Calam Sudud Wa Quyud
عالم السدود والقيود
Genres
وهكذا في أثناء التسليم والتدوين، فاستعدت في ذهني موقف هملت وحفاري القبور إذ يغنون وهم في ذمار الموت!
الليلة الأولى في السجن
لم يكن مكتب الموظفين إلا بمثابة «الأعراف» التي تفصل بين نعيم الحرية وجحيم الاعتقال، ولكنها «أعراف» تنقل من النعيم إلى الجحيم كما تنقل من الجحيم إلى النعيم، وقد كانت في اليوم الذي سجلت فيه اسمي بين الداخلين تسجل أسماء شتى للخروج أو للإفراج كما يسمونه في لغة السجون! •••
وعبرنا مكتب الموظفين ومكتب المأمور مع ضابط العنبر في هذه المرة لا مع ضابط الشرطة الذي انتهى مقامه عند الباب.
فاتجه الضابط إلى عنبر «ب» وفتح الباب الحديدي ودخلنا العنبر فكان أول ما صادفنا فيه منظرا عجيبا لا تألفه العين: أناسا بملابسهم العادية جالسين القرفصاء في صمت لا يلتفت أحدهم يمنة ولا يسرة، ومن ورائهم نفر مكبون على الأرجل والأيدي كما تمشي الدواب يزحفون زحفا ويتغنى أحدهم بصوت خفيض والباقون يجيبونه بصدى - لا بكلام - يقولون فيه: «هيه هيه» ... أما المغني فالذي أذكره من أنشودته الآن عبارة واحدة: «رايحه له فين! ده عليه سنتين!»
فقلت: فأل جميل وايم الله ! وللفأل شأن كبير في «نفسيات» المسجونين كما سيرى القراء في بعض هذه الذكريات. •••
وكان لا بد لي من «فرجيل» يصاحبني كما صاحب الشاعر الإيطالي «دانتي» في طبقات الجحيم؛ ليدله على أنواع العذاب ودرجات المعذبين، فمن هؤلاء الجالسون القرفصاء؟ ومن هؤلاء المكبون على أربع؟ أهذا ضرب من العقاب في مكان العقوبات؟ وما بال أناس منهم يلبسون ثيابهم العادية على اختلافهم بين المعمم والمطربش ولابس «الطاقية»، ولا يلبسون كأهل السجون؟
على أنني لم ألبث طويلا حتى عثرت على الدليل الذي ينوب في جحيمنا عن فرجيل!
فقد كان على يسار الحجرة التي خصصت لي حجرة للصحفي الظريف علي أفندي شاهين رحمه الله، وكان محبوسا رهن المحاكمة في قضية مقالات ورسوم قذف بها بعض الوزراء وعلى رأسهم إسماعيل صدقي باشا كبير الوزراء في تلك الأيام، وكان واقفا عند باب حجرته ينتظرني بعد أن سبقت البشائر إلى العنبر بقدومي! فلقيني مرحبا، وعلى مقربة منه اثنان أو ثلاثة من أهل بولاق «دائرتي الانتخابية» كانوا في مؤخرة صفوف الجالسين القرفصاء، فنهضوا يحيونني ويهمون بالصياح لولا أن شاهدوا الضباط والسجانين فعادوا جالسين.
وعلمت بعد ذلك بهنيهة أن هؤلاء الجالسين القرفصاء هم المحبوسون على ذمة التحقيق ممن آثروا البقاء بملابسهم العادية، وأنهم جلسوا تلك الساعة في انتظار الخروج «للطابور» الذي هو موعد الرياضة المصطلح عليه مساء كل يوم، وللمحبوسين شوق إلى موعده يفرحون به أشد من فرح الطلقاء بنزهة الأصيل على شاطئ النيل وطريق الأهرام!
Unknown page