في تاريخ مدينة غزة: إن سكانها المسيحيين خرجوا مع جيش الروم عندما حاصرها العرب، إلا أنهم عادوا إليها بعد اطمئنانهم إلى الفاتحين، ودخل فريق كبير منهم في الإسلام، وذهب المتكلمون عنهم إلى عمرو بن العاص يطلبون منه قسمة الكنائس بينهم، فقسمها بينهم على حسب عددهم، وأعطى الكنيسة الكبرى لأصحاب العدد الأكبر وهم المسلمون، وأمر بإبقاء الكنيسة الأخرى لمن بقي على دينه من المسيحيين.
وكانت غزة على أبواب مصر تسري أنباؤها إلى الديار المصرية بين ليلة ونهار، وكان فيها وفيما حولها طائفة من الجنود المصريين والمتمصرين الذين استنجد بهم هرقل وقائده بميادين فلسطين، وكانت أنباء العهود التي اتفق عليها المسلمون ونصارى العراق والشام تتوالى على كل جانب من جوانب الدولة الرومانية، فلم يكن في كل أولئك ما يدعو أبناء البلاد إلى مؤازرة الدولة الرومانية ودفع الهزيمة عنها ولم يكن لانتصار العرب وانهزام الدولتين - دولة الأكاسرة ودولة القياصرة - غير تفسير واحد، وهو قضاء الله وعدل الله.
ولفهم التاريخ كما حدث ينبغي أن ننظر إليه بأعين المعاصرين، وأن نشعر بحوادثه كما كانوا يشعرون بها، وأن ندخل في حسابنا ما دخل في حسابهم من التقديرات والمعايير، وأن نعرض العداوات والصداقات على المحك الذي عرضوها عليه، ومنها ما خطر لهم وهو لا يخطر لنا الآن، ومنها ما نستخف به ولم يكن خفيفا قط في موازينهم للحوادث والأمور.
إن العرب أبناء إسماعيل وهاجر ... يعلم ذلك كل من قرأ التوراة واطلع على أصول الديانة المسيحية، ويعلمونه في ذلك العصر خاصة؛ لأنه كان عصر العداوة القومية بين الرومان الأجانب وشعوب الشرق على الإجمال، وقد كانت وحدة الديانة خليقة أن تنسي الشعوب المحكومة فوارق الوطن واللغة، ولكنها وحدة لم تنتظم قط بين الحاكمين والمحكومين، ولم يكن فيها ما يجمع المختلفين، بل كان فيها على الدوام ما يفرق المجتمعين، ويمشي بينهم بالعداوة والبغضاء!
فالعرب أبناء إسماعيل وهاجر أقرب من الروم إلى أبناء مصر بالنسب الذي تحفظه الكتب الدينية، وقرابة الأمومة والسلالة، ومثل هذه القرابة لم تكن من المهملات في ذلك العصر ولا في العصور التي لحقت به إلى عهد غير بعيد من عصرنا الحاضر، وقد رأينا أنها كانت حجة الفرس في الزحف على بلاد الدولة الرومانية؛ لأن زوجة كسرى كانت من بنات الروم.
ومن مقدمات الفتح الإسلامي تبادل الرسائل بين النبي - عليه السلام - والمقوقس، أو عظيم القبط كما سمي في تلك الرسائل، وقد حفلت بأخبارها كتب السيرة النبوية وكتب التاريخ عن الفتح وما بعده، نستخلص منها ما لا بد من العلم به وبأمثاله في بيان الحالة الدينية بمصر كما واجهها الفاتحون وأهل البلاد.
قال حاطب بن أبي بلتعة، حامل رسالة النبي إلى المقوقس، إنني قلت له: «كان قبلك رجل - يعني فرعون - زعم أنه الرب الأعلى، فانتقم الله به ثم انتقم منه! فاعتبر بغيرك ولا تعتبر بك! وإن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه، وهو الإسلام الكافي الله به فقد ما سواه، وما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكننا نأمرك به.»
قال حاطب: ثم تناول المقوقس كتاب النبي فقرأ فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بداعية الإسلام، فأسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين.
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [آل عمران: 64].
ثم قال المقوقس كلاما عن صفات النبوة، منها: «أنه يركب الحمار ويلبس الشملة، ويجتزئ بالثمرات والكسر، ولا يبالي من لاقى من عم ولا ابن عم.» وأنه كان يظن أن مخرجه من الشام، فمن هناك كانت تخرج الأنبياء، وكتب الجواب فجعل عنوانه «لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط».
Unknown page