فقد عرف مصر وهو مقبل على حكمها، كما عرفها وهو مقبل على فتحها، فإذا هو صالح للعمار والقرار صلاحه للهجوم والحصار.
انتهى دور الفاتح بتسليم الإسكندرية، وبدأ دور الحاكم الذي يسوس رعاياه.
وكان رأي عمرو أن مصر أخذت فتحا، ولم تؤخذ صلحا كما يفهم من الصلح بغير قتال، وفي ذلك يقول: «قعدت مقعدي هذا وما لأحد من قبط مصر علي عهد ولا عقد، إن شئت قتلت وإن شئت خمست، وإن شئت بعت.»
ولكنه مع هذا شاء غير القتل وغير التخميس وغير البيع، فعامل الرعية في أمور دينها ودنياها معاملة رضيتها وأطلقت ثناءها، وجعلت البطريق بنيامين يسمي عهد العرب بعهد السلامة والأمان، وعهد الرومان بعهد الجور والطغيان.
وكان هذا البطرق مبعدا عن مكان الرئاسة الدينية لمخالفته مذهب الكنيسة الملكية، فاستقدمه عمرو واحتفى به ورده إلى مكانه.
وأقبل على سياسة البلد وتدبير مصالحه وتوفير خيراته، فعلم أن الرخص والغلاء مرهونان بفيضان النيل، وأن سياسة مصر هي سياسة النهر في ارتفاعه وهبوطه، فكتب إلى الخليفة أن أهل مصر يجهدهم الغلاء إذا وقف النيل عند حد مقياس لهم، فضلا عن تقاصره، وشرح له علل الغلاء فقال: «إن فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار، ويدعو الاحتكار إلى تصاعد الأسعار بغير قحط.» ثم أتبع ذلك فقال: «إني وجدت ما تروى به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعا، والحد الذي تروى منه سائرها حتى يفضل منه عن حاجتهم ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا، والنهايتان المخوفتان في الزيادة والنقصان وهما الظمأ والاستبحار اثنا عشر ذراعا في النقصان وثمانية عشر ذراعا في الزيادة.»
وقام بأمر الخليفة على بناء المقاييس، فبنى مقياس حلوان ومقياس أسوان، وأشرف على صيانة الجداول والجسور، وكان سكان البلاد يعتمدون على وسائل خرافية لاستدرار ماء الفيضان، منها إلقاء قربان في النيل يقال في بعض الروايات الضعيفة: إنه عذراء بقيد الحياة، ويقال على الأرجح: إنه دمية من الطين على هيئة فتاة تمثل الأرض الزراعية التي «يتزوج» بها النيل أو يثمر منها ثمراته، فكتب عمرو إلى الخليفة في ذلك، فجاءه منه الأمر بإبطاله بعد أن فكر هو في مثل ذلك، فأبطل هذه العادة الخرافية، واعتمد على الوسائل المعقولة من تنظيم الماء ومناوبة الري حسبما تهيأت له الأسباب العلمية في ذلك الزمان.
وترفق في جمع الأموال من جزية الرءوس وخراج الأرض، فوزعها على ثلاثة أقساط في العام، ولم يزد محصول السنة على اثني عشر مليون دينار : ثلثاها من جزية الرءوس على حساب أربعة ملايين عدد الذكور العاملين، ومنها نحو ثلاثة ملايين دينار خراج الأرض على حساب مليون ونصف مليون فدان، وهو دون الخراج الذي كان يجبى في عهد الرومان والفراعنة غير ما كانوا يستصفونه غصبا من الخيرات والثمرات.
وقد كانت قلة الخراج عن القدر المنظور في أول الأمر مدعاة سؤال كثير من قبل الخلفاء، فراجعه عمر في ذلك وانتهت مراجعة عثمان إياه إلى عزله، فزاد الخراج على عهد ابن أبي سرح، وقال عثمان لعمر: أشعرت أن اللقاح درت بعدك ألبانها؟ قال عمرو: لأنكم أعجفتم أولادها!
ومهما يكن من تصرف عمرو في مال الخراج - أو من طمعه المشهور - فما نظن أن طمعه في المال المحصل كان سببا ظاهرا لذلك النقص الذي لحظه الخلفاء؛ لأنه كان يستطيع أن يجمع ما يكفيه ولا يلحظ نقصه لو آثر الجور على القصد في السياسة. وإنما عمل بالعهد الذي كتبه للمصريين ونظر إلى طول البقاء في الولاية، فمضى على السياسة التي تكفل له ولاء الرعية، وتصلح شئون العمارة في البلاد على حد قوله: «إنه لا سلطان إلا برجال ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة ولا عمارة إلا بعدل.»
Unknown page