ويتفق مع هذا وذاك أن تكون الوساطة على النحو المعهود بين طلاب الوساطات في جميع قضايا الخلاف، فيتخاصم الرجلان على ضيعة أو حق مغصوب، ويرجعان إلى حكومة الحكم المختار لعلمهما بقدرته على فض الخصومات واستلال الأضغان.
ومن ذلك حكومة عمرو بين طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام حين اختلفا على واد يدعيان ملكه بالمدينة، فقال عمرو لهما:
أنتما في فضلكما وقديم سوابقكما ونعمة الله عليكما تختلفان! لقد سمعتما من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مثل ما سمعت، وحضرتما من قوله مثل ما حضرت - فيمن اقتطع شبرا من أرض أخيه بغير حق إنه يطوقه من سبع أرضين! والحكم أحوج إلى العدل من المحكوم عليه؛ وذلك لأن الحكم إذا جار رزئ دينه، والمحكوم عليه إذا جير عليه رزئ عرض الدنيا، إن شئتما فأدليا بحجتكما، وإن شئتما فأصلحا ذات بينكما.
فاصطلحا وأعطى كل واحد منهما صاحبه الرضا.
فهذه حكومة معهودة في قضية من القضايا الشائعة التي لا تمس المحرجات النفسية ولا تشوك اليدين في تناول الدعوى بين الطرفين وما هما بعد بخصمين، ولكننا نتأمل هذه الحكومة أيضا فنلمح فيها حب الاستعانة باللباقة والكيس قبل الاستعانة بالعدل والإنصاف، كأنما كان الخصمان يريدان الوفاق بغير غضاضة على أحد منهما، فاختارا الحكم الذي يمنع هذه الغضاضة وييسر لهما سبيل الوفاق.
وقد جاء في الأثر أن النبي - عليه السلام - أمر عمرا بالفصل بين رجلين اختصما إليه، فكأنه عرف بهذه المقدرة وبقيت له شهرتها في حضرة النبي - عليه السلام. •••
وليست حكومة القهر والإكراه على أية حال بالحكومة التي كان العرب يرتضونها ويسعون إليها، فهم إذا لجئوا إلى الحكم لم يلجئوا إليه لأنهم ينتظرون منه أن يقهرهم على سماع حكمه، ويلزمهم أن يتبعوه في قوله وفعله، بل لعلهم يتعمدون أن يختاروا لحكومتهم رجلا لا يخشى ولا يهاب، ولا يقع العار على من يخضع له بالخوف والإذعان، فإذا أطاعوه قيل: إنهم يطيعون كلمتهم وينزلون باختيارهم على الحكم الذي ارتضوه، ولم يقل قائل: إنهم مطيعون عن ذلة، ومستمعون لأمره مسوقون إلى استماعه.
فالحكم الذي يختارونه - على هذا - إنما يكون على خصلة من خصلتين: رجل يأنسون إلى عدله وإنصافه، أو رجل يأنسون إلى لباقته وحيلته وحسن بصره بمواقع الأهواء وذرائع الإرضاء. والثاني ببني سهم أشبه وأمثل؛ لأنهم لم يشتهروا بالعدل والإنصاف، بل كان من زعمائهم من يمطل أصحاب الحقوق، ويلوي الضعيف بديونه ويلج في ذلك لجاجة حملت السادة من قريش على التحالف فيما بينهم ليردن المظالم ويأخذن للضعيف حقه حيث كان، وسموه حلف الفضول المشهور، وهو الحلف الذي قال عنه النبي - عليه السلام: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول: ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعي إليه في الإسلام لأجبت!»
Unknown page