التعريف بنشأة عمرو بن العاص، تمهيد لازم للتعريف بصفاته وطباعه، والتعريف بهذه الصفات والطباع تمهيد لازم للتعريف بأعماله ومساعيه؛ لأن الأعمال والمساعي لن تفهم على حقيقتها إلا بفهم الطباع التي توحيها والنيات التي تسبقها والغايات التي ترمي إليها، وقد تتشابه الأعمال والمساعي في ظاهر الأمر وهي في الحقيقة مختلفة أشد اختلاف، مفترقة كما يفترق الخير والشر أو تفترق الرفعة والضعة، وإنما مناط ذلك كله بالفرق بين باعث وباعث، والاختلاف بين نية ونية.
وأدنى إلى القصد في هذه السبيل أن نلم بالصفات والطباع، ثم نتتبع الأعمال الصادرة عنها مفهومة واضحة البواعث والأغراض، من أن نلم بالأعمال مبهمة متشابهة، ثم نعود إلى تفسيرها بما نستخلصه من طباع صاحبها ونياته.
لهذا بدأنا قبل سرد الأعمال بهذا التعريف الذي يسبغ الدلالة على تلك الأعمال. •••
والمحفوظ لنا من صفات عمرو الجسدية قليل، ولكنه كاف إذا لم يكن بد من الاكتفاء منها بقسط له دلالة.
فهو كما يؤخذ من جملة الأقوال التي وصف بها: «أدعج، أبلج وافر الهامة، ربعة، أقرب إلى قصر القامة، يخضب بالسواد» عليه مهابة وشمائل نباهة وسيادة، كما يدل عليه ما تقدم من قول عمر فيه «ما ينبغي أن يمشي أبو عبد الله إلا أميرا ...»
وإذا جاز أن يكون لهذا التكوين الجسدي أثر في أخلاقه ودخائل طبعه، فذلك أثر آخر يعين أثر النسب المغموز من جانب أمه، وهو التماس «التعويض» بكل ما في النفس من حول وحيلة، وحفز الهمة إلى مكان يسطع فيه المرء سطوعا يداري المغمز في النسب والنقص في المظهر، فيروع القلب بالسطوة والشارة إذا اجترأت عليه العيون أول نظرة، أو اجترأت عليه الألسنة بالثلب والمهانة: رجل متهم النسب قصير، ولكنه لا يضار بذلك في مقام الفخر بين ذوي الحسب والبسطة من عظماء الرجال.
وإذا اعتزم الرجل هذه العزمة، وكان من أصحاب الهمة والشهامة، أو ما نسميه اليوم بالقوة الحيوية، فأخلق به أن يبلغ ما يصبو إليه وأن يذهب بعيدا في مسعاه الذي توفر عليه!
أما أن عمرا كان من أصحاب «القوة الحيوية» فذلك ظاهر من احتفاظه بحضور ذهنه ومضاء عزمه، إلى تلك السن العالية التي تجاوز بها قوم التسعين، ولم يهبط بها أحد إلى ما دون السبعين، فإنه ليجيش به هذا الطبع وقد أناف على الخامسة والأربعين إلى فتح البلاد وتقليب الدول، وافتتاح المساعي إلى المجد والرئاسة، كأنه ناشئ لما يزل في بادرة الشباب ومستهل المغامرات والمجازفات في سبيل الشهرة والسلطان!
وقد وصفت لنا شارة عمرو هنا وهناك، فإذا هو في كل صفة من هذا القبيل عظيم العناية بما يروع الناس من هيبته وفخامة مرآه، وليست مشيته التي أشار إليها الفاروق بأقل ما احتفل به لتلك الشارة والفخامة.
قال أبو مخنف: «حج عمرو بن العاص فمر بعبد الله بن عباس، فحسده مكانه وما رأى من هيبة الناس له وموقعه من قلوبهم، فقال له: يا بن عباس! مالك إذا رأيتني وليتني القصرة، وكأن بين عينيك دبرة!» (أي: أعرضت وازوررت عني) ... فأجابه ابن عباس جوابا مقذعا فيه من الجرأة مثل ما فيه من الدهاء، وانتهى منه قائلا: «حملك معاوية على رقاب الناس، فأنت تسطع بحلمه وتسمو بكرمه .»
Unknown page