحزاب ليست زينة، والديمقراطية ليست أيضا زينة، الأحزاب كما قلنا تقوم لسد احتياجات سياسية أو اقتصادية حادة وملحة؛ إذن هي ضرورة وليست ترفا.
فالسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان أولا هو: ما هي الضرورة الحادة الملحة في مصر الآن؟
الإجابة بسيطة، فهناك ضرورتان حادتان: القضية الوطنية، والمشكلة الاقتصادية.
القضية الوطنية تستلزم «الوحدة» حتى في البلاد العريقة في حزبيتها، مثل إنجلترا وفرنسا، حين قامت فيهما جبهة من الأحزاب لمواجهة الحرب العالمية الثانية.
والمشكلة الاقتصادية أيضا تحبذ ضرورة الوحدة، وكما نشهد الآن في إيطاليا يتعاون الحزب الديمقراطي المسيحي مع الحزب الشيوعي من أجل إنقاذ الاقتصاد الإيطالي من الانهيار التام.
نحن إذن لسنا في مرحلة التحزب، نحن في حالة تستلزم الوحدة قبل أي شيء آخر.
ولكنها ليست الوحدة الديماجوجية التي كثيرا ما نادينا بها وقرأناها شعارات رنانة وخطبا عصماء، من تحالف لقوى الشعب العامل، إلى آخره.
الوحدة بمعناها الحقيقي، أي الوحدة بين قيادات الطبقات والهيئات والفئات وأصحاب الرأي .
الوحدة التي أساسها تنافس الجميع في البحث عن «حل» سواء لمشكلتنا الوطنية أو الاقتصادية.
وقد يرى البعض أن هذا يتعارض مع فكرة الديمقراطية الحزبية وحرية تكوين الأحزاب، والعكس هو الصحيح؛ فمصر، منذ أن نالت استقلالها وحتى قبل أن تناله، في حاجة ماسة إلى أن يمثل كل فئة فيها أو طبقة قيادة ينضم بعضها مع البعض، وتكون تكتلا وطنيا قويا ما دام الوضع يحتم التكتل الوطني لكي تمر الأزمة، وبعد أن تمر يصبح أمامنا الوقت الطويل لكي نعود نتفرق ونختلف ونتخانق إلى ما شاء الله.
أجل، نحن في حاجة إلى أحزاب حقيقية تقود - وبالذات شبابنا - قيادة حقيقية بدلا من تركهم نهبا للهوس، وأكاد أقول لهم حق؛ فأين القيادة الشابة الحقيقية التي من الممكن أن تستقطب هذا الشباب المخلص في بحثه عن حل لمصر ومشكلاتها؟
ليست مشكلتي الآن أن يقوم حزب وفد تحت اسم جديد أو لا يقوم، أن يتكتل المستقلون ويكونوا حزبا أو لا يتكتلون، مشكلتي مثل غيري أننا لا نريد أن نرقص على السلم. فحزب مصر والحزبان الآخران تكونوا بطريقة غريبة، أعلن تكوينها أولا ثم بدءوا البحث عن أعضاء يصلحون لها، ثم بعد استكمال الأعضاء بدأنا نبحث لها عن برامج وأهداف.
ولهذا أنا لا أعتبر أن حزب 15 مايو أو 23 يوليو الحقيقي قد تكون بعد وأن مصر لا تزال في حاجة ماسة لقيادة هذا الحزب.
في حاجة ماسة إلى «الوحدة» في الهدف والوسيلة.
وكل ما حدث منذ ظهور فكرة تكوين الأحزاب إلى الآن هو خناقات بين حزب التجمع وحزب مصر وحزب الأحرار، وخطوة واحدة لم نتقدم بعد في طريق حل المشاكل، ليس كما تحل الآن وإنما بناء على برنامج سياسي اقتصادي حزبي لحزب مصر ما دام هو الذي يحكم. ما زلنا نقيم المشروعات كيفما اتفق أيضا، وبالمرة ليس هناك برنامج علمي حزبي مدروس ومتفق عليه ويتبناه ويدافع عنه جميع أعضاء الحزب ويشرحونه للناس ويبشرون به، ما زالت حياتنا الحكومية التنفيذية في واد وحياتنا الحزبية السياسية في واد آخر وحياتنا التشريعية البرلمانية في واد ثالث.
وأنا لا يهمني الأحزاب الناشئة التي تنشأ؛ فأن تصل هذه الأحزاب إلى الحكم مسألة مستبعدة تماما خلال الأعوام الخمسة الحاسمة المقبلة على أقل تقدير.
لذلك فنحن في أمس الحاجة - وما دام حزب مصر هو الذي يحكم - أن يترجم هذا الحزب إلى برنامج عمل وأهداف.
بل أكاد أقول: فلننس الطريقة التي تكون بها حزب مصر.
ولنعد نؤلفه على أسس حقيقية جديدة.
لندع إلى جمعية تأسيسية كثير من أعضائها من داخل حزب مصر هذا صحيح، ولكنها تضم كل مفكر أو قادر على التفكير والقيادة في كافة مجالات حياتنا، بل وحتى لو كان عضوا في حزب آخر.
ولتنته هذه الجمعية التأسيسية إلى برنامج عمل واضح وصريح يمثل آمال مصر وحلولها لمشاكلها خلال السنوات العشر القادمة على الأقل.
وبناء على هذا البرنامج فينتخب من بين أعضاء الهيئة التأسيسية لجنة قيد، تنظر في طلب الراغبين في الانضمام على أساس ارتباطهم أو قدراتهم على تنفيذ هذا البرنامج المتفق عليه، وعلى أساس قدرتهم السياسية أولا وليس على أساس طيبتهم أو رفقهم في معاملة ومجاملة الآخرين.
حتى إذا أحكمنا إنشاء هذا الحزب الذي سيمثل العمود الفقري السياسي لبلادنا، تتكون أحزاب أخرى على نفس هذا النسق، قد تختلف برامجها عن برامج حزب مصر، قد تختلف أفكارها، قد تختلف تكويناتها الاجتماعية والفكرية، ولكنها حتما ستمثل قيادة لمجموعة من الناس موجودة في مجتمعاتنا وقائمة.
وعلى أساس تحالف - أو تصارع - بين حزب مصر وهذه الأحزاب، تصارع ليس هدفه التنابذ أو حب الظهور وإنما هدفه الوصول إلى الحقيقة التي قد تكون تماما غير رأي حزب مصر أو غيره من الأحزاب.
باختصار: نحن، في مشكلتنا، وبالذات خلال السنوات الخمس القادمة في حاجة إلى كلمة سواء بيننا، لسنا في حاجة إلى إجماع صوري، نحن في حاجة لنقاش واختلاف يؤدي بنا في الحقيقة إلى كلمة سواء؛ فالصراع القائم الآن صراع من ورق وعلى ورق، بينما مشاكلنا حقيقية وعاجلة وفي حاجة إلى قيادة فعالة لرؤيتها حبذا لو كانت شابة ونشطة وواعية سياسيا.
تحية لهم ، وعزاء لنا
غريب جدا هذا الإحساس، لم أشأ أن أحضر العملية؛ فالمصاب صديق والمعالج صديق، وبعدي عن الجراحة قد أنشأ بيني وبينها نوعا من الجفوة حتى أصبحت وكأني ما زاولتها يوما.
ولكني فوجئت بالدكتور أحمد البنهاوي يستدعيني لحجرة العمليات لأرى بعيني مدى الإصابة.
الدكتور أحمد البنهاوي ذلك الذي لم يتغير شكله كثيرا منذ أن قابلته لأول مرة على «ترابيزة» الغداء في مدرسة الزقازيق الثانوية، أصبح الآن عميدا لكلية طب جامعة عين شمس. الحقيقة حين علمت الخبر لم أستعجب وإن كنت قد دهشت أن يقع اختيار مجلس الكلية المكون من فطاحل الأساتذة على أستاذ جراحة المخ هذا الذي يبدو وكأنه في الثلاثين، عميدا للكلية. بل أكاد أكون قد فرحت، فمن الفرح أن تجد واحدا من دفعتك وصديقا لك قد احتل مركزا علميا خطيرا كعميد لكلية طب راسخة مثل عين شمس.
ناداني الدكتور البنهاوي لأرى إصابة الرأس التي يعالجها، كان الصديق المصاب قد انهال عليه بعض الصعايدة بنبابيتهم على رأسه فكسرت الجمجمة، وحدث نزيف رهيب داخل العظم، بحيث أصيب المريض بشلل وأخذت حالته تتدهور حتى أوشك أن يسلم الروح. لم يكن هناك وقت لعمل أشعة أو لمعرفة بالضبط مكان الإصابة والشريان أو الوريد الذي ينزف. كانت أمامنا - كما قال الدكتور البنهاوي - نصف ساعة فقط، إذا لم تعمل العملية فيها مات ذلك الإنسان العزيز. ولم يكن بالمستشفى الذي كان يرقد فيه المصاب آلات جراحية تصلح لجراحة المخ (مع أنه مستشفى دار الشفا الكبير)! وهكذا ودون انتظار لعربة الإسعاف حملنا المريض في عربة عادية وبأقصى سرعة إلى مستشفى الجمهورية.
والآن هو يريني الجرح، كان شيئا مهولا خارقا للعادة؛ كان عمق الجرح لا يقل عن عشرة سنتيمترات داخل الجمجمة، أمامي كان يدخل الشفاط فيه لعمق عشرة سنتيمترات ولا يأتي لآخره. وكان كم هائل من النزيف قد تكون خارج «الأم الجافية» هذا صحيح، ولكنه كان يضغط بشدة ويكاد يخنق المخ بكل وظائفه.
المهم أنه بحذق ليس غريبا على البنهاوي تم شفط النزيف والورم الدموي، وبعد يوم واحد كان المريض قد شفي من الشلل النصفي وجلس، ثم تحرك، ثم عاد طبيعيا تماما، وكأن شيئا لم يكن.
أذكر هذا كله لسبب غريب، فقبل أقل من 15 عاما كانت هذه الإصابة تعتبر قاتلة؛ إذ لم يكن الإنسان قد جرؤ بعد على ولوج ذلك الصندوق الرهيب المغلق؛ صندوق المخ. الآن هي لا تعالج فقط ولكن المريض بعدها يعود عاديا تماما كما رأينا.
الحقيقة أنه بعد العملية جلست وحيدا في غرفة ملابس الأطباء يكاد الدم يطفر من عيني. هذه مهنة واضحة سريعة الفائدة سريعة المفعول. هذا هو إنسان كان مشرفا على الموت تماما وإذا به الآن وبمبضع الجراح قد عاد إلى حالته سليما معافى.
والآن تلك الكتابة التي أزاولها، ترى هل باستطاعتها أن تعطي نتيجة مرضية لصاحبها تماما كما رأيت النتيجة الآن، أم هي أحيانا كالأذان في مالطة تتساءل دوما عنه وترى هل يسمعه أحد؟ أقول هذا الكلام لأن المضحك أن الصديق أحمد البنهاوي حاول منذ بضع سنوات أن يكتب القصص وقد كتب فعلا أشياء جميلة، ولكن من حسن حظ مرضاه ومن حسن حظ الطب أنها لم تطلع في رأسه ويتخذها هواية دائمة أو حرفة.
أيها المنعمون بالنتائج الحية الملموسة لأعمالكم، وخاصة إذا كانت النتيجة هي إعادة الحياة إلى جسد دخل فعلا منطقة الموت، تحية لكم وعزاء لنا.
ليلة العيد
إلى الساعة الحادية عشرة من مساء يوم الاثنين 12 سبتمبر، وثمة 40 مليون مصري ومائة مليون عربي أو أقل أو أكثر ينتظرون إشارة من مجلس القضاء في المملكة العربية السعودية أو دار الإفتاء في القاهرة، بحلول أو عدم حلول عيد الفطر المبارك في اليوم التالي. الجيران يسألون بعضهم بعضا إن كانوا قد سمعوا، التليفونات تتساءل، دور الصحف ليس لديها أي أخبار، والكل في حالة قلق غريب غير معقول، هل يحضرون السحور؟ هل يستعدون غدا للعيد؟ هل يسافرون؟ هل ينامون على عمل في اليوم التالي أو على إجازة؟ مئات «الهلات» التي تنتظر «الهلال».
وهذه ليست المرة الأولى التي يكتب فيها هذا الكلام، وهذه ليست المرة الأولى التي تخوض فيها الصحف في الموضوع أو يدور النقاش حول الأخذ بمبدأ الرؤية العينية لهلال شوال أو هلال رمضان أو مبدأ الحساب الفلكي، ولكن أريد أن أقول كلاما أرجو أن يكون بسيطا جديدا. فيوم الأحد الماضي قرأت في صحفنا أن مجلس القضاء في السعودية أصدر بيانا ناشد فيه المواطنين أن يبلغوا المجلس فورا إذا «رأى» أحدهم هلال شوال، أخذا بالمبدأ القائل بضرورة ثبوت الرؤية بالعين المجردة. ولقد ثبت لنا الآن علميا أن العين ليست «مجردة» وأنها مكونة من عدسة وقرنية وسائل وشبكية ... إلى آخر مكونات العين، وأن كثيرين من الناس يستعملون النظارات لتصحيح قوة عدسة العين، فهل تعتبر العين التي تستعمل النظارة مثلا عينا «مجردة» أم هي عين تستعمل العلم الحديث وقوانين الضوء والعدسات لتصحيح ما فيها من خطأ؟
أعتقد أن مجلس القضاء إذا جاءه شاهد أو شاهدان يقولان إنهما رأيا هلال رمضان أو شوال رؤية العين وكانا يرتديان نظارات، سيأخذ بالقطع بكلامهما ويعتبر رؤيتهما للهلال شرعية.
وإذا كان المجلس قد أصدر بيانا يناشد فيه «أي» مواطن رأى الهلال أن يبلغه بهذه الرؤية، ألا تنطبق هذه المناشدة على «علماء الفلك» المسلمين الذين قد يرون الهلال من «نظارات» أقوى كثيرا من النظارات العادية وأقدر وأدق؟
إن علم الفلك وحساب مدارات النجوم والأقمار ليس علما «وثنيا» ولا هو بعلم «كافر»، وإنما هو علم إسلامي نبغ فيه علماء المسلمين وأخذته عنهم أوروبا المسيحية. وإذا كنا نحن نستعمل ونعتمد على الموجات السلكية واللاسلكية «وهي اختراع أوروبي مسيحي» في توصيل «الرؤية» وخبرها إلى كافة المسلمين سواء في بقاع العالم المختلفة، فكيف نستحل هذه الوسيلة «غير الواردة في الشرع» ونحرم الوسيلة التي ابتكرها علماؤنا المسلمون لمعرفة وحساب ظهور الهلال؟
والمسألة فقط ليست مسألة فقهية أو شرعية من اختصاص القضاة والفقهاء. لقد أصبحت بداية رمضان المعظم وحلول عيد الفطر مسألة «تنظم» حياة مئات الملايين من المسلمين في كافة بقاع الأرض، أصبحت مسألة اجتماعية اقتصادية فوق كونها دينية؛ ونتيجة لهذا الارتباك يفقد المسلمون مئات بل آلاف الملايين من ساعات العمل والإنتاج. والمسلمون في كافة أنحاء الأرض معظمهم فقراء وفي حاجة إلى جهد جبار خارق للإنجاز والإنتاج، ويكفي أن نضرب مثلا على ما حدث يوم الاثنين والثلاثاء 12 و13 سبتمبر، فأعتقد أنهما فقدا تماما كيومي عمل مثمر للمسلمين كافة، وضاعت على المسلمين لا أقل من ألف مليون ساعة عمل. والسؤال هو: أين الحرام وأين الحلال في هذا؟ أن نضيع أموال المسلمين وحياتهم على هذه الصورة ليزدادوا فوق فقرهم فقرا، أم نبحث عن وسيلة موحدة يتفق عليها جميع المسلمين لتحديد يوم صومهم ويوم إفطارهم؟
اختراع جميل جدا
شعب غريب. أتأمل الكلمات التي طالما تبارى الكتاب والمستكتبون وأصحاب الحديث والمستحدثون يصفون بها شعبنا، وأهز رأسي: الشعب العظيم، الشعب الطيب، الشعب المتحضر، الشعب العريق ...
ومنذ الثورة الفرنسية وظهور الماركسية أصحبت كلمة الشعب «دوجما»، أي شيء غير قابل للنقاش وكأنه المعبود الجديد. كل قائد ثورة أو منشئ حكم يتبارى في تمجيده ويذكر أنه «الشعب المعلم»، «الشعب الملهم»، له وحده أركع أو أخضع، ومنه أستقي الدروس وعليه أتتلمذ. ولقد حاولت في لحظة تأمل أن أضع يدي على المدلول المادي الحقيقي لكلمة «الشعب» هذه، وبالذات في وقتنا الحاضر. ذلك أن المسائل تطورت خصوصا في بلاد العالم الثالث إلى درجة خطيرة، فباسم الشعب يشنق هذا وباسم الشعب يؤله آخر. وإذا كانت السيدة التي قالت وهي تساق إلى «الجيلوتين» لكي يفصل رأسها عن جسدها أيام الثورة الفرنسية، قالت: أيتها الحرية، كم من الجرائم ترتكب باسمك! حتى ذهبت مثلا. ولكن «الحرية» كلمة محددة معروفة لها معنى، عدوها ظاهر للعيان إن اجترأ وظهر، ونصيرها من الممكن معرفته حتى ولو لم يعلن عن نفسه، ولكن المشكلة الحقيقية أن كلمة الشعب ليست أبدا بهذا التحديد أو الوضوح. إنها موجودة والشعب أي نعم موجود، ولكن الكارثة أن كل أو تقريبا كل فرد من أفراد هذا الشعب يستطيع أن يتحدث باسم الشعب، كل إنسان باستطاعته أن يقول إن شعبنا يريد كذا أو كيت، وكل حاكم باستطاعته أن يؤكد أنه إنما يتخذ هذا الإجراء أو ذاك «باسم الشعب» أو باسم الأمة أو باسم الأمن القومي. كلمات كبرى ذات رنين خفاق يبعث الرهبة في القلوب، فتصور أنك تأخذ أجزاء كبرى ذات رنين خفاق لمليون أو لمئات الملايين من البشر، إما يحقق لهم رغبة أو تضرب دفاعا عنهم قوة. مسألة تجعلك تتصور وكأنه الشعب بملايينه قد اجتمع في معبد هائل الضخامة هائل الارتفاع مدوي الرنين، ومن الصوت الحقيقي النابع من إرادة كل فرد على حدة تتجمع كقطرات الصوت سحب الرنين المتصاعد يرعد ويبرق وتهتز لها جدران الكون نفسه إن كان للكون جدران.
المسألة في أصلها إذن شيء رهيب لا يكاد العقل أو الخيال يتصوره أو يحيط به. ولكن المشكلة كما قلت إنها في دول العالم الثالث مثلنا قد تحولت إلى شيء أبسط من البساطة، من أبسط الأشياء على أي حاكم في آسيا أو أفريقيا أو حتى أوروبا أن يقول باسم شعبنا العظيم وتاريخه وتراثه وتقاليده الخالدة، لا أقول يعلن الحرب أو يقر دستورا وإنما يرحب بزيارة رئيس وزراء أو أحيانا وزير.
ويبدو أن هذه المشكلة لم تخطر ببالي وحدي. يبدو أنها منذ زمن وهي تطرق أدمغة أناس كثيرين من دول أكثر تقدما، ولهذا ابتكروا من أجلها حكاية معاهد قياس الرأي أو الاستفتاء مثل معهد جالوب أو غيره وهو لدى أي عمل يقوم به رئيس أمريكي أو شخصية ذات أهمية عامة، لدى كل حركة منه أو لدى كل خطوة أو أزمة، يضعون استفتاء عاجلا ليتعرفوا على مدى شعبية الرجل أو حظوته أو اتجاهات الرأي العام. ولكن هذا في رأيي مجرد تعرف سلبي «لاتجاه» الرأي العام لا يمكن أن يصل إلى تغطية كاملة لرأي الشعب، ولا إلى كشف عميق لما يريده الناس فعلا ويتمنونه. إنهم يختارون «عينات» من قطاعات مختلفة من الجمهور من مختلف المهن والأعمار والبيئات، وهذه قد تعطي فكرة شاحبة جدا عن ماهية أو اتجاه الرأي في هذا الموضوع أو ذاك، ولكنها أبدا لا تمثل الحقيقة الكاملة. بل إن الأرقام التي تذيعها أمثال هذه المعاهد نفسها أرقام يشكك البعض فيها رغم الضمانات الرهيبة التي تحاط بها إجراءاتها، ويعتبرون أنها أيضا مثل الإذاعة والتليفزيون في كل وأي بلد مهما بلغت ديمقراطيته «موجهة»، بعضها موجه بحذق ومهارة وخبث دفين من الصعب تماما اكتشافه، وبعضها موجه بطريقة عبيطة تماما أو واضحة كل الوضوح لا يمكن أن تخفى على أحد. •••
ماذا جعل هذه الأفكار كلها ترد إلى ذهني؟ ربما السبب أني طول اليوم أفكر في كلمة الشعب والشعوب هذه، وأتأمل ليس فقط كم من الجرائم ترتكب باسمها، ولكن المهم كم من التزويرات تحدث باسمها. هذه الأوضاع في بلادنا العربية كلها، في منطقة الشرق الأوسط، لا بل في العالم كله، أهي تعبر حقا عن إرادات شعوب المنطقة أو العالم؟ ألسنا كشعوب عالم مساكين إلى درجة لا يتصورها عقل؛ بغير إرادتنا نحارب، ومسلوبي الإرادة نسالم؟ الحرب العالمية الأولى مثلا بأي حق تقوم؟ ومن يذكر الآن السبب الإنساني الملح لقيامها؛ ذلك الذي أضاع عشرات الملايين من أرواح البشر؟ الحرب العالمية الثانية، وما بين الحربين وما بعد الحربين، سبعون مليون إنسان قتلوا قتلا، ودائما وأبدا باسم الشعب وباسم الشعوب. حتى حين تدخل المبادئ حقل الوجود البشري؛ تلك المبادئ التي في العادة تقوم لخلق إنسان أكثر سموا وأقل وحشية وتأخرا، فتتحول على أيدي الحكام الذين «باسم الشعب والمبدأ» يحكمون، إلى مذابح وإلى دم كثير يسيل، وأرواح آدمية لا عدد لها تهدر، لكي - ويا للمهزلة! - يصبح الإنسان أكثر سموا وأقل وحشية. •••
وتصوروا الكارثة! شعوب منطقتنا كلها تريد السلام والأمن والاستقرار. لا مواطن واحد فيها يريد الحرب إلا من يعاني منهم حقيقة من لوثة عقلية. وحكوماته، باسم تلك الشعوب الطيبة المسالمة تدفع الأمور دفعا إلى هوة الحرب، بالرفض أو بالقبول أو بالتعنت. وتحت أسماء كثيرة براقة خادعة، مجرمة في حقيقتها، مجرمة إجراما يأنف منه الوحش ذاته، تهيئ المسرح للمجزرة.
الأشد بعثا على الأسى، بل على الضحك البالغ قمة الأسى، أن إسرائيل هي المتعنتة لأنها - ويا للهول! على رأي يوسف وهبي - أكبر من العرب لكي تحظى بالأمن وكي «تفرض » السلام، وكأنك تريد أن تعيش في قرية في الصعيد أو في حلب، وطريقتك لكي تحيا في سلام مع أهل تلك القرية أن تذبح من أهلها عددا يخيف الآخرين ويجعلهم يرهبونك، وبهذا تحصل على «الأمن» و«السلام».
