ولم يشأ عمرو - وقد ذهب دور المفاجأة - أن يبزه ابن عباس في الدهاء، فعاد يقول: «أما والله إني لمسرور بك، فهل ينفعني عندك؟»
قال ابن عباس: «حيث مال الحق ملنا وحيث سلك قصدنا!»
ووصفه بحير بن ذاخر المعافري وهو مقبل إلى المسجد يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: «... فأطلنا الركوع، إذ أقبل رجال بأيديهم السياط يزجرون الناس، فذعرت ... فقام عمرو بن العاص على المنبر ... وعليه ثياب موشية، كأن به العقيان يأتلق، عليه حلة وعمامة وجبة ...»
فهذه الأبهة المقصودة - ولا سيما قبل استقرار السلطان له - هي أثر من آثار ذلك النسب المغموز وتلك القامة المحدودة. •••
أما صفاته النفسية فنبدؤها بما وصف به نفسه، أو يقول الرواة الذين وصفوه هذا الوصف، وهم يدعون من المعرفة به ما يقوله الرجل حين يصف نفسه بلسانه.
روى هشام بن الكلبي أن أناسا لاموا معاوية على تقديمه عمرا فبلغته ملامتهم، فقال بعد استشهاد: «... قد علمتم أنني الكرار في الحرب، وأنني الصبور على غير الدهر، لا أنام عن طلب كأنما أنا الأفعى عند أصل الشجرة ... ولعمري لست بالواني أو الضعيف، بل أنا مثل الحية الصماء لا شفاء لمن عضته، ولا يرقد من لسعته، وإني ما ضربت إلا فريت ولا يخبو ما شببت، عرفني أصحاب يوم الهرير (بحرب صفين) أنني أشدهم قلبا وأثبتهم يدا، أحمي اللواء وأذود عن الحمى، فكأنني وشانئي عند قول القائل:
وهل عجب إن كان فرعي عسجدا
إذا كنت لا أرضى مفاخرة العشب»
وهذا وصف صادق، إذا أغضينا عن جانب الفخر فيه، طابق صفاته النفسية التي تشهد بها أقواله وأعماله ومساعيه، وهي مجموعة محكمة من الصفات القوية، لكنها على قوتها بسيطة متناسبة، يأخذ بعضها ببعض على نحو مألوف غير مستغرب في أمثال هذه النفس الفطرية، وأعمقها جدا هو أظهرها جدا ...! أو هو الذي تعمق حتى بلغ من عمقه أن ينضح على قسمات وجهه وحركات جسده، وهو الطموح إلى الهيبة والثراء، وطلب البسطة في الجاه والمال، ما نخاله وقف في الطموح عند حد، ولا قعد عن الخلافة وهو مختار، بل هو قد طمح إليها وأعد عدته لإقصاء بني أمية عنها، فلما أيأسه مغمز النسب ورجحان بني أمية على بني سهم في العصبية القرشية، طوى الصدر على كظم وقعد عنها وهو كاره يعزي نفسه بقوله المأثور عنه: «إن ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة.»
وكان سعيه إلى الرئاسة والمال باديا منه في الإسلام كما بدا منه في الجاهلية، فلم يعرف له موقف قط نزل فيه عن الرئاسة باختياره.
Unknown page