قال بنبرة محذرة، لكن لم تتسم باللطف كما لو كان يتنازل بإعطاء نصيحة جيدة للص ذائع الصيت: «توقفوا عما تفعلونه؛ أيا كان. توقفوا عما تفعلونه. ستجدون أننا كثيرون جدا ولا يمكنكم أن تتغلبوا علينا.»
اضطربت الابتسامة التي لم تفارق شفتي البروفيسور، وكأن الروح الساخرة بداخله قد فقدت الثقة في نفسها. تابع كبير المفتشين هيت قائلا: «ألا تصدقني؟ حسنا، ليس عليك سوى أن تنظر حولك. إننا كثر. وعلى أي حال، أنت لا تجيد ما تفعل. إنك دائما ما تفسد الأمر. عجبا، لو كان اللصوص لا يحسنون عملهم، كانوا سيتضورون جوعا.»
التلميح إلى الكثرة التي لا تقهر وتقف في ظهر ذلك الرجل أوغر صدر البروفيسور بسخط نكد. اختفت الابتسامة الغامضة والساخرة عن شفتيه. كانت قوة الأعداد المقاومة، والصلابة المنيعة لكثرة عظيمة، هما منبع الخوف الذي يطارده في وحدته المشئومة. ارتجفت شفتاه قليلا قبل أن يتمكن من الحديث بصوت مختنق: «إنني أؤدي عملي أفضل من أدائك لعملك.»
قاطعه كبير المفتشين هيت بتعجل: «هذا يكفي في الوقت الحالي.» وضحك البروفيسور بصوت عال هذه المرة. بينما كان لا يزال يضحك، انطلق في طريقه، ولكنه لم يضحك لفترة طويلة. كان من خرج من الممر الضيق إلى صخب الطريق الواسع رجل ضئيل الحجم حزين الوجه وبائس. انطلق في طريقه مقتصدا ومن دون انفعال يمشي مشية متشرد متابعا سيره، ولا يزال يتابع سيره، غير مبال بمطر أو شمس، شارد الذهن عن ظواهر السماء والأرض. وعلى الجانب الآخر، بعد أن ظل كبير المفتشين هيت يراقبه لفترة من الوقت، وخرج يمشي بنشاط رجل لا يبالي حقا بقسوة الطقس، ولكن نصب عينيه مهمة رسمية أوكلت إليه على هذه الأرض والدعم المعنوي ممن هم على شاكلته. كل قاطني تلك المدينة الضخمة، وسكان البلد كله، وحتى الملايين الحاشدة من الناس الذين يكافحون على هذا الكوكب كانوا معه؛ وصولا إلى اللصوص والمتسولين أنفسهم. نعم، لا ريب في أن اللصوص أنفسهم كانوا بالتأكيد معه في عمله الحالي. شجعه وعيه بأن العالم يسانده على أن يتصدى لتلك المعضلة الخاصة.
كانت المعضلة التي واجهها كبير المفتشين تتمثل في إقناع المفوض المساعد في إدارته، أي رئيسه المباشر. هذه هي المعضلة التي دائما ما يواجهها الموظفون الموثوق فيهم والمخلصون؛ وأضفت عليها اللاسلطوية طابعا خاصا، لا أكثر. وحقيقة القول، لم يفكر كبير المفتشين هيت كثيرا في حركة اللاسلطوية. لم يولها أهمية لا داعي لها، ولم يستطع أن يحمل نفسه على التفكير فيها بجدية. كان الطابع الغالب عليها هو السلوك غير المنضبط؛ غير منضبط دون وجود عذر بشري مثل السكر، الذي ينطوي على أي حال على شعور جيد وميل محبب إلى اللهو الصاخب. ومثلما هو الحال مع المجرمين، كان من الواضح أن اللاسلطويين لم يمثلوا طبقة اجتماعية معينة؛ لم ينتموا إلى أي طبقة على الإطلاق. لما تذكر كبير المفتشين هيت البروفيسور، دون أن يدقق في خطواته المتمايلة، تمتم عبر أسنانه المطبقة: «معتوه.»
كان القبض على اللصوص مسألة مختلفة تماما. كانت له تلك النوعية من الجدية التي تندرج ضمن كل شكل من أشكال الرياضة المفتوحة حيث يفوز الأفضل وفق قواعد مفهومة تماما. لم تكن توجد قواعد للتعامل مع اللاسلطويين. وكان كبير المفتشين يعتبر هذا أمرا مقيتا. كانت كلها حماقة، ولكن تلك الحماقة هيجت الرأي العام، وأثرت على أفراد في مناصب مرموقة، ومست العلاقات الدولية. ارتسم على وجه كبير المفتشين ازدراء شديد وصارم بينما كان يتابع سيره. راجع في عقله كل اللاسلطويين الذين يعرفهم. لم يكن أي أحد يمتلك نصف الشجاعة التي لمسها في هذا أو ذاك من اللصوص الذين عرفهم. لا نصفها ولا حتى عشرها.
في المقر الرئيسي للشرطة أدخل كبير المفتشين على الفور إلى المكتب الخاص للمفوض المساعد. وجده ممسكا قلما بيده ومنحنيا فوق مكتب كبير تتناثر عليه الأوراق، وكأنه يتعبد لمحبرة مزدوجة كبيرة من البرونز والكريستال. كانت أنابيب التواصل بين الغرف التي تشبه الثعابين مثبتة من رءوسها خلف الكرسي الخشبي ذي الذراعين الذي يجلس عليه المفوض المساعد، وبدت أفواهها الفاغرة وكأنها مستعدة للدغ مرفقيه. وفي هذا الوضع، لم يرفع سوى عينيه، اللذين كان جفناهما أغمق من وجهه ومجعدين جدا. كانت التقارير قد وردت إليه؛ كان قد تلقى حصرا بكل لا سلطوي.
بعدما تلفظ بتلك الكلمات، أخفض عينيه، ووقع بسرعة ورقتين، وعندئذ فقط وضع قلمه، واعتدل في جلسته، موجها نظرة متسائلة باتجاه مرءوسه ذائع الصيت. تفهم كبير المفتشين جيدا تلك النظرة، وأظهر الاحترام، إلا أنه ظل غامضا.
قال المفوض المساعد: «أظن أنك كنت مصيبا لما قلت لي منذ البداية إن اللاسلطويين في لندن لم يكن لهم صلة بهذا الأمر. إنني أقدر كثيرا مراقبة رجالك اليقظة لهم. وعلى الجانب الآخر، هذا لا يرقى، لدى العامة، إلى أكثر من اعتراف بالجهل.»
كان المفوض المساعد مترويا في حديثه، وحريصا في الوقت نفسه. بدا وكأنه يفكر في الكلمة قبل أن يلفظها وينتقل إلى أخرى، وكأن الكلمات كانت هي الأحجار التي يخطو عليها عقله في طريقه لعبور نهر الزلات. ثم أردف: «إلا إذا كنت قد جلبت شيئا مفيدا من جرينتش.»
Unknown page