ترسانة الأسلحة ضمان «للأمن».
الحرب والقتل هو الطريق «للسلام».
وكل هذا «باسم الشعب» اليهودي أو الإسرائيلي.
إن رئيس وزراء أي دولة للأسف لا يقتل في أي حرب يخوضها بلده ولا يجرح.
إنما الذي يقتل هو الشباب البريء من هنا أو هناك.
ورؤساء الوزارات ورؤساء الدول يبقون منعمين مترفين، الحرب عندهم إذن لا تعني سوى كلمة.
إنما الحرب عند الشعب هي إزهاق روح، روحي أو روحك أو أرواحنا.
وباسمنا دائما تزهق أرواحنا، باسم الشعب.
اختراع جميل والله حكاية «أمن» الشعب، و«مستقبل» الشعب، و«المصلحة العليا» للشعب.
اختراع جميل جدا.
له بالضبط نفس جمال العصابة التي تحيط بعين الجنرال ديان.
اختراع جميل؛ لأنه يخفي قبحا لا يستطيع البصر أن يتحمله.
حوار عن المرأة
ولكن الغريب حقا أنه في كافة الخطابات والمكالمات التي علقت على ما كتبت، لم يصلني من «المرأة»، تلك التي كتبت أدافع عن حقها في الكرامة وعن حماية آدميتها، لم يصلني إلا خطاب واحد من سيدة أو فتاة - لا أعرف - تتهمني فيه أن دعوتي إلى إنسانية نسائنا دعوة رجعية وإن لبست ثوبا تقدميا. وفي الحق أن هذه ليست المرة الأولى التي أتعرض فيها لنقد؛ فقد ذكرت مرة شيئا عن ثقافة المرأة فانهالت علي أقلام كاتباتنا العزيزات. والحق أني أحسست أني في حاجة لتوضيح موقفي بالضبط من المرأة بشكل عام، ومن نسائنا بشكل خاص. وهبط الموضوع الذي كنت قد تحاورت فيه مع الدكتورة سناء السعيد (وهي مراسلة ال «بي بي سي» في القاهرة) كالمنقذ، وهذا هو نص الحوار كما نشرته الدكتورة وكما أذيع: - المرأة موضوعي، أعتبر المرأة بالفعل رسالتي في الحياة. وهذا ليس نفاقا للمرأة وإنما حبا في الحياة. إن مقياس إنسانية أي إنسان هو مدى ما يقدمه للحياة، وبالنسبة لي فالمعادل للحياة هو المرأة؛ ولهذا أعتبر كل ما يفعله الرجل بمفرده بعيدا عن المرأة هو بالضبط ممارسة بعيدة كل البعد عن الحياة. - هل أنت راض عما وصلت إليه المرأة اليوم؟ - بشكل عام، أعتقد أن المرأة في العالم الآن، ولا تزال إلى حد كبير مهضومة الحق ولم تتبوأ بعد مكانها الصحيح. ليتنا نعود إلى المجتمع الأموي؛ فربما يكون هذا هو الرقي بعينه. إن الأشكال التي نستنكرها في تصرفات المرأة هنا وهناك راجعة إلى «تحديد إقامتها» داخل مجتمعاتنا؛ فهذه تصرفات عصبية انفعالية للتخلص من موقف العبودية الذي فرض عليها سواء في المجتمعات المتقدمة أو المتخلفة. إنني ما زلت أطلب للمرأة حق الوجود الأسمى في أي مجتمع تحيا فيه؛ لأنه بغير ذلك سنظل متخلفين عن «الحياة» نفسها، أو الحياة كما يجب أن تكون مهما تطورت واجهات الرقي المادية والاستهلاكية. - وما كم الحرية الذي تنادي به للمرأة؟ - ستظل المرأة تتصرف بلا مسئولية ما دمنا نحن نعطيها الحرية بالقطارة. إن الحرية هي الأكسجين الذي يساعد الأشكال الضعيفة من الحياة أن تقوى ويهلك الطفيليات الضارة. الحرية هي الإكسير، وبجرعات أكبر من الحرية وبالتالي من المسئولية نعطيها للمرأة نقضي على المساوئ. والحرية ليست التسيب كما قد يعتقد البعض. إن الحرية هي التصرف الصادق مع النفس، والإرادة الحرة غير الملوية الذراع. - ما الشيء الذي ينفرك من المرأة؟ - ينفرني كمبدأ، سواء في المرأة أو الرجل، عملية الانتقال. نحن في عصر تستطيعين أن تطلقي عليه عصر الاقتراب من الصدق. كلما كان الإنسان صادقا ويوصل صدقه للآخرين اقترب من العصر، وكلما اصطنع تخلف أو ارتد أو فسد. - معنى ذلك أن عنصر التلقائية هو الذي يجذبك إلى المرأة؟ - لأن التلقائية مرادفة للصدق. أتمنى اللحظة أن ترتفع فيها كل المحاذير الذاتية من تصرفاتها وتبدأ تتصرف بتلقائية الصادق مع نفسه. لو أننا جميعا استطعنا أن نرفع هذه الأقنعة وتصرفنا بتلقائية وعدم تخطيط خبيث للعلاقات بين الناس، لوصلنا إلى مرحلة بشرية أوقع وأحسن. - فكرة المرأة الغامضة ... شعورك حيالها؟ - قد تكون غامضة نتيجة عمق لا تفتعله، وإنما الغير هو الذي يشعر به ويحسه ويدرك أن وراءه عمقا حقيقيا. وقد تكون غامضة عن افتعال واصطناع شخصية، وهذا نوع يثير الضحك والرثاء. - ورد فعلك تجاه الغموض غير المفتعل؟ - أحاول اكتشاف كنهه، تماما كما أحاول اكتشاف كنه الحياة. غموض المرأة في أحيان هو من غموض الحياة نفسها؛ ولهذا فالحياة لا تفتعل الغموض؛ هي غامضة رغم أنفها. ولذلك عندما أنادي بالتلقائية لا أنادي بالبساطة، التلقائية هنا لإسقاط كل الأشياء التي تعوق العملية الحية. والعملية الحية في حد ذاتها عملية غامضة جدا ومثيرة جدا وممتعة تماما. فإنها عندما أطالب بنزع الأسوار المصطنعة التي تمنع الإنسان من السلوك المضبوط، أو تمنع الرجل والمرأة من الاقتراب بعضهما من البعض اقترابا صحيا حقيقيا، فإنما أدعو إلى اقتراب أعمق وأمتع. - ما هي في رأيك المشكلة التي ما زالت تسيطر على المرأة في مجتمعنا؟ - الرجل! ومن أجل هذا فالمرأة تفقد الكثير جدا من طاقتها ومواهبها وقدراتها في التفكير الزائد في الرجل، ربما تصبح امرأة حقا إذا ما بدأت تهتم بأشياء أخرى بجانب الرجل، اهتمامات الحياة العريضة الشاملة وليست لعبة البينج بونج القائمة بينها وبين ذلك المسكين الرجل. ربما كلما بعدت المرأة عن التفكير في الرجل وبعد الرجل عن التفكير في المرأة اقتربا أكثر وتلاحما ليصبح منهما هما الاثنين ذلك الإنسان الواحد الكامل. فالمرأة «نصف» إنسان، والرجل «نصف» إنسان، والإنسان الحقيقي رجل وامرأة معا.
انتهى الحوار، أو أرجو ألا يكون قد بدأ.
للموظفين فقط
علامة بدت واضحة كل الوضوح الآن، وهي سوء معاملة موظفي الدولة المتصلين بمصالح الجمهور للجمهور، وكأنهم ينتقمون منهم. وأنا أعلم تماما ما يعانيه الموظف من نقص في الدخل ومن مصاريف أولاد ومن ظروف معيشة ومن مليون مشكلة، ولكن ما ذنبي أنا زميله المواطن لينتقم مني ويفرغ في أزمته.
أقول هذا لأني من بين أكوام الخطابات التي وجدتها تنتظرني لدى عودتي، قرأت هذا الخطاب الذي حز في نفسي إلى درجة أفسد علي فيها الحياة إلى الآن، فقد تصورت نفسي في موقف صاحب الخطاب، وظل الألم يعتصرني ويلح علي، وأنا إذ أنشره لا أفعل هذا لأقلق راحة أحد، إنما لأرى إلى أي مدى وصلنا في تعذيب أنفسنا. (1)
في 3 / 1 / 1977 أخطرت تلغرافيا بوفاة نجلي محمد فريد، وكان يعمل خبيرا اجتماعيا في المملكة العربية السعودية، وأن جثمانه سيصل إلى مطار القاهرة يوم
(2)
توجهت إلى المطار في صباح هذا اليوم، ولكن الطائرة وصلت الساعة 12:30 صباح يوم 6 / 1 بعد انتظار أكثر من 18 ساعة. (3)
وكانت الحكومة السعودية قد تكرمت وأرسلت مرافقا يصاحب الجثمان وزوجة ابني وأولاده مشكورة. (4)
استعلمت من إدارة المطار عن كيفية استلام الجثمان فطلبوا مني الانتظار حوالي الساعة، ثم التوجه إلى المخزن لاستلامه، توجهت أنا والمرافق إلى المخزن ولا أذكر رقمه بالتحديد، واستعلمت عنه فأخبروني أنه في المخزن الآخر الذي يبعد عن هذا المخزن بأكثر من 3 كيلومترات، وفعلا توجهت إليه واستعلمت منه، وبعد فترة قالوا لي إنها موجودة في المخزن الأول، وتأكيدا لذلك فتحوا المخزن فشاهدت فيه تلالا من الصناديق والحقائب ولم أجد فيه صندوق الجثمان. وعدت أدراجي إلى المخزن الأول، فأبلغني أمين المخزن أنه سيبحث عن الجثمان، وطلب من المرافق (السعودي من فضلك) عدة أوراق قدمها له، وأخيرا طلب مني طابع دمغة (بمناسبة مقالك عن الدمغة) توقيع 25 مليما لأضعه على إيصال الاستلام. وكانت الساعة 3 صباحا، فأفهمته بأنه لا يوجد معي طوابع دمغة، وعرضت عليه أن يأخذ ثمنها فرفض وأفهمني أنه يوجد مكتب بريد بالبدروم يمكن شراؤها منه. فأفهمته بأنني متقدم في السن ولا يمكنني البحث في هذا المكتب، ورجوته أن يرسل أحد عمال المخزن لشرائها رفقا بوالد مات ابنه ويبحث عن جثمانه، وأخرجنا ورقة من ذات ال 25 قرشا ليعطيها له ليشتريها ويعيد الباقي، فاعتبر سيادته ذلك إهانة له. أغلق المكتب على نفسه، فتركت المكتب وذهبت للبحث عن مكتب البريد فوجدته مغلقا، وعلمت أنه يفتح 6 صباحا؛ فانتظرت على الباب أنا والمرافق (السعودي من فضلك) حتى فتح في الساعة 7 صباحا واشتريت الدمغة وذهبت إلى أمين المخزن وقدمتها له، وظننت أن الأمر قد انتهى. وإذا بسيادته يطلب مني أن أختار أحد العمال من عمال المخزن لإحضار الجثمان لأنه لا يزال في الطائرة ولم يصل المخزن؛ وهنا لم أتمكن من ضبط أعصابي وصحت: لماذا أختار العامل الآن؟! ولماذا لم تقل لي هذا عند طلبك إحضار الدمغة؟ وسقطت في غيبوبة، ولما أفقت بعد ساعة تقريبا علمت من المرافق (السعودي من فضلك) أنه اختار أحد العمال وأعطاه جنيها أتعاب إحضار الجثمان. وحضرت عربة نقل الموتى ودار السائق بين المكاتب المتعددة طورا للاطلاع على رخصة القيادة، ومكتب آخر للاطلاع على رخصة السيارة، وثالث لأخذ تعهد عليه. وأخيرا تسلمت هذا الجثمان - ابني حبيبي - وكانت الساعة 12:20، أي بعد أكثر من 32 ساعة من الإجراءات.
حسن حسني عبد الحليم
2 شارع قنطرة غمرة، ميدان الظاهر •••
عذرا لسردي هذه الفاجعة التي لا يمكن أن تحدث إلا عندنا، إني لا أطلب تحقيقا في الموضوع؛ فهو قد حدث ويحدث وسيحدث وآلاف غيره. ولكني أريدها مرآة تعكس لسادتنا الموظفين ما يقومون به أحيانا بوعي أو بدون وعي انتقاما من ظروف أو أزمات، أو هكذا، زهقا وضيق حال، نحن منكم وأنتم منا، فلماذا يعذب بعضنا البعض؟ لماذا؟
لمن اخترعت كلمة «الدمث»؟
هناك أناس يموتون فتحزن عليهم لأنهم خسارة وطنية أو قومية، وهناك آخرون تحزن عليهم لأنهم كانوا يمثلون لك أهمية خاصة، وذهابهم سيضيرك أو يضرك، وهناك أناس تحزن عليهم شفقة أو إشفاقا لما سيجري لعائلاتهم من بعدهم، وهناك أناس لأنهم أصدقاؤك أو بعض معارفك أو عتبا على الموت أنه اختطفهم قبل الأوان أو غيلة. غير أنه في النادر جدا ما تحزن لوفاة إنسان، لا لأنه كان صديقا عزيزا فقط، ولا زميل عمل فقط، ولا كفؤا فقط، وإنما فوق هذا كله قد تجمعت فيه وتركزت خصال هي في النهاية التي تجعل من الإنسان إنسانا، ومن العنصر البشري عنصرا ساميا، أسمى ما في الكون الذي يجعله رغم كل موبقاته جديرا حقا بلقب إنسان.
وأنا حزين على صديقي محمود عبد العزيز محمود حزنا هز أعماقي هزا، ولم يحدث لي من زمن طويل ربما منذ أن مات أبي من عشرين عاما؛ ذلك لأنه ليس حزنا «عقليا»، ولكنه نابع من وجدان كان يرى في محمود عبد العزيز الإنسان، ليس الإنسان الكامل، فلا كامل سوى الله، ولكن الإنسان الأكمل منا جميعا نحن الأحياء.
ثمانية عشر عاما عملتها معه، أحيانا باتصال عمل مباشر، وأحيانا بحكم الوجود في مؤسسة واحدة سواء أكانت «الجمهورية» أم «الأهرام». بل ومن الصدف الغريبة أن تكون علاقتي به خلال العامين الأخيرين علاقة عمل كاملة. وماذا أقول لك عن علاقات العمل وضرورة أن يحدث فيها غضب واختلاف وأحيانا صدام ومقاطعة؟ وباختصار: عمري ما رأيت مشرفا على عمل يومي إلا وهو يتمتع بقدر كبير من الكره، إما من مرءوسيه المباشرين أو زملائه أو رؤسائه. هذا إنسان نادر؛ ذلك أنه ليس معي فقط وإنما مع الجميع، وأقولها بلا أي مجاملة ولا حتى مجاملة صديق مات شهيد الواجب والمهنة، وإنما أقولها كحقيقة لا يستطيع أن ينكرها حتى أشد الناس كرها له، لو حدثت المعجزة ووجدت فعلا من يكرهه. نسمة إنسان وسط جحيم القيظ البشري الذي نعيش فيه، كلما تراكمت متاعب الدنيا والعمل أحس على الفور أني في حاجة لابتسامته، وفي حاجة للحديث معه، وأنا أعرف أني لا أتحدث مع إنسان خالي البال أو لا يعاني من مشاكل، بالعكس أتحدث مع إنسان تحاصره الهموم وتكاد تخنقه المشاكل، ومع هذا فهو ابتسامة حانية لغيره، تقدير مرهف ودقيق لظروف الآخر قبل ظروفه. دمث، و«دمث» كلمة طالما استعملناها لنقر بحقيقة أو للتمني أو للمجاملة. أعتقد أنه لو لم توجد كلمة دمث في اللغة العربية لأوجدها محمود كاملة وبكل أبعادها بتصرفاته ومواقفه وأفعاله، لاخترعها بمجرد شخصيته اختراعا.
آخر مرة رأيته فيها كان يوم الأحد في استراحة الرئيس بالمعمورة أثناء اللقاء مع الكتاب ورجال الإعلام ونحن نتصافح. بابتسامته الودودة المصرية شد على يدي وقال: موعدنا غدا الاثنين لتسلمني مفكرة الجمعة كما اتفقنا. وقلت: خلاص يا محمود. قال: لا! أريد، أرجوك أن تحدد الموعد بالساعة والدقيقة وليس اليوم فقط. قلت: لا، إني متنازل لك عن تحديد الساعة، حددها أنت. قال: لقاؤنا إذن إن شاء الله سيكون في الثانية عشرة بالدقيقة والثانية. موافق؟
ولكنه سبحانه شاء أن يتم اللقاء حقا، إنما بطريقة أخرى. ففي الثانية عشرة تماما وبالدقيقة والثانية كنت ألتقي بمحمود، كل ما في الأمر أن روحه كانت قد صعدت إلى السموات العلى، وجسده كان محمولا على أعناق الرجال. لقاء وأي لقاء! مضبوطا في مواعيده وعهوده كما كان دائما، وكما هي عادتي أنا غير مضبوط في مواعيدي. ولكني هذه المرة كنت مضبوطا تماما، بل جئت قبل الموعد بساعة، فقد كنت أعرف أنه آخر لقاء.
عزاء لنا جميعا نحن العاملين في أشق المهن وأكثرها متاعب، ومعظمها متاعب فيها ومن أبنائها لأبنائها، عزاء لنا في أجمل زهرة «أقسم إن هذا رأي حقيقي وأبدا ليس مجاملة لمحمود لأنه ذهب» كانت تعبق في صمت في صحافتنا، والمؤسف أنها كانت تعبق لنا فقط، المؤسف أن جمالها ورائحتها لم تكن تصل بطريق مباشر إلى القراء والجمهور وإلا لبكوا عليه بحرقة ومن قلوبهم وأكبادهم مثلما فعلنا نحن الذين عرفناه، وكانت معرفته تمثل لكل منا نسمة رقيقة عليلة في جحيم العلاقات الصحفية الخماسينية اللافحة التي تحيط بنا.
وإلى جنة الخلد أيها الشهيد، فقد مات لأنه كان يريد أن يسرع ليلحق بالعدد، وفي وقت مبكر حتى يقدمه للقارئ كاملا عامرا في اليوم التالي؛ إذ هو الجندي المجهول وراء «الأهرام» تصلك حافلة وأنت المستريح في فراشك لا تزال، أو خلف مكتبك تشرب قهوتك منسجما مرتاحا. مات والموت حق، والموت مصيرنا جميعا، ولكن أحيانا يكون للموت لدغة كقرصة «الكوبرا» صاعقة، وسامة، وبشعة الألم.
إلى اللقاء إذن يا محمود في يوم لن يحدده أحد منا، ولكن إلهنا العظيم هو الذي سيتولى تحديده، لقاء لا فراق بعده؛ إذ أعتقد أن من متع الجنة أن يجمعك الله بكل من أحببت في دنياك، والجحيم أن يكتب عليك أن تكون مع من تكرهه حتى ولو كان في الجنة.
الإسكان تحول من أزمة إلى مأساة خلقية
مثلي مثل آلاف وملايين المصريين، تابعت خلال الأسبوعين الماضيين كل ما كتب عن قانون الإسكان الجديد وما دار من نقاش؛ كل ما هو ضد القانون، وكل ما هو معه، كل من سماه قانون إعانة أصحاب البيوت، وكل من جعله المنقذ الوحيد لأزمة الإسكان الرهيبة التي نحيا في ظلها، ولا أدري أهي الصدف المحضة أم لأن الحال عام ومزمن وكالآلام الروماتزمية لا يكف عن النقح والطنين؛ فقد تصادف أن وصلني في وقت واحد ثلاثة خطابات، اثنان منها من رجلين والثالث من مواطنة سمت نفسها الآنسة السيدة.
أحد الخطابات كان في ست عشرة صفحة، وكان كأنه نابع من عمق آلام عمرها ألف عام، فقد كان من زوج يعرض علي مأساة بلغ حرجي منها أن احترت أن أموت فيها على نفسي من الضحك غيظا أو أغتاظ منها إلى حد الانفجار. ومشكلة هذا المواطن أنه تزوج من عشر سنوات، وظل زواجه موفقا لمدة ست سنوات أنجب فيها ولدا وبنتا. والقصة طويلة، أختصرها بقولي إن زوجته كرهته وبدأت على حد تعبيره «تلعب بذيلها.» وأخيرا بعد أن ضاقت به السبل استجمع رجولته وقرر مواجهتها وفعلا وفي غرفة النوم المغلقة (حتى لا يسمع الأولاد) واجهها. ودهش هو بل روع لأنها لم تحاول أن تصرخ أو تتشنج أو تدافع أو تتهمه أو تصنع شيئا من كل هذا؛ لأنها ببساطة شديدة قالت: ما قلته ليس دقيقا؛ فهذه المعلومات عائمة، أنا عندي معلومات وتفاصيل أكثر مما قلته بكثير، أنا بصراحة أصنع كذا وكذا، وفي نيتي أن أصنع كذا وكذا؛ لأنني كرهتك بكل نفسي. ماذا تريد؟
أسهب في شرح ما جرى له لدى سماعه ما قالت، وفكر أن يهجم عليها ويظل يضغط بيديه حول رقبتها حتى يقتلها. ولكنه كما يقول منعته أسباب كثيرة، آخرها - ولكنه في رأيي أولها - أنه لا يملك الحيوانية الكافية لقتل فرخة، فما بالك بزوجته التي مهما كانت فهي إنسانة وليست فرخة. «إيه رأيك بقى؟ إن كنت راجل صحيح زي كل الرجالة طلقني.» وفعلا كما يقول رمى عليها يمين الطلاق. وخرج إلى الصالة ليدخن سيجارة ويفكر فيما يصنعه بعد هذا. غير أنه فوجئ لدى أول خطوة يريد أن يخطوها بمشكلة لا يمكن أن تخطر على البال، إنه لا يستطيع أن يطردها من البيت؛ فالشقة في الحكم القضائي تعتبر مكانا للزوجة ولأولادها، وأن عليه هو أن يذهب. ولكنه لا يملك مكانا يذهب إليه، فهو لا يستطيع أن يقيم مع شقيقه أو شقيقته أو في بيت العائلة في قرية تبعد عن العاصمة 300 كيلومتر، بينما عمله في العاصمة! يطردها ويهددها بالقتل؟! ويبدو أن الزوجة أو المطلقة كانت مستعدة لكل شيء، وقد ذكرت له أن الشقة بحكم القانون شقتها وأن الأولاد أيضا بحكم القانون تحت ولايتها، وأنها قالت إنها لا تملك مكانا تلجأ إليه، لا نقود خلوا لشقة ولا قريبة تسمح لها بالإقامة مع أولادها الاثنين معها. وأنا هنا قاعدة لا يستطيع أن يخرجني إنس ولا بوليس ولا جان. خرج إلى القهوة واستشار، وعاد وبات في الصالة، وفي العمل أيضا، وبسرعة تامة، وبقيت المشكلة رابضة بلا حل، بلا أمل في أي حل.
في الحقيقة بقي حل واحد فقط، أن يرجعها لعصمته، وذلك بأن يقوم بواجبه الزوجي فيصبح الطلاق كأنه ما كان. ولكنها رفضت هي بتاتا هذا الحل، وتماما مجرد أن يلمسها؛ فهي لا تقبل حتى رؤياه، فما بالك أن يقضي ليلة حب معها؟ وهي متمسكة بالطلاق الذي وقع ولا ذرة أمل أن تغير موقفها. - وأنا راخر متمسك. - طيب شوف لك بقى حتى تتهوى فيها. - ما ليش إلا هنا. - والله تقعد هنا تمشي من هنا أنا ح أعمل اللي على كيفي، وإذا ما كنش عاجبك الباب يفوت الجمل.
وهكذا بدأت المأساة التي كتب لي القارئ ست عشرة صفحة يستعرضها. فهما لا يستطيعان أن يقولا للناس إنهما مطلقان، وفي نفس الوقت ليسا زوجين على الأقل بينهما وبين أنفسهما. وهو يسمع، ويشاهد المفتاح يفتح الباب في الثالثة والرابعة صباحا، وأحيانا بعد أيام قد تمتد إلى أسبوع. وهو مضطر إما أن يرتكب جريمة ويقتلها، وهذا حل قلنا وقال هو إنه ليس باستطاعته، ولا يبقى له إلا أن يسكت.
ثم طرأت على رأسه فكرة، طب ما راخر يعمل اللي هو عايزه. وفعلا كأنهما في بيتين منفصلين، بدأت النساء الغريبات يدخلن ويخرجن، وبالتالي بدأت هي تحضر الرجال الأغراب. بل وبدأ ما هو أتعس وأبشع؛ بدأ الولد والبنت بعد الأسئلة التي لا تجد جوابا، أو يجاب عليها بغموض لا يشفي غليلا. بدأ الولد والبنت يعرفان كل شيء، وبالطبع ينهاران من الداخل تماما. ثم ... ثم بقية الخطاب الطويل ألم، ألم! أبشع أنواع الألم! والسبب «أزمة المساكن» والخلوات! هذا خطاب.
الخطاب الثاني يكاد يكون من دفعة من خريجي الجامعة - وليس من مجرد فرد - لم يستطيعوا لأسباب اقتصادية والتزامات عائلية أن يتزوجوا أيام كان الخلو مائة ومائتي جنيه، وحين بدأوا يفكرون في الزواج كان قد ارتفع إما إلى التمليك بالآلاف وإما إلى الخلو أيضا بالآلاف. وصل بعضهم إلى الأربعين والواحد والأربعين والخمسة والأربعين، والعمر ينزلق، ولا مال يتكون ليكون خلوا أو تمليكا، ولا زوجة ترضى ما دام الزوج جامعيا بأقل من السكن في الشقة، يعني ذبالة عمرهم بدأت تذوي، وحنينهم إلى الخلفة وتكوين عائلة تؤويهم ليل نهار يتعاظم، وهم كأبطال الإغريق الذين حلت عليهم «لعنة السكن» لا يزالون يسكنون كل اثنين في حجرة، وأحيانا كل ثلاثة، بالضبط كما كانوا أيام التلمذة. ويسألني القارئ في النهاية ماذا يفعل؟ وماذا أستطيع أن أفعل لمساعدته ومساعدة أمثاله، وكأنني هرقل القادر على أن يقاوم لعنة آلهة الأوليمب أو شيطانة المساكن؟
أما الخطاب الثالث القادم من الآنسة السيدة أو السيدة الآنسة فمشكلة أعجب، والبنت من المنيرة من أسرة متواضعة تسكن هي وأمها وأبوها في حجرة، والولد أبوه مزارع باليومية في إحدى محافظات بحري. والاثنان أتاح لهما التعليم بالمجان فرصة أن يكملا ويدخلا الجامعة، وليس أن يتخرجا في وقت واحد فقط بل أيضا خلال السنوات الأربع يتعارفان ويتحابان. وحيث لا مكان لأي شيء آخر، فهو يسكن لدى خاله في نصف حجرة يشاركه فيها ابن خاله، وهي كما قلنا مع أبيها وأمها في حجرة على السطوح ؛ بيت من بيوت المنيرة حيث لا مكان لأي شيء آخر، حتى ظلا خمس سنوات لا يتلامسان إلا بالأيدي وبالقبلات المختلسة في الأورمان، أو على ظلام ضفاف النيل أحيانا. وهما مخطوبان في بنصر كل منهما دبلة، ولكن في القاهرة مأساة تمنع أي انتقال للدبلة من اليد اليمنى إلى اليد اليسرى أبدا. حتى الكتاب كتباه، بل ومن مرتبها المتواضع ومرتبه بدآ في شراء أشياء للبيت. الحلم الذي لا سبيل إلى تحقيقه إلا بأن يعود فلاحا يزرع الأرض مع أبيه، وترضى هي أن تتنازل عن العمل وتعود تتعلم كيف تشتغل «نفرة» باليومية في قرية حبيبها. وحيث إن هذا مستحيل، والالتقاء تحت سقف واحد مستحيل أيضا، وحيث إننا بشر ومكتوب حتى كتابنا، ضج جسداهما بالوضع وحدث ما حدث في ركن من سطوح البيت الذي تحتل حجرة أبيها وأمها قطعة منه، واستحلياها، فتكرر الحدوث ما دام «الجو ربيع» وصيف. ولكن الكارثة لم تكن هنا، الكارثة حين جاء الشتاء وهما شابان يطفح جسداهما بالشباب وبالرغبة الحلال، واستحال الحدوث على السطوح واستحال حتى أن يكون في حجرة أبيها وأمها؛ ذلك أن الأب مرض بالشلل النصفي ورقد في الحجرة ليل نهار، وأنت لا تستطيع أن تتوقف عن الطعام وقد تعودت أن تعيش بأكل الطعام. ولم يكن هناك من حل آخر. وبالإقناع والتلامة وبكل سلاح رضي الأب ورضيت الأم أن يشاركهما الشابان الحجرة أثناء الليل. وضعا ستارة من القماش تقسم الحجرة قسمين، وبدأت المأساة من أول ليلة؛ بعد أن اطمأنا إلى استغراق الأب والأم في النوم بدآ يستيقظان. ولكن الشاب ريفي خجول، ولساعات مضى يتصبب عرقا ويحاول أن يلغي وجود النائم في نصف الحجرة الآخر، غير أنه لا يستطيع أبدا، لا ليلتها ولا ليالي كثيرة تلتها. ولا طب ولا أطباء نفعا؛ فالمشكلة ليست طبية، إنها «مرض سكني» محض علاجه «الانفراد». وتستغيث بي السيدة الآنسة لأتوسط لها لدى المحافظ؛ فقد بدأت تحس أن عواطف عريسها الزوج بدأت تفتر وتهدد بأن تنقطع، وهو كما تقول: «حياتها» إن تركها ستنتحر، وهي لا تقول هذا تهديدا، ولكنها بدت لي من خلال سطورها الطويلة الدقيقة أنها فعلا ستفعلها لو الشاب تركها. •••
لم تعد المسألة إذن مسألة إسكان. لقد تحولت من أزمة إلى مأساة اجتماعية أخلاقية تماما، وتدهورت إنسانيا إلى مراحل أحط من حيوانية الحيوان.
أيها السادة الذين تناقشون في مجلس الشعب مشاكل قوانين الإسكان، نحن نواجه وضعا لا تستطيع الحكومة بإمكانياتها الحالية حله، هذه حقيقة أنا متأكد منها. ومتأكد أيضا أن الملاك أو من يسمون القطاع الخاص هم وحدهم القادرون على زرع عمارات ومساكن مهما بولغ في تقدير أرباحهم منها، فهي في رأيي المتواضع أهون ألف مرة من أجيال تتهرأ وقيم تغوص وتنمحي وأطفال حتما فاسدون أو سيفسدون. أي حل في هذه الحالة حلال، وأقولها وأنا الاشتراكي المؤمن تماما أن الاستغلال هو شيء من أسوأ الخصال البشرية، أقولها مثلما فعل عمر رضي الله عنه حين أمر بإيقاف إقامة الحد أيام الأزمة، أي أوقف ركنا من أركان الإسلام. أقول فليربحوا وليستغلوا؛ فلا بديل إلا أن نتحول بواسطة الأزمة الحالية إلى حيوانات في زرائب كافرة بكل قيمة، مستعدة لأن ترتشي وتسرق وتفعل ما فعله مالك. ما دامت إنسانيتها مهددة على هذا النحو في أخص خصائصها: سقف يؤويها. لقد قدم المهندس حسن محمد حسن وزير الإسكان حلا يغري به القطاع الخاص على الإسراع في مساعدة الحكومة لسند مجتمع يتقوض؛ فأرجوكم وافقوا الرجل وساعدوه على أن يصنع شيئا يكون فيه حل عملي للمشكلة؛ فما أقرؤه من بريد وما أسمعه وألمسه من قصص، شيء يختل له أي عقل لأي إنسان لديه ذرة عقل. إنه شيء لا يمكن احتماله. وإلى الجحيم بأي مكسب قد يكسبه صاحب المسكن؛ فالمطلوب أن يكثر العرض ليقل الطلب، وبطبيعة الأشياء ما دمنا سنغريهم فسيبنون أكثر ويزاد العرض، وحتما سنصل إلى وضع تعتدل فيه كفة الميزان. دعوكم من الألفاظ الجوفاء، فالناس تتعفن نفوسها من الداخل، أجيال بأكملها تضيع، ولا يمكن أن نسمح للعفن أن يصيب أعماق - بالذات - شبابنا وشباتنا وأجيالنا الكثيرة التي كبرت في الأزمة وتقاسي بأعنف القسوة منها. ولا يمكن أن نسمح لنفوس هؤلاء أن يصيبها العفن حتى لو جاء القانون ليعطي بعض المكاسب لأصحاب العمارات الموجودة المؤجرة مفروشة لتطرح للإيجار، والتي ستبنى لنحل المشكلة قبل أن تحللنا تماما. فنحن في منتصف الطريق، وإذا اعتمدنا على الحكومة أن تبني أرخص وأقل ربحا فسنكسب قليلا من النقود هذا صحيح، ولكننا سنخسر جيلا، هذا إذا كان في استطاعة الحكومة أن تفعل، فما رأيك وهي لا تستطيع؟ إني ها هنا أناشد كل من باستطاعته أن يبني بيتا أو عمارة أن يفعل، ولا أقول فلنكف عن بناء دور العبادة، ولكن العبادة تبدأ بمسلك، والمسلك يبدأ بمسكن، وما فائدة أن تعبد الله في بيته الفاخر بينما الخطيئة كالنار مستشرية في بيوتنا، داخلها وخارجها، والسبب أزمة المساكن؟ لا أعرف بلدا في العالم يمر به على نفس الدرجة الذي نمر به نحن، يمر به أناس صامتون، فمعظم من يتحدثون ويتحذلقون على صفحات الجرائد والمجلات والإعلام لهم سقف يظلهم ويتيح لهم أن يكون لهم رأي أو موقف. المعذبون، المحروقون المكويون غضبا وحنقا الذين لا يكتبون ولا يكابرون، لا يملكون إلا أن يموتوا بغيظهم هم الذين يعانون بوحشية يعانون، وكل مناقشة وكل تأجيل يزيد من بشاعة ما يحتملون؛ فقرروا، وفروا شيئا، أي شيء.
المهم: أي سينما؟
أثار الموضوع الذي كتبته عن كرامة المرأة وإنسانيتها التي يحاول إهدارها ردود فعل كثيرة، وخاصة عند أصدقائنا السينمائيين الذين اعتبروا أني «أهاجم» السينما المصرية «الناجحة». ورأيي أن يعود هؤلاء السادة لقراءة ما كتبت، بل رأيي أن يقف منتج ومخرج وكاتب كل فيلم «ناجح» على أبواب السينما التي يعرض فيها فيلمه، ويتلقى من الجمهور رأيه فيما شاهده مباشرة، وأرجو أن يخرجوا بعد هذه التجربة أحياء. بالعكس إن ما حاولته هو إنقاذ حقيقي لصناعة السينما في مصر. قد بدأت بلاد عربية كثيرة تمنع دخول الأفلام المصرية، خوفا على أخلاقيات شعبها وأجيالها الجديدة. واستمرار الحال على هذا المنوال هو التهديد الحقيقي لصناعة السينما، أما مطالبتي ومطالبة غيري بإنتاج أعظم وأكبر وأكثر متعة، بحيث يحمل للمتفرج ترفيها حقيقيا يرفع من إنسانيته ولا يخرج بعده وهو خجل من نفسه ومن بلده ومن سينمائييه، وكأنه ارتكب بما شاهد خطيئة في حق نفسه لا تغتفر. ذلك هو المطلوب. إن كل الناس مع السينما وأنا منهم، ولكن معظم الإنتاج السينمائي عندنا ليس سينما، وليس فنا، ولا صناعة، ولكن له اسما آخر من المستحسن أن يوضع عليه كما يحدث في البلاد الغربية «المنحلة من فضلك» حينما نقول إن هذا فيلم جنسي لا يراه إلا الكبار، وهذا فيلم يراه الجميع، وهذا فيلم لا يعرض إلا في النوادي الخاصة. أما أن يدس لي ما أسميته بالماء الكاوي الذي يذيب القيم - أبسط القيم حتى الصداقة - في إطار سينما للجميع؛ فهذا هو ما لا يمكن أن يقبله أحد.
إنها ليست دعوة إلى التزمت وأن ترتدي أفلامنا الحجاب ... أبدا، وإنما هي دعوة إلى الصدق والصراحة والحرية في معالجة أمور حياتنا، حينئذ سيقبل الجمهور إقبالا لا تحظى به الأفلام الجبانة المفتعلة. انفتحوا على حياتنا وعلى ما فينا من مرح حقيقي، على بطولاتنا وعلى أخطائنا وافعلوا هذا بشجاعة، وهذا هو الإنقاذ الوحيد، مرة أخرى أقول الوحيد.
رماديات
تلفت حولي أقرأ الوجوه. لم يكن بها أثر لحزن ما، كان كل وجه يرى ويسمع ويصغي إليك بل ويحادثك، ولكنك تحس أنه مجرد قناع، وأن الوجه الحقيقي غارق في بحر خاص لا قرار له؛ غريب هذا! لقد تغيرنا، لا أقصد كمجتمع وإنما كأفراد وكتصرفات أفراد. أذكر منذ عشر سنوات أو أكثر قليلا أن أشرف زميل لنا على الموت في المستشفى، وما كاد الخبر يعرف حتى غصت طرقات المستشفى والحجرات المجاورة لحجرته بعشرات - ولا أقول بمئات - من الزملاء والكتاب والفنانين والفنانات. جزعهم جزع حقيقي نابع من القلب، وفجيعتهم حين مات فجيعة حقيقية.
ثم ها نحن الآن! يموت أعز الناس فلا يستغرق الحزن عليه دقائق. حتى أقرب المقربين يحزنون، هذا صحيح، ولكن طاقتهم على الحزن محدودة سرعان ما تستنفد ليعود كل منهم يغوص في خضم حياته ومشاكله. حتى الفرح ! لم نعد نفرح فرحا كالبحر الهائج عارما صادقا صادرا عن القلب بلا أي مانع أو حاجز. نفرح! هذا صحيح، ولكنه ذلك الفرح المحدود الضئيل الذي نحاول تضخيمه بإحالته إلى قهقهة، ولكنها قهقهة تخرج عالية صاخبة إنما بغير روح. حتى ضحكات الجمهور في مسارح القطاع الخاص، ضحكات عالية ولكنها مغتصبة، مشنجة، حنجرية، وكأنما يجاملون بها الممثلين على المسرح. أيكون قد مضى بنا زمن البراءة والفطرة، وأن الحياة قد تعقدت وتشابكت. كثرت بحيث لم يعد هناك مكان لعاطفة ما، مفرطة بحيث لم يعد للأسود الفاقع أو الأبيض الناصع وجود في حياتنا، إنما هو الرمادي يصبغ كل شيء. برمادية نتلقى بزوغ الشمس في الصباح، برمادية نحتسي كوب الشاي، بعيون رمادية نبدأ العمل، نحب ونتزوج ونجوع بلا مبالغة أو تفريط، إنما برمادية باهتة نفعل. أين عواطفنا الجامحة؟ أين الطموح العظيم؟ أين الإقدام النهم على الحياة؟ أين الحب وحتى آخر قطرة دم؟ أين الشجاعة والأريحية والشهامة؟ أين الصديق؟
يخيل لي أننا قد أصبحنا نعيش بعواطف أخرى، باشتباكات مصالح، بقيم مختلفة تماما، بكم من العواطف ما أشد ضآلته.
كل الدلائل تشير إلى أننا اجتزنا أشد المصاعب وعبرنا أكبر العقبات، وأننا في طريقنا إلى الأحسن، ولكننا بشر. وأعتقد أن المحن الروحية التي خاضها إنساننا المصري خلال الأعوام القليلة الماضية، محن تشيب لهولها الولدان، محن كانت كفيلة بخنق كل نبضة حياة في أي منا، وبطولتنا أننا صمدنا واجتزناها. وها نحن الآن على الجانب الآخر، ولكننا شيوخ وصلنا، حتى أطفالنا شابت منهم الرءوس.
وأملي أن أعيش حتى يسترد كل شيء طعمه الخاص، حتى يعود للفرح فرحه، وللحزن روعته، وللقلب دقه، وللعواطف تدفقها، أسنعود من جديد نضحك ونبكي ونجوع ونحب، ونفعل هذا بكل ذرة في كياننا؟
إنني لا أملك سوى الرجاء.
وعن السينما أيضا
ونعود إلى السينما وصناعتها وماء نارها الكاوي. ممكن أن يقوم قطاع خاص في السينما هذا صحيح، ولكنه لا يمكن أن يقوم على شكل دكاكين البقالة الصغيرة التي انتشرت في حقل الإنتاج السينمائي هذه الأيام. ثمانون فيلما في العام! ليه؟ هوليود بجلالة قدرها لا تنتج هذا العدد، مفروض أن يكون مقابل هذه الأفلام الثمانين ثمانمائة ألف عربة، وخمسمائة ألف آلة وأوتوبيس، وأكوام من الإنتاج الصناعي والزراعي الحقيقي لا حصر لها. فما بالك إذا كانت ثمانون فيلما فيها على الأقل سبعون، يضيع الفيلم الواحد منها كل أثر لأي كتاب أو ثقافة أو تعليم أو ضمير، أفلام تجأر بالشكوى والأنين، أفلام لا بطولة فيها ولا مثل واحد يحتذى أو يرفع من قيمة الإنسان وقدره، أفلام إما بطلها جبان يضحك بجبنه أو صديق يخدع صديقه أو فتاة يطاردها ذئاب البشر وهي مسكينة غلبانة مجني عليها يا عيني. وما هذا الكلام الفارغ؟ إن الفن هو ضابط الإيقاع للمجتمع، وإذا كان الهلس يسود أفلامنا فمن المحتم أن يمتد إلى حياتنا يحيلها هلسا في هلس، ولا مبالاة في لا مبالاة، يقتل الطموح ويقتل القيم. إنني أتلقى خطابات كثيرة من القراء المصريين الذين يعملون في بلادنا العربية، كيف تندى جباههم خجلا وهم يرون مصر ونساءها وكيف تصور في أفلامنا. كتب قارئ يقول: أحس بكرامتي وإنسانيتي تنزف، وأن شرفي كمصري مستباح، وبالذات لأبناء البلد الذي أعمل فيه. حرام عليكم.
وأنا أقول «لبتوع» السينما عندنا: ليس حراما عليكم فقط، ولكن أقول لكم بصراحة: أنتم تقدمون لشعبنا سما زعافا في سبيل الربح، ولا بد أن نقيم عليكم وصاية شعبية أولا؛ فقد ثبت أن الرقابة الرسمية لا يمكن وحدها أن تقف أمام هذا الاكتساح الهلسي الرهيب، وإذا نحن تركنا إنساننا وإنسانتنا لهذا الهلس فالعوض على الله فينا كشعب وحتى كأمة عربية؛ لأننا نصنع لهذه الأمة سينمتها وحلقاتها. أنتم تريدون الربح والجمهور، ولكم حق في هذا، ولكن الربح على طريقة دكاكين البقالة ربح صغير، وهو الذي يدفعكم إلى الهلس كوسيلة لجذب المتفرج، والحل ليس مزيدا من الهلس، الحل هو الاندماج معا في شركات كبرى تحترم نفسها وتحترم ما تقدمه لمتفرجها وتربح أكثر حين تنفق على أفلامها أكثر.
وإذا لم يحدث هذا الاندماج فإنني - أنا الذي ضد تدخل الدولة في الفن - أطلب من الدولة أن تصدر قانونا عاجلا لتنظيم صناعة السينما بحيث لا يسمح لأي من هب ودب أن يقدم أي قصة وأي كلام وهات يا أفلام. إذا كنا لا نسمح للطبيب أن يعالج مريضا إلا بعد دراسة لا تقل عن العشرين عاما، فكيف نسمح لجاهل أن «يعلم» شعبا كبيرا قيمه ومبادئه و«يربي» أجياله؟ والكلمة هنا لا تنطبق على المنتجين فقط، وإنما - وهذا هو الأهم - على كتاب السيناريو والحوار والمخرجين. وأطالب في نفس الوقت أن تتكون من النوادي الثقافية واتحاد الأدباء ونقابة الصحفيين ونقابة السينمائيين جمعية «حماية المتفرج» فالمسألة أخطر بكثير من أن نتركها لعبث بعض العابثين باسم حماية صناعة السينما، فلتذهب السينما إلى الجحيم إذا كانت تريد أن تذهبنا إلى الجحيم.
ما دمنا نتكلم عن الفن
على كثرة ما نناقش الفن والفنانين والكتابة والكتاب على صفحات جرائدنا ومجلاتنا ووسائل إعلامنا المختلفة، إلى درجة غريبة في أحيان؛ إذ أليس من الغريب أن تشاهد أو تسمع برنامجا بأكمله أو ربما سهرة تناقش عملا فنيا مثل أغنية أو رقصة، وتناقش مسائل «الوحي» وتفاصيل عملية «الإبداع»؟ ذلك أن مشاكل كهذه تعتبر مشاكل خاصة جدا لا يمكن أن يناقشها المجتمع إلا إذا كان قد فرغ من مناقشة معظم مشاكله الحقيقية العامة، حينئذ باستطاعته أن يتفرغ لمناقشة مهنة كالهندسة، ويتتبع تفاصيل خلق وإقامة عمارة مثلا.
المهم
على كثرة ما نناقش مسائل الفن والكتابة، فنحن أحيانا نغفل عن أبسط مبادئ الفن والكتابة. وأولها في رأيي التفريق بين الفنان والحرفي، وبين الكتابة و«حرفة» الكتابة. فنحن مثلا حين نتداول كلمة «موهوب» أو كلمة «فنان»، نعني بها ذلك الإنسان الذي أوتي قدرة فريدة على مزاولة الرسم مثلا أو التلاعب بالكلمات كشاعر. نعتبر الموهبة إذن شدة حذق في صنعة الرسم أو صنعة الكتابة أو صنعة التمثيل. ويصبح «الفنان» حينئذ إنسانا مساويا تماما لأي حرفي آخر حاذق في صنعته.
ولنأخذ القصة مثلا.
عاملناها كحرفة، وعاملنا القصاص أو اعتبرناه إنسانا يحذق «فن» القص، وجعلنا اختلاف القصاصين بعضهم عن البعض يقاس «بمهارة» كل منهم في كتابة القصة أو حبكها.
ولا شك أن الفنون جميعا بدأت كصنعة أو كحرفة يتقنها بعض الناس، كما يتقن آخرون «قص الأثر» أو صناعة القلل. وظل الناس يعجبون بصنعة الفن لمرحلة طويلة جدا من الوقت، ويفرقون بين الرسام أو النحات والآخر بمقدار كفاءته أو حذقه في الرسم أو النحت أو الكتابة.
ولكن العصر الحديث حمل لنا ثورة في مفهومنا للفن وللفنان، فالفنان لم يعد مجرد ذلك الحاذق في نحت الحجر أو الرسم بالفرشاة، أصبح الفنان هو الشخص الموهوب، ليس الموهوب في صنعة التلوين أو الكلام وإنما الموهوب برؤيته. أي أنه موهوب لأنه «يرى» فيما نراه أشياء «لا نراها»، أشياء نعبرها أو نراها ولا نفهم مدلولها ومعناها. الفنان هو ذلك الإنسان القادر على أن يكتشف لنا أو يعيد اكتشاف العالم من وجهة نظره. بمعنى آخر الفن لم يعد حذقا وصنعة، وإنما أصبح «رؤية» مختلفة إلى الواقع. فصحيح أن لنا عينين وأننا نرى، ولكننا في حقيقة الأمر رؤيتنا محدودة جدا، محدودة بقدرتنا الخاصة على الرؤية، محدودة بمعلوماتنا عما نراه، محدودة حتى بما نريد رؤيته.
فنحن نعيش في الواقع ونرى، ولكن أبصارنا محدودة بقدرة أعيننا على إدراك ما نراه. الفنان هو الإنسان القادر على أن يرى ربما أبعد، ربما جانبا آخر لا نراه، ربما نظرة جديدة إلى النفس والآخرين. إن الإنسان في الكون الهائل يشبه الطفل يوضع في حجرة مظلمة لا يعرف ما فيها إلا بمقدار ما يلمس أو يتذوق أو يرى. ولأن الأصل هو الظلام، فالقدرة على الرؤية محدودة جدا. الفنان هو بمثابة شمعة تضيء وترينا أشياء ما كنا نراها، أو بمعنى آخر قوة بصرية وإدراكية جديدة تضاف إلى قدراتنا السابقة؛ فنحن مثلا نمر بالعربجية كل يوم، ولكننا لا ندرك أنهم بشر وأن لهم أحاسيسهم البشرية البالغة الرقة إلا حين نقرأ مثلا قصة العربجي الذي مات ابنه واضطر إلى العمل في نفس اليوم، وهو يحاول أن يحدث ركاب العربة عن ابنه وعن إحساسه بفقده ولا أحد يأبه، وهكذا في آخر النهار يجد نفسه يتحدث إلى حصانه عن ابنه الذي فقده. بقصة كهذه جعلنا تشيكوف «نرى» إنسانية ذلك الرجل، بحيث ما من مرة نرى فيها عربجيا إلا ونراه مضافا إليه رؤية تشيكوف له.
الفن كان صنعة حاذقين في الصنعة فعلا. ولكن الفن في عصرنا الحاضر له مفهوم مختلف تماما، إذ لم يعد صنعة، أصبح رؤية، أو وجهة نظر.
وقديما كان يقسم الناس الأعمال الفنية إلى فنون تشكيلية، وهذه بدورها يقسمونها إلى نحت ورسم وزخرفة إلى آخره، وأدب وهذا بدوره يقسم إلى رواية ومسرحية وقصة طويلة وقصة قصيرة ومقال. بل وأضيف إليها أنواع أخرى: التمثيل والإخراج المسرحي والسينمائي والرقص والموسيقى ... إلى آخره. ذلك النوع من التقسيمات «المهنية» للفنانين لم يعد مهما؛ إذ أصبح المهم في عصرنا نوعا أو خبرة، أو صدق الرؤية التي يراها الفنان سواء الرؤية البصرية أو السمعية.
هنا ارتفع دور الفنان من إنسان يصنع الأعاجيب والطرائف ليستدر إعجاب الآخرين به وبعمله، استحال إلى ما يشبه الرسول أو قرن الاستشعار الاجتماعي الفائق الحساسية. أصبح هو ذلك الملاح أو «الناضورجي» الذي يعتلي الصارية و«يرى» الآفاق لركاب السفينة وينقل لهم هذه الرؤية بصدق ودقة. على وجه أكثر تحديدا تحول الفنان من كائن طريف وظريف ومجنون بعض الشيء وعبقري في روايات أخرى، تحول من «أعجوبة» إلى وظيفة اجتماعية لا يمكن أن يستغني عنها مجتمع، إذ هو قد أصبح «عين» المجتمع الذي ترى له وتنقل إلى ملايين خلاياه كنه ما تراه من خطر أو أحلام أو من نظرات جديدة تماما أو إرادة أو ثورة.
طبعا لم يتحول كل الفنانين إلى هذا النوع، ولا تزال الأغلبية العظمى من الفن والفنانين والنقاد والجماهير ترى في الفن نوعا من الصنعة البالغة الإتقان والروعة، ويأخذ الفنان مكانته على قدر حذقه فيها. بل إن البشرية ستأخذ بعض الوقت لكي تبدأ تقدير الفنان ليس على أساس قدرته وبراعته فقط، وإنما على أساس نوع وحجم وصدق رؤيته. حينذاك سيقل كثيرا عدد من يمكن أن نطلق عليهم فنانين؛ ذلك أنهم سيصبحون أصحاب الرؤية الجديدة فقط.
ويصبح الحكم على فنية العمل الفني ليس بمقدار ما فيه من جمال مطلق أو حلاوة، وإنما بمقدار ما يحدثه في المتلقي من أثر؛ فنحن إذا لم «ننفعل» بالرؤية التي ينقلها لنا صاحب الرؤية فمعنى هذا أنها خرجت عن دائرة الفن تماما. أي لا بد أن تكون هذه الرؤية مؤثرة في الناس وتجعلهم ينفعلون إلى درجة تبنيها، وإلا لسقطت كعمل فني أو كأي شيء آخر.
وقد يعترض البعض ويقول إن الرؤية هي دور المفكر وليست دور الفنان، ولكن العصر الحديث أيضا يحسم الموقف؛ إذ لم يعد لأي عمل فني قيمة إلا بمقدار ما يحمل من فكر أو أفق أو وجهة نظر. ومشكلتنا أننا بعد لم ندرك هذا وبالذات على مستوى الإخراج السينمائي وكتابة القصص، وحسبنا أن القصة الجديدة «طريقة» جديدة في كتابة القصة، في حين أنها في الحقيقة وسيلة صاحبها وحده لرواية وجهة نظره. إنها شيء خاص يصاحب الرؤية لا تقبل النقل أو التقليد، وأنه في عصرنا هذا تتولى وجهة النظر الجديدة خلق الطريقة التي تصل بها إلى المتلقي، بمعنى أن الطريقة غير منفصلة أبدا عن وجهة النظر. وأيضا بمعنى أن أي وجهة نظر جديدة لا بد أن تأخذ طريقها إلى الجماهير بطريقة جديدة خاصة بها. انتهت مرحلة المدارس الكلاسيكية والتعبيرية والتجريدية إلى آخره، وبدأت في البشرية مرحلة وجهة النظر، مرحلة الفنان المفكر خالق الرؤية وخالق الطريقة لإيصال الرؤية، ونغادر شيئا فشيئا عصر الفنان «الصنايعي» الذي كل عمله أن يحذق فن القص أو فن الرسم أو فن الإخراج. •••
أعتقد أن ما تقدم كاف لكي ندرك لماذا لا ننفعل بمعظم قصصنا السينمائية والمسرحية الرائجة؛ ذلك لأنها لا تزال في مرحلة الحرفة ومحاولة «العمل الجميل» ولم تدخل بعد عصر فن وجهة النظر أو فن الرؤية.
وتلك أيضا الإجابة على الذين يسألون دائما: أين القصص الجديدة؟ أو أين المسرحية؟ إن الكاتب ليس «معمل» كتابة كما رأينا، وكذلك الجمهور ليس فاغرا فاه طول الوقت على استعداد لتلقي القصة أو الرواية . إن أي كتابة تحمل وجهة نظر جديدة هي «عمل فني»، بشرط أن تؤثر في الآخرين وينفعلوا بها؛ فالكتابة ليست مجرد رص كلمات وحروف، إنها وجهة نظر. على الكاتب أو الفنان أن يكون صادقا تماما في رؤيته وحساسا جدا عند إيصال وجهة نظره إلى الآخرين، بحيث يختار أنسب وأسرع الطرق لإيصالها. بهذا تكمل دائرة العمل الفني، وتكمل دائرة الرؤية.
المهم إذن أن تتصل الدائرة، أن يكون هناك ذلك المركز الحساس المتنبه بالمسمى بالفنان، وأن يصلنا ما يحسه بأي طريقة تجعلنا نشعر وننفعل.
إذ إن نفس هذه الطريقة ستكون «الشكل» المناسب للرؤية، وبالتالي لعمله الفني. فقد يقول قائل: وماذا لو كان في إمكان الفنان «الرؤية»، ولكنه لا يستطيع نقل رؤيته إلى الآخرين على هيئة عمل فني؟ والرد على هذا بسيط؛ فكل قادر على «الرؤية» المختلفة أو الجديدة أو الخاصة هو بالتأكيد فنان، ولا يمكن لغير الفنان أو المفكر أو المكتشف أن يرى «رؤية» كهذه، وما دام قد رآها - ذلك الفنان - فهو قادر على نقلها وأيضا بطريقة فنية إلينا، أي الطريقة التي ننفعل بها وتؤثر فينا. بمعادلة أبسط: كل صاحب رؤية فنان، وليس كل فنان «أو حرفي» هو صاحب رؤية.
الجد واللعب
جاءني ابني (10 سنوات) وقال لي وفي وجهه جد خطير: بابا، أنا مش عايز أروح المدرسة.
قلت له: ولكنك لا تذهب إلى المدرسة فعلا؛ فأنت الآن في إجازة.
قال: لا، مش عايز أروح خالص. - يعني مش عايز تتعلم؟ - أيوه! - أمال عايز تعمل إيه؟ - عايز أبقى لعيب كورة.
أخذت كلامه أول الأمر على أنه «كلام عيال»، أو رغبة من الرغبات التي تستبد بنا في أحيان وتجعلنا نكره الدراسة والتعليم كره العمى. ولكني وأنا ماض في مناقشته، اكتشفت أنه قد فكر في المسألة طويلا، ورأى أنه حتى لو طلع الأول في الدراسة والأول في الجامعة بعد التخرج، فلن يكون له ربع أو عشر حظ صالح سليم أو شحتة الإسماعيلي.
نظرت إلى الولد وسرحت ... ما من شك أن مرحلة الطفولة هي مرحلة اللعب والنزق والبراءة واللامسئولية. إنها فترة الاستمتاع الأول بأنك كائن وحي وسط مجتمع كائن وحي، هي الفترة التي تزودنا بأجمل ذكريات العمر وأمتع لحظات السعادة، هي الفترة التي تذكرني بالخطاب الذي ألقاه نهرو مؤسس الهند الحديثة، ذلك الذي يحب الأطفال إلى درجة غير معقولة. كان نهرو يلقاهم بترحاب، وفي إحدى خطبه قال لهم: أرجو أن تأخذوا وقتا طويلا جدا لكي تكبروا. هذا الشاعر السياسي قد أدرك بسليقته أن الطفولة هي أجمل مراحل العمر، كل ما في الأمر أننا لا ندرك جمالها إلا متأخرين كثيرا، حين نكون قد غادرناها إلى الأبد وأصبحنا «كبارا».
والتسلح بالتعليم واجب صحيح، ولكننا بالطريقة التي نعلم بها أطفالنا نخنق الطفولة فيهم خنقا! فمن سن الرابعة أو الخامسة تتسلمهم المدرسة ويتسلمهم «الواجب» وما لا بد من عمله؛ حفظ الكلمات، تعلم الكتابة والحساب، وتعلم اللغات والجغرافيا والإنشا، ندخل الطفل بالقهر في العجلة الجهنمية التي تلتهم عمرنا التهاما ولا تتركنا إلا حطاما، عجلة الحياة المسئولة بعلومها، بعملها، بالواجبات، بالخضوع الأعمى للناموس الاجتماعي. عجلة لا بد منها على أية حال ولكن ثمنها فادح. ثمن أغلاه قطعا سنوات الطفولة حين نقدمها مبكرا جدا قربانا للعلم وللمعرفة.
رحت أنظر إلى الولد غير مندهش كثيرا لما قاله. كم تمنيت لحظتها لو استطاعت البشرية بكل عبقريتها أن تبتكر طريقة لتعلم الطفل من خلال اللعب، وليس كما هو حادث الآن من إحلال التعليم محل اللعب، فاللعب هو «عمل» الأطفال العظيم، ولا يمكن أن يوجد رجل سوي لم يكن في طفولته «لاعبا عظيما».
كان أمامي مهمة شاقة؛ كيف أقنع ابن السنوات العشر بضرورة وحتمية المدرسة والدروس والمذاكرة والاجتهاد التي عليه أن يفضلها على متعته القصوى التي يحظى بها من لعب الكرة؟ وبالتأكيد لم أكن وحدي في هذه التجربة، بل هي تجربة كل أب وكل أم؛ تجربة علينا أن نقنع فيها هذه الكائنات الطازجة البريئة بضرورة وحتمية أن يتحملوا عبء حياة درسنا فيها وضيعنا طفولتنا، واجتهدنا وضيعنا صبانا، وكافحنا وضيعنا شبابنا، وفي مقابل هذا العمر الطويل المفقود ماذا أخذنا؟
ومهما يكن ما ناله كل منا، أيساوي لحظة سعادة حقيقية مثل سعادة الطفل حين يلعب الكرة ويحرز هدفا؟
ألم يكن موقفي - وأنا أحاول إقناع الولد بأمر أنا لست شديد الاقتناع به - مضحكا؟
للشعب الآخر
مضى العيد وكل عام وأنتم طيبون. أكلنا اللحم؛ لحم الضحية. والضحية كانت أيام سيدنا إبراهيم عليه السلام، كانت هي الخروف الذي أرسله الله سبحانه فدية لسيدنا إسماعيل. ولكن - كما تعرفون تماما - ضحية العيد الكبير أصبحت أنا وأنت وسعر اللحمة الكاوي! المربون والجزارون يذبحوننا نحن. كل ما في الأمر أننا لا نعلق في خطاف أمام الدكان، فنحن «الدجاجة» التي تبيض الذهب، ولا بد أن نبقى أحياء لنبقى نأكل وندفع ونصبح «ضحايا» معظم أيام السنة.
ومع هذا، فكل سنة وأنتم طيبون.
ولكن لا أريد أن «أعيد» عليكم أنتم أبناء مدينتنا وبلادنا، فنحن هنا، مهما ضاق بنا هنا، ونحن معا، وإن كنا قد ضقنا معا، ونحن وإن كنا نحس بالغربة إلا أنها غربة الضيق بالمقام، أما الغربة الحقة فهي غربة المحن إلى المقام، الخارج متسترا ذات مرة بظلمة الليل أو مقترضا ثمن التذكرة، الذي سدت في وجهه السبل أحيانا، وأحيانا قطع عليه الطريق قطاع الطرق. أولئك الذين انطلقوا شعاعات نابضة من أرضنا وترابنا، وتفرقوا في أنحاء الأرض وتبعثروا، هم شعب الله غير المختار من أستراليا إلى كندا، ومن المكسيك إلى هونج كونج. هذا الشعب المغترب الآخر؛ المدرس في أقصى كوبيك، المهندس في الكويت، المدرسة في الجزائر، والممرضة في دبلن، وعامل اللحام في الربع الخالي، يا أولاد وبنات مصر في كل مكان من سطح الأرض، كل عام ونحن جميعا طيبون. والله يجازي اللي كان السبب.
الفرق بين «الجدية» و«ثقل الدم»
أخشى أن يؤدي النقد المنهال على مواد أجهزة الإعلام - وبالذات التليفزيون - إلى نتيجة عكسية تماما. إن النقد الذي يقال ويكتب ينصب معظمه على «تفاهة» التمثيليات وسطحيتها، وسخافة بعض مقدمات البرامج، وإقحام رقص هز البطن ومواد التحلل الخلقي بمناسبة وبدون مناسبة. وقد بدأنا نلمح آثارا لهذا النقد. وكارثة حقيقية هي ما حدث؛ فقد بدأت معظم البرامج تتحول إلى برامج وعظ وإرشاد باعتبار أن هذه هي «الجدية» المطلوبة والعودة إلى القيم الروحية. وأعتقد أن المسئولين عن التليفزيون أخطئوا تماما ما يقصد بنقد البرامج التافهة و«الهايفة». فليس الوعظ والإرشاد هو الرد على التفاهة والسطحية. إن النفس البشرية تضيق بالوعظ المباشر تماما وتكرهه ربما أكثر مما تكره التفاهة؛ فليس أبغض للإنسان من أن يجلس أمامه في التليفزيون إنسان آخر منتفخ الكرش والأشداق يتلمظ بالكلمات ويأمره أمر اليقين كيف يتصرف وماذا يجب عليه أن يفعل في كذا أو كيت. حتى الأطفال يضيقون بالنصح المباشر. والرد دائما هو إغلاق الجهاز أو تحمل الكلمات الغليظة على مضض، وربما توطين النفس على العمل بعكسها تماما.
أجل، مهما أخطأ المسئولون عن التليفزيون في فهم كلمة «الجدية» و«التمسك بالقيم الروحية والأصيلة لشعبنا وأمتنا»، وفهموا أن الجدية تعني التجهم والصرامة والوعظ المباشر والإرشاد، في حين لا علاقة مطلقا بين الجدية والصرامة، فالجدية تعني احترام عقل المتفرج وعواطفه ومعاملته باعتبار أنه ليس كائنا عبيطا أو ساذجا، أو طفلا من السهل أن «تضحك» عليه أو تخدعه، الجدية تعني معاملة المتفرج باعتبار أنه عاقل وعميق وناضج، ولهذا لا يمكن أن تنفذ إليه أو تصله إلا من خلال احترامك لعقله واحترامك لشعوره وقيمه. والجدية أيضا ليست ضد المتعة أو الاستمتاع، فإذا كنا ساخطين على «السطحية» و«الهيافة»، فلسنا ساخطين إلا لأنهما أقل إمتاعا ونحن ننشد المتعة الأكبر والأعمق. وإن محمد رضا مثلا حين يظهر في دور ابن البلد العبيط لا أعتقد أنه يضحك أولاد البلد أنفسهم، إنهم لا يضحكون من محمد رضا بقدر ما يضحكون عليه، فابن البلد ليس عبيطا، وفي حياته الكثير مما يضحك، ولكنه ليس نتيجة عبطه إنما نتيجة المضحكات من مشاكل. إن ابن البلد يملك كل فكر جحا وسخريته وذكائه، وهو يضحك «على» الآخرين، وبالذات على هؤلاء الذين يحاولون تصويره على هذه الدرجة من السذاجة وحسن النية.
إن الجدية هي الاستمتاع بعمق. إن الممثلة الجادة قد تمتعني بحديثها أو بآرائها الفلسفية والفنية، بل إن مقدمات البرامج ليس مهما أبدا شكلهن أو بروكاتهن. والغريب أن تليفزيونا متقدما جدا كالتليفزيون البريطاني لا توجد به مقدمات برامج أو نشرات أخبار على الإطلاق «رغم وفرة الجميلات البريطانيات»؛ ذلك لأنه حين تأتي المسألة لتقديم برنامج - أي مخاطبة المتفرج من خلال عقل ذكي ناضج - فليس مهما أبدا حينئذ «شكل» المتحدث بقدر ما هو مهم طريقة ونوع وأهمية حديثه.
إن الجدية التي نطالب بها هي أولا وأخيرا، وبجانب هجر السطحية والتفاهة، الغوص إلى المواضيع الأساسية في حياتنا. والمضحك أن برامج التليفزيون مهما تطورت فإنها ستظل دائما وأبدا هامشية؛ لأننا لا نستطيع أن نناقش داخل جهاز عريض كالتليفزيون أي مشكلة هامة في حياتنا. إنك لا تستطيع أن تناقش من خلاله أية مشكلة أخلاقية أو اجتماعية خطيرة أو تربوية أو جنسية، وطبعا لا يمكنك مناقشة أي مشكلة سياسية أو نقد أي جهاز من أجهزة الدولة. حقيقة في الوقت الذي لا نخجل فيه من عرض تفاصيل جسم المرأة في بدلة الرقص، نخاف أن نعرض لأي تفصيل من تفاصيل النفس الداخلية المصرية. وما دمنا متبعين سياسة النفاق العام هذه، والحرص على عدم إغضاب أحد أو جهة أو مسئول، فستظل جميع المشاكل التي نطرحها غير أساسية وغير هادفة وسطحية، وسنلجأ دائما إما إلى النفاق وإما إلى الوعظ السخيف والإرشاد المباشر.
وتريدون الجدية في برامج التليفزيون - للنظر إليه أولا بالمكبر - إنه جهاز ناضج يخاطب شعبا ناضجا، وليس صندوق دنيا يخاطب مجموعة أطفال ويعرض أي شيء إلا أهم الأشياء في حياتنا، ويناقش أي شيء إلا ما يستحق فعلا أن يناقش وأن يطرح على الرأي العام.
تريدون الجدية، أحيلوا جهاز التليفزيون من جهاز تدليك وتخدير إلى جهاز إيقاظ وتوعية، جهاز عرض حقيقي لكل ما هو حقيقي في حياتنا؛ فبهذا - وبهذا وحده - تتحول البرامج إلى برامج جادة فعلا؛ لأنها ستتحول إلى برامج «ممتعة» فعلا.
موضة
بالشرف، إننا فعلا قوم غرباء.
خذ مثلا أزمة المواصلات. لقد قالت لي مرة سائحة ألمانية إنها لم تر في حياتها أبشع أو أفظع من منظر المصريين وهم محشورون في الأتوبيسات والقطارات بهذا الكم وبهذا التلاحم الذي ربما نحن قد اعتدنا عليه ولم يعد يدهشنا. ولكن إذا رأته العين الغريبة لأول وهلة فإنها لا بد تصاب بالرعب، وهذا بالضبط ما حدث للسائحة الألمانية.
إننا نفكر في حل مشكلة المواصلات تفكيرات غريبة فعلا، فنحن ندرس إمكان حلها عن طريق مترو الأنفاق مثلما فعلت لندن وغيرها، وغير مدركين أن مترو لندن استغرق بناؤه واستكماله حوالي نصف قرن من الزمان، وتكلف أيام كان الكيلومتر الواحد يتكلف عدة آلاف من الجنيهات؛ تكلف مليارات، فما العمل الآن والكيلو لا يقل الآن تكلفة عن خمسة ملايين جنيه؟
أو نفكر في حلها بالمونوريل الذي قد لا يعادل في تكلفته هذا المبلغ الباهظ، ولكن المشكلة أنه غير صالح إلا لخط «دوغري» مثله مثل مترو حلوان. غرباء لأننا لم نفكر في أبسط وأهم وأكثر الوسائل عملية لحل أزمة المواصلات. فنحن دائما نفكر بالمرادفات الضخمة للحلول، المونوريل والمترو والقطار والعربات والتاكسيات ... في حين أن أوروبا التي تصنع هذه الوسائل، وسيلتها المحلية الأولى هي الدراجة.
أوروبا للسفر البعيد تستعمل الطائرة أو الباخرة أو القطار، للويك إند أو للانتقال بين المدن تستعمل العربات، أما للتنقل داخل المدينة فقد يستعملون الأوتوبيسات أو التاكسيات، ولكن الوسيلة الشعبية الأولى هي الدراجات.
بلد مثلا من أغنى بلاد أوروبا مثل هولندا، الدراجة هي الوسيلة رقم واحد للاستعمال، بل إن الشوارع هناك مقسمة إلى ثلاثة شوارع؛ رصيف للمشاة، وشارع واسع لمرور العربات، وبينهما شارع مخصص للدراجات.
اليابان التي تعتبر ثاني بلاد العالم في صناعة السيارات، وللنكتة هي أيضا بلاد المونوريل، الدراجة هي الوسيلة الأولى لانتقال الفرد بها بدلا من الانتظار والتكدس والاختناق، ها هي ذي الدراجة، تلك التي استعاض بها الإنسان منذ قرن عن ساقيه الطبيعيتين، ميعادها تحت أمرك، خط سيرها تحت أمرك، توقفها أو تحركها أو تتلكأ بها أو تسرع وفق أمرك أيضا، والمهم هنا أن سعرها - وخاصة إذا استوردناها أو صنعناها بكميات هائلة - سيكون تحت أمرك مهما كان دخلك بسيطا أو متواضعا.
حين قلت هذا لبعض الرجال والسيدات اعترضت السيدات بشدة، أبى خيالهن أن يتصورن أنفسهن راكبات دراجات في الشارع، انبرى رجل وقال: بل الجو؛ إن جونا حار ولا يمكن احتمال ركوب الدراجة فيه. ولو قدر لهؤلاء جميعا أن يذهبوا إلى بلاد جحيمية الجو مثل تايلاند أو سنغافورة، وهو يرى الناس جميعا يركبون الدراجات، ولو قدر للسيدة أن تقارن بين أن تتحمل اختناق نفسها وجسدها في أتوبيس سرديني الرائحة، سرديني المحتوى، أعتقد أن الدراجة وخاصة نصف الموتور يعتبر ركوبها جنة بالقياس إلى غيرها من المواصلات.
أما حكاية الجو هذه فهي تجرنا إلى لب المشكلة، فالماكسي جيب مثلا أو البنطلون المحزق، ليست أنسب الأزياء في جو مثل جونا، ولكن السيدات يتحملنه ويتحملن ما هو أكثر منه فقط لأنه موضة. وكل ما ينقص الدراجة لتصبح الوسيلة الحاسمة السريعة لحل أزمة المواصلات التي بلغت الحلقوم أن تصبح موضة، وأن تركبها ميرفت أمين.
جمهورية حسن الإمام
لن أستغرب إذا صحوت ذات يوم أو بالضبط ذات ليلة فوجدت أن نساء مصر والبلاد العربية قد تحولن جميعا إلى عوالم أو راقصات؛ ذلك أنه بينما مثقفو مصر الغلابة مشغولون بقضية اليمين والوسط واليسار، فالثقافة الحقيقية التي تنصب في عقول وقلوب أغلبية الشعب المصري ليست سوى ثقافة «هز الوسط»؛ بحيث أصبح المثل الأعلى للمرأة عند البنت المصرية ليست هدى شعراوي أو مي أو صفية زغلول أو حتى فاتن حمامة، المثل الأعلى أصبح الراقصة - أو العالمة بمعنى أدق.
وإذا اعتقد أحد أني أبالغ فليرني فيلما أو مسرحية كتبت عن نموذج طيب حي أو ميت للمرأة المصرية، أمام هذا الزحف الهائل من الملاحم «البطولية» التي أغرقت وتغرق السوق تمجيدا وتخليدا للعوالم والراقصات من شفيقة القبطية إلى زوبة الكلوباتية إلى أخيرا بمبة كشر.
ما هي البطولات العظيمة التي قامت بها شفيقة أو زوبة أو بمبة وأمثالهن، ليستحققن هذا التكريم، ليدخلن التاريخ من أوسع أبوابه - السينما - تجسيدا حيا لمعاناة ومأساة ومهزلة المرأة المصرية في كل تاريخها الطويل؟
إنني لم أستغرب كثيرا حين رحت أستمع لفتاة عراقية صغيرة تحب الأفلام المصرية عن تصورها للقاهرة الحافلة بالكباريهات والراقصات والعوالم، ودقة معلوماتها عن تفاصيل التفاصيل في قصة إدمان شفيقة القبطية للهيروين.
ما هذا أيها السادة، أو بالأصح، أيها السيد الأستاذ حسن الإمام؟
لقد ذكرت - على ما أعتقد في حديث تليفزيوني أو صحفي لا أذكر - أنك عشت فترة في شارع محمد علي، وأنك تأثرت تأثرا كبيرا بحياة العوالم والراقصات، وكنت تقول هذا تفسيرا لانجذابك الشديد لصناعة أفلام بطلاتها عالمات. ولكن ما ذنبنا نحن الشعب المصري والعربي، ما ذنبنا أن يستحيل حب حسن الإمام للراقصات والعوالم إلى المادة الرئيسية للوجبة الثقافية المحدودة التي يتناولها المواطن المصري من السينما؟ فالسينما بالنسبة لجماهير الشعب العريضة ليست مجرد «فرجة» فقط، ولكنها تكاد تكون وسيلة الثقافة الوحيدة لهذه الجماهير. إن أكثر الكتب رواجا وتوزيعا، وأكثر الصحف والمجلات انتشارا ليست سوى قطرة ضئيلة إذا قيست بجمهور السينما والتليفزيون الذي يعد بالملايين. الملايين التي لا تقرأ ولا تعرف القراءة ولا تستعيد قيمها وفهمها للحياة إلا من خلال ما تراه عيونها في السينما أو في التليفزيون.
والمرأة المصرية المكتسحة البطلة في هاتين الوسيلتين، أو بالأصح في الأفلام المصرية، هي المعلمة أو العالمة أو الراقصة.
لقد ظللت أنظر لهذه القضية بلا قلق كثير، ولكني فزعت حقا حين كنت في الأسبوع الماضي مدعوا لحضور «كتب كتاب»، وبعد انتهاء الإجراءات التقليدية جاءت راقصة، وأيضا ليس هذا هو المهم، وإنما على دقات الطبلة نفسها دخلت إلى الساحة فتاة صغيرة لا تتعدى السادسة من عمرها تشارك الراقصة في الرقص، تحمس الحاضرون للأمر باعتباره طرفة من الطرائف ولكن الأمر ما لبث أن تحول إلى حدث وواقعة بهرت الجميع؛ فقد أخذت الطفلة تتلوى وتؤدي بجسدها حركات مقتبسة طبعا مما تشاهده من رقص، ولكنها مؤداة بطريقة جنسية مثيرة للغاية، والبنت الصغيرة لا تعي طبعا ما تفعله بنفسها وبجسمها.
ها هي ذي الثقافة الرقصية التي تتعلمها بناتنا الصغيرات وفتياتنا، بحيث حين يكبرن قليلا ويصبحن من جماهير السينما، يجدن البطلة «عالمة» والتجارة في هذا الجسد الذي منذ الصغر وهو يتلوى تلويات جسدية فاقعة، مسألة لا تدعو للدهشة أو للانزعاج، بالعكس تصبح مثلا أعلى ومطلبا.
وبهذا يتحول مجتمع كهذا إلى مدرسة كبيرة لتخريج الجواري والعالمات والمومسات. فماذا يمنع هذا والمحيط كله والجو كله والبيئة كلها تدعو لهذا وتحرص عليه؟
وهكذا يتم للأستاذ حسن الإمام حلمه، وتتحول مصر جميعا إلى شارع محمد علي، ولا تعليق!
الخبر المزعج
كدت لا أصدق عيني وأنا أقرأ الخبر! فصحيح أنا لا أعرف أعضاء اللجنة، ولكني أعرف الدكتور عبد العزيز كامل؛ ذلك الرجل الفاضل العاقل المؤمن الواسع الأفق. وليس معقولا أن يشترك الدكتور عبد العزيز كامل في أمر كهذا أو يسمح به. الخبر يتعلق بميثاق العمل الإسلامي وتطبيقه؛ فقد اجتمع مؤتمر الجمعيات والهيئات الإسلامية برئاسة الدكتور عبد العزيز كامل نائب رئيس الوزراء للشئون الدينية ووزير الأوقاف، وأقر بعض خطوط ميثاق العمل الإسلامي.
وفكرة الميثاق نفسها وفكرة العمل به شيء رائع حقا، فما أحوجنا إلى ميثاق عمل وشرف إسلامي يقود نشاط الجمعيات والهيئات الدينية نبراسا ينير لها الطريق! وكنت أفهم أن يكون الهدف من هذا الميثاق الإسلامي هدفا إسلاميا حضاريا حقيقيا، وذلك بالعودة إلى المنبع الأصيل للدعوة الإسلامية الحقة وتنقيتها من الشوائب الكثيرة التي لحقت بالعقيدة وألصقت بها زورا وبهتانا، وخاصة في عصور الهزيمة والضحالة الثقافية والتخلف. أفهم أن يكون ميثاق كهذا دعوة عميقة خالصة لتجديد إيمان هذه الأمة، والخروج بالدعوة الإسلامية من حفائر العصور الوسطى إلى واقع العصر ووجدان الإنسان المصري الذي يعيش في الثلث الأخير من القرن العشرين.
أما أن أكتشف أن هذا الميثاق ليس سوى دعوة إلى خلق هيئة أو مجلس أعلى يهيمن ويراقب ويوجه - ليس الجمعيات الدينية فقط - ولكن كل وسائل الإعلام والثقافة والصحف والمجلات والمطبوعات إلى درجة أن يقرر مؤتمر الجمعيات الدينية سالف الذكر في توصيته الأخيرة بأن يكون للأزهر إشراف مباشر على كل المطبوعات والكتب التي تصدرها مختلف الهيئات والأجهزة والأشخاص (ضمانا لسلامة مضمونها وحاجة الناس إليها) كما جاء في نص القرار!
هنا نجد أنفسنا لا نواجه ميثاق عمل إسلامي ينهض بالأمة عقيدة وسلوكا، ولكنا أمام (محكمة تفتيش) جديدة، ممكن باسم الإسلام والدين والعقيدة أن تصادر أي شيء بدعوى أنه يتعارض مع تعاليم الدين، ممكن أن تصادر حرية التفكير نفسها وحرية التعبير وتفرض دكتاتوريتها في فهم الدين. فالأزهر الشريف ليس شيئا معنويا! الأزهر وعلماؤه بشر مثل البشر، بشر ليسوا أبدا فوق مستوى الخطأ، بل حتى لو أصابوا في كل قرار أو أمر فإن رأي كل منهم محدود بوجهة نظره فيما يمس الدين أو لا يمسه. إننا نسمي عصرنا هذا عصر الانفتاح، وليس مجرد انفتاح اقتصادي لإغراء رأس المال العربي أو الأجنبي على المجيء والقدوم. الانفتاح أولا يكون بانفتاح العقل المصري على مختلف حقائق العصر ووقائعه، يكون بإزالة الحواجز والموانع التي كانت تحول بين الإنسان المصري وبين استعمال عقله وذكائه ذلك الذي سلحه بهما الله سبحانه ليستعملهما في ترقية حياته ووجوده واستقامة سلوكه وصفاء إيمانه.
إن الإسلام دين قوي، دين لا يخاف العقل؛ لأنه دين العقل، ولا يخاف العلم؛ لأنه دين العلم، ولا يخاف التطور وفتح الآفاق؛ لأنه دين الحرية، ومتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟
الذكاء الجميل
الذي يزور لندن - خاصة في السنوات الأخيرة - لا بد سيلحظ ولأول وهلة أن الأجيال الجديدة، وبالذات من الفتيات، جميلات بطريقة غير معقولة: إجماع على الجمال. وحاولت مرات كثيرة وعن عمد أن أعثر على فتاة إنجليزية قبيحة، أو حتى «مش ولا بد» دون جدوى. ولقد أدهشتني الظاهرة فعلا؛ فصحيح أن الصحة والحضارة ترفعان مستوى جمال الشعب بشكل عام، ولكن الشعب البريطاني ليس أكثر شعوب أوروبا ارتفاعا في مستوى المعيشة. ربما الأصح هو العكس؛ بريطانيا الآن تكاد تكون أفقر بلاد أوروبا.
الحقيقة ظل السؤال يحيرني طويلا: لماذا هذا الارتفاع الغريب في مستوى الجمال في بريطانيا؟ وليس الجمال هنا جمال الوجه فقط أو الملامح، إنما الجمال بشكله العام، جمال الجسد والقوام والشعر. صحيح أن الأناقة درجتها أقل، ذوق الفرنسية أو الإيطالية في اختيار ملابسها أرفع بكثير، إنما العجيب أن تكون فتيات لندن هؤلاء أجمل من فتيات روما أو باريس بشكل عام! ظل السؤال يحيرني حتى تولت سيدة مصرية ذكية وواسعة الإدراك تفسير الأمر لي. قالت: لا تعتقد أن هناك فارقا كبيرا في الجمال الطبيعي الذي يهبه الله للناس وللمجتمعات في كل مكان، الفارق الكبير هو من صنع البنت الإنجليزية نفسها، إنه جمال مصنوع ما تراه، ولا أقصد بكلمة مصنوع أنه مصطنع؛ فنادرا جدا ما كنت أجد فتاة مثلا تستعمل المساحيق أو وسائل التجميل الفاقعة لإضفاء ألوان صناعية على خدودها أو جفونها، إنما هو جمال مصنوع بمعنى أن كل بنت من الأجيال الجديدة بالذات قد بلغت من الذكاء حدا جعلها لا تحاول تغيير أمر جمالها أو قبحها الواقع، إنما هي تنظر إلى نفسها وملامحها وجسمها نظرة واقعية، موضوعية، بحتة.
ولأن الله لم يخلق في القبيح مثلا أو القبيحة كل شيء قبيحا، إنما تجد لا بد لدى كل إنسان أو إنسانة ميزة جمالية من نوع ما. قد تكون ملامح الوجه غير جميلة ولكن الأنف مثلا أو الشفتين أو العينين فيهما ذلك الجمال الخاص. وهنا يبدأ ذكاء فتيات الجيل الجديد يعمل؛ فهي لا تحاول أبدا أن تطمس ملامحها الخاصة لتكتسب ملامح جمال عامة كما كان يحدث إلى عهد قريب. كل امرأة تريد أن تكون لملامحها نفس الملامح التقليدية في الجمال، العيون الواسعة والرموش الطويلة والخدان البارزان الأحمران والشفاه المكتنزة. كل تلك المقاييس العامة في الجمال لم تعد هي هدف الحياة الحديثة. أدركت الفتاة ووعت حقيقة أن الجمال شيء خاص جدا وليس ظاهرة عامة متعارفا على مقاييسها ونسبها، وأن كل إنسان، كل فتاة باستطاعتها أن تكون جميلة، ليس بتقليد جمال الأخريات، وإنما بتفردها عن الأخريات، بإبراز سماتها الجمالية الخاصة، حتى الأنف الكبير ذلك الذي كاد يكون في الماضي كارثة جمالية لصاحبته، من الممكن أن يصبح ميزة لصاحبته، ميزة تنفرد بها عن سواها. وإنما لا بد لكي يحدث هذا أن تسخر الفتاة ملامحها لإبراز هذا الجمال الخاص. فمثلا هذه «الفورمة» من التسريحات وإن كانت «موضة» إلا أنها لا تناسب وجهها المكتنز، وهذا الوجه لو صفف له الشعر هكذا وبطريقة تلائم الملامح أو تجعل الوجه يبدو أقل اكتنازا، إذن لتغيرت ملامح الوجه كله واتخذت طابعا أو سمة أجمل.
لم يعد «الميك أب» إذن صنعة تتولاها الماشطة القديمة أو الحديثة على السواء، أصبح عملية ذكاء لاستغلال عناصر الجمال الطبيعي الموجود في كل كائن بشري، أصبح عملية تخصيص وتفرد وليس عملية تعميم مقاييس جمالية معينة اصطلح الذوق العام عليها.
إن الفن نفسه بشكل عام ليس إلا محاولة عظيمة للإنسان لخلق أو فرض أو تصوير واقع أجمل، أو جمال من صنع الإنسان يحفز ويحرك غريزة الإنسان المركبة فيه، والتي تستجيب دائما لكل ما هو جميل، سواء أكان من صنع الطبيعة أم صنع الإنسان.
الجمال اللندني إذن، ذلك الذي يبهرك للوهلة الأولى، ليس مكونا من قطيع هائل من النساء الجميلات بالوراثة، إنما أجمل ما في الإنسان عقله وذكاؤه.
الذكاء المصري
ليسمح لي الدكتور عبد العزيز حجازي بعد خطابه الشامل في مجلس الأمة؛ أسأله عن نقطة حيرتني. فهو في فقرة يتحدث عن ضرورة تصدير ما يسمى بالرأسمال البشري، أي ضرورة تصدير القوى العاملة بعد إعدادها فنيا وتعليميا إعدادا كافيا. وفي نفس الفقرة - وهذا هو الغريب - يتحدث عن ضرورة استخدام الخبراء المصريين في كافة المجالات وإغرائهم بالمرتبات والإمكانيات وإتاحة الفرص لعملهم هنا. أليس في هاتين النقطتين تعارض حاد؟ فإذا كان عندنا فائض بشري قابل للتصدير (ما أروع الإنسان المصري وهو يصبح فائضا بشريا!) فما الداعي لاستيراد هذا الفائض بعد تصديره وبسعر أعلى بكثير من سعر «السوق المحلية»؟ أم أن الخبرات التي يتحدث عنها الدكتور حجازي والتي يقترح التوسع في تصديرها هي الخبرات المتوافرة في سوق العمل المحلية، والتي لها نظائر مماثلة هنا؟ والخبرات المصرية التي يقترح استيرادها هي خبرات ناقصة ولا غنى عنها. فإذا كانت ناقصة ولا غنى عنها فعلا، فكيف تمت عملية التصدير إذن وبموافقة الحكومة؟
في الحقيقة منذ أن سمعت من الدكتور عبد العزيز حجازي حديثه لأول مرة عن ضرورة تصدير فائض الخبرة البشرية إلى الخارج - وبالذات إلى البلاد العربية - وأنا أفكر في الموضوع تفكيرا خطيرا؛ فصحيح أننا نجني - كما ذكر السيد رئيس الوزراء - ما يقرب من المائة مليون جنيه عملة صعبة تدخل مصر عن طريق هؤلاء العاملين بالخارج، ولكن السؤال يظل: ترى كم يخسر الإنتاج المصري في المدى الطويل نتيجة هذا النزيف «الذكائي» المستمر؟ فالواضح أن معظم ما نصدره للخارج من خبرات هم أكفأ وأنشط العناصر؛ تلك التي تضيق بالمعوقات وما يسمى بالاختناقات (ولا ريب أن هذا اسم طريف) في مصر، فيهجون - ولا أقول يهاجرون - إلى الخارج، أي أنهم مرغمون على الهجرة وليس عن طواعية يفعلون؛ والنتيجة بالطبع هي أن يكثر الغباء في السوق المحلية ويقل الذكاء. وحيث إن الإنتاج أولا وأخيرا هو بشر، فلا بد أن إنتاج الأغبياء أقل كما وأقل قيمة؛ ولهذا فبينما قد نكسب كل عام 100 مليون جنيه لا بد أننا نخسر في المدى الطويل آلافا من الملايين من الجنيهات التي كان يمكن أن نحصل عليها هنا بتشغيل هؤلاء الأذكياء المصريين.
إن مشكلة العاملين في مصر لا يمكن في رأيي أن تحل بتصدير فائض العمالة، بل تحل بالسؤال البسيط: لماذا يوجد عندنا فائض عمالة، بينما بقية بلاد خلق الله تعاني من نقص العمالة؟ والجواب في رأيي ليس هو أننا فقراء أو ضعفاء الإمكانيات، الجواب هو أن نظام التشغيل عندنا نظام فاسد، والدليل على فساده مثلا أننا نصدر الأذكياء منا ونستورد الكمبيوتر والعقول الإلكترونية التي لا تقوم إلا بجزء على ألف مما يستطيع أي إنسان ذكي ومتعلم أن يقوم به. نظام التشغيل في الحكومة سيئ، وفي القطاع العام أكثر سوءا، وفي القطاع الخاص هباب. لا نحن اقتبسنا النظام الاشتراكي بأكمله وبنظام تشغيله وتوكلنا على الله، ولا اقتبسنا النظام الرأسمالي بأكمله وتوكلنا على الله، وإنما حاولنا أن نخلق نظاما يتراقص على الحافة بين الرأسمالية والاشتراكية؛ فلم نجن من أي منهما إلا مفاسد كل منهما. مفروض أن أي نظام مجتمع ناجح يفرح بعدد خريجيه من الجامعة والمدارس المتوسطة ؛ فهم «قوى إنتاج» جديدة تضاف إلى قواه الموجودة أصلا وتزيد من طاقته على الإنتاج، أما غير المعقول فعلا فهو أن يصبح الخريجون الجدد «عبئا» على الإنتاج. إن الإنسان كما يقولون هو أثمن رأسمال، هو أثمن من الآلة على الأقل لأنه خالق الآلة وصانعها ومشغلها، ولكن تحت ظروف التشغيل التي تمر بها بلادنا أصبح الإنسان - سواء كان رجلا أو امرأة - هو أرخص السلع المعروضة جميعا، وما لم نغير فورا وجذريا من طريقة أو نظام التشغيل عندنا، فسيظل الإنسان الرأسمالي هذا يتناقص باستمرار، وسيظل الغباء المصري يطرد الذكاء المصري إلى خارج الحدود، ومن فقر نحن فيه ننتقل إلى فقر أكثر.
الطفل الذي يلعب والطريق السريع
منذ بضعة أسابيع قرأت خبرا في جرائدنا لا يزال التفكير فيه يزعجني إلى هذه اللحظة. الخبر يتعلق بمصرع طفلين شقيقين على الطريق الزراعي بين القاهرة والإسكندرية. ولا شك أن مصرع طفلين شقيقين في حادث مسألة يهتز لها أي إنسان، وبالذات لو كنت مثلي أبا لطفلين. ولكن ألمي الشديد للحادث هو الذي دفعني لتأمله! وأكثر من مرة أعدت قراءة الحادثة كما روتها الصحف، ودعونا نتأمل ما كتب. يقول الخبر - نقلا عن الجرائد - بينما كان الطفلان الشقيقان فلان وفلان «يلعبان» على «الطريق الزراعي» «السريع» في «رعاية» أمهما، فوجئا بعربة قادمة بسرعة «مجنونة» بلغت «المائة» كيلومتر في الساعة دهمتهما وأدت إلى مصرعهما.
الخبر أسوقه منقولا عن الصحف، ولكن الأقواس من عندي، ولقد وضعتها في محاولة لمعرفة العقلية التي صاغت الخبر، وبالتالي عقليتنا نحن في النظر إلى أمور العصر. الطرق الزراعية السريعة هي بمثابة الشرايين الملحة لحياة اقتصادية تنشأ في هذا العصر، إنها ليست «موضة»، إنها احتياج رئيسي من احتياجات أي اقتصاد. وكذلك العربة، إن الإنسان لم يخترع العربة إلا لحاجته إلى «السرعة»؛ إذ السرعة تعني استغلال الزمن، واستغلال الزمن يعني نقودا. وفي طموح الإنسان من أجل أن يخرج من فقر القرون الوسطى إلى غنى القرن الحديث كان لا بد له أن يخرج من سرعة القرون الوسطى «الحمار والحصان» إلى سرعة العصر الحديث «السيارة والطائرة».
الطرق الزراعية السريعة إذن لم تنشأ إلا لتسير عليها العربات بسرعات «مجنونة» فعلا. إن سرعة مائة كيلومتر تعتبر بطيئة بالقياس إلى السرعات التي أنشئت من أجلها الطرق السريعة واخترعت من أجلها العربات الحديثة.
أما آخر ما فكر فيه العصر فهو أن ينشئ الطرق السريعة لكي يلعب عليها الأطفال، وخاصة إذا كان اللعب «في رعاية أمهم!»
حسن جدا! لقد صرع طفلان في عمر الزهور! وقد يقول البعض إن المسئول هو السائق «المجنون» الذي كان يسير بسرعة «مجنونة» على الطريق السريع «المجنون». ولكنا لو استبدلنا بكلمة المجنون كلمة العصر في الجملة السابقة لاستقامت الجملة تماما مع منطق الواقع، ولوجدنا المسئول لا بد أن يكون إنسانا آخر، ربما هو المحافظ أو الحكم المحلي الذي لم يفكر في إنشاء أماكن يلهو فيها أبناء الريف مثلما يلعب زملاؤهم أبناء أعضاء النوادي في المدينة، أو ربما هي الأم التي حرمها الفقر من التعليم ومن إدراك طبيعة وخطورة السرعة في هذا العصر، وربما هو هذا الانقسام الخطير الذي نحيا فيه، شعب نام، في بداية استعانته بوسائل التحضر من الممكن أن نفقد عددا من الضحايا من هذا السبيل. ولكن المشكلة في رأيي أعمق من هذا بكثير.
ولم أدرك مدى عمقها إلا حين عدت وجمعتني الجلسات بمختلف الفئات والطبقات وسنوات العمر. والظاهرة التي حيرتني حقا هي أن الحديث مع الشبان والفتيان كان يقودهم دائما إلى سؤال هو: هل تؤمن بالأرواح؟ وما رأيك في الظواهر الخارقة التي يتحدثون عنها والتي تدل على وجود الأرواح؟
بل أكثر من هذا أذكر أني قرأت مرة خبرا عن ظهور «عفاريت» في شقة بشبرا تقذف السكان بالطوب، واستدعاء البوليس والنيابة للتحقيق في الأمر، وكيف أن العفاريت بلغ من جرأتها - بل صفاقتها - أن قذفت وكيل النيابة نفسه بالحجارة وأنه أثبت هذا في المحضر.
ورغم أني قرأت بعد بضعة أيام تكذيبا للخبر، إلا أنني لم أعلق على التكذيب أهمية، فهو لا شك قد صدر عن عقلية لا يزال بها بعض الحكمة، ولكن المشكلة هي في الغالبية التي آمنت وتؤمن بما جاء في الخبر.
وفي اللحظة هذه تتزاحم في رأسي آلاف الأفكار والخواطر والانطباعات، وأنا لا أريد الحديث في هذه اللحظة عن أوروبا ولا عن الحضارة؛ فمشكلتي الأولى ليس ما أتحدث به، ولكن إلى من أتحدث.
لكي أعرف إلى من أتحدث لا بد أن أعود إلى موقفنا من الحضارة الأوروبية، حيث وقفنا منها بعد ثورة 23 يوليو موقف العداء؛ لأن أوروبا كدول وحكومات ونظام رأسمالي بشع كانت قد وقفت منا موقف العداء؛ العداء الواضح الصريح الذي تركز في عدوان 56، ثم كشف عن أنيابه في فخ 67. وقد فعلنا هذا كضرورة حتمية من ضرورات الدفاع عن النفس.
أجل، لقد وجدنا أنفسنا - ومنذ ظهور إسرائيل كقوة عدوانية على المسرح العربي في حادثة الإغارة على غزة عام 54 - في حالة دفاع قصوى عن النفس.
وأيضا لأني أقتصر في حديثي على الجانب الفكري والحضاري، لن أتطرق إلى ما قمنا به في المجالات الأخرى من جيش وصناعة وإجراءات ثورية بكل ما حفلت به من تجارب وأخطاء، وما حفلت به من طليعية واقتحام لطريق لم يسبقنا له أحد، وكان بمثابة الريادة لعالم ثالث يتطلع مثلنا إلى الدفاع عن النفس وحيز من الوجود تحت الشمس.
وفي حياة كل أمة تأتي فترة لا بد أن تنغلق فيها هذه الأمة على ذاتها؛ كي تنضج شخصيتها القومية ويتضح تفردها وتعرف من هي وماذا لديها. هكذا فعلت روسيا بعد ثورة 17، وهكذا فعلت الصين بعد نجاح ثورتها. ولكن مجرد الانغلاق على الذات لا يكفي؛ إذ المهم هو ماذا نفعل بأنفسنا بعد الانغلاق على ذواتنا؟ ما موقفنا من ثقافتنا الوطنية؟ ما موقفنا من طرق تعليمنا؟
باختصار: أي الأفكار تسود بعد قفل الأبواب؟
وإذا راجعنا ما حدث خلال عشرين عاما من عمر الثورة المصرية الفتية، فإننا سنجد أشياء كثيرة لا بد أن نعيد فيها النظر.
ذلك أن هناك قانونا أساسيا من قوانين الوجود والبقاء: ما لم تتقدم إلى الأمام فإنك لا تتوقف، إنك دائما تعود إلى الخلف.
ولقد كانت ثورتنا تحمل في مكوناتها أهدافا تقدمية رائعة.
ومن يراجع الخريطة السياسية للشرق الأوسط يجد أن الثورة حين قامت في 23 يوليو كانت ليبيا وتونس والجزائر ومراكش في الغرب محتلة، وكانت الكويت وإمارات الخليج واليمن والعراق والسعودية والسودان إما محتلة أو خاضعة لنفوذ أجنبي تماما، بل إن مصر نفسها كانت تحتلها القوات البريطانية.
الأهداف السياسية العظيمة التي حققتها ثورة يوليو، والثورة الاجتماعية التي قامت لأجلها وتحقق جزء كبير منها، هذه كلها حقائق تخطف الأبصار.
ولقد كان من الواجب والمحتم لكي تكتمل الثورة أن يتحقق لها الركن الثالث المهم؛ أن تتحقق أيضا الثورة الثقافية.
كان واجبنا بعد أن عادينا الحضارة الغربية كل هذا العداء وقاطعناها وانغلقنا على أنفسنا، أن ننغلق لكي نحقق ثورة ثقافية حقيقية بحيث ننقل الأفكار السائدة في مجتمعنا من حيث كانت: أقلية مثقفة تتطلع بلهفة شديدة إلى تقليد أوروبا، وأغلبية تحيا لا تزال على أفكار العصور الوسطى، إلى حيث تقف ثورتنا سياسيا واجتماعيا، إلى حيث القرن العشرون.
إن الثورة لا تقبل التجزئة أبدا، ولا يمكن أن يكون الثوري ثوريا في فكره ومحافظا في تصرفه ورجعيا في بيته؛ إذ معنى هذا أنه إما أنه لا يؤمن بالثورة أصلا وإما أنه ثائر محدود الأفق. إن الثورة كالفن كائن هش رقيق، ما أسهل - إن تركته هكذا معرضا لعوامل الموات والتعرية - أن يموت! وما لم تتلبس الثورة جسدا من التنظيم وقوة ثقافية غير محدودة، فإنها لا يمكن أن تستحيل من جذوة صغيرة إلى نار مقدسة تعيد خلق الشعب وصياغته فكريا وحضاريا.
بمعنى آخر: إن الشعوب في سيرها المستمر الحتمي تميل بطبعها إلى المحافظة على الموروث والمكتسب، وما اعتادت عليه وألفته. والثورة ليست إلا تغييرا جذريا مفاجئا وشاملا في هذا السير الدءوب البطيء، فإذا تركت الثورة بلا رعاية ثورية فمعنى هذا أن تبتلعها بعد حين الأفكار السائدة بل والرجعية، وأن تنتقل بالمجتمع اقتصاديا وسياسيا خطوات إلى الأمام بينما أفكار الشعب ومبادئه ومعتقداته لم تتغير.
هكذا وجدنا أناسا يلبسون صوفا وحريرا مستوردا، وكرافتات سولكا، وعربات على آخر موديل ، يرددون: «لا أفكار مستوردة.» بمعنى آخر هم يأخذون من أوروبا كل ما يمتعهم شخصيا من وسائل العيش، أما الأفكار الجديدة فإنهم يخافون منها.
وجدنا أناسا يجعلون من الإسلام وسيلتنا كعرب إلى الثورة والتحضر؛ الإسلام ذلك الدين الذي جاء ثورة تقدم مفجرا لطاقات العرب والمسلمين الخلاقة، طليعيا يقود تيار الحضارة والتحضر. إن القرآن الكريم في كثير من سوره وآياته أوامر عسكرية وثورية يومية تهدي المسلمين في حربهم ضد العدو، وجدناهم لا يسمحون إلا برواج كل ما يمكن تفسيره تفسيرا رجعيا ومحافظا وتقليديا.
كان مجتمعنا قد انتقل خطوات كبيرة جدا في مجالات التصنيع والتعليم والخدمات بحيث استطاع أبناء الفلاحين والعمال أن يدخلوا المدارس والجامعات، وينشأ جيل منهم يريد أن يحيا وأن يثور وأن يوجد وأن يتعلم أكثر وأحسن.
هذا الجيل ماذا كانت رسالتنا إليه؟ ماذا تكتب له الصحف؟ ماذا يسمع في الراديو ويرى في التليفزيون والسينما؟
إني لا أستغرب بعد هذا كله أن نجد بعض الصحف والناس أحيانا تناقش مشكلة: هل هناك أرواح وعفاريت وظواهر خارقة تتدخل في حياة الناس؟
إني لا أريد أن أنقد موقفنا مثلما يفعل البعض لمجرد النقد، إني في الحقيقة أصدر في كلامي من نقطة بدء، هي نفس نقطة البدء التي صدرت عنها ثورتنا؛ الدفاع عن أنفسنا.
ولا أقول الدفاع لمجرد أن إسرائيل اعتدت علينا واحتلت أراضينا.
أما الخطر الأكبر فهو فينا نحن وفي طريقتنا التي نواجه بها العدو، كياننا ليس فقط في السلاح الذي نواجه به العدو، ولكن في السلاح الإيماني والعقائدي، في الروح التي نواجه بها العدو.
الروح وليس الأرواح بالمعنى الذي أصبح شائعا الآن ومتداولا.
كيف نواجه؟ وبماذا نواجه العدو؟ هذه هي المشكلة.
إن العدو الإسرائيلي ليس سوى التحدي الأصغر الذي يواجهنا.
إنما التحدي الأكبر هو هذه الحضارة الصناعية الأوروبية الأمريكية اليابانية الهائلة التي تقف لنا بالمرصاد.
إن ما شاهدته في أوروبا الغربية وأمريكا واليابان من مصانع ومراكز بحوث واكتشافات وغنى ...
وما رأيته في المعسكر الاشتراكي من ثورة في التفكير والتكنولوجيا والتحضر بعد التخلص من كل ما خلف العصر الستاليني من جمود وتحفظ ...
إننا لسنا وحدنا في هذه المشكلة وإنما معنا كل دول العالم الثالث التي ثارت؛ فحاصرت الرأسمالية العالمية ثورتها وضربتها، بل نكاد ننفرد دون دول العالم الثالث بأننا لا نزال واقفين لم نركع ولم نستسلم ولم نكف عن قول لا.
والمحنة التي تمر بنا ليست من صنعنا وحدنا. إنها طريقة الغرب لضربنا في الصميم، إنها محاولة رهيبة لترويضنا؛ لترويض هذا الشعب المخيف الثائر الذي ظل يهدر بالثورة من 1882 إلى الآن، جيلا وراء جيل، وكبوة وراءها كبوة، ولكنه ماض في طريقه لا يرضخ ولا يكف برغم كل النكبات.
لقد ثرنا قبل كمبوديا وفيتنام، ثرنا حتى قبل روسيا والصين وكوريا والهند، كنا روادا للثورات.
ورغم بعض الخيانات فتاريخنا الكفاحي ناصع البياض.
ولقد كانت ثورة 23 يوليو بكل ما حملناها من أماني وأحلام، بكل ما آزرناها به من قوة وعزم وإصرار؛ محاولتنا الثانية الكبرى خلال نصف قرن واحد للخروج من زنازين العبودية إلى وديان الأحرار.
لقد خلقت الرأسمالية عقولها المفكرة وإنسانها المستقل الذكي، ولقد فعلت هذا بما يمكن أن نسميه ثورتها الثقافية الحضارية. إن النظام البرلماني الليبرالي الإنجليزي مثلا ليس من قبيل الأناقة الحضارية والوجاهة، إنه نظام نابع أساسا من احتياجات الرأسمالية الإنجليزية، ووسيلة ذكية لإشعار العامل المستغل بأنه حر، وبأن له رأيا، وبأن رأيه محترم؛ وذلك للظفر منه بأقصى مجهود خلاق يخدم في النهاية مصالح السادة الرأسماليين.
ولقد خلقت الثورة الاشتراكية إنسانها الجديد؛ ذلك المؤمن بأن مصالحه الشخصية مرتبطة ارتباطا لا ينفصم بمصلحة مجتمعه ككل، وأن الخير حين يعود يعود على الجميع، والخسارة حين تحل تحل بالجميع. حققت الاشتراكية بالثورة الثقافية الاشتراكية وجودا حقيقيا لإنسان جديد هو الذي يخترع الآن ويبتكر ويعمل، ونقل وينقل دولا مثل بلغاريا والمجر وبولندا - ولا أقول الاتحاد السوفييتي والصين - من عصر المحراث إلى عصر الكمبيوتر في المزرعة التعاونية.
ونحن، حقيقة، قد أنجزنا الكثير في مجال إنشاء الصناعات وبناء القوات المسلحة والخدمات والتعليم.
ولكن ...
هل غيرنا عقل هذا الإنسان الذي يبني ويصنع ويقوم بهذا كله؟
هل سلحناه بالوعي وعيون العصر والقدرة على فهم ما حدث له وما يمكن أن يحدث؟
هل قمنا بالركن الثالث الخطير لأي ثورة؟ هل قمنا فعلا بثورة ثقافية مصرية نقلت أفكارنا من حيث كنا إلى حيث يجب أن نكون؟
إن المدفع لا يحارب وحده، الذي يحارب هو الإنسان.
والميكروسكوب لا يكتشف وحده، وراء الميكروسكوب عين العالم، ووراء العين عقل علمي.
والشعب لا يكون شعبا إذا لم يجمعه على الأقل هدف واحد أو نقطة واحدة يؤمن بها ويلتف حولها ويموت ويضحي من أجلها.
إننا إما أن نستمر في التحوصل على أنفسنا والتقوقع والانغلاق، ونفعل مثلما فعل العلماء الملتفون بالشيخ الشرقاوي لدى قدوم جيش نابليون حين كانت مشكلتهم في مواجهة هذا الجيش هي إعراب كلمة «بونابرته» وكيف تكتب في الخطاب الذي يوجهونه له؟
وإما أن ننفتح انفتاحا كليا على العالم ونترك وعي غيرنا هو الذي يسود ويتحكم، والحضارة تدخل بلادنا من الغرب والشرق والشمال والجنوب «سداح مداح». باختصار نستسلم ونغيب نحن عن الوعي بشرقه وغربه، ونترك الأفكار والثقافة.
وإما ...
وإما أن نختار الطريق الوحيد الجدير بالأحياء.
قبل أن تنهار عمارة بيومي
كان في نيتي أن أناقش هذا الأسبوع «حكاية» التعليم في مصر بعد أن أصبحت فعلا حكاية لها العجب كل العجب، ولكني فوجئت في بريد الصباح بخطاب من الإسكندرية، أعرف الخطوط الرجالي من الحريمي على الفور؛ ذلك أن عضلات أصابع الأنثى بكينونتها الدقيقة تجعل خط المرأة عامة مختلفا عن خط الرجل، أقول عرفت أن الخط خط أنثى رغم أن الإمضاء كان لقارئ، بمعنى أنه تنكر داخل تنكر. والخطاب يدل على أن صاحبته متعلمة فعلا وقارئة ومطلعة. ناقشتني في بعض ما أكتبه، ولكنها باحت في النهاية بالسر الذي دعاها لكتابة الخطاب؛ ذلك أنها ومجموعة من أصدقائها وصديقاتها اختلفوا كثيرا حول ديانتي؛ بعضهم يقول إني مسلم وبعضهم يؤكد أني مسيحي، وتطلب وتستحلفني في نهاية الخطاب أن أجيب على هذا السؤال «المهم جدا» في المفكرة ليعرف القراء جميعا.
أمسكت بالخطاب بعد قراءته وأنا حائر فعلا. لقد كنت جهزت نفسي عقليا ووجدانيا لمعالجة قضية من أخطر قضايا مجتمعنا، وإذا بهذا الخطاب القادم لا يعنيه أبدا ما أبديه من آراء، وإنما مشكلته الكبرى هي هذا السؤال الذي ليس أول سؤال، ولكن الأسئلة الأخرى على الأقل كانت تلقى علي شفويا. أما أن يجشم قارئ أو قارئة نفسه عناء الجلوس إلى مكتب وتدبيج خطاب طويل عريض يسأل تحريريا هذه المرة عن كنه ديانتي، فتلك مسألة أخرى في حاجة إلى وقفة، بل إن هذا التساؤل السطحي بدأ يتشابك في عقلي ويتعانق إلى أن وجدت نفسي في قلب مشكلة التعليم دون أن أدري. سأفعل كما تفعل أجاثا كريستي وسأبقي الإجابة إلى النهاية، عسى هؤلاء الذين وصل بهم الوضع التعليمي والثقافي إلى هذا الحد يتابعون معي ومع غيرهم من القراء «حكاية» التعليم في مصر. •••
الحكاية أصلها ثابت وفرعها في السماء. إن التعليم هو: تلميذ يريد المعرفة، وأستاذ لديه المعرفة، ومكان يجمعهما ومع الآخرين ليصبحا في النهاية مدرسة أو جامعة أو دراسات عليا دقيقة التخصص.
إلى أن تخرجت أنا في الجامعة في الخمسينات وربما بعدها بقليل، لم تكن هناك مشكلة تعليم في مصر. كانت هناك بالطبع مشاكل للتعليم، ولكن لم تكن هناك «مشكلة» تربية وتعليم عويصة ورهيبة، وكالأمراض الخبيثة وصلت إلى داء الحلقة المفرغة التي ربما استغرقت أجيالا لحلها أو الخروج منها.
كان حجم وزارة التربية والتعليم مساويا لعدد القادرين على التعليم، أو بالضبط مجتمع ال 5٪ كما أطلقت عليه ثورة يوليو.
وجاءت ثورة يوليو، ومصر الاقتصاد الأجنبي، ثم ما لبث أن أمم هو الاقتصاد المصري بالمرة، واندفعت إلى الطبقة المتوسطة كميات هائلة من رصيد المعدمين حتى وصلنا بعد قرارات التأميم في يوليو وبعد أن بدأ فعل الثورة عمله في رج المجتمع المصري رجا عنيفا، إلى أن وصل عدد القادرين على التعليم إلى عشرة أضعاف.
المكون الثاني للمعادلة «المدرس»، وتمشيا مع سياسة تصدير التعليم والمدرس المصري إلى كل أشقائنا العرب نقص عدده بدرجة كبيرة، ليس هذا فقط، وإنما أن مستواه «الكيفي» قد قل بدرجة خطيرة.
المكون الثالث للمعادلة «المدرسة»، صحيح أنشئت مدارس كثيرة، أنشئت جامعات أكثر - ست جامعات - ولكن هل الاتساع الأفقي هذا كان متناسبا مع الأعداد الأكبر من الطلبة؟ أي هل وصل عدد المدارس إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل الثورة؟ قبل الثورة كانت هناك جامعتان ونصف «النصف هو بداية تكوين جامعة عين شمس»، مفروض أن يكون عدد جامعاتنا الآن خمسا وعشرين جامعة، ولكنها «كلها على بعضها» الآن تسع جامعات.
وليس هذا هو المهم، المهم أن عدد التلاميذ له أن يتضاعف ويتكاثر إن شاء له الهوى، ولكن لا بد ليكون التعليم تعليما - أو على الأقل للوصول إلى الحد الأدنى من التعليم - أن تقابل هذه الزيادة بزيادة كيفية وكمية لعدد المدرسين والأساتذة. وما حدث كان العكس تماما، فالمدارس الابتدائية عندنا تشكو من نقص هائل في عدد المدرسين المثقفين تربويا، بل نحن نعهد بالتعليم الابتدائي إلى أقل المدرسين تعليما وكفاءة. •••
والنتيجة هي ما نراه الآن؛ وضع يكاد يشبه لوحات الرسم العبثية، أعداد رهيبة من خريجي جامعات لا معنى لتعليمهم الجامعي بالمرة حيث يعهد إليهم بأعمال بعيدة كل البعد عما درسوه، نقص شديد في العمالة اليدوية والحرفية، ولا أقول التكنولوجية والصناعية. تصوروا رغم تعدادنا الهائل هذا نشكو عجزا رهيبا في عدد السمكرية والكوائين والنجارين وبالذات نجارو البناء ونجارو الباب والشباك.
إن المثل الذي يقول إن الشيء إذا زد عن حده انقلب إلى ضده لا ينطبق على شيء بقدر ما ينطبق على التعليم في مصر؛ فبدلا من أن تأتي الثورة بعقول وأناس أكفاء يضعون في الخمسينات سياسة طويلة المدى لمصر الثورة التي تريد أن تتطور بسرعة قصوى، ولا بد لكي تحقق أهدافها الستة التي قامت من أجلها أن يكون التعليم - والتعليم على أرقى مستوى - هو وسيلتها للوصول إلى ذلك. جاءت بضابط شاب انتهز فرصة ركوع بعض أساتذة الجامعة وبعض المسئولين عن التعليم لرغباته وتخبطاته، لا أقول وضع سياسة، وإنما جعل من كلمة طه حسين «التعليم ضروري كالماء والهواء ولكافة فئات الشعب» أصبح ليس المهم عنده هو نوع التعليم وضرورة أن يكون كالماء والهواء فعلا؛ الماء النقي والهواء النقي، وليس التجهيل وحتمية أن يؤدي إلى ماء ملوث وهواء خانق سام. لم تضع الثورة إذن «سياسة» للتعليم، لم تحاول أن تفهم ما تحدثه هي في المجتمع من دفع بأعداد هائلة إلى فئة القادرين وضرورة أن تعد لهذه الأعداد وما يتلوها الفرصة لتعليم ولعلاج ولرعاية، المفروض في الثورات كلها أن يكون الهدف من قيامها أولا وأخيرا الإنسان والأخذ بيده ورفع مستواه حضاريا وفكريا وثقافيا ... •••
وليس المهم الآن أن ننعي أو نحاسب على ما فات.
المهم هو الوضع الصارخ الآن وكيف نعالجه.
لم أر وزيرا أجمع الناس على ذكره بالخير مثل الدكتور مصطفى كمال حلمي المسئول الأول الآن عن التعليم بكافة مراحله ومستوياته.
ولكن ليت المشكلة هي مشكلة وزير عبقري أو وزير عادي، المشكلة أكبر من أي وزير، بل أكاد أقول أكبر من أي مجلس وزراء بأسره.
إن أثمن ما في مصر هو الإنسان في مصر. وصحيح أن أثمن شيء في مصر «الإنسان» قد أصبح أرخص شيء في مصر من ناحية سعره «وتصوروا مثلا أنني حسبتها فوجدت أن شقتي - نظرا لموقعها - لو أجرتها مفروشة لكان دخلها خمسة أضعاف مرتبي في الأهرام!» فما بالك بموظف عادي أو عامل عادي؟!
الأزمة التي تجتازها مصر أزمة خطيرة، بل تكاد تكون أخطر الأزمات؛ إذ هي ليست أزمة حرب أو سلام، وليست أزمة اختناقات اقتصادية أو اجتماعية، إنها أزمة الإنسان المصري.
وثلاثة أرباع أزمة الإنسان المصري هي غرقه الخانق في مشاكله الخاصة، وسوء توظيف طاقته الإنتاجية، وتعليمه قسرا ووضعه في وظيفته قسرا. لا أحد يختار مساره، لا أحد يختار وظيفته أو حرفته، إنما هي أشياء تحدث لنا ولا خيار لنا فيها، وهكذا فما دام الإنسان قد فقد سيطرته على مصيره، كيف تطلب منه أن ينتج؟ كيف ينتج شيئا لا يريده؟ أو يصنع أعمالا لا أهمية لها بالمرة عنده؟ المسألة إذن خطيرة وليست مسألة تعليم وتعلم، إنها في الحقيقة مسألة أن يكون الإنسان المصري أو لا يكون. إنها أخطر مشاكل مصر على الإطلاق في رأيي وليس علاجها أبدا لجانا تنعقد في المجالس القومية المتخصصة.
إنها في حاجة إلى أن نعقد من أجلها مؤتمرا يضم خلاصة العقول في مصر، ولا أقول خلاصة الأساتذة في المدارس والجامعات، ولكن أؤكد مرة أخرى على خلاصة العقول في مصر وفي كل المجالات لدراسة أولا: إلى أين نحن ذاهبون بالإنسان المصري؟ أو إلى أين يذهب بنا هذا الذي أصبح عليه الإنسان المصري؟
ولأن الثقافة والمستويات الثقافية - سواء في حدها الأقصى أو في حدها الأدنى - هي القلب الذي تنبض به أي سياسة للتعليم وأي الاتجاهات ومدى الأعماق التي ينبغي أن تصل إليها.
الثقافة التي - للأسف - عادتها عناصر كثيرة من عناصر الثورة حتى اعتبر المثقف المصري ذات يوم وكأنه عميل للفكر الأجنبي، وبالتالي لدولة أجنبية. والتي كان من نتيجتها الوصول إلى درجة الخزعبلات حتى في فهم ديننا العظيم الحنيف.
ذلك الذي يصل بجامعية خريجة جامعة، مثل الفاضلة القارئة وأصحابها وصاحباتنا الذين لم يعد يهمهم من فلان الذي هو أنا إلا دينه.
أنا مسلم يا سيدتي وموحد بالله، ومؤمن أشد الإيمان بكافة الأديان السماوية وعلى رأسها المسيحية واليهودية.
أقولها وأنا فخور، هذا حقيقي، ولكني لا أستطيع أن أمنع نفسي من الحزن والأسى؛ فوراء السؤال تكمن مشكلة بالغة الضخامة والفجيعة، مشكلة الثقافة في مصر التي أساسها تعليم انعدام وفي سبيله للعدم، ولو كانت مشاكل الإنسان من تربية وتعليم وصحة وخلافها تنهار مثل انهيار عمارة بيومي لانهارت عمارته من زمن.
فلنعقد فورا ذلك المؤتمر.
فلم تعد تكفي أعمدة الخشب التي نصلب بها البنيان.
العمارة توشك أن تنهار.
كاتب بلاد الغنى والضياع
كنت قد وصلت في نقاش مع آرثر ميللر إلى نقطة دقيقة وحرجة في حياة كل كاتب. إن الكاتب أو الفنان - في نواح كثيرة منه - ظاهرة فردية متمردة. وفي أمريكا يسمون الحكومة والشركات الكبرى والكوربوريشنز، يسمونها «المؤسسة»، أو ذلك الأسمنت المسلح المبنية فوقه «الدولة» برجالها الكبار وشيوخها وأجهزتها وأنظمتها. والمؤسسة كانت شيئا مرفوضا تماما من الشباب بالذات، وكانوا يسمون من يعمل بها أو من «تحتويه» بأنه «خان» المبادئ، أية مبادئ؟ لا أحد يعرف بالضبط؛ فاليساريون قليلون جدا، والشيوعيون أقل، ولكن «التمرد» كثير، وما حركة الهيبز والبيتلز، وإلى حد ما حركة التحرر النسائية - حتى التحرر من الرجل والاستغناء عنه بالمرة جنسيا أيضا - كل هذا كان يمثل ظاهرة التمرد ضد المؤسسة، تلك التي بلغت أشدها في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، والآن آبت إلى نوع من الهدوء ربما سببه انفجار بركان تمردي زنجي آخر. الآن زنوج أمريكا لم يعودوا هم هؤلاء الوادعون المستنجدون بالله وبالدعوات وبمارتن لوثر كنج والمسيحية في طيبتها وتسامحها ليردوا على قسوة البيض والكلوكس كلان والاحتقار الكامن لدى الرجل الأبيض. الآن عنفا بعنف أشد يردون، بل أحيانا بإجرام رهيب يردون.
ولكن التمرد ضد «المؤسسة» - وإن كان قد آب إلى نوع من الاعتدال - لا يزال قائما موجودا، وآرثر ميللر نشأ في ظل هذا التمرد، وكانت مسرحياته الأولى مسرحيات تمرد كبير، هو تمرد «الرجل العادي» ضد «المؤسسة»، وما تؤدي إليه المؤسسة الاجتماعية السياسية من مآس حتى على المستوى الفردي. فماذا حدث لهذا «الذئب العجوز» الآن؟ تهادن؟ هل تولت المؤسسة - بما أفاضته عليه من مجد ومال وشهرة وقامة هائلة الطول في مجتمعه - عملية «تطويعه» أو على الأقل «تهجينه»؟
وعدت إلى النقاش. - مستر ميللر، تقول إن هناك حرية أكثر الآن في أمريكا، ولكن نفوذ المؤسسات - بالطبع يقصد «المؤسسة» - يتعاظم هو الآخر؛ وهذه هي المشكلة، أليس كذلك؟
ميللر: بالضبط هذه هي المشكلة؛ إن من الصعب تماما على المواطن الآن أن يكون مستقلا تماما عن هذه المؤسسات مثلما كان باستطاعته أن يفعل في السنين التي مضت. الآن هم يتحكمون أكثر، ولكن في أوجه كثيرة قد تحرر أكثر.
قاطعته قائلا وقد بدأت أحس أنه صار ديبلوماسيا. - بصراحة بالنسبة لعنصر الالتزام، أعتقد أنك لا تزال ملتزما، على الأقل بالنسبة للبشرية ككل، أو أنك لا تزال ملتزما بقضايا الشعب الأمريكي؟
ميللر: نعم. - ولكنك تقول: إن الأعداء في الماضي كانوا واضحين جدا، أما الآن فمن الصعب تحديدهم.
ميللر: إن عندنا موجة من اليأس في الغرب. إن الكتابة لا معنى لها ولا فائدة، وكأن ليس هناك فائدة أو أمل. وأعتقد شخصيا أن هذا صحيح إلى حد ما، ولكني لا أستطيع قبوله؛ ولهذا فلا بد لي أن أفحص الإنسان لأجد أين تكمن قدرته على المقاومة - المقاومة الحيوية - وهذه معجزة. إن الجنس البشري لا يزال يصر على أن يعيش، وغزل هذه المعجزة ومعرفتها مسألة هامة. - لكي نعود إلى قضية المسرح، عندي إحساس أن المسرح في العالم يموت الآن، فهذه الآلات التي ذكرتها تلتهم المسرح من دراما وصورة وموسيقى، ولكنها في نفس الوقت تلتهم المسرح كروح وكجمهور حاضر وما أسميه أنا بلغتي تقتل «التمسرح».
ميللر: هذه زوجي إنجي، هذا يوسف إدريس، وهذا أدونيس. اجلسي يا إنجي.
إنجي: أنا فقط أردت أن أعرف.
ميللر: لماذا لا تجلسين؟ إنجي قضت وقتا طويلا في الشرق الأوسط. إنها تعمل كمصورة صحفية. - يسعدني جدا أن أدعوك ومستر ميللر لزيارة مصر.
إنجي: أنا مستعدة للذهاب فورا.
ميللر: كي نعود إلى النقطة التي أثرتها، فإني أقول لك إني حين بدأت الكتابة للمسرح لم يكن هناك مسرح خارج نيويورك، وكان بالضبط مسرح بردواي المحترف التجاري، وكانت هناك روايات أكثر مما هو موجود الآن. وهكذا كان على الكاتب المبتدئ أن يبتدئ محترفا مباشرة. الآن هناك مسارح في كل مكان ولكن عدد المسرحيات أقل، غير أن هناك أماكن كثيرة لعرضها. هناك مسرحيات محترفين أقل، ولكن هناك مسارح هواة كثيرة في شيكاجو ولوس أنجلوس وسانت لويس. - إني أتكلم عن المسرح في العالم في الحقيقة، فهناك عدد أقل من كتاب المسرح.
كان المسرح هو وسيلة التعبير في العشرينيات والثلاثينيات، ولكن هذه الآلات الجهنمية كما ذكرت قد استنفدت مواهب مسرحية «وتلفزتها» أو «سنمتها»، في الماضي كان هناك المسرح فقط.
ميللر: هذا هو الحادث فعلا. ولكن بالنسبة لي شخصيا فإن استمراري كمسرحي راجع إلى أني أحب المسرح بالدرجة الأولى، ولكن بالإضافة لهذا فإنه في النهاية أبسط وسائل التعبير. لا يوجد ماكينات؛ هناك الكاتب ، والممثل، والجمهور، وهذا كل شيء. أعتقد أن هذا شيء لا بد من المحافظة عليه وهو مناسب جدا لمجتمعات الطلبة والهواة الذين لا يملكون نقودا لشراء آلات أو استديوهات. إن خبرتي أن المسرح حين يحتوي موضوعا هاما يجذب جمهورا كبيرا جدا. - هذا يقودنا إلى مشكلة المسرح الطليعي والتجريبي. أتعتقد أن هذه التجارب الجديدة تقتل روح المسرح الحقيقي أم تنشطه؟
ميللر: الاثنان! أنا أكره أن أعطيك إجابة بسيطة، ولكن لا توجد إجابة بسيطة. أنا أعتقد أن الدراما العظيمة جاءت في الأجواء الديمقراطية العظمى في حياة الحضارة مثل الإغريق القديمة وعصر إليزابيث في إنجلترا؛ كان المسرح آنذاك لجميع الناس ولم يكن للمثقفين والمتعلمين فقط، لم يكن للأغنياء والبورجوازيين فقط، كان هناك الفلاح واللورد وكل الناس. والمسرح الطليعي مشكلته أنه يبدأ بفكرة لا تخاطب إلا «الخلاصة» فقط. وهذا شيء يسيء لفن المسرح. السبب أن الكاتب الفنان لا يصارع كثيرا ليجعل فكرته المجردة تلك ومشاعره المعقدة بسيطة إلى درجة يفهمها الناس أجمعون. إن أعظم مشاهد شكسبير في حقيقتها بسيطة إلى درجة غريبة. إنها تعالج مشكلة إنسان هجر الآخر، أو إنسان يريد أن ينتقم من الآخر، أو شخص طموح، شخص خائف، شخص سعيد. في النهاية موقف بسيط جدا والناس بسطاء. وحين تصل بالطليعة إلى المراحل المجردة في السلوك الإنساني تختل ولا يستطيع أحد أن يتعرف على الشخصية أو الموقف بسهولة، ويصبح حينئذ الموقف المسرحي لغزا قد يكون مثيرا لهؤلاء الشغوفين بحل الألغاز، ولكنه ليس مثيرا بالنسبة إلى الجمهور البسيط العام. إن دور الفنان ليس أن يعقد الأشياء المعقدة، وهذا صعب، ولكنه يأخذ جهدا خارقا وموهبة فذة وإيمانا كبيرا أيضا بصراع الفنان مع نفسه لتجسيد القيم والأفكار المجردة وتحويلها إلى الحقائق الإنسانية البسيطة. - ولكنك كنت طليعيا بطريقتك الخاصة، فكيف تفسر موقفك الآن من الطليعة؟
ميللر: أعتقد أن الطليعة هي أن تفهم هذه «الكارثة» الكبرى، الطليعية. - وما رأيك في التكنيك المسرحي الذي استخدمته في مسرحيتك الجديدة «سقف الباب»؟ هل تعمدت تكنيكا خاصا أم أنك تركت نفسك لسجيتها؟
ميللر : إن التكنيك بالنسبة إلي لا يأتي من المسرح أو النقاد، ولكنه يأتي من طبيعة «الجنة السرية» التي تحاول الوصول إليها في هذه المسرحية أو تلك؛ ولهذا فمسرحياتي مختلفة الشكل والتكنيك؛ لأن «الجنة السرية» في كل منها مختلفة. المسرحية الجديدة مثلا «سقف الباب» مختلفة؛ فقد كنت أحاول فيها أن أعثر على هذا الصوت الخفي للجنة السرية الخاصة بها، وهذا يتطلب منك أحيانا أن تكون تجريديا تماما، وأحيانا أخرى يتطلب منك أن تكون واقعيا جدا. ولماذا لا؟ خلال مائة عام من الآن إذا كان المسرح لا يزال قائما وموجودا، فإنهم حين يمثلون مسرحية فإنهم سيفعلون هذا لأنها «ستتحدث» إليهم، حتى في ذلك العصر القادم البعيد. إن بعض مسرحياتي عمرها 25 سنة، وهذا ربع قرن، أي زمن طويل، ومع هذا فهي لا تزال تمثل، ربما الناس قد نسوا تماما أن «وفاة بائع متجول» قد كتبت بطريقة جديدة، ولكنهم فيما أعتقد يقدمونها لأنها لا تزال تقول لهم شيئا. إنها لم تخترع جديدا، فلست إديسون أو جراهام بل، ولكنها اخترعت شيئا فيما أعتقد. - ربما لما حوته من موضوع جديد فيما أعتقد.
ميللر: ولكن التكنيك أيضا كان جديدا. ألست معي؟ - لماذا درج الكتاب الشبان على إهمال الالتزام تماما هنا؟ ماذا حدث؟
ميللر: لأن كل ما كانوا ملتزمين به قد «انفجر».
كل ما كانوا ملتزمين به قد دخلته المساومة بطريقة أو بأخرى. أنا أعتقد أن هذا ليس التزاما أو عدم التزام. أعتقد أنه عدم فهم حقيقي لدورهم ككتاب. - إذن يا عزيزي مستر ميللر، أنت توقع نفسك في تناقض الآن.
ميللر: ربما، على العموم الرؤية لا تبدو واضحة تماما. في الأدب الأمريكي الإنجليزي هناك انفصال بين الحياة السياسية والاقتصادية والفنية، وكأن لا شيء يمت إلى الآخر؛ ولهذا حين يعالج الكتاب موقفا سياسيا فهم يشكون في أنه لا يقول الحقيقة، مع أن الناس طول الوقت غارقون لآذانهم في السياسة والاقتصاد. - ألا تعتقد أن هذا سببه أن الكتاب أنفسهم لم يقوموا بدورهم كما يجب؟ أي لم يعمقوا إحساس الناس بما فيه الكفاية إلى درجة أن يدركوا صلتهم بالأوضاع السياسية والاقتصادية والعلمية والتربوية؟ لم يقوموا بدور القيادة كما ينبغي؛ ولهذا لم يتجاوب الناس معهم بما فيه الكفاية.
ميللر: هذا يعتمد على أين تربى الكاتب. حين كنت ناشئا كانت هناك أزمة أمريكية اقتصادية كبرى، وكان السؤال هو: هل تصبح أمريكا فاشية أم اشتراكية أم بين بين؟ وكان لا بد من الاختيار فورا. ولكن الآن هذا التحديد لم يعد قاطعا. لقد سار النظام بدون حاجة إلى اختبارات راديكالية. عندنا نسبة بطالة 15٪ هذا صحيح، ولكنهم هادئون. - ألا تعتقد أنه لا تزال هناك مأساة أمريكية في حياة الولايات المتحدة الآن؟
ميللر: بالطبع. - ما هي؟
ميللر: الضياع. ضياع الوقت، ضياع الناس، ضياع الحياة في القلق، ضياع العقاقير، ضياع القدرة ... هذه مأساة. وأحيانا تجد أفرادا يدركون هذا، مدمنو العقاقير يدركون هذا ولكنهم لا يستطيعون شيئا. - أتعتقد أن هذا نتيجة لدراما شخصية أو هو نتيجة لأوضاع عامة؟
ميللر: أعتقد أن هذا سببه أنه لا توجد أهداف عليا موحدة للمجتمع الأمريكي. هناك مثلا إحساس أنهم ضد الحرب وضد الكوارث الاقتصادية، ولكنهم ليسوا «مع» أهداف عليا محددة.
وكنت أريد أن أسأله كيف ولماذا تزوجته مارلين مونرو؟ ولكن زوجته كانت موجودة، وكان اليوم عيد ميلادها، ولم أشأ أو نشأ أن نكون قليلي الذوق. كل ما في الأمر أنني أحسست أن مارلين اختارت هذا الرجل بالذات لأنه يعطي الإحساس الغريب بالأب أو بالأخ الأكبر الفرح المثقف الذي يمكن الاعتماد عليه والثقة به، وأنه رجل. ولقد كانت مارلين مونرو امرأة حقا.
حوار مع زوج مارلين مونرو
وليعذرني القارئ لهذا العنوان؛ فمارلين مونرو أكثر شهرة بكثير من زوجها عميد المسرح الأمريكي المعاصر آرثر ميللر! وكنت وأنا سائر معه في الشارع الخامس بنيويورك، وهو طويل - أطول مما يجب - وجهه ظاهر لأي عيان، وبالكاد يتعرف عليه أناس قلائل تماما، ودائما بعد أن نمضي أقارن (بيني وبين نفسي) وأقول: لو كنت سائرا مع مارلين مونرو، ألم يكن الشارع كله قد وقف تماما عن حركته؟ هكذا الكتاب المساكين، دائما يعملون من وراء الستار - بل أحيانا ستائر كثيفة - ودائما أسماؤهم أشهر من أشخاصهم، وأدوارهم لا تعرف قيمتها الحقيقية إلا بعدما يرحلون عن هذا العالم إلى الأبد.
وأنا لا أحب في العادة لقاء الكتاب الأجانب أو المشهورين حين أسافر؛ ذلك أني أعلم تماما أن الفنانين الأصلاء غالبا ما يكونون منطوين على أنفسهم، لا يحبون أن يفتحوا ذواتهم لأغراب، وأكثر ما يضايقهم أنهم ما يكادون يلقون أحدا إلا وينهال عليهم بأسئلة واستجوابات يتعلمون من أجلها ابتسامات المجاملة التقليدية، وتدفعهم شدة أدبهم أحيانا - معظمهم مؤدبون - إلى أن يضغطوا على أعصابهم كي يجيبوا وأمرهم إلى الله. صحيح أني قابلت الكثير منهم، ومن الكبار أيضا، سارتر (ذلك الذي لم أرد أن أراه أبدا في القاهرة حين جاء) قابلته بالصدفة المحضة في مطعم شبه شعبي في باريس، وقبل هذا قابلته أيضا في فيينا في مؤتمر للسلام، وقابلت معه هناك إيليا أهرنبرج، وسيمون دي بوفوار، قابلت بالصدفة أيضا، أوسبورن وبنتر في إنجلترا، وإيفنشنكو وسيمونوف وناجيبين «الذي كتب مقدمة لبعض كتبي التي ترجمت إلى الروسية.» قابلت كثيرين ربما لا أذكرهم الآن في إيطاليا واليونان وتركيا، ولكن المهم رغم رغبتي الشديدة أحيانا في اللقاء، إلا أني أبدا - وللسبب الذي ذكرته - لم أسع أبدا للقاء حتى كتابنا المصريين الكبار لم أشأ أن ألقاهم إلا بعد أن أكتب وأنشر؛ فالمهم هو «كارت» الزيارة الحقيقي؛ الإنتاج. أما شخصية الكاتب فربما لا تكون هي خير ما عنده. وربما لأجل هذا أيضا كنت أتحاشى لقاء الكتاب في أوروبا وأمريكا، فأنا أعرف إنتاجهم ولكنهم هم لا يعلمون إلا القليل جدا عنا وعما نكتب؛ ولهذا فسوف يكون الحوار دائما من جانب واحد، وهذا أمر يدفعني دائما إلى الخجل.
ولكنها الصدف، وأحيانا المؤتمرات، وشكرا للندوة التي عقدها نادي القلم الدولي في نيويورك والتي دعيت لحضورها منذ بضعة أشهر، وكان يرأسها آرثر ميللر ويديرها الروائي الأمريكي - أو أهم روائي أمريكي معاصر - جون إبدايك. شكرا للندوة فقد أتاحت لي - دون سعي - أن أقابل عددا من الأسماء التي كنت أقرأ لها ولا أعرفها، وفي نفس الوقت أتاحت لها أن تعرف شيئا عن الأدب العربي لم تكن تعرفه.
وفي الحقيقة كان لقائي بميللر عاصفا، هكذا شاءت الظروف. فقد ألقى ميللر في كلمة الافتتاح خطابا قصيرا كاد يملؤني بالغضب؛ فقد كان تساؤلا غريبا عن أهمية ودور الكلمة في عالمنا المعاصر كاد ينتهي فيها إلى أن الكلمة لم يعد لها دور، أو إذا كان لها دور فهو ثانوي تماما وبلا أي فاعلية. وبالصدف المحضة كنت قبل سفري قد كتبت في هذا الباب مفكرة بعنوان: لماذا لا نزال نكتب؟ كانت انطباعا كله إيمان بأنه لم يعد حقيقي في هذا العالم إلا الكلمة الصادقة الطيبة، الكلمة التي تغير لأنها تصدر عن متغير، التي تؤثر لأنها تصدر عن متأثر، التي تميت وتحيي لأنها صادرة عن إنسان يأخذ قضية قولها وكتابتها مسألة حياة أو موت.
كنت قد أعددت كلمة في الافتتاح، ولكن حين جاء دوري نحيت الكلمة جانبا، ورددت من وحي اللحظة على ميللر، ولا أدري لماذا تحمس الحاضرون كثيرا لما قلته؟ حتى إن الجرائد في اليوم التالي نشرت المسألة وكأنها مشكلة. كل ما في الأمر أن الظروف كانت تخبئ لي مفاجأة، فقد كان مفروضا أن نتناول الغداء - بعد الافتتاح - في ناد لا أذكر اسمه الآن. وجاءت جلستي بالصدفة بين آرثر ميللر والروائي جون إبدايك. وتحدثت مع إبدايك إذ كان قد زار القاهرة وكتب عنها قصة حاولت أن أناقشه فيها؛ فبدا عليه بعض الانزعاج، وقال لي إنها قصة «غريبة»، وهو استعمال مخفف لما تحويه القصة من تصوير لجو خاص شاذ لم أكن أعرف أن له وجودا في قاهرتنا العزيزة. وتدخل ميللر في الحديث مبديا رغبة قديمة لديه أن يرى القاهرة، وهكذا نشأ حوار ثلاثي عن الموضوع الذي أثير في الصباح عن دور الكلمة. ودعاني ميللر لزيارته في مزرعته التي تبعد عن نيويورك ثلاث أو أربع ساعات، ولكنه كان كريما في اليوم التالي ودق لي تليفونا يطلب فيه أن يكون اللقاء في مكتب ناشره في نيويورك حتى لا يكبدني مشقة الانتقال إلى بيته البعيد . كان شاعرنا العربي أدونيس حاضرا فاتفقنا أن نذهب معا.
وكما قلت قبلا فإن حماسي للفكرة لم يكن كبيرا؛ ذلك أني لا أومن بإجراء هذه الأحاديث الكتابية أو الصحفية، وخاصة إذا كانت من جانب واحد. إني أقرأ الكاتب وأحاسبه على ما يقوله هو إنتاجا ومن تلقاء نفسه، وليس بناء على إلحاح أو سؤال. ولكن ثمة حب استطلاع كان يدفعني لهذا اللقاء، أو بالأصح، حب استطلاعين أحدهما كبير ولكنه غير مهم وهو مناقشة المشكلة المسرحية في العالم الآن، والآخر صغير ولكنه هام بالنسبة لي كرجل وهو أن أعرف آرثر ميللر من قرب، وأعرف بالذات كيف اختارته مارلين مونرو - رمز الجنس في القرن العشرين - لتتزوجه، تلك التي صاحبت دون جوانات، ورؤساء جمهوريات، وسناتورات، ماذا أغراها في هذا الكاتب المسرحي، حتى لو كان ميللر، لتختاره وتعاشره؟ مشكلات المسرح أعرفها ولي رأي فيها، ولا أعتقد أن رأي ميللر سيغير من رأيي كثيرا. ولكن هذا الاختيار محير لي تماما؛ حيرني حين قرأت عنه، وحيرني وأنا أتابع حياتهما معا، ثم انفصالهما، ثم هذه المسرحية التي كتبها ميللر عن تلك العلاقة وأسماها «بعد السقوط». •••
يقع المكتب - مكتب الناشر أو بمعنى أصح الوكيل (حبذا لو أصبح لنا في بلادنا العربية وكلاء يتولون عن الكتاب والفنانين كل المهام التي لا يجيدها أبدا أي كاتب أو فنان، ومهمة الطبع والنشر والاتفاق والمطالبة بالحقوق) يقع المكتب في الدور الخمسين ربما من عمارة هائلة الارتفاع في قلب نيويورك.
وفي غرفة اجتماعات تقليدية، كراسي عالية الظهور، حيانا ميللر وحاول أن يستعمل فرنسيته مع أدونيس الذي لا يتكلم الإنجليزية، وسألنا عن إنجليزيتي وأين تعلمتها، واستغرب تماما أن أكون قد أجدتها على أيدي مدرسين مصريين. وشكرا لجهاز التسجيل الذي سجل المحاورة وإلا لكانت قد ضاعت من الذاكرة تماما. وبما أن المسألة كانت لقاء حوار، فقد وجدت أن علي أن آخذ صفة السائل، وها أنا ذا أورد نص الحوار:
أنا: اعذرني يا مستر ميللر، ولكن ظاهرة الكتابة للمسرح تحيرني دائما، أنا أعرف أن من يحب المسرح يحب بالدرجة الأولى أن «يمثل» ويتقمص، أو على وجه أصح «يظهر» على خشبة المسرح. ولكن هذا الكاتب أو ذاك لماذا يجب أن يكتب للمسرح وهو دائما خلف ستار أو داخل «كمبوشته» الخاصة؟ بمعنى آخر أن تكتشف نفسك ككاتب شيء، أما أن تكتشف أنك تريد الكتابة للمسرح فتلك قضية أخرى. متى حدث لك هذا وكيف؟
بصوته العريض الأجش، وبقامته المنتصبة فوق الكرسي ذي المسند العالي، وبطريقته التي تشبه طريقة الفلاحين الصرحاء الأقوياء، قال ميللر: أستطيع أن أخبرك كيف حدث هذا. كنت طالبا في جامعة متشجان في سنة 1930 أو 35، أي منذ مائة عام (قالها دون أن يضحك وضحكنا نحن) كانت لدينا إجازة لمدة أسبوع، وفي ذلك الوقت تكون الجامعة كلها في إجازة. وكنت في السنة الأولى في الجامعة، ولكني قبل الالتحاق بها كنت قد اشتغلت كعامل في نيويورك، ثم كسائق تراكتور، وأيضا في مصنع صغير، وكجرسون في مطعم؛ فقد كان علي أن أوفر النقود التي تمكنني من دخول الجامعة. وحين جاءت الإجازة قررت لسبب مادي محض أن أجرب كتابة مسرحية؛ ذلك أن جامعة متشجان كانت تعقد في ذلك الوقت مسابقة سنوية في القصة القصيرة والمسرحية ويعطون للفائز مبلغا من المال، في تلك الأيام كانت أمريكا تمر بأزمة اقتصادية شديدة وكان الحصول على النقود أمرا صعبا للغاية. - ولكن لماذا اخترت الدخول في مسابقة المسرحية بالذات؟
ميللر: لا أستطيع الآن أن أحدد بالضبط، ولكن ربما اعتقدت أنها الأسهل في نظري، مع أنه لم تكن لدي أي فكرة عن كتابة المسرحية. ربما اخترتها اختيارا غريزيا؛ فلم أكن قد دخلت المسرح أكثر من ثلاث مرات في حياتي كلها، ولم أكن قد عرفت أو قابلت ممثلا أو أحدا ممن يعملون بالمسرح، بل حتى لم أكن أعرف ما هو طول الزمن الذي تستغرقه أي مسرحية «!» ولكن لأنه كان أمام مسكن الطلاب في الجامعة شخص يقوم بصنع الملابس لمسرح الجامعة ومسرحياته، فلقد ظللت أكتب لمدة يومين أو ثلاثة ثم ذهبت إليه لأسأله: ما هو الوقت الذي تستغرقه أي مسرحية، قال لي: حوالي ساعتين. وهكذا عدت إلى حجرتي وأحضرت ساعة ورحت أقرأ ما كتبته فوجدته تقريبا حوالي ساعتين. وهكذا قدمت المسرحية في المسابقة، ولم أحصل على جائزة الجامعة عنها فقط، ولكني حصلت على أكثر من خمس جوائز أخرى أيضا. - للنقود أيضا.
ميللر: وأيضا للمتعة؛ فقد كانت الكتابة أيامها شيئا عظيما، وممتعة مثل الذهاب إلى صالة الجمنزيوم. - هل طبعتها بعد هذا؟
ميللر: لا، ولكن أعجبتني المسألة فرحت أكتب كل عام مسرحية. - وهل مثلت بعض المسرحيات؟
ميللر: أجل. في متشجان. - وكيف كان إحساسك بكلماتك وهي تخرج من أفواه الممثلين تحمل معانيك وجملك؟
ميللر: كان انفعالي هائلا، فقد أعجبتني الطريقة؛ طريقة أن أكتب الخطبة. - الخطبة؟
ميللر: أجل. إن الكتابة للمسرح هي فن كتابة الخطب الرنانة الجوفاء، وإنها الفن المخطوب؛ فالكتابة للمسرح هي أساسا فن شفوي للأذن وليس للعين. - ولكنهم الآن يحاولون أن يجعلوها فنا للعين أيضا.
ميللر: ولكن هذا خطأ. - سنأتي لهذا بعد برهة.
ميللر: معك حق؛ هو فن للعين أيضا ولكنه أساسا للأذن. إن شكسبير هو الموسيقي، يمكنك أن تقرأ الموسيقى ولكن الأروع دائما أن تسمعها. - أتسمح لي أن نقفز قفزة صغيرة؟ كتاب المسرح دائما محبون للاستطلاع فيما يختص بتجارب الآخرين في كتابة المسرح. دعنا نأخذ مسرحيتك «وفاة بائع متجول»، بالطبع إن مسرحيتك الأولى «كل أولادي» تتبع حقبة زمنية لاحقة، ولكن في «وفاة بائع متجول» تغيير في الشكل المسرحي. هل أحسست بحاجتك الملحة إلى هذا التغيير في الشكل؟
ميللر: بالطبع وبوعي أيضا. - لماذا؟
ميللر: لأن لي غريزة الاهتمام بالماضي، وكنت أريد أن أجعل الماضي حيا في نفس اللحظة التي نحيا فيها الحاضر. مشكلة تداخل الزمن كما تعرف، لكي أحيل كل شيء يقع في نفس الوقت بحيث يصبح الجمهور بالتدريج يدرك أحداث أربعين عاما مضت في نفس الوقت الذي يدرك فيه الأحداث التي تقع أمامه مباشرة. وهكذا اكتشفت تلك الطريقة لكي أحل هذا الإشكال الزمني، أني حينما أرى الرجال الكبار أراهم أيضا حين كانوا أطفالا. وحين أرى الأطفال أحاول أن أراهم أيضا وفي نفس الوقت حتى يصبحوا كبارا. إن التاريخ مهم جدا؛ تاريخ البلاد، تاريخ الإنسان. - نعم، ولكني أعتقد أن هذا راجع إلى الفلسفة الجدلية التي كنت ترى بها الإنسان.
ميللر: تستطيع أن تقول هذا أيضا؛ فأنت لا تستطيع أبدا أن تفهم أمريكا مثلا إلا إذا عرفت تاريخها، وهكذا بالنسبة لي أو لك أو لأي إنسان. إن المجتمع الحاضر هو في الحقيقة التعبير الآتي عن تاريخ هذا المجتمع؛ لا يمكن أن تعرف ما يحدث الآن إلا إذا عرفت ما حدث منذ عشر سنوات مثلا أو عشرين سنة.
وليس ما حاولت عمله جديدا على أية حال. لقد حاول أبسن أن يفعل نفس الشيء، وشكسبير حاول. ولكن هناك طرقا متعددة للوصول إلى الهدف. لقد حاولت أنا أن أجعله يحدث أمامك وليس أن أرويه أو «أتكلم» عنه، كله فعل درامي أمامك «الآن». - ولكني أعتقد أن هذا لا بد أن يستتبعه أداء مسرحي خاص؛ فالممثلون دائما يؤدون الدور كما هو حادث «الآن» وليس بما لهذه الأدوار من تاريخ حي واقع.
ميللر: إنه مثل عزف لسترافسكي؛ تكون هنا وهناك في نفس الوقت، كل الآلات تعزف في نفس الوقت. إن تركيز الممثل لا بد أن يكون فائقا جدا. وبمناسبة الأوركسترا أتعرف أن حلمي الأكبر كان أن أصبح مغنيا؟ إني أملك صوتا جميلا جدا كما ترى «ولسوء الحظ لم أكن أرى.» - ولماذا هجرت الغناء إلى الكتابة؟
ميللر: كان الغناء يتطلب عملا كثيرا جدا، وأيضا كان لدينا مغنون كثيرون، وكانوا - وهذا اعتراف - أحسن مني. - مستر ميللر، أتعرف أن حسا كوميديا تخبئه دائما في تراجيدياتك مثل «كل أولادي» و«وفاة البائع المتجول»، ولكنه بدأ يظهر أخيرا في إنتاجك.
ميللر: هذا صحيح! أتعرف أن أول شيء كتبته في حياتي كان قطعة ساخرة كتبتها في سن الخامسة عشرة؟ كنت في ذلك الوقت أقيم مع والدي وكنت في المدرسة الثانوية. لم يكن التليفزيون هناك بعد وكانت وسيلة التسلية الأولى هي الراديو. وفي إذاعات تلك الأيام كان هناك معلق سياسي إخباري تجوب تعليقاته العالم كله بأزمانه وبلاده المختلفة، وكان كل الناس يصغون إليه باهتمام بالغ؛ فقد كان يتحدث بطريقة خطابية جادة ترغمك على الإصغاء باحترام، ولكني أنا كنت أراه عبيطا تماما، وكان يجعلني أحس أني أود كلما سمعته أن أنفجر ضاحكا. في نيويورك في تلك الأيام كانت هناك الأزمة الاقتصادية الطاحنة كما ذكرت لك، وكان في برامج الراديو ركن للهواة كل أسبوع يحدث فيه تنافس بين الهواة من عازفين ومغنين وكتاب برامج، وكان الفائز يربح بضعة دولارات. ولقد دفعتني الحاجة أن أجرب حظي؛ فكتبت قطعة أسخر فيها من هذا المعلق. وذهبت إلى المسئولين عن البرنامج وأعطيتهم القطعة، فأخذوها وقالوا لي سنتصل بك. ولكني لم أسمع عنهم أبدا. غير أني ذات ليلة بعد شهرين أو ثلاثة فتحت الراديو ففوجئت بممثل كوميدي مشهور جدا في ذلك الوقت يؤدي شيئا، وفجأة أدركت أن الكلمات كلماتي وأنها هي نفسها القطعة التي أخذوها مني في ركن الهواة؛ لقد سرقوها.
وهكذا كان أول لقاء لي مع الحركة الفنية في نيويورك. إنهم سرقوني، وربما لا يزالون. - دعنا نقفز قفزة أكبر هذه المرة يا مستر ميللر. لقد بدأت ككاتب ملتزم تماما في «كلهم أولادي» و«وفاة بائع متجول»، فما هو موقفك الآن؟ ألا تزال ملتزما؟ وما هو بالضبط كنه التزامك الآن. وقبل من؟ أم هل عدلت عنه؟
ميللر: بالطبع الآن المسائل تبدو أكثر تعقيدا مما كانت تبدو في تلك الأيام. المجتمع الآن معقد جدا، والمشكلة الأساسية هي أن تجد بعض الأمل وبعض الرمز للأمل. في شبابي كان هناك خطر النازية والفاشية، وكان هذا يجسد الشر في رمز واضح وصريح، الآن من الصعب أن ترمز للشر برمز واحد. وهكذا من الصعب أن نقول في جملة واحدة ما هي المشكلة الآن؛ فالمشاكل كثيرة جدا. إن بلادنا الآن «أمريكا» تجتاز مرحلة تطور هائل وتتغير بسرعة شديدة.
ملحوظة: أحسست أن الفلاح العجوز ذا الصحة الجيدة تماما يحاول أن يزوغ من الإجابة الصريحة الواضحة، وحاولت بحسن نية شديد أن أتتبعه. - تتطور إلى ماذا يا مستر ميللر؟
ميللر: لا أحد يستطيع الجزم إلى أين، وأي إنسان يزعم لنفسه أنه يستطيع فهو ساذج جدا. أنت لا تستطيع الجزم إلى أين. أحيانا تستطيع أن تقول: إننا نسير إلى اليمين بشدة، وأحيانا أخرى أشعر أننا أصبحنا أكثر حرية من أي فترة أخرى من فترات تاريخنا. حقيقة عندنا الآن كم كبير من الحرية. - أتعتقد حقا أن هناك الآن حرية فعلا في أمريكا؟
ميللر: بالتأكيد نعم. هناك حرية أكثر من الماضي. وفي نفس الوقت «الكاتب المسرحي يلعب الآن.» فإن المؤسسات الهائلة والمال الكثير نفوذهما أيضا يتعاظم. - حسن جدا. كما في الدراما، لقد حددنا الآن طرفي الصراع، الحرية أكثر ونفوذ المؤسسات أعظم، فما هي محصلة القوى في رأيك؟ وإلى أين تتجه الريح ويتجه المستقبل؟ هل إلى مزيد من نفوذ المؤسسات أم مزيد من الحرية للمواطن؟
ميللر: هذه هي المشكلة، بالضبط كما حددتها هذه هي المشكلة. إن من الصعب تماما على المواطن الآن أن يكون مستقلا تماما عن هذه المؤسسات مثلما كان باستطاعته أن يفعل في السنين الماضية. المحلات الصغيرة تغلق، أصحابها يتحولون إلى عمال وموظفين في المؤسسات. الاستقلال حلم صعب المنال. ولكن في نفس الوقت فإن موقف الناس في أوجه كثيرة قد تحرر عن ذي قبل؛ إنهم لا يطيعون الآن بسرعة ولا يخضعون بسهولة ويميلون إلى التشكك في مصدر الأقوال والأفعال، باختصار لا يصدقون الآن كل شيء يقال لهم بسهولة.
بصعوبة ونعومة كان ميللر يقود الحديث إلى خارج منطقة المواجهة والاحتكاك. ولكني كنت لا أزال مصرا أن أعرف رأي هذا الكاتب العملاق «قيمة وجسدا» في بلده وموقفه منه اليوم. والموقف بالنسبة لي صعب، فاللعبة بالحوار أصبحت أسخن، ونحن أصبحنا أكثر اندماجا، ثم لا ننسى أن ميللر ذلك الذي كان من أوائل من قرأت له من المسرحيين، ومن بعد ستة آلاف كيلو، كنت أتحمس له وأتخيله، ناهيك عن موضوع مارلين مونرو.
عن كامل الشناوي
حين صدر ديوان «لا تكذبي» اتصل بي صديق العمر المرحوم كامل الشناوي وأخبرني أن لي نسخة عنده عليها إهداؤه، ورجاني أن أمر عليه؛ لنشرب القهوة ونتحدث وآخذ الديوان. ونحن أحيانا نتصرف بغرابة لا نعرف مصدرها؛ فديوان «لا تكذبي» لم يكن مجرد ديوان، ولكنه كان ثمرة لجهود متصلة طويلة بذلها كل أصدقاء كامل الشناوي ليحملوه على جمع شعره لتضمه دفتا كتاب. وكنت شخصيا شديد الحماس للفكرة، ما من مرة قابلت كامل الشناوي فيها إلا وذكرته بها، وما من مرة أوصلته إلى بيته قرب الفجر أو قرب الصباح إلا وطلبت منه - كرجاء أخير - أن يفكر جديا في إصدار الديوان، ولم يكن يوافقني في بعض الأحيان إلا تخلصا من إلحاحي؛ فقد كان يعارض دائما فكرة أن يصدر كتابا أو يكون له كتاب، رغم أنه في حياته الأدبية والصحفية كتب أشعارا ومقالات وأحاديث وخواطر لو جمعت لكسب الأدب العربي أربعة أو خمسة كتب هي من خير ما كتب في النثر أو الشعر العربي.
كان يعارض لأنه كان - من فرط تواضعه أو طموحه - يعتقد أن أعماله غير جديرة بوضعها في كتاب؛ فالكتاب في رأيه لم يكن مجرد أن تصدر كتابا مثلما يفعل مئات محترفي وهواة إصدار الكتب. الكتاب في رأيه كان شيئا مقدسا يذكرك بالكتب التي غيرت من مجرى التاريخ وصنعت تقدم الإنسان. الكتاب عنده كان مرادفا للرسالة الكبرى، للاختراع الخطير، أو لاكتشاف قانون من قوانين العلم أو الحضارة.
باختصار كان يرى أن الكتاب هو الشيء الذي لا يمكن أن تظل نفس الشخص بعد قراءته، إنما لا بد باستيعابه أن تتغير وتؤمن بشيء لم تكن مؤمنا به أو تكفر بشيء كنت شديد التعلق به والإيمان. وكان يسأل: أتعتقد أن مجموعة أشعاري لو صدرت يمكن أن تكون ذلك الكتاب؟ وكنت أعارضه بقولي إن طموحه هذا شيء جميل ولكنه ضد المنطق وضد الحياة، فالحياة أبدا لا تتطور بالطفرة، إنما التطور يأتي بالتدريج الشديد، وحتى أصحاب الاكتشافات العلمية لا تأتي اكتشافاتهم أو قوانينهم طفرة. إن العالم مجرد إنسان فذ في طابور طويل ساهم كل منتظم فيه بإضافة صغيرة تمهد الطريق لمن يتلوه كي يضيف هو الآخر إضافة أخرى صغيرة، وهكذا، وبتراكم هذه الإضافات ينشأ القانون وتتغير النظرة ويتطور الإنسان. وليس المطلوب من أي كتاب إلا أن يغير ليس إيمانك أو رأيك كله، وإنما جزءا صغيرا من الرأي أو الإيمان، تكفي أحيانا نقطة واحدة تتغير في وجهة نظرك ليكون الكتاب قد أدى رسالته على الوجه الأكمل. ونشر أشعاره أو إنتاجه النثري في كتاب أو في كتب لا يزعم أحد أنه سيغير بين يوم وليلة من مفهوم الناس كلية، وإنما يكفي أن يتيح لهم فرصة تذوق شعره أو استيعاب آرائه ومعايشة فلسفته، فكامل الشناوي كان إنسانا متكاملا، وظاهرة وإن كانت متعددة الجوانب إلا أن كل جانب يضيف إلى الآخر بحيث نجد أنفسنا في النهاية ليس أمام شخص وإنما في الحقيقة أمام موقف شناوي أصيل من الحياة. لا لم تكن له فلسفة عمر الخيام وإن حفلت بها روحه، ولم يكن له تشاؤم المعري وإن استعارها بعض الأحيان، ولا وجوديا يعيش اللحظة بلحظتها ولا مركسيا يؤمن بحتمية التطور إلى الأعلى والأحسن، كان مزيجا غريبا من هذا كله، بحيث حين تقرؤه تحس أنه أكثر المتشائمين تفاؤلا وأشد الخياميين والمعريين زهدا في الحياة، الواقف من حتمية التطور إلى الأرقى والأحسن موقف الشاك المتشائم، ذلك المؤمن بالحياة إلى درجة اليأس الكامل منها.
نعود إلى «لا تكذبي»، فبرغم حماسي للديوان ولحصولي عليه في النهاية وبموافقته، إلا أني لم أذهب في اليوم التالي لآخذه كما اتفقنا. لا، ولا في اليوم الذي بعده، وظلت النسخة المهداة إلي والموضوعة في ظرف مكتوب عليه اسمي بخط يده حتى فوجئت بابن أخيه الشاب فاروق الذي كان يقطن معه في أعوامه الأخيرة يحمل لي المظروف بعد شهر من الوفاة وقد وجده بين أوراقه. ولكم أن تتصوروا مبلغ فجيعتي وأنا أقرأ اسمي بخطه، ثم وأنا أفتح المظروف وأجد كلماته الرقيقة الحنونة الأنيقة موجهة إلي تحمل - إلى جانب ما كان يسبغه علينا دائما من ألقاب عطف وتشجيع - ذلك التعبير الذي احترت في تفسيره «إلى الواهب الموهوب.» لكم أن تتصوروا مبلغ إحساسي به ويده الأبوية الأخوية الحبيبة تمتد من وراء القبر وعالم النهاية وتحمل إلي إهداءه كالتحية الحية الطازجة، وتحمل سؤال الطفل الكبير أمام الوجود الأصم المارد.
قدر واثق الخطى
سحقت هامتي خطاه
دمعتي ذاب جفنها
بسمتي ما لها شفاه
صحوة الموت ما أرى
أم أرى غفوة الحياة
سؤال وكأنه به يقرأ من كتاب مفتوح، ويعرف أنه في أيام صدور ديوانه كانت حقيقة صحوة الموت، وصدقا كانت غفوة الحياة، ولكنها الغفوة التي لا صحوة منها.
في ذكراه التي اقتربت ها أنا ذا أعود إلى مطالعة ديوانه، إلى ذلك الجزء الذي بقي وسيبقى حيا من كامل الشناوي، أعود وثمة خاطر قوي يلح علي ولا يهيب بي وحدي وإنما بكل الكامليين الشناويين، وما أكثرهم! أن نتيح الحياة لأكبر قدر من كامل الشناوي، ألا نجعله يموت مرتين، ميتة ربه مرة وميتتنا نحن مرة أخرى، نتكاسل عن جمع أعماله، ومعظمها يتشرف باحتوائه أي كتاب، ونصدرها لنجعله يعيش مرتين، مرة فينا، وفي كل منا جزء حي وخالد من كامل الشناوي، ومرة في كتبه كي نقرأها وتحياها الأجيال الحاضرة والقادمة. إن لكامل الشناوي في رقاب أصدقائه ديونا لا تعد، وألف يد بيضاء له لا بد أنها تؤرق مئات الضمائر، فلنصنع شيئا ليس لضمائرنا كي تستريح، ولا حتى لكامل الشناوي كي يخلد، وإنما للأدب العربي نفسه، للتاريخ الذي سيحاسبنا - لو ضيعنا آثاره - حسابا عسيرا.
Unknown